يحيى محمد
من الطريف أن يظهر لدى ابن تيمية عدد من الآراء والنظريات التي تتفق مع ما يقوله الفلاسفة والعرفاء، كالذي سنعرضه خلال الفقرات الثلاث التالية:
1ـ التلاقي مع نظرية المشاكلة
ثمة تشابه ملفت للنظر بين الطريقة البيانية، كما لدى ابن تيمية، وبين طريقة العرفاء في نظريتهم حول المشاكلة[1]. فكلاهما اتبع ذات النهج في الموقف من النص الديني تبعاً للفظ الظاهر مع اعتبارات الإستخدام اللغوي ومراتب المعاني اللفظية.
فقد اعتبر الفيلسوف الإشراقي صدر المتألهين الشيرازي أن الطريقة التي اقتبسها عن الغزالي هي ذات طريقة أهل الحديث في الإعتماد على الظاهر اللفظي من غير تأويل. وكما صرح بأن الطريقة التي تبناها تحمل الآيات والأحاديث على مدلولها الظاهري ومفهومها الأول، كما هو المعتبر عند أئمة الحديث وعلماء الأصول والفقه. وقد طبقت على الكيفية التي عليها الصفات الإلهية، فأقرت هذه الصفات على ظواهرها ومفهوماتها الأصلية من غير صرف وتأويل، وكذا من غير تشبيه ونقص وتجسيم مثلما يدعو إليه أصحاب البيان السلفي[2]. فعلى رأي صدر المتألهين أنه لو لم تُحمل الآيات والأخبار على ظواهرها ومفهوماتها الأولى فلا فائدة في نزولها وورودها على عموم الخلق وكافة الناس، بل كان نزولها على ذلك التقدير في باب «فهوم متشابهات»[3].
وهو ذات التبرير الذي تقدمه الدائرة البيانية في تعويلها على الظواهر اللفظية من غير تأويل وتحريف.
كما أضاف صدر المتألهين بأن هذا الإبقاء لظواهر الألفاظ على معانيها الأصلية يجعلها ذات خاصية مشتركة تتمثل في روح المعنى الذي يقبل التطبيق على مصاديق مختلفة كثيرة[4].
وهذا التباين في الإستخدام اللغوي هو ذات ما تؤكد عليه الطريقة البيانية كما لدى ابن تيمية، حيث رأى أن اللفظ لا دلالة له في حد ذاته ما لم يستعمل. فالإستعمال يجعله قابلاً لأن يصير ذا معان حقيقية عديدة. فمثلاً إن لفظ (رأس) تأتي مقترنة في الإستعمال بأشياء عديدة مختلفة، كرأس الإنسان ورأس الطائر والدابة والماء والأمر والمال والقوم، وكذا لو قلنا جناح الطائر والسفر والذل، فكل لفظ بعد الإستعمال يصبح له حقيقة من المعنى الذي يناسبه، وهو ما يبرر اعتبار صفاته تعالى المذكورة في القرآن والحديث، كمحبته ورضاه وعلمه وسمعه وكلامه واستوائه؛ كلها تجري مجرى الحقيقة دون مجاز، ومع ذلك فهي ليست بالصفات الشبيهة مع الخلق[5].
وذات هذا الشيء ما صرح به الفلاسفة والعرفاء ممن تبنى نظرية المشاكلة، حيث بحسب هذه النظرية فإن للفظ مراتب من المعنى بعضها يُشاكل البعض الآخر، كحال ما عليه الوجود الخارجي، حيث إن له مراتب مختلفة تتفاوت بحسب المشاكلة والسنخية. وهذه المراتب هي عوالم متشابهة رغم تفوق بعضها على البعض الآخر، وبالتالي كان من السهل فهم عالم الغيب كما ورد في النصوص الدينية وفقاً لمشاكلات عالم الوجود. الأمر الذي يرضي ما عليه أصحاب الفلسفة والذوق، وما عليه أتباع البيان السلفي، حيث المتفق عليه بين الجانبين هو جعل الأوصاف الدينية حقة من غير تحريف للنص، أو حمله على المجاز والتشبيه.
فالفهم عند الطرفين قائم بحسب هذه الأوصاف الظاهرة التي يدل عليها اللفظ الحرفي. وطبقاً لذلك أقرّ هؤلاء بأن لله تعالى الأوصاف التي تدل عليها الظواهر اللفظية وإن كانت غير معلومة الكيف تبعاً لقوله تعالى: ﴿ليس كمثله شيء﴾، وهي التي سلّم بها الكثير من علماء السلف وأتباعهم.
ويتعمق التوافق بين الطرفين بما أكّد عليه أتباع البيان السلفي من وجود القدر المشترك في معنى اللفظ المستخدم بين ما يدل عليه في الشاهد المحسوس، وما يدل عليه في الغيب غير المحسوس، كالذي قام بإيضاحه ابن أبي العز، حيث ذكر بأن النبي أخبر العرب بأمور لم تكن معروفة لديهم، كتلك المتعلقة بالإيمان بالله واليوم الآخر، فأخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتدل على القدر المشترك بين المعاني الغيبية المجهولة والمعاني الشهودية التي يعرفها العرب، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد. فإذا أخبرهم النبي عن تلك الأمور من الغيب، فلا بد أن يعلموا معنىً مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسّهم وعقلهم. فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، وأراد النبي أن يشهدوه مشاهدة كاملة ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب، أمكنه ذلك بأن يأتي بقول يكون حكاية له وشبهاً، فيعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، ويكون ذلك عبر درجات ثلاث:
أولها إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة، وثانيها عقله لمعانيها الكلية، أما ثالثها فتعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية. فهذه المراتب الثلاث لا بد منها في كل خطاب، فإذا أخبرنا النبي عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا المعاني المشتركة بينها وبين الحقائق المشهودة، والشبه الذي بينهما. ومن خلال تعريفنا الأمور المشهودة أمكننا معرفة الأمور الغائبة، ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط[6].
كما أشار ابن أبي العز إلى أن التعريف بالأمور الغيبية يأتي عن طريق القياس والتمثيل والاعتبار بما بينها وبين معقولات الأمور المشاهدة، تبعاً للتشابه والتناسب، وكلما كان التمثيل أقوى، كان البيان أحسن، والفهم أكمل[7].
وهذا الذي ذكره ابن أبي العز هو ذاته الذي أكّد عليه الغزالي وغيره من العرفاء مما يُعرف بالإعتبار والتمثيل والمشاكلة وغير ذلك. فالإعتبار يعني العبور من ظاهر النص إلى باطنه لقرينة مناسبة. أما التمثيل فكما ذكر صدر المتألهين من أن معظم آيات القرآن هي أمثال تُذكر للناس لتشير إلى ما تتضمنه نظرية المشاكلة من اعتبارات ما للوصف الظاهر في النص من مراتب متعددة ومتكاملة في الوجود، مثل الميزان والقلم والاصبع وغيرها[8].
كذلك فإن ما أشار إليه ابن أبي العز من وجود المشترك المعنوي للفظ الذي يتحول به الفهم من المشاهد المحسوس إلى الغائب غير المحسوس، هو قريب المعنى مما تراه نظرية المشاكلة، حيث أنها لا تعول على ظاهر النص فحسب، بل تأخذ بعين الاعتبار ما لدى هذا الظاهر من لفظ له معان متعددة ومتشاكلة يصح من خلالها إقرار الحقائق العليا من غير تأويل. فيكون الظاهر هو اللفظ المشترك العام الذي يحمل نظائر المعنى وأمثالها على ما فيها من تفاوت في القوة والكمال. أما الحقيقة المرادة من هذا الظاهر فهي تلك الأمثال الباطنة التي تنتزع من ذلك الظاهر العام. فسواء أُستخدمت الأمثال بحسب ما يبدو عليها من معنى حسي، أو بحسب معنى آخر صوري مجرد عن الحس الطبيعي، فإن كل ذلك يعد من النظائر والأمثال التي تتفاوت فيما بينها بحسب المشاكلة. لذلك فإن أخذ المعنى الظاهر بحسب ما عليه الحقيقة الباطنة من المعاني الصورية المجردة لا يعد من التأويل بشيء.
فهنا نجد تشابهاً بين نظرية المشاكلة الوجودية والنظرية البيانية لتحديد الفهم الخاص بالأمور الغيبية، وعلى رأسها مسألة الصفات الإلهية.
فكلا النظريتين يقيمان الفهم طبقاً للظاهر، كما أنهما يعترفان بأن معنى اللفظ يظل مشتركاً وعاماً يحدده السياق العام للنص، إن كان يتحدث عن أمر حسي شهودي، أو معنوي غيبي.
وكلاهما يقولان حسب ذلك الفهم بأن الصفات الإلهية تحمل على ظاهرها، وأن معناها يُفهم دون تأويل، وأن لهذا المعنى بعض الشبه بما عليه الشاهد المحسوس، مع بقائه محكوماً بقاعدة (ليس كمثله شيء).
لكن ما يترتب على ذلك من معنى هو القول بوحدة الوجود كالذي صرح به الفلاسفة والعرفاء بإتساق. ومن ذلك القول بأن الوجود عبارة عن جسم له مراتب متعددة تتفاوت فيما بينها في الشدة والضعف، أو الكمال والنقص، كالذي صرح به صدر المتألهين.
وكذا فإن ما يقوله البيانيون من وجود بعض حالات الشبه بين الله من جهة، وخلقه من جهة أخرى، يتسق والقول بوحدة الوجود. وقد قيل إن القول بالجسمية مثلما عليه مذهب مقاتل بن سليمان يفضي إلى القول المبطّن بهذه الوحدة[9].
ومثل ذلك أن ما يقوله أتباع الطريقة البيانية من إثبات الظواهر اللفظية للصفات كوجود الوجه والصورة والعينين واليدين والقدمين والساقين والإستواء والاستهزاء والتعجب والتردد والضحك والفرح والمجيء والذهاب وما إلى ذلك، كل هذا يفضي إلى الإقرار المبطن بوحدة الوجود الجسمية، وهو لا ينافي قولهم بنفي التكييف مع إعترافهم بوجود شيء ما من المشابهة بين العالمين.
فهذا الإعتقاد هو على شاكلة ما يقوله الفلاسفة والعرفاء القائلين بنظرية المشاكلة. مع فارق أن التأسيس الذي قامت عليه نظرية المشاكلة الوجودية هو تأسيس مستند إلى (الوجود العام). فمن حيث الإعتماد على النظر إلى هذا الوجود تمكّن الفلاسفة من أن يسقطوا نظريتهم في المشاكلة على النص الديني، فأصبح تبرير المشاكلة بين المعاني اللفظية للنص مستمداً من المشاكلة الوجودية. في حين إن التأسيس الذي نظّر له أتباع الطريقة البيانية مستمد من النص الديني، ومن ثم تمّ إسقاطه على الوجود العام، حيث المعول عليه هو اللفظ المشترك الذي يحمل المعاني المتشابهة، ومنه تمّ تطبيقه على الوجود.
وتظل المحصلة بين المذهبين متقاربة بهذا الخصوص.
2ـ القول بأزلية الأشياء
اعتقد ابن تيمية أن الحوادث الكونية لا بداية لها، وهو إقرار بأزلية الأشياء من حيث النوع لا الأفراد. الأمر الذي يتفق مع ما ذهب إليه الفلاسفة.
فبرأيه أن كل فرد حادث يسبقه فرد حادث قبله وهكذا من غير بداية محددة، وهو ذات ما يقره الفلاسفة بخصوص العالم السفلي. ومع أن ما ورد في التراث من وجود عدد محدود من الأشياء قد سبق خلقها قبل السماوات والأرض، إلا أنها تعد بحسب هذا الرأي ليس لها بداية بإطلاق، ومن ذلك العرش، حيث نقل الدواني عن ابن تيمية أنه اعتقد بقدم العرش من حيث النوع[10]، أي أن كل عرش يسبقه عرش آخر قبله دون بداية محددة، وذلك ليثبت بأن الله فاعل أزلاً، وأنه مستقر من عرش إلى عرش أزلاً أيضاً.
وقد نسب ابن تيمية نظريته هذه إلى أئمة السنة والحديث، ونقل ما يقوله بعض المتكلمين من ذهاب بعض من وصفهم بالمشبهة بأنهم قائلون بإثبات حوادث لا أول لها[11].
كما نقل بعض أتباع ابن تيمية ما قاله عثمان بن سعيد الدارمي: «كل حي فعال، ولم يكن ربنا تعالى قط في وقت من الأوقات معطلاً عن كماله، من الكلام والإرادة والفعل»[12].
ويعد هذا المنقول من الشواذ، حيث لم ينقل عن غيره من السلف ما يفيد النص الصريح في إثبات حوادث لا بداية لها. بل ليس من البيانيين قبل ابن تيمية من يثبت ذلك بشكل واضح لا غبش فيه. فإنّ مَن يعزى إليهم القول بذلك هم الفلاسفة. لذلك شنّع عليه الخصوم وعدّوه متأثراً بهم لكثرة الإهتمام بمباحثهم والرد عليهم، كالذي جرى مع الغزالي الذي قيل فيه إنه أمرضه (الشفاء)[13]، ووصفه معاصره أبو بكر بن العربي في مقولته الشائعة: شيخنا أبو حامد دخل في بطون الفلاسفة ثم أراد أن يخرج منهم فما قدر. وهو القول الذي إستعان به ابن تيمية في الرد على الغزالي[14]، مع أنه في رأي المخالفين قد وقع بما وقع به سابقه[15]. وعادة ما ينسب مثل هذا الإعتقاد إلى الملاحدة، ومن ذلك ما قاله أبو يعلى الحنبلي في المعتمد: الحوادث لها أول ابتدأت منه، خلافاً للملاحدة[16].
وكان من ضمن ما أُحتج به على ابن تيمية أنه قد ابتدع فكرة لم ترد عن أهل البيان بإستثناء بعض الشذوذ. وبنظر البعض أنها مخالفة للإجماع، بل وأن الإجماع على تكفير من يقول بها، كالذي حكاه الشيخ عياض وغيره.
كما قال ابن دقيق العيد بأنه وقع هنا من يدعي الحزق في المعقولات ويميل إلى الفلسفة وظن أن المخالف في حدوث العالم لا يكفر لأنه من قبيل مخالفة الإجماع، وتمسك بقولنا إن منكر الإجماع لا يكفر على الإطلاق حتى يثبت النقل بذلك متواتراً عن صاحب الشرع. ثم قال: وهو تمسك ساقط؛ إما عن عمي في البصيرة، أو تعام، لأن حدوث العالم من قبيل ما اجتمع فيه الإجماع والتواتر بالنقل[17].
وفي جميع الأحوال ليس في الكتاب والحديث ما يشير إلى هذا المعنى الذي تحدث عنه ابن تيمية، بل جاء في بعض الأحاديث ما هو خلاف ذلك، حيث أخرج الطيالسي وأحمد والترمذي وحسنه، وكذا ابن ماجه وإبن جرير وإبن المنذر وأبو الشيخ في العظمة وإبن مردويه والبيهقي في (الأسماء والصفات) عن الصحابي أبي رزين أنه سأل النبي بقوله: أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ فأجابه النبي: كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء وخلق عرشه على الماء. وعلق الترمذي الذي حسّن الحديث بأن معنى العماء هو ليس معه شيء[18].
ومما يزيد في إقتراب هذا الإتجاه من النظام الوجودي، ما ذكره ابن القيم الجوزية من أن أسماء الله الحسنى تقتضي مسمياتها ومتعلقاتها، فحيث هناك أسماء فلا بد من ظهور أثر هذه الأسماء ووجود ما يتعلق بها، فاقتضت حكمة الله أن يتم إنزال الأبوين من الجنة ليظهر مقتضى أسمائه وصفاته فيهما وفي ذريتهما، إذ لو تربت الذرية في الجنة لما ظهرت أثار جملة من هذه الأسماء وتعلقاتها، والكمال الإلهي يأبى ذلك. فالله يأمر وينهى ويكرم ويهين ويثيب ويعاقب ويعطي ويمنع ويعز ويذل، لذا أنزل الأبوين والذرية إلى دار تجري عليهم هذه الأحكام[19]. وهذا المعنى ينسجم مع القول بأزلية الصنع والخلق، كما ويتفق من وجه مع ما يقوله العرفاء في النظام الوجودي من إقتضاء أن يكون لأسماء الله تبعياتها، واعتبروا ذلك من حتميات الوجود، وهو خلاف ما يذهب إليه ابن تيمية وأتباعه[20].
3ـ القول بإنقطاع العذاب
أُتهم ابن تيمية بأنه ابتدع فكرة أخرى نسبها إلى السلف، وهي الإعتقاد بانقضاء النار وفنائها، ومن ثم القول بعدم الخلود في العذاب. ومن خصومه من نفى أن يكون أحد من السلف قال ذلك، إنما روي عن بعضهم كلمات تتأول كما تتأول المشكلات التي ترد وتحمل على غير ظاهرها[21].
وأورد ابن تيمية عدداً من الروايات عن بعض الصحابة كيف أن الله يُخرج في النار من فيها، مثل ابن مسعود وأبي هريرة وعمر وأبي سعيد الخدري. وردّ عليه الصنعاني واعتبر أنه لا دلالة في ذلك على فناء النار، كما لا دلالة فيه على خروج المشركين منها، لا سيما وأن من الآيات ما يشير إلى البقاء الدائم، مثل قوله تعالى: ﴿إن الذين كذّبوا بآياتنا واستكبروا عنها لا تفتّح لهم أبواب السماء ولا يدخلون الجنّة حتّى يلج الجمل في سمّ الخياط وكذلك نجزي المجرمين﴾ (الأعراف/ 40). وفي الحديث يؤتى بالموت فيذبح بين الجنة والنار[22].
والمهم في الأمر، هو أن هذا الإعتقاد جاء موافقاً لما يقوله الفلاسفة والعرفاء.
وقد استدل ابن تيمية عليه بعدد من الآيات، فاعتبر بعض الآيات دالة على إنقطاع العذاب مثل قوله تعالى: ﴿لابثين فيها أحقاباً﴾ (النبأ/ 23) وقوله: ﴿النار مثواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله﴾ (الأنعام / 128). أما الآيات التي تبدي الأبدية والخلود فقد فسّرها بقيود وشروط يجعلها دالة على الإنقطاع، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبداً﴾ (الجن/ 23) وقوله: ﴿خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون﴾ (البقرة/ 162).
فقد استدل بأن ما ورد في مثل الآيتين السابقتين من خلود وأبدية إنما مشروط ببقاء السماوات والأرض، كالذي يدل عليه قوله تعالى: ﴿وأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها مادامت السماوات والأرض، إلا ما شاء ربك إن ربّك فعّال لما يريد﴾ (هود/ 106ـ107)، وعليه اعتبر الأبدية هي استمرار المعذبين في النار مادامت موجودة، مع أن الله - على رأيه - لم يصرح بأن النار باقية أبداً، وفرق بين الحالين كما هو واضح. يضاف إلى أن التأبيد جاء في القرآن مقيداً بما لا يتنافى مع الإنقطاع، كالذي سبقت الإشارة اليه في (علم الطريقة)[23].
ولنا على هذه النظرية الملاحظة التالية:
إن الآيات التي وردت حول تعليق الخلود في النار على دوام السماوات والأرض قد أعقبها ذات هذا التعليق فيما يخص الخلود في الجنة، وكما جاء في النص القرآني: ﴿وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها مادامت السماوات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ﴾ (هود/ 108).
فإذا كانت الآيات السالفة الذكر تدل على إنقطاع العذاب لأهل النار تبعاً للتعليق الوارد الذكر، فإن الحال ذاته يدل على الإنقطاع بالنسبة إلى أهل الجنة. الأمر الذي يحتاج إلى لون من التخريج والتمييز بين ما يصيب هؤلاء وأولئك، ولا يكفي ما ذُكر من وجود قرينتين في الآية، إحداهما قوله تعالى: ﴿إنّ ربّك فعّال لما يريد﴾ (هود/ 107) حيث وردت متصلة مع قضية إنقطاع العذاب فقط، مما تدل على تأكيده، ولم تقترن مع الإستثناء المتعلق بقضية الخلود في الجنة. والأخرى قوله تعالى: ﴿عطاء غير مجذوذ﴾ حيث جاءت عقب الإستثناء المتعلق بالخلود في الجنة، وهي بهذا توحي إلى دفع توهم الإعتقاد بإنقطاع السعادة[24].
فلا شك أن وجود هاتين القرينتين لا يمحي صورة الإستثناء التي وردت في كلا الموردين من الجنة والنار. وقد كان الزمخشري صاحب (الكشاف) يرى أن آية الإستثناء من المعضلات على ما نقل عنه السمعاني[25]. كما أن ابن القيم رأى أن الإستثناء في الآية المتعلقة بأهل الجنة هو من المتشابه، وأن المحكم قوله تعالى: عطاء غير مجذوذ، وظلها دائم، وما إلى ذلك[26].
وسبق لجهم بن صفوان أن اعتبر حركات الخالدين من أهل الجنة والنار منقطعة لإعتبارات عقلية وقرآنية، وهي وجود الشرط والإستثناء لدى بعض الآيات، كالذي سبق عرضه[27].
وعادة ما يأول العلماء الآية المتعلقة بتعليق الخلود في النار على دوام السماوات والأرض، وهو أنها تصدق فيما يخص العصاة من الموحدين دون المشركين، وأن بعض العلماء يأول الآية الأخرى حول الجنة، وهو أن المقصود بأن لأهل الجنة نعيماً أجل وأكبر هو رضوان الله عز وجل. في حين ذهب الصنعاني إلى أن الإستثناء في آية الجنة من باب (حتى يلج الجمل في سم الخياط) وهو تقييد بالمحال، وأن من دخل الجنة لا يخرج منها أبداً؛ بدليل الإجماع المعلوم بالضرورة من الدين، وبدليل قوله تعالى: ﴿عطاء غير مجذوذ﴾، وفي آية أهل النار محمول على ما ذكر من خروج الموحدين.
ثم أنه استدرك فقال: «لا يقال أن هذا يوجب الإختلاف في نظم الكلام، حيث عدل بالإستثناء الثاني عما حمل عليه الإستثناء الأول، مع أنهما سيقا مساقاً واحداً، لأنا نقول تبعاً للمحقق الشريف أن الأول محمول على الظاهر، وقد عدل بالثاني عنه بقرينة واضحة مما ذكرنا فلا إشكال ولا إختلاف»[28].