يحيى محمد
مما يعيبه الإخباريون على العاملين بالدليل العقلي، هو أن نتائجهم لا تفيد العلم ولا الإطمئنان، وذلك لقصور الدليل العقلي وكونه يفضي إلى جملة من التعارضات والتناقضات، وكون النتائج المترتبة على هذا الدليل تتجاوز الموضع الذي تعبدنا به الشرع، وهو ضرورة أن تكون الأحكام قطعية أو مما تدخل ضمن حيز الإطمئنان، لوجود النهي عن العمل بالظن في شرع الله.
وعلى رأي الإسترابادي أنه لا بد من تحصيل القطع بالحكم الشرعي دون الظن، نافياً أن يكون للظن مكان في مذهب الإمامية لوجود القرائن والعلامات القاطعة والأحكام الشاملة حتى يوم القيامة[1]. ويكفي عنده أن يكون القطع أو اليقين المتحقق في الحكم الشرعي قطعاً ويقيناً عادياً لا منطقي. وهو بذلك يعترض على طريقة الإجتهاد الأصولية الداعية إلى الظن، سيما وأنها على رأيه متأثرة بالدلالات العقلية. وفي القبال نفى أن تكون طريقة الإخبارية مورداً للإختلاف كالذي عليه طريقة الإجتهاد الأصولية، وزعم بأن جميع الإخباريين متفقون على الأحكام لعلمهم القاطع بصدورها عن الأئمة المعصومين، وما يعود إليهم من خلافات يسيرة ينحصر فقط بعدم التمييز بين ما هو تقية أو غير تقية، لكن الأئمة أجازوا العمل بذلك حتى لو كان تقية يخالف حقيقة الحكم الإلهي.
بيد أن هذا الموقف للاسترابادي لقي معارضة حتى من قبل بعض الإخباريين كالفيض الكاشاني والشيخ البحراني والميرزا حسين النوري. فقد إعترض الأخير على الإسترابادي لكونه جعل أحاديث الكليني قطعية، واعتبر أن القرائن التي قدمها لمدعاه لا تنهض[2]. أما الشيخان الأولان فهما قائلان بالإجتهاد والظن لعدم إمكان تحصيل العلم القاطع الذي يدعيه ذلك المحدث. وقد عد الشيخ البحراني ما يقارب عشر مسائل اختلف الحكم فيها بين الإخباريين القدماء؛ لإختلاف الفهم لمعاني الأخبار وتعيين ما هو المراد منها خارج نطاق التقية، فأدلّ بذلك على خطأ ما إدّعاه المحدث الإسترابادي من تحصيل العلم القاطع ونفي الإختلاف بين الإخباريين[3]. كما أشار إلى عدد من المشاكل، منها أن القواعد التي وضعها الأئمة كمقاييس للتعامل مع الأخبار المتنافية - كالعرض على الكتاب والمجمع عليه والأخذ بما خالف العامة.. الخ - لا تنفع إلا ضمن حدود ضيقة، وأيّد ما اعترف به الكليني في ديباجة كتابه (الكافي) الذي لجأ إلى قاعدة التخيير في العمل بالأخبار المتعارضة[4]، في حين خالفه الإسترابادي وعمل بالإحتياط[5].
كما سبق للكاشاني أن أكّد على المعنى المتعلق بفقدان القرائن الدالة على العلم القاطع، فعوّل على الظنون المعتبرة. وما لم يصلنا علمه من الأحكام الشرعية فقد فرض فيه التوقف والإحتياط مع الإمكان أو التخيير[6]. وفي محل آخر إلتزم بالإحتياط لدى المتشابه في الحكم والتخيير عند التعارض، وإن كان الأولى عنده التوقف والإحتياط مع الإمكان[7]، وهو لا ينافي ما صرح به من البراءة العملية لكل ما لم يثبت شرعاً وما لم يصلنا تكليفه. وعلى الرغم من أنه لم يعوّل على طريقة المجتهدين الداعية إلى بعض الدلالات العقلية؛ فإن مضمون طريقته لا تتجاوز الإجتهاد والتسليم بإنسداد العلم القاطع.
وواقع الحال هناك أمور عديدة جعلت تحصيل القطع بغالبية الأحكام الشرعية غير ممكن؛ أهمها كثرة التعارض بين الأخبار، والتي اعتاد علماء المذهب أن ينسبوها إلى أمور عدة إعتماداً على ما جاء في الروايات، كمبدأ التقية لحفظ حياة الأئمة وأصحابهم، وكون الأئمة تقصدوا بثّ الخلاف بين الأصحاب حقناً لدمائهم[8]، ولأن كلام الأئمة يسع لمعاني كثيرة، وأن فيه طبقات من الباطن فيبدو بعضه على خلاف البعض الآخر، حيث يجيبون بأجوبة مختلفة تحتاج إلى نوع من التوجيه[9]، والعديد من الأخبار تؤكد بأن في كلام الأئمة سبعين وجهاً ممكناً[10]، هذا بالإضافة إلى وجود الدس والكذب والتزوير... الخ[11]. ناهيك عن أن بُعدنا عن زمن التشريع جعلنا نجهل مناسبة الحديث وظروفه الخاصة، ومن ذلك ما أشار إليه الشيخ الطوسي من وجود الكثير من الروايات الموهمة باللامعقول لعدم كون السامع سمع الحديث عن المعصوم منذ البداية[12].
ومن حيث الواقع فإن كلاً من الأصوليين والإخباريين يعملون بالظن وإن رأى الأخيرون أنفسهم قاطعين. وبالتالي لا إختلاف بين الطرفين - في هذه الناحية - كما أكّد عليه البحراني الذي اعترف بأنه لا يمكن تجاهل وجود الإحتمال الضعيف مقابل الظن القوي؛ حتى بالنسبة لإثبات النبوات والتوحيد وجميع المسائل الأخرى. ومع ذلك فقد استظهر بأن النهي عن الإجتهاد والظن؛ هو ذلك المتعلق بالآراء الذاتية والأهواء والقياسات والإستحسانات وكل ما خرج عن دليل الكتاب والسنة[13]. الأمر الذي يتفق عليه الأصوليون، إذ عملوا بالظن المعتبر العائد إلى العلم بالكتاب والسنة. وهم بذلك يخضعون لسلطة البيان، وأن إستخدامهم للعقل وأدلته أحياناً لم يغيّر من مسارهم شيئاً، وهو أنهم من أصحاب البيان، وإن لم يكن هذا البيان خالصاً كما يتصف به نظراؤهم الإخباريون.
[1] الفوائد المدنية، ص48.
[2] حسين الطبرسي النوري: خاتمة مستدرك وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج3، ص470.
[3] الدرر النجفية، ص88ـ91.
[4] نص ما قاله الكليني هو: «.. لا نجد شيئاً احوط ولا اوسع من رد علم ذلك كله إلى العالم (ع) وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (ع): (بأيّما اخذتم من باب التسليم وسعكم)». وهذا النص جلي على أن مراد الكليني هو العمل بالتخيير في مطلق الأخبار المتعارضة التي لا حل لها. لكن ما فهمه الإسترابادي خلاف ذلك - كما نبه عليه البحراني - حيث ظن أنه يريد التخيير بقضايا العبادات فقط، أما غيرها فظن أنه اعتبرها مما يجب فيه الارجاء والتوقف عند عدم ظهور شيء من المرجحات. ويبدو أنه اضطر إلى مثل هذا التوجيه ليوحي بأن طريقة المحدثين عارية من الإختلاف والإجتهاد (لاحظ حول ذلك: الفوائد المدنية، ص273. والدرر النجفية، ص59ـ60).
[5] الدرر المجفية، ص59ـ60.
[6] الأصول الأصيلة، ص153.
[7] لاحظ: الكاشاني: رسالة الحق المبين، وهي ملحقة خلف كتاب (الأصول الأصيلة) ص11. وتسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ـ مؤسسة البحوث والتحقيقات الثقافية، طهران، الطبعة الأولى، 1407هـ، ص24.
[8] الدرر النجفية، ص165 وما بعدها. والحدائق الناضرة، ج1، ص5ـ6. وفرائد الأصول، ج2، ص809. والأصول من الكافي، ج1، باب إختلاف الحديث، حديث 5.
[9] فرائد الأصول، ج1، ص115.
[10] لاحظ الدرر النجفية، ص87ـ88. والأصول الأصيلة، ص17ـ18.
[11] أنظر حول ما سبق كتابنا: مشكلة الحديث، الفصل الرابع من الكتاب الثاني.
[12] عدة الأصول، ج1، ص284ـ285.
[13] الدرر النجفية، ص63 و91.