يحيى محمد
يمكن تمييز وجود خطين متباينين في تصوير العلاقة بين العينتين الدينية والوجودية، الأول منهما قديم يمتد إلى ما قبل إبن سينا والفارابي، ويكاد ينتهي مع نهاية فيلسوف الشرق والغرب إبن رشد، وهو الفيلسوف الذي قيل انه قبل ان يودع العالم ويلفظ أنفاسه الأخيرة كان يتمتم: ‹‹تموت روحي بموت الفلسفة››[1]. فهل يا ترى ان الفلسفة ماتت مع رحيله؟
بالفعل ان الاتجاه المعاصر مال إلى إعتبار إبن رشد هو آخر حلقة من حلقات الفكر الفلسفي الإسلامي وأنضجه. فالاعتقاد السائد هو ان الرشدية قد توقفت وأصبحت عقيمة في أرض المشرق، في الحال الذي كان لها صدى واسع الصيت في الغرب. فهل هذا الاعتقاد يمثل حقيقة الواقع لتاريخ الفلسفة والرؤية الوجودية في الإسلام؟ هل فعلاً ماتت الفلسفة في المشرق بموت رائدها الأصيل؟ وبعبارة أخص، هل انتهى دور تأسيس العلاقة بين القبليات الوجودية والنص الديني عند إبن رشد، أم ظهر هناك تأسيس جديد يختلف عن سابقه؟
يمكن القول إن الفلسفة لم تمت، وان العلاقة المؤسسة بين القبليات الوجودية والنص الديني لم تنتهِ ولم تكتمل بعد، إذ ما قدمه الفلاسفة الأولون قد مهّد إلى حلول علاقة روحية جديدة أعادت للأولى الحياة، وخلعت عليها ثوباً جديداً لم تجربه من قبل. ومع ان هذه العلاقة الجديدة بدأت منذ الغزالي، لكن روحها عادت عند إبن عربي والسهروردي، ثم انتهت في صياغتها الكاملة عند مدرسة صدر المتألهين، تلك المدرسة التي تستمد طاقتها من باع إبن سينا في عقله وتفكيره، وقدرة إبن رشد في توسطه وتأرجحه، وطابع الغزالي في تفسيره وتوفيقه، وروح إبن عربي في كشفه وذوقه، ونور السهروردي في تجليه وإشراقه.. كل ذلك قد خلط وطحن في بودقة واحدة لتفرز آثارها المثيرة على صعيد الطريقة والنتائج.
كان من طبيعة العلاقة الجديدة التي تكاملت نهائياً على يد صدر المتألهين ان تنزع إلى تصحيح العلاقة الأولى في تحديد نوع الصلة بين القبليات الوجودية والنص الديني. فقد كشفت العلاقة الأولى عن وجود ثغرة بين المرجعين الأخيرين من دون ان توفق بينهما حسب مبدأ التكافؤ، بل جعلت النص الديني تابعاً ومتأثراً باسقاطات القبليات الوجودية. في حين كانت مهمة العلاقة الجديدة تتمثل في اعادة الصياغة الموضوعة للصلة بين هذين المرجعين عبر التوفيق بينهما وفقاً لذلك المبدأ، وبالتالي لا حاجة للتأويل أو التضحية بأحدهما في سبيل الآخر.
هكذا فنحن أمام طريقة وسطى جامعة، غرضها التوفيق بين المرجعين من دون ان تتخلى عن القبليات الوجودية، ولا ان تعمل على تحريف ظاهر النص الديني أو تأويله، بل هدفها الدفاع عن هذين القطبين كدفاع الإنسان عن عينيه دفعة واحدة، بخلاف الطريقة التقليدية التي دافعت عن الرؤية الوجودية وعملت على تأويل النص الديني. مما يعني انها ليست بصدد التوحيد والتوفيق بين المرجعين السابقين، مثلما تطمح إليه الاطروحة الجامعة المشار إليها. وكأن الفارق بين الاطروحتين في ترتيب العلاقة السابقة هو كالفارق بين من يملك عينين سويتين، ومن يملك عيناً حولاء لا ترى الأشياء إلا منحرفة معوجّة.
ومن حيث الدقة ان ما ظهر على أعقاب الخط الأول، وهو خط التبعية، نظريتان حاولتا ان تعيدا صياغة العلاقة بين القبليات الوجودية والعينة الدينية، كنهج توفيقي لا ينكر على النص ظاهره ولا أصالته المعرفية. وتتأسس النظرية الأولى تبعاً للمبنى الفلسفي، والثانية تبعاً للمبنى العرفاني، لكن كلاهما يقيمان رؤيتهما بحسب ما عليه ظاهر النص الديني. وبالتالي فهما يمثلان محاولتين توفيقيتين يحملان عدداً من المشتركات.
***
ونشير إلى ان مشكلة علاقة العقل بالنص لم تصادف التفكير الإسلامي وحده، بل لاحت غيره من الأديان الأخرى. ففي العصور الوسطى من الفكر الديني نجد مواقف متعددة؛ بعضها يناصر العقل على حساب النص، وبعض آخر يفعل العكس، كما هناك اتجاهات أخرى تتفاوت بين هذين القطبين. فقد كان اوغسطين (المتوفى سنة 430م) من أنصار مقولة (آمن كي تتعقل)، وهو يطبقها حتى بالنسبة إلى وجود الله تعالى، رغم انه يعد الدليل العقلي على وجوده له قيمة ذاتية، لهذا كان يصرح بأن الفلاسفة قد عرفوا الله من دون توسط الايمان[2].
وهناك اتجاه آخر ليهوذا البكار يشابه ما عليه الاتجاه السلفي في إعتبار العقل خادماً للكتاب وخاضعاً له بالكلية، رافضاً بذلك التفاسير المجازية وآخذاً بما يظهره النص من معاني حرفية بناء على سلطة الكتاب وحده من غير تأويل ولا تسلط خارجي[3].
في حين نجد عند اريجنا (المتوفى سنة 877م) ان كلاً من العقل الفلسفي واللاهوت الديني صادر عن الحكمة الإلهية، فلا تمايز ولا تعارض بينهما، وكما يقول: الفلسفة الحقة هي الدين الحق، والدين الحق هي الفلسفة الحقة. لهذا فإنه يمد سلطان العقل الفلسفي إلى موضوع الايمان بأكمله، ويعتبر معاني الكتاب المقدس متعددة تعدد ألوان ذيل الطاووس، مما يعني ان لنا ان نختار المعنى الملائم، بل ولنا ان نأول النص اسوة بالآباء[4]. وله في ذلك كلمة شهيرة يقول فيها: ‹‹لا يدخل أحد السماء ما لم يكن ذلك عن طريق الفلسفة››[5].
كما ان ابيلار (المتوفى سنة 1142م) كان يعلّم طلبته الثقة بالعقل وقدرته على حل تناقضات الايمان والمعتقد، وعنده ان الحقيقة واحدة وان وحدتها بديهية، وكما يقول: ان ‹‹الحقيقة التي تبحث عن نفسها لا أعداء لها››[6]، على ذلك رأى ضرورة التعاون بين الفلسفة والدين، فعنده ان العقل الفلسفي ينفع في رفع اللاهوت الديني إلى مقام العلم، وانه وإن كان لا يستطيع البرهنة على الأسرار، إلا ان باستطاعته ان يقربها إلى الفهم بضروب من التشبيه والتمثيل[7]. وتأكيداً لمبدأ التوسط والتعاون الذي يقترحه ابيلار فإنه يعترف ‹‹انه لا يريد ان يكون فيلسوفاً إن عنى ذلك انه يصطدم بالقديس بولس، ولا ان يكون أرسطياً إن عنى ذلك قطيعته مع المسيح››[8].
أما الحال مع دي ليل (المتوفى سنة 1203م) فقد إعتبر الحجة النقلية ليست قاطعة ملزمة، فلا محيص من الاستعانة بالحجة العقلية[9]. وأيضاً فإن القديس البرت الأكبر (المتوفى سنة 1280م) كان يعتبر القضايا اللاهوتية لا تتفق في مبادئها مع القبليات العقلية الفلسفية. فاللاهوت عنده قائم على الوحي فحسب، والعقل الفلسفي مستقل عنه، وبالتالي فإنه لا يمكن ان يكون هذا الأخير حقلاً لانبات المسائل اللاهوتية فيه، أو انه مسرح للفاعلية اللاهوتية، وإن كان على رأيه ان العكس ممكن، بل هو محتم، حيث لا غنى عن العقل الفلسفي في معالجة اللاهوت الديني، وذلك كي يمكن تفهمه قدر الإمكان[10].
لكن أبرز موقف ظهر على هذا الصعيد هو موقف الفيلسوف موسى بن ميمون (المتوفى سنة 1204م) والذي امتاز بأنه لا يحتفظ بحرفية النص في الكتاب المقدس، بل يسمح بتأويله بحسب ما يفرضه العقل الفلسفي من إعتبارات، إذ اعتقد ان لكل نص معان عديدة متعارضة، يكون أصوبها ذلك الذي يتفق مع منطق العقل، وذلك فيما لو لم يكن هناك تعارض بين العقل ونفس النص، اما حينما يحصل بينهما تعارض فمآل الأمر إلى تأويل الأخير. وفي جميع الأحوال ان حقائق الوحي عنده تكون قاصرة على الفلاسفة فقط دون ان يجد مجالاً ممكناً لتفسير الكتاب بالكتاب. وقد وجد هذا الاتجاه رفضاً من قبل بعض الفلاسفة المحدثين، حيث انبرى له اسبينوزا (المتوفى سنة 1677م) بالنقد. فعلى رأيه ان تلك النظرية تقتضي وجود أشياء كثيرة لا يمكن معرفتها بالنور الفطري، لهذا فإنه لا يرى اللاهوت الديني خادماً وتابعاً للعقل الفلسفي، وكذا لا يرى العكس صحيحاً أيضاً، فلكل ساحته وميدانه، وساحة العقل الحكمة، وميدان اللاهوت الايمان الصادق والطاعة[11]. وهو اتجاه يذكرنا بذلك الذي لجأ إليه أبو سليمان المنطقي.
المنهج التوفيقي
لم يكن الخطر الذي تنذر به نظرية المثال والممثول أمراً هيناً، إذ كانت ترمي في نتائجها إلى استئصال العينة الدينية لتحل محلها القبليات الوجودية. فالقضايا الغيبية التي تبشر بها العينة الدينية تحولت بتلك النظرية إلى أمور مجازية تفيد التشبيه. ونعلم ما لهذا الأمر من أثر يفضي إلى عدم إمكان الاحتجاج بالنص، وان عيناته تظل رمزية باطنية كامنة لا يمكن الفصح عنها إلا بلسان العقل الوجودي.
ولم تكن مسألة البعث الجسماني على صورتها التقليدية التي استمرت قروناً عديدة من الجدل؛ مشكلة فارغة، أو مجرد مشكلة ميتافيزيقية فحسب، بل كانت مصدراً لإثارة الحوار المتعلق بطبيعة النص إن كان يحمل حقائق ظاهرة من غير حجب وتغليف، أم انه يستبطن أفكاراً دفينة وحقائق خفية؟ هكذا توحي لنا رسالة إبن سينا (أضحوية في أمر المعاد)، وهي الرسالة التي قَرَنَ فيها تلك المشكلة بالموقف المتعلق بطبيعة ما عليه النص الديني، وهو الموقف الرافض لأن يكون هذا النص حجة معرفية في كشف الحقائق، وعلى رأسها الحقائق الغيبية. وهكذا كانت حكاية (حي بن يقظان) في دلالتها وروحها.
إذاً، لم تكن القضية مجرد طرح انطولوجي بقدر ما كانت تعبّر عن إشكالية منهجية تتعلق بفهم النص. فبأي طريق يمكن ان نتعامل مع العينة الدينية، هل نتعامل معها بحسب حرفية النص، أم بتحريفه واستئصال ظاهره للوصول إلى الباطن عبر أداة العقل الفلسفي الوجودي؟
لقد شهدت العلاقة بين العينتين الوجودية والدينية لدى النظام الوجودي بعض التطورات، إذ لم تتمكن نظرية التمثيل - التي تحدثنا عنها - من الدوام والبقاء، بل تمّ استبدالها بنظرية أخرى متسقة تتصف بالتوفيق والإقتراب من كلا القطبين: النص كما هو ظاهر، والقبليات الوجودية كما هي باطن، فكانت حلاً وسطاً بين الطرفين ‹‹المتخاصمين››، كالذي نجده لدى الغزالي ومن بعده صدر المتألهين، وهو ما يمثل (المبنى الفلسفي)، وذلك في قبال صورة توفيقية أخرى جمعت بين العينتين، فهي تأخذ بظاهر النص من جهة، وتعمل على تفسيره تبعاً للقبليات الوجودية العرفانية من جهة ثانية، وبالتالي فهي تمثل (المبنى العرفاني) كالذي لجأ إليه إبن عربي وأتباعه من العرفاء.
وسنكتفي هنا في الحديث عن المبنى الفلسفي كما يتمثل في نظرية المشاكلة، اما المبنى العرفاني فقد خصصنا له دراسة مستقلة..
المبنى الفلسفي
لنعد إلى مسألة البعث الجسماني وكيف كان الفلاسفة التقليديون مضطرين إلى انكاره بحجة ان عالم الأرواح والرجوع إلى الله لا تتزاحم بوجود بدن عنصري مآله التغير والفناء. فلا شك ان هذه الحجة تستند إلى ما تفرضه القبليات الوجودية من إعتبارات تتعلق بطبيعة مراتب الوجود تبعاً لمنطق السنخية، وذلك من حيث اقرار رجوع كل شيء إلى أصله، وان البداية كالنهاية، فمثلما تتنزل النفوس والأرواح مجردة عن المادة والجسمية فإنها تعود كذلك من غير إضافة عرضية زائدة. وبالتالي كان لا بد من إلباس العينة الدينية لباس المجاز في تصوير المعاد الجسماني، وانه لا يعدو ان يكون معاداً خيالياً يدور مداره ضمن لفائف النفس البشرية كالذي يحدث في عالم الرؤيا والمنام.
فعلى انقاض هذه الفكرة التي حوّلت العينة الدينية إلى حقيقة مجازية لا قيمة لها من الناحية المعرفية؛ جاءت اطروحة السهروردي الفلسفية في المُثل المنفصلة الخارجية كي تعيد لتلك العينة مكانتها في ابراز الحقائق والكشف المعرفي. فأهم ما تتصف به هذه المُثل هو انها ليست حالّة في قوام مادي، كما انها ليست خيالات نفسية مثلما تصورها نظرية الفارابيين واتباعهما، انما لها ميدانها المنفصل عن النفس، فهي مُثل خارجية وليست متصلة ضمن قوام العالم الداخلي للنفس. أي ان لها عالماً وسيطاً له شَبه بالعالمين العقلي من جهة والجسماني من جهة أخرى، فهو روحاني مجرد كالعقل، ومحسوس مقداري كالجسم، وانه سمي بعالم المثال أو المُثل لاشتماله على صور ما في العالم الجسماني، كما سمي بالخيال المنفصل بإعتباره منفصلاً عن النفس التي عالمها هو عالم الخيال المتصل، وقيل ان هذه التسمية جاءت لانفصال هذا العالم عن المادة كالذي ذهب إليه القيصري[12]. مهما يكن فإنه بهذا المعنى تكون نظرية السهروردي قد اعادت بعض الشيء ما للعينة الدينية من إعتبارات الحقيقة المعرفية التي لا تقوم على التمثيل والتشبيه، وهي الحلقة المفقودة في نظرية التمثيل السابقة. فلم تعد الأوصاف الواردة حول المعاد الجسماني في تلك العينة رموزاً تشبيهية لامور غير حقيقية، بل انها ظواهر ترمز للكشف عن حقائق علوية مصدقة بحسب ما عليه القبليات الوجودية. الأمر الذي يجعل الوصف الديني ليس بحاجة لحمله على المجاز وتأويله.
مع هذا فإن هذه الاطروحة لم تكتمل حلقاتها إلا على يد صدر المتألهين، فعيبها من وجهة نظر هذا الفيلسوف انها لم تعترف بأن هذه المُثل الجسمانية المعلقة هي عين هذه الأجسام أو الأفراد التي في الدنيا، وانما هي أمثال لها، فكان تسديد هذه الثغرة على يد هذا الحكيم. فوفقاً لاعتقاده هو ان أبدان الآخرة عبارة عن مُثل معلقة ومنفصلة عن عالم النفس الداخلي، في الوقت الذي تمثل عين تلك الأبدان في الدنيا، حيث أخذت بتطورها وحركتها الجوهرية الوجودية إلى كمالها النهائي في الوجود الجسماني المثالي. فالشيء الثابت فيها يتمثل في الصورة، والشيء المتغير فيها يتمثل في المادة، وبالتالي كانت المُثل الأخروية هي عين الأبدان الدنيوية من حيث الصورة لا المادة.
وعلى هذه الشاكلة ظهرت مشكلة ثانية كانت مداراً للحوار والجدل بين العقليين - ومنهم الفلاسفة - وخصومهم من البيانيين، وهي ما تعرف بمشكلة الصفات الإلهية، كالسمع والبصر والغضب والضحك والفرح والاستواء والاستهزاء والمكر والتعجب والمجيء والهرولة واليد والقدم والعين والوجه، وما إلى ذلك من أوصاف مذكورة في القرآن والحديث. ومعلوم ان الجدل حول هذه المشكلة استمر قروناً فاقَ ذلك الذي حدث مع مشكلة البعث الجسماني. فإذا كان موقف الفلاسفة التقليديين من هذه الأوصاف أو الصفات هو التأويل بحملها على المجاز، وأحياناً الانكار عندما يكون النص رواية وحديثاً، فإن ما قدمته الاطروحة الجديدة شيئاً يختلف عن ذلك كلياً. فهي لم تجد نفسها مضطرة إلى مثل هذه الممارسات من إنكار تلك الأوصاف أو تأويلها، فعلى العكس رأت ان النصوص حول تلك الأوصاف تدعم ما تريد تثبيته بحسب منطق السنخية أو القبليات الوجودية، وهو همزة الوصل الذي عانق فيه العرفاء والفلاسفة الجدد أصحاب الحديث والبيان.
فعوالم الوجود بحسب القبليات الوجودية متطابقة، بعضها من سنخ البعض الآخر، وبالتالي فما من صفة نراها في عالمنا السفلي إلا وهي موجودة في العالم العلوي - وكذا الإلهي - بأبهى واجمل صورة. وبعبارة ثانية ان لتلك الأوصاف مراتب وجودية بعضها له ذلك الشأن الرفيع كما هو في عالم الاله، والذي على سنخه ظهر ما نراه من صفات الخلق في عالمنا الأرضي، رغم البون الشاسع بين العالمين، مما يجعل العالم الإلهي لا مثيل له ولا نظير. وبالتالي فمثلما ان هذا العالم يحمل تلك الأوصاف التي هي من نفس حقيقة الأوصاف الخلقية، إلا انه يظل ليس كمثله شيء، مثلما جاء في بعض الآيات من وصف الذات الإلهية.
هكذا فإن باستطاعة الاطروحة الجديدة ان تحل مشكلة التعارض في النصوص المتعلقة بالعالم العلوي. فشتان بين قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))الشورى/11، وكذا ((لا تدركه الابصار))الانعام/103، وبين قول الحق: ((هو الأول والآخر والظاهر والباطن))الرحمن/3.. ((الرحمن على العرش استوى))طه/5.. ((وجاء ربك والملك صفاً صفاً)) الفجر/22.. ((وهو الله في السماوات وفي الأرض))الانعام/ 3... الخ[13].
فما أبلغ هذا التعارض بين هذين الصنفين من الآيات، الأمر الذي حدا بأصحاب السلف من المحدثين ان لا يفرطوا في شيء منها، إذ شعروا ان المنطق يفرض عليهم ان لا يفوتوا بعض الآيات لحساب البعض الآخر، وليس ذلك ممكناً إلا بالتعويل على ظواهرها المتعارضة. هكذا أوحى لهم منطق التعامل مع الآيات، حتى توصلوا إلى فكرة كون الحق لا يخلو من ذهاب ومجيء وعلو وارتفاع ويد واستواء وفرح وتعجب ومكر واستهزاء.. الخ، ولكن من غير مثيل ولا شبيه لصراحة قوله تعالى: ((ليس كمثله شيء)).
وكذا هو الحال مع اتجاه الاطروحة الجديدة للرؤية الوجودية، فوجود عوالم متناسقة ومتشاكلة قد يسّرَ العمل بالتفسير الحرفي للآيات من دون حاجة للمجاز والتأويل، فلماذا لا يكون لله تعالى ذهاب ومجيء واستواء وعلو ويد وقدم وعين ووجه... الخ؟! كما ويتصف في الحال ذاته بأنه ((ليس كمثل شيء))، حيث فيه نفي للمثل لا المثال، وشتان بين الأمرين.
واعتماداً على هذا المنطق عوّل الاتجاه المذكور على التمسك بالآيات التي ظاهرها التشبيه ونهى عن تأويلها، كقوله تعالى: ((هل ينظرون إلا ان تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك)) الانعام/ 158.. ((فأينما تولوا فثمّ وجه الله، وان الله واسع عليم)) البقرة/115.. ((وكان الله بكل شيء محيطاً)) النساء/126.. ((وأحاط بما لديهم)) الجن/28.. ((وهو الله في السماوات والأرض)) الانعام/3.. ((هو الأول والآخر والظاهر والباطن)) الحديد/3.. ((كل شيء هالك إلا وجهه)) القصص/ 88.. ((ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون)) الواقعة/85.. ((ولله ما في السماوات وما في الأرض)) آل عمران/109.. ((ولله ملك السماوات والأرض)) المائدة/17.. ((الا له الخلق والامر)) الاعراف/54.. ((ولله المشرق والمغرب)) البقرة/115[14].
إذاً، استهدفت الاطروحة الجديدة للمبنى الفلسفي جعل الأوصاف الدينية حقة لا تحتاج إلى تحريف النص وحمله على المجاز والتشبيه. فالفهم عندها قائم بحسب هذه الأوصاف الظاهرة التي يدل عليها اللفظ الحرفي مثلما هو متبع لدى أهل البيان وأصحاب الظاهر. أو يمكن القول إن هذه النتيجة هي على غرار تلك التي توصل إليها المحدّثون وأهل السلف ومن والاهم رغم بعض جوانب الاختلاف، كما هو الحال مع الإمام احمد بن حنبل وابي الحسن الأشعري وإبن تيمية وإبن القيم الجوزية وغيرهم. فهؤلاء جميعاً مقرّون بأن للحق تلك الأوصاف وإن كانت غير معلومة الكيف تبعاً لقوله تعالى: ((ليس كمثله شيء))[15].
وعلى العموم، يكاد الاتجاه الجديد يصل إلى نفس منطق المحدثين، كالذي صرح به صدر المتألهين من حيث انطباق القبليات الوجودية على ظواهر القرآن والحديث، فقد ذكر بلسان العرفاء انهم قالوا ‹‹نحن إذا قابلنا وطبقنا عقايدنا على ميزان القرآن والحديث، وجدناها منطبقة على ظواهر مدلولاتها، من دون تأمل، فعلمنا انها الحق بلا شبهة وريب، ولما كانت تأويلات المتكلمين والظاهريين من العلماء في القرآن والحديث مخالفة لمكاشفاتنا المتكررة الحقة الحاصلة لنا من الرياضات الشرعية والمجاهدات الدينية طرحناها وحملنا الآيات والأحاديث على مدلولها الظاهري ومفهومها الأول، كما هو المعتبر عند ائمة الحديث وعلماء الأصول والفقه، لا على وجه يستلزم التشبيه والنقص والتجسيم في الحق تعالى وصفاته الإلهية.. واكثر المحققين بل جميعهم قائلون بأن ظواهر معاني القرآن والحديث حق وصدق، وإن كانت لها مفهومات وتأويلات أُخر غير ما هو الظاهر منها، كما وقع في كلامه (ص): (ان للقرآن ظهراً وبطناً وحداً ومطلعاً)، ولو لم تكن الآيات والأخبار محمولة على ظواهرها ومفهوماتها الأولى من دون تجسيم وتشبيه فلا فائدة في نزولها وورودها على عموم الخلق وكافة الناس، بل كان نزولها على ذلك التقدير في باب فهوم متشابهات››[16].
فبحسب منطق السنخية أو القبليات الوجودية يستلزم ان تكون عوالم الوجود متطابقة ومتشاكلة، وبالتالي كان من السهل فهم تفسير ما يتعلق بعالم الغيب الموصوف في النصوص الدينية تبعاً لهذا التشاكل والتسانخ، فما من شيء محسوس في الطبيعة يذكره النص الديني - كالقرآن الكريم - إلا ويكون إشعاراً لما موجود في الآخرة والعالم الإلهي تبعاً لمشاكلات الوجود ومشابهاته. وهو الاسلوب الذي استخدمه الغزالي في (القسطاس المستقيم) وأقرّه صدر المتألهين بالاعتراف والتأييد[17]، فوفّق في تطبيقه بحيث يرضي ما عليه أصحاب الفلسفة والذوق، وما عليه أصحاب السلف والحديث، مما يفضي إلى ان تكون النتيجة بين مذهب الفلاسفة العرفاء وبين مذهب السلف المحدثين متقاربة إلى حد كبير، رغم ما بينهما من عداء وتضاد يجعل الصلح بينهما غير ممكن.
هكذا نحن أمام نظرية استطاعت ان تقضي على مذهب المثال والممثول. وهي نظرية نادى لها الغزالي في عدد من كتبه، وتتصف بأنها تتطابق تماماً مع القبليات الوجودية، إذ تفيد بأن هناك عوالم متشابهة بعضها يفوق البعض الآخر من حيث الكمال، وكل ما يذكره الشرع من أشياء كالنور والميزان والعين واليد والتردد والاستهزاء وغير ذلك، فإن لها حقائق متطابقة ومختلفة في الكمال. لهذا نطلق على هذه الاطروحة (نظرية المشاكلة)، فهي تستند في آليات فهمها للنص الديني إلى القبليات المنظومية الخاصة في المشاكلات الوجودية كما يدلّ عليها الأصل المولد أو السنخية.
فمثلاً ان اطلاق النور على الحق تعالى، كما في آية النور، هو اطلاق حقيقي كما صرح بذلك صدر المتألهين، لا بمعنى ان الحق هو هذا النور الحسي، إذ يطلق على النور المحسوس هذا اللفظ لكونه ظاهراً بذاته ومظهراً لغيره، أما خصوص كونه محسوساً ومظهراً للمبصرات فليس له دخالة في معنى لفظ (النور) بإطلاق، لكونه أحد مصاديق هذا اللفظ. لذلك سبق للشهرزوري في رسالته للنفس ان إعتبر نور الشمس مثالاً حقيقياً للنور الربوبي الإلهي[18]. وبالتالي فإن من مصاديق (النور) هو الحق، بإعتبار انه ظاهر بذاته ومظهر لغيره من الموجودات جميعاً، وهو الأمر الذي يبرر ما أطلقه الإشراقيون عليه بنور الأنوار، وان المجردات العقلية التالية عنه هي أنوار محضة متحدة في الحقيقة ومختلفة في الشدة والضعف والكمال والنقص، حيث تتسلسل هذه الأنوار وتنتهي في شدتها إلى أعلى درجة، تلك التي يطلق عليها نور الأنوار، وبالتالي فهي تمثل لمعان هذا النور، كما وتنتهي من حيث الضعف والنقصان إلى هذا النور المحسوس المفتقر للأجسام[19]. إذاً، فالنور متفاوت في الكمال والنقص، ومتدرج في الشدة والضعف، واطلاقه على الذوات النورية على سبيل التشكيك[20]. فهو من هذه الناحية لا يختلف عن الوجود، حيث انه هو الآخر يطلق على ذات الحق، وانه ظاهر وموجود بذاته ومظهر وموجد لغيره، كما انه متفاوت في الشدة والضعف، ويتصف بصفة التشكيك على ما يراه ذلك الحكيم. ولا شك ان استخدام النور والوجود لدى الإشراقيين يكاد يكون استخداماً واحداً من غير اختلاف، وكأن أحدهما مشتق من الآخر، أو ان أحدهما يرادف الآخر، رغم ان للوجود معنىً كونياً، وان للنور معنى الذات والماهية، أو انه من جنس الطبائع للأشياء.
ومن الأمثلة الأخرى التي ترد بهذا الصدد لفظة الماء، إذ جاء في قوله تعالى: ((وكان عرشه على الماء))[21]، فالماء - هنا - يعد ماء صورياً حقيقياً، ويعنى به ماء الحياة الساري في جميع الموجودات، سريان الماء أو الروح في الأجسام، مثلما يمكن إستظهاره في قوله تعالى: ((وجعلنا من الماء كل شيء حي))[22]، فالماء هو كناية عن الحياة السارية في كل شيء من الممكنات الموجودة[23]. وعند البعض ان هذا الماء هو ماء الوجود وسر الحق المعبود، بإعتبار انه لا يمكن ان يكون الماء المحسوس الذي نشربه هو سبب كل شيء حي مع انه أحد العناصر الأربعة المتكونة في عالم ما تحت القمر، فكيف يمكن ان يكون مصدر تكوّن حياة الموجودات وفيها من العوالي العقلية والنفسية والفلكية الحية؟ فلو أخذنا بهذا الفرض لكان ذلك يتناقض مع حقائق الوجود ومراتبه، وبالتالي لا بد ان يقصد منه معنى الوجود بإعتباره اشمل العناصر العلية لتكوين حياة الموجودات بأسره ا[24]. ولدى العارف الآملي فإن المقصود بهذا الماء هو الهوية الإلهية والحقيقة الإنسانية والعلوم الحقيقية التي بها حياة كل شيء وقيامه[25].
وفي مجال الحديث النبوي طبّق الغزالي المنطق السابق على الرواية التي تتضمن تسليط تسعة وتسعين تنيناً على الكافر في عذاب القبر[26]، فرأى ان هذا التنين مغروز في روح الكافر في حياته وإن لم يشعر بعد بآلامه ولدغه؛ لخدر كان فيه بسبب غلبة الشهوات، فيظهر فعله عند الممات، وان هذا التنين عبارة عن مركب لصفات الكافر، وعدد رؤوسه بعدد ما يتشعب عن حب الدنيا من الكِبر والرياء والحسد والغل والحقد والمكر والخداع وغيرها.. حيث ان لها أصولاً معدودة ثم تتشعب منها فروع معدودة، فتنقسم الفروع إلى أقسام لتكون بذلك العدد، فتلك الصفات بأعيانها هي المهلكات، وهي بأعيانها تنقلب إلى عقارب وحيات بحسب المناسبة، وبالتالي فإن كل ما يتعلق بالآخرة هو من عالم الملكوت. فمثل هذه الأخبار عند الغزالي لها ظواهر صحيحة وأسرار خفية ولكنها عند أرباب البصائر واضحة، ومن لم تنكشف له حقائقها فلا ينبغي ان ينكر ظواهرها[27]. أو كما قال: ‹‹لا تتوقف في الايمان به صريحاً من غير تأويل، ولا تحمله على الاستعارة أو المجاز، بل كن أحد رجلين إما المؤمن ايماناً بالغيب من غير تصريف وتأويل لظواهر نصوص التنزيل، أو العارف الكاشف ذو العينين الصحيحين والقلب السليم في تحقيق الحقائق والمعاني، مع مراعاة جانب الظواهر وصور المباني، كما شاهده أصحاب المكاشفة ببصيرة أصح من البصر الظاهر››[28].
ووفقاً لذات المنطق من المشاكلة قام صدر المتألهين بتفسير الحديث القدسي: ‹‹ما ترددت في شيء أنا فاعله كترددي على قبض روح عبدي المؤمن يريد الموت وأنا أكره مسائته››[29]، فإعتبر ان من هذا التردد العلوي انبثقت كافة الترددات الكونية والتحيرات في النفوس، استناداً إلى تطابق العوالم وتشاكل المراتب الوجودية وفقاً للسنخية. فتفسير ما نتردد فيه أحياناً في فعل أمر ما هل نفعله أم لا - وقد نظل متحيرين هكذا حتى يزول التردد بتحقق واحد من الإمكانات المتردد فيها - انما يعود إلى ان القلم يكتب في لوح القدر أمراً معيناً هو زمان الخاطر في نفس الإنسان، ثم يمحوه فيزول هذا الخاطر، إذ تحدث رقائق ممتدة من اللوح إلى النفوس البشرية بحدوث الكتابة، وتنقطع بمحوها، فإذا صار الأمر ممحواً كتب غيره، وتمتد رقيقة أخرى إلى هذا الشخص، فيخطر له خاطر نقيض الخاطر الأول، وهكذا حتى إذا أراد الحق إثباته فإنه تنقطع الخواطر وامتداد الرقائق فيفعل الشخص الأمر الذي قد ثبت في اللوح سلفاً[30].
وعموماً رأى صدر المتألهين ان القرآن مشحون بذكر الأمثلة للأمور التي حقايقها موجودة في علم الله، وأمثالها موجودة في هذا العالم تبعاً لهذه النظرية من المشاكلة، فمن السهل ان نفهم بحسبها نصوصاً مثل قوله تعالى: ((يد الله فوق أيديهم)) [31]، وقوله ((أولئك كتب في قلوبهم الايمان))[32]، ومثل قول النبي (ص): (قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن). وكما علّق هذا الفيلسوف على الحديث المذكور بقوله: ‹‹أوََ لا ترى ان روح الاصبع هي القدرة والقوة على التقلب، وحيث يكون قلب المؤمن بين لمة الملك ولمة الشيطان، كما ورد في الحديث: (هذا يغويه وذلك يهديه)، والله سبحانه يقلّب قلوب عباده كما تقلّب أنت الأشياء باصبعيك، فانظر كيف شارك نسبة الملكين المسخرين إلى الله اصبعيك في روح الاصبعية، وخالف في الصورة، فاستخرج من هذا ما نقل عنه (ص) انه قال: (ان الله خلق آدم على صورته)، فمهما عرفت الاصبع امكنك الترقي إلى اللوح والقلم واليد واليمين والوجه والصورة من غير نقص، ووجدت جميعها حقايق غير جسمانية، متمثلة بامثلة جسمانية، فتعلم ان روح القلم وحقيقته شيء يسطر به، فكل جوهر يسطر بواسطته نقوش العلوم الحقة في ألواح القلوب، فأحرى به ان يكون هو القلم الحقيقي، إذ وجد فيه روح القلمية، ولم يعوزه شيء إلا قالبه وصورته، وخصوصية المادة أمر زايد في حقيقة الشيء، ولذلك لا توجد في حده الحقيقي، إذ لكل شيء حد وحقيقة، وهي روحه وملاك امره، فإذا اهتديت إلى الأرواح صرت روحانياً، وفتحت لك الجنان وعالم الملكوت وكنت من أهل بيت القرآن.. وفي القرآن اشارات كثيرة من هذا النمط..››[33].
وينتهي هذا العارف الحكيم إلى القول بأن ‹‹الحق عند أهل الله هو حمل الآيات والأحاديث على مفهوماتها الأصلية من غير صرف وتأويل، كما ذهب إليه محققو الإسلام وأئمة الحديث››[34]. كما أقرّ بأن ‹‹الأصل في منهج الراسخين في العلم هو ابقاء ظواهر الألفاظ على معانيها الأصلية من غير تصرف فيها، لكن مع تحقيق تلك المعاني وتلخيصها عن الأمور الزائدة وعدم الاحتجاب عن روح المعنى بسبب غلبة أحكام بعض خصوصياتها على النفس واعتيادها بحصر كل معنى على هيئة مخصوصة له، يتمثل ذلك المعنى بها للنفس في هذه النشأة، فلفظ الميزان مثلاً موضوع لما يوزن به الشيء مطلقاً. فهو أمر مطلق يشمل المحسوس منه والمتخيل والمعقول، فذلك المعنى الشامل روح معناه وملاكه من ان يشترط فيه تخصيصه بهيئة مخصوصة، فكل ما يقاس به الشيء بأي خصوصية كانت، حسية أو عقلية، يتحقق فيه الميزان ويصدق عليه معنى لفظه، فالمسطرة والشاقول والكونيا والاسطرلاب والذراع، وعلم النحو وعلم العروض وعلم المنطق وجوهر العقل، كلها مقاييس وموازين توزن بها الأشياء، إلا ان لكل شيء ميزاناً يناسبه ويجانسه، فالمسطرة ميزان، والخطوط المستقيمة، والشاقول.. والمنطق ميزان الفكر يعرف به صحيحه عن فاسده، والعقل ميزان الكل إن كان كاملاً، فالكامل العارف مشاهدته من الأمر الذي له كفتان وعمود ولسان، وهكذا حاله في كل ما يسمع ويراه، فإنه ينتقل فحواه ويسافر من ظاهره وصورته إلى روح معناه، من دنياه إلى أُخراه››[35]. وبالتالي فعندما نسمع قوله تعالى:((وزنوا بالقسطاس المستقيم))[36]؛ ندرك ان لهذا الوزن مراتب معرفية، تبدأ من الوزن المعرفي للحق تعالى ثم ملائكته فرسله وهكذا.
وتبعاً للغزالي ومن بعده صدر المتألهين فإن هذا الوزن المشار إليه في النص القرآني الآنف الذكر هو عبارة عن برهان معرفة الله وصفاته وافعاله وملائكته وكتبه ورسله وملكه وملكوته، وهو يفيدنا بأن نتعلم به كيفية الوزن من الأنبياء (ع) كما تعلموا هم من الملائكة، فالله هو المعلم الأول، والمعلم الثاني جبريل، وثالث المعلمين هو الرسول (ص)[37]. وما يستفاد منه في هذه الاطروحة الجديدة هو ان الوزن المعرفي يأتي من الحق ثم يتنزل في المراتب الوجودية واحدة بعد الأخرى. لذلك فإن هذه الموازين مذكورة على لسان الحق في قرآنه المجيد، وقد استخلصها الغزالي في كتابه (القسطاس المستقيم) وأحصاها بخمسة موازين تمثل خمسة اشكال للقياس[38]، ثم اتبعه في ذلك صدر المتألهين في عدد من كتبه[39].
وإذا كان للميزان هذه السعة من المعنى حسب ما تمدنا به نظرية المشاكلة، فإن ما يقوم به من تقدير للوجودات الممكنة كي يتخذ كل منها قدره الوجودي المعلوم، هو ذلك الذي يسمى في الفكر الديني بالقضاء والقدر. وبعبارة ثانية ان ما يُعرف لدى القبليات الوجودية بسلسلة النزول بحسب منطق السنخية والمشاكلات، هو ذاته الذي يطلق عليه القضاء والقدر مثلما جاء في قوله تعالى: ((وما ننزله إلا بقدر معلوم))، حيث ان الآية بصدد العنوان المشار إليه كما أفادنا بذلك صدر المتألهين، فالقضاء بحسب هذا التنزيل هو وجود جميع الموجودات في العالم العقلي؛ مجتمعة بعد وجودها المجمل في العناية الإلهية ومحلها القلم. أما القدر فهو وجودها في كتاب المحو والإثبات وفي المواد الخارجية الجارية بسواد مواد الهيولى الظلماني. وقد إعتبر صدر المتألهين ان ما جاء في التنزيل ((وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو))[40]؛ هو اشارة إلى وجود جميع الموجودات على النحو البسيط في العناية الإلهية، وان ما جاء في قوله: ((وان من شي إلا عندنا خزائنه))، اشارة إلى وجودها في الخزائن العقلية على سبيل الانحفاظ دائماً، وقوله ((وما ننزله إلا بقدر معلوم))[41]، هو اشارة إلى المرتبتين الأخيرتين القدريتين ‹‹فالمتنزل هو القدر الخارجي، لكونه آخر التنزلات، والمقتدر المعلوم هو القدر العلمي، وهو سبب للقدر الخارجي، كما دلت عليه باء السببية. فالجواهر العقلية وما معها موجودة في القضاء والقدر مرة واحدة بإعتبارين، والجواهر الجسمانية وما معها موجودة فيها مرتين››[42]. مما يعني ان ما ورد من مفاهيم علوية إلهية كالنور والقلم واللوح والكرسي والعرش وغيرها، كلها تتنزل بقدر معلوم تبعاً للميزان الذي ترتسم عليه صورة ما نطلق عليه القضاء والقدر.
وبحسب صدر المتألهين فإن معظم آيات القرآن هي أمثال تُذكر للناس لتشير إلى ما تتضمنه نظرية المشاكلة من إعتبارات ما للوصف الظاهر في النص من مراتب متعددة ومتكاملة الوجود، كالذي مر علينا نماذج من ذلك مثل الميزان والقلم والاصبع وغيرها[43]. وبالتأكيد ان هذا العارف يعتبر آيات الأمثال تنبّه وتشير إلى هذا المعنى، مثل قوله تعالى: ((وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون))[44]، وقوله: ((ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون))[45].
مع ما يلاحظ ان آيات ضرب الأمثال قد وظفت للدلالة على كلا النظريتين: التمثيل والمشاكلة. إذ وظفتها الأولى لتدل بها على ضرورة الأخذ بالباطن وترك الظاهر كلية، بإعتبار أن الأخير لا يمثل عندها سوى الرمز الذي يوحي إلى الحقيقة المرموز إليها، أو المثال الذي يخفي حقيقة ما بباطنه. فالظاهر - إذاً - عبارة عن همزة وصل تربط المثال بممثوله والرمز بمرموزه.
أما نظرية المشاكلة فقد وظفت هذه الآيات استناداً إلى ظاهر النص وبيانه، لكن مع الأخذ بعين الإعتبار ما لدى هذا الظاهر من لفظ له معان متعددة ومتشاكلة يصح من خلالها اقرار الحقائق العليا من غير تأويل. فيكون الظاهر هو اللفظ المشترك العام الذي يحمل نظائر المعنى وأمثالها على ما فيها من تفاوت في القوة والكمال. أما الحقيقة المرادة من هذا الظاهر فهي تلك الأمثال الباطنة التي تنتزع من ذلك الظاهر العام. فسواء استخدمت الأمثال بحسب ما يبدو عليها من معنى حسي، أو معنى آخر صوري مجرد عن الحس الطبيعي، فإن كل ذلك يعتبر من النظائر والأمثال التي تتفاوت فيما بينها بحسب المشاكلة، لذلك فإن أخذ المعنى الظاهر بحسب ما عليه الحقيقة الباطنة من المعاني الصورية المجردة لا يعد من التأويل بشيء.
وعلى حد قول صدر المتألهين ليس الغرض من حقيقة التمثيل الذي جاءت به نصوص القرآن مجرد التأثير والوقع في النفس، بل بيان حقيقة الأمر وملاكه وروحه، ففي قوله تعالى: ((مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون))[46]، ان الألفاظ المذكورة في الآية كالنار والاستيقاد والاضاءة والنور والظلمات وغيرها كلها محمولة على الحقيقة ومشهودة بنظر البصيرة، فهي حقيقة أحوالهم الباطنة، أما تلك التي هم عليها من الأحوال والأفعال الظاهرة فهي مثال لتلك الأحوال الباطنة، تبعاً للمشاكلة والمسانخة، إذ ما في الدنيا هي مثالات لما في الآخرة، ولما كانت المماثلة من الجانبين، فإنه يجوز استعمالها في كل من الطرفين، فالمثَل في أصل الكلام هو بمعنى المثْل، وهو النظير[47].
هكذا يمكن لنظرية المشاكلة ان ترضي الفيلسوف مثلما يمكنها ان ترضي العارف، وان لها قرباً من النزعة الافلوطينية، وتستمد مبرراتها الوجودية من منطق السنخية. فبحسب هذا المولد المعرفي يتحتم ان تكون العوالم الوجودية متشابهة ومتشاكلة؛ وذلك بحمل الأشرف منها جميع المعاني الموجودة في الأخس على وجه ألطف وأكمل. فكل ما في العالم السفلي انما يتبع العالم العلوي على صورة المثال والظل بحسب ما يسانخه أو يشاكله ويواطئه.
وبعبارة ثانية انه ما من شيء نراه ونتحسس به في عالمنا الكوني إلا وله وجود آخر أليق في العالم العلوي، ومن ثم في الذات الإلهية، فلا تخلو هذه الذات - كما يذكر صدر المتألهين - من أرض ولا سماء ولا بر ولا بحر ولا عرش ولا فرش، إذ ما من شيء في العالم إلا وله في الله أصله، وما من شيء يظهر إلا وله في الحضرة الإلهية صورة تشاكله؛ بدونها لا يظهر أي شيء اطلاقاً، فحقيقة المعلول تنبعث من ذات العلة، فيكون كل ما في الكون عبارة عن ظل لما في العالم العقلي، وكل صورة معقولة هي على مثال ما في الحضرة الإلهية[48]. كذلك كل شيء يخلقه الله تعالى انما له نظير في الآخرة، وله نظير أيضاً في عالم الأسماء والصفات[49]، كالذي أشرنا إليه خلال كتاب (نُظم التراث)، وذكرنا بأن لهذه الفكرة أثر على إعتبار الوجود جسماني الهيئة، بما في ذلك الذات الإلهية، إذ لا تخرج عن كونها جسماً لا كالأجسام، فهي تتفوق على الأخيرة بالدرجة والكمال. وبالتالي فكل ما يذكره النص من الأمور الشهودية والغيبية، كالشمس والقمر والليل والنهار، والعرش والكرسي واللوح، والجنة وما فيها من حور وقصور وأنهار وأشجار، وكذا النار وما فيها من مهل وحميم وزقوم وتصلية جحيم، فإنها جميعاً غير قابلة للتأويل، بل تؤخذ على حقائقها ومعانيها، ذلك لأن الله ما خلق شيئاً في عالم الصورة إلا وله نظير في عالم المعنى، وما خلق شيئاً في عالم المعنى أو الآخرة إلا وله حقيقة في عالم الحق، وما خلق شيئاً في العالمين إلا وله مثال وانموذج في عالم الإنسان[50].
مقارنة بين نظرية التمثيل والمشاكلة
لا شك انه سواء أخذنا بنظرية التمثيل أو بنظرية المشاكلة، فلا فرق في أنهما منبعثان معاً عن نفس الشائبة التقليدية من منطق التوليد الوجودي. فبالرغم من الاختلاف البيّن بينهما، وافتراق إحداهما عن الأخرى في المسلك والاتجاه، إلا ان من الممكن إدراك الجامع المشترك الذي يجمعهما، فهما يشتركان معاً في نفس المرجعية المعول عليها في الفهم والتفسير والتوليد، وهي مرجعية منطق التوليد الوجودي المتمثل في السنخية.
وكمقارنة بين النظريتين، تجعل نظرية التمثيل العينة الدينية ظلاً للرؤية الفلسفية وحكاية لها، وذلك ان الأولى تعبّر عن هذه الأخيرة بالمثالات والرموز المجازية. أما نظرية المشاكلة فهي وان كانت تقر مثل هذه السنخية إلا انها تعول على الحقيقة اللفظية من دون مجاز، إذ تعد العينة الدينية والوجود الخارجي الموضوعي كلاهما من سنخ الوجود العقلي تبعاً للقبليات الوجودية، وبذلك تصبح الحقيقة الدينية مفضية إلى نفس الدلالة التي تكنها الحكمة العقلية بلا تعارض ولا تضاد. وبالتالي فهناك ثلاثة كتب بعضها من سنخ البعض الآخر، فهناك كتاب تدويني وآخر تكويني وثالث عقلي. واستناداً لهذه الكتب المعتبرة يمكن ان نميز بين الاتجاهين الآنفي الذكر كالتالي:
لا تختلف نظرية التمثيل عن نظرية المشاكلة في جعل الكتاب التكويني على سنخ الكتاب العقلي، لكن الأمر مع الكتاب التدويني شيء مختلف، فرغم انها تعتبره محاكياً للكتاب العقلي في الشبه والظلية، إلا انها لا تعترف له بحمل الحقائق، بل تعده مصدر التشبيهات والرموز المجازية الدالة على حقائق غيرها. في حين إن نظرية المشاكلة تجعل من تلك الكتب حقائق بعضها مستنسخ من البعض الآخر. وعليه فبحسب هذه النظرية يزول الحاجز الذي وضعه الاتجاه الأول أمام مفردات الموضوعة الدينية، فأصبح كل من العينتين الدينية والوجودية ذا دلالة على واقع الأمر كما هو. لذا فكل ما تقوله العينة الدينية يعتبر عين الحقيقة بلا منافاة ولا مجافاة مع الحقائق الأخرى التي تشاكلها وتتطابق معها تبعاً لمنطق السنخية.
فمثلاً ان الفلاسفة كانوا مضطرين لتأويل الصفات الإلهية التشبيهية كصفتي السمع والبصر، مثلما جاء في قوله تعالى: ((إن الله سميع بصير))[51]، فإعتبروا ذلك مما يعود إلى العلم الصوري تبعاً لنظرية التمثيل. فابن سينا مثلاً فسّر سمعه وبصره بأنه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات، وكونه خبيراً انه عالم ببواطن الأشياء، وكونه شهيداً انه عالم بظواهر الأشياء، وكونه محصياً انه عالم بالمعدودات، وكونه لطيفاً انه عالم بدقائق الأشياء، وفي جميع الأحوال يظل علمه واحداً لا يتعدد وإن اختلفت أسماؤه[52]. ورأى إبن رشد ان علة تأويل الفلاسفة للسمع والبصر إلى العلم؛ هي كي لا يلزم عن وصفه بهما ان يكون ذا نفس، وإعتبر ان الله وصف نفسه بهما لينبه على ان لا يفوته نوع من أنواع العلوم والمعارف[53].
في حين انه بحسب نظرية المشاكلة فإن تلك الصفات تؤخذ على معانيها الحقيقية، ومن ذلك ان صدر المتألهين خالف من سبقه من الفلاسفة المشائين ومن على شاكلتهم، كالفارابيين والطوسي وإبن رشد وغيرهم، إذ إعتبر ان لله سمعاً وبصراً هما غير العلم، حيث انهما عبارة عن شهود المسموعات والمبصرات، فهذا الشهود هو السمع والبصر. وهو الرأي الذي يتوسط بين المأولين لصفتي السمع والبصر إلى العلم كالذي عليه المشاؤون، واولئك الذين عكسوا القضية فأولوا العلم إلى البصر كما هو الحال مع السهروردي، فصدر المتألهين يثبت الأمرين معاً[54]، وهو ما يتفق مع نظرية المشاكلة.
وعليه انه إذا كان من مقتضيات نظرية التمثيل رفض ظاهر النص والاخذ بالباطن من خلال التأويل؛ فإن الأمر مع نظرية المشاكلة مختلف، إذ لا يوجد فصل بين الظاهر والباطن، فالمثال عندها عين الممثول ظاهراً وباطناً. في حين بحسب النظرية الأولى فإن المثال غير الممثول ظاهراً وباطناً على حد سواء.
كذلك انه إذا كانت نظرية التمثيل تعتبر العينة الدينية اقناعية خطابية جاءت لتراعي مدارك الجمهور وأذهان الناس الضعيفة، فإن الأمر مع نظرية المشاكلة مختلف، إذ لا يوجد مجاز ولا خداع ولا تضليل كالذي تفضي إليه النظرية الأولى، خاصة انها بحسب رؤية صدر المتألهين تبعث على تضليل الاتقياء والصالحين وترميهم في عذاب الجحيم. الأمر الذي يلزم عندها ان يكون ظاهر النص وباطنه يعبران عن حقيقة واحدة.
لكن هذه الحقيقة كما يمكن ان تكون حسية طبيعية فإنها تكون إلهية أو عقلية أو مثالية غير طبيعية. وإذا كان أصحاب نظرية التمثيل لا يفهمون من المعنى الظاهر غير تلك الدلالة الحسية الطبيعية، فإن غيرهم من أصحاب نظرية المشاكلة يعتبرون هذا المعنى ينطبق أيضاً على ما هو أعمق من تلك الدلالة، فهناك دلالة عقلية ومثالية وإلهية هي أعمق من الدلالة الحسية، وان كانت جميع الدلالات تعبّر عن ظاهر النص بمعناه العام غير القابل للتحديد من حيث الأصل، أي ان الظاهر لا يكشف إلا عن ذلك الذي يعبّر عن روح المعنى المشترك، وهو المعنى المجمل الذي لا يتحدد بأيٍّ من تلك الدلالات. وبالتالي كان لزاماً على نظرية التمثيل ان تقوم بتأويل الظاهر بإعتبارها تتوقف عند دلالته الحسية الخاصة دون التعويل على المعنى المشترك غير المتقيد بحس وعقل وخيال أو مثال. في حين بحسب نظرية المشاكلة ان كلاً من هذه المعاني يمكن ان يعبّر عن هذا الظاهر، أما تعيين حقيقة الأخير فذلك يعتمد على الباطن. فالباطن يعين الظاهر دون ان يلغيه، والفارق بينهما، بحسب نظرية المشاكلة، هو رغم ان الظاهر يمثل المعنى الحقيقي للممثول، إلا انه لا يعبّر عنه تعبيره التام غير المنقوص، أو انه لا يكشف عن هويته الوجودية، بل يظل محتفظاً بروح ماهيته العامة أو الأصلية، ويبقى ان تعيين طبيعة هذا الظاهر والكشف عن هويته الوجودية انما يتم بحسب ما عليه الباطن، وبالتالي كان الظاهر قنطرة للعبور إلى الباطن، وكان الباطن هو الذي يعطي الحقيقة بتمامها وتفصيلها، أو انه هو الذي يحدد مكانة الحقيقة من حيث الوجود، مثلما ان الظاهر يحددها بحسب الماهية.
أو يمكن القول إن الظاهر يحدد الحقيقة كما هي بصرف النظر عن طبيعة وجودها الخارجي، فهو بالتالي كاشف عن الحقيقة المعرفية، وان الباطن يتولى الكشف عن الحقيقة الوجودية. فالحقيقة في الظاهر هي حقيقة ابستيمية، وفي الباطن حقيقة انطولوجية، وان كلا الحقيقتين متطابقتان تطابق الماهية والوجود، وان الاختلاف بينهما هو اختلاف التعيين؛ كاختلاف التصور والتصديق بحسب التقسيم المنطقي، إذ طبيعة الظاهر لا تعين ما عليه حقيقة الوجود الخارجي، وان الباطن هو الذي يعمل على تعيين هذه الحقيقة، وان العلاقة بين الظاهر والباطن تظل خاضعة تحت فعل ما يُعرف لدى العرفاء بمبدأ الإعتبار، أو العبور من الظاهر إلى الباطن لوجود المناسبة المشتركة بينهما، كالذي تفرضه القبليات الوجودية بحسب منطق السنخية.
أيضاً إنه إذا كانت نظرية التمثيل قد اضطرت إلى نفي صفات اليقين والبرهان والحقيقة عن العينة الدينية، وإعتبرتها اقناعية غرضها مخاطبة العوام، فإن نظرية المشاكلة لم تضطر إلى ذلك، بل على العكس انها رأت تطابقاً بين مضامين العينتين الوجودية والدينية من دون اختلاف، وهو الأمر الذي أكد عليه صدر المتألهين بقوله: ‹‹حاشا الشريعة الحقة الإلهية البيضاء ان تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقينية الضرورية، وتباً لفلسفة تكون قوانينها غير مطابقة للكتاب والسنة››[55]. فهما بنظر فيلسوفنا عبارة عن حقيقتين متحابتين ومتراضيتين من دون تخاصم، حيث يعبران عن حقيقة واحدة. وهذه هي وجهة النظر التي جاءت على شاكلة ما سبق إليه إبن رشد في قوله بأخوة الشريعة للحكمة وصحبتهما وفق الحب بالطبع والغريزة. فكل منهما كان ينزع نحو التقرب من الحقيقتين الوجودية والدينية، وإن أفضى هذا الأمر إلى التلفيق في الكثير من الاحيان.
[1] نجيب مخول: الغزالي وإبن رشد، مصدر سابق، ص59.
[2] تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، مصدر سابق، ص26.
[3] حسن حنفي: في الفكر الغربي المعاصر (قضايا معاصرة/ 2)، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م، ص79.
[4] تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص73.
[5] جونو و بوجوان: تاريخ الفلسفة والعلم في اوروبا الوسيطية، ترجمة علي زيعور وعلي مقلد، مؤسسة عز الدين، بيروت، 1414هـ - 1993م، ص60.
[6] توبي أ. هَفّ: فجر العلم الحديث، ترجمة محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، عدد(260)، الطبعة الثانية، 1421هـ 2000م، ص164.
[7] تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص103-104.
[8] فجر العلم الحديث، ص164.
[9] تاريخ الفلسفة الاوروبية في العصر الوسيط، ص109.
[10] فجر العلم الحديث، ص161.
[11] في الفكر الغربي المعاصر، ص72 و80.
[12] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص77.
[13] مع هذا فإن من الصعب تطبيق طريقة الغزالي في المشاكلة على ما ورد لبعض الصفات الإلهية كمعاني اليد الإلهية، حيث لا تخضع لذلك المقياس، اذ جاءت بمعنى القدرة وبمعنى النعمة وبمعنى الملك والسلطة وبمعنى الحضور، كما في قوله تعالى: ((بيدك الخير)) آل عمران/ 26 .. ((فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء واليه ترجعون)) يس/ 83.. ((تبارك الذي بيده الملك)) الملك/ 1.. ((يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله)) الحجرات/ 1.
[14] ايقاظ النائمين، ص18. ومفاتيح الغيب، ص83.
[15] لاحظ: أبو الحسن الأشعري: الإبانة عن أصول الديانة، دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1405هـ - 1985م، ص15-16 و69-84 . وإبن تيمية: الرسالة التدمرية، المكتب الإسلامي، بيروت، الطبعة الثانية، ص29 2. ومحمد بن الموصلي: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم الجوزية، تصحيح زكريا علي يوسف، مطبعة الامام1، مصر، ص16-19.
[16] ايقاظ النائمين، ص16-17. والأسفار، ج2، ص342-343.
[17] مفاتيح الغيب، ص97-98. وتفسير صدر المتألهين، ج1، ص172.
[18] أسرار الشريعة، ص208.
[19] شواكل الحور في شرح هياكل النور، ص150.
[20] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص336.
[21] هود/ 7.
[22] الأنبياء/ 30.
[23] جامع الأسرار، ص59.
[24] كاظم الرشتي: شرح آية الكرسي، ص5.
[25] جامع الأسرار، ص523.
[26] اذ روي عن النبي (ص) قوله: ‹‹عذاب الكافر في قبره يسلط عليه تسعة وتسعون تنيناً، هل تدرون ما التنين، تسعة وتسعون حية ولكل حية تسعة رؤوس يخدشونه ويلحسونه وينفخون في جسمه إلى يوم يبعثون›› (الغزالي: احياء علوم الدين، دار احياء التراث العربي، ج4، ص500).
[27] إحياء علوم الدين، ج4، ص500. كذلك: تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج6، ص143.
[28] مفاتيح الغيب، ص89.
[29] روى البخاري هذا الحديث عن أبي هريرة (صحيح البخاري، حديث 6137).
[30] الشواهد الربوبية، ص353ـ354. وتحفه، ص303.
[31] الفتح/ 10. الملاحظ ان صدر المتألهين تارة يوظف هذه الآية مع جملة من آيات الصفات ضمن منهجه في المشاكلة، وأخرى يعمل على استبعادها عن التطبيق، حيث اعتبر انه يمكن حملها على المجاز لا الحقيقة؛ بمعية آية أخرى هي: (( يا حسرتي على ما فرطت في جنب الله)) الزمر/ 56 5، خلافاً لغيرهما من الآيات التي تتعلق بالصفات الإلهية المعروفة، وقد جاء كلا الحالين من التوظيف والاستبعاد في كتابه (مفاتيح الغيب، قارن: ص 83 و95).
[32] المجادلة/22.
[33] مفاتيح الغيب، ص95-96.
[34] المصدر السابق، ص93.
[35] المصدر نفسه، ص92. ولاحظ أيضاً: عرشيه، ص271-272. والأسفار، ج9، ص299. وتفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج5، ص139-140.
[36] الشعراء/182.
[37] الغزالي: القسطاس المستقيم، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (3)، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1414هـ - 1994م، ص6. وأسرار الآيات، ص208.
[38] الغزالي: القسطاس المستقيم، مصدر سابق، ص8-9. كذلك: المضنون به على غير اهله، ضمن مجموعة رسائل الامام الغزالي (4)، ص109-110.
[39] أسرار الآيات، ص208-210. والأسفار، ج9، ص300-301.
[40] الانعام/ 59.
[41] الحجر/21.
[42] أسرار الآيات، ص49.
[43] مفاتيح الغيب، ص96.
[44] الحشر/21.
[45] الزمر/27.
[46] البقرة/ 17.
[47] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص19.
[48] الأسفار، ج6، ص272. والشواهد الربوبية، ص41-42. ومفاتيح الغيب، ص87-88.
[49] مفاتيح الغيب، ص87. وتفسير صدر المتألهين، ج4، ص166.
[50] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج8، ص45.
[51] الحج/61.
[52] إبن سينا: رسالة العرشية، ضمن رسائل إبن سينا، مصدر سابق، ص251.
[53] تهافت التهافت، ص454.
[54] الأسفار، ج6، ص422-423.
[55] الأسفار، ج8، ص303.