يحيى محمد
يصور العرفاء الولاية بأن لها معنى مباطناً للنبوة. فالنبوة هي ظاهر الولاية، والولاية باطنها[1]. أو يمكن القول إن الولاية هي نوع من النبوة؛ تلك التي أطلق عليها إبن عربي (النبوة العامة)، وان النبوة هي درجة من الولاية. كما يصح القول إن للنبوة درجتين، إحداهما دنيا، وهي الرسالة التي تختص في العلم بالشريعة. والأخرى هي الولاية التي تفوق الأولى منزلة ومكانة. كذلك يصح عكس المسألة والقول بأن للولاية درجتين، إحداهما النبوة الخاصة أو الرسالة، والأخرى النبوة العامة. وكما قال إبن عربي: ‹‹النبوة والرسالة هي خصوص رتبة في الولاية على بعض ما تحوي عليه الولاية من المراتب››[2]. وفي هذه الحالة يكون النبي ولياً، كما يكون الولي نبياً.
ولدى تقسيم العارف حيدر الآملي فثمة ثلاث مراتب بعضها يستبطن البعض الآخر، وهي الرسالة والنبوة والولاية. حيث ان لها ظاهراً وباطناً وباطن الباطن، أي ان لها قشراً ولباً ودهناً. فالقشر هو الرسالة، واللب هو النبوة، والدهن هو الولاية، وان الأخيرة هي باطن النبوة، وان النبوة هي باطن الرسالة. وبالتالي فإن الولي باطن النبي، والنبي باطن الرسول. وان كل رسول نبي، وكل نبي ولي، لكن من غير عكس، أي ليس كل نبي رسولاً، ولا ان كل ولي نبي. وأعظم هذه المراتب الثلاث هي الولاية، ثم النبوة، ثم الرسالة، تبعاً لغور الباطن.
وعلى شاكلة هذه المراتب ثمة الشريعة التي تنزلمنزلة دون الطريقة، وهذه دون الحقيقة. وكذا الوحي فإنه دون الالهام[3]، وهذا دون الكشف. وكذا الإسلام فإنه دون الايمان، وهذا دون الايقان[4].
إذاً، لدى العرفاء ان الولاية أعظم من النبوة والرسالة. وكما قال إبن عربي: ان ‹‹الولي فوق النبي أو الرسول››[5]. وحيث يعظّم العرفاء الولاية قبال النبوة؛ فإنهم لا يعنون بذلك تعظيم الأولياء على الأنبياء، وانما يرون ان في النبي مرتبتين إحداهما باطنة وهي الولاية، وأخرى ظاهرة، وهي النبوة أو الرسالة.
ومن حيث المقارنة صرح إبن عربي ان الرسل كأولياء عارفين، هم أرفع من كونهم رسلاً. فالولاية والمعرفة تجعلهم في بساط المشاهدة في الحضرة المقدسة. في حين ان الرسالة تنزلهم إلى العالم الأضيق ومشاهدة الأضداد ومكابدة الأسماء الإلهية القائمة بالفراعنة الجبابرة. كما ان لمرتبة الولاية أفضلية على مرتبة الرسالة، فمرتبة الولاية والمعرفة لها جهة حقانية، وبالتالي فهي أبدية ودائمة الوجود، ومرتبة الرسالة لها جهة خلقية، لذا فهي منقطعة غير أبدية، إذ تنقطع بالتبليغ، والفضل للدائم الباقي، وان الأولى متعلقة بالآخرة، بينما تتعلق الثانية بالنشأة الأولى الدنيوية، لأن بخراب الدنيا يرتفع التكليف فلا تبقى إلا الولاية. كما ان الولي العارف مقيم عنده، والرسول خارج عنه، وحالة الاقامة أعلى من حالة الخروج[6].
ومن المبررات التي أدلى بها إبن عربي في ترجيح الولاية على النبوة ما ذكره من ان الولي هو صفة من صفات الله كما جاء في النص القرآني، حيث سمى الحق نفسه ﴿الولي الحميد﴾، ولم يرد من صفاته النبي أو النبوة، ولهذا انقطعت النبوة والرسالة ولم تنقطع الولاية، باعتبار ان إسم الولي يحفظها، فهي ثابتة لا تزول أزلاً وأبداً، إذ لو انقطعت الولاية لم يبقَ لها إسم، مع ان الولي هو إسم باق لله تعالى. وعلى عكس ذلك النبوة حيث انها من الصفات الزمانية والمكانية، لذا تنقطع بانقطاع زمن النبوة والرسالة. وللولاية من الشمول بحيث ان من درجاتها النبوة والرسالة، لكن ليس لأحد بعد النبي محمد (ص) ان يصل إلى درجة النبوة الخاصة بالتشريع؛ لأن بابها مغلق. فللولاية حكم الأول والآخر والظاهر والباطن بنبوة عامة وخاصة وبغير نبوة[7]. على ذلك إعتبر العرفاء ان ولاية النبي محمد هي أكمل وأتم وأعظم من نبوته ورسالته وتشريعه[8].
ومثلما لا بد للنبي من ولاية، فلا بد للولي العارف من نبوة، وإلا فإنه غير معوّل عليه، وكما قال إبن عربي: ‹‹كل ولاية لا تكون نبوة لا يعول عليها››[9].
وتأتي نبوة الولي العارف من حيث ان طبيعة الولاية هي نبوة عامة غير منقطعة، بخلاف الحال مع النبوة الخاصة بالتشريع، وبالتالي كان الأولياء الكاملون أنبياء تابعين. إذ النبوة مقام يعطى للنبي المشرع كما يعطى لغيره من التابعين الذين يجرون على سنته. وهو بإتباعه يكون قد أخذ النبوة بالاكتساب، حيث لم يأته شرع من ربه يختص به، ولا شرع يوصله إلى غيره، كما هو الحال مع هارون مقارنة بموسى.
فهذا هو معنى اكتساب النبوة، حيث يأتي بالإتباع ولا يختص بتشريع[10]. وعليه لا يعتبر إبن عربي نفسه وغيره من العرفاء المسلمين الكاملين أنبياء بالمعنى الخاص الذي هم فيه مشرعون، وانما يعتبرهم وارثين وتابعين لولاية محمد (ص).
وهو في مقدمته لكتاب (فصوص الحكم) أعلن ان ما أتى به انما من محمد أمره ان يتلوه على الناس لينتفعوا به[11]. وصرح بأن لهذه الأمة أولياء أطلق عليهم (أنبياء الأولياء)[12]. مما يعني انهم أنبياء بالمعنى العام للنبوة، ولهم وظائف ما للنبي إذا ما استثنينا التشريع، حيث انهم يسمعون الوحي (جبريل) ويسألون النبي ويصححون الأخبار[13]، ولهم فوق ذلك كرامات هي معجزاتهم كأولياء؛ مثلما للنبي معجزاته كنبي.
ولعل العرفاء مضطرون لنفي النبوة التشريعية من قائمة وظائفهم العرفانية لاعتبارات التقية، كي لا يُتهموا باستحداث أديان جديدة. وإلا فمن حيث الاتساق ان نبوة التشريع ليست بعزيزة عليهم طالما ان مقامهم يفوق مقام هذه النبوة نظراً لولايتهم، وانهم مطلعون على الغيب ومتصلون بالقطب الأزلي للولاية، وهو الحقيقة المحمدية. فلو أخذنا بهذه الاعتبارات حقّ ان يكون كل ولي عارف نبياً، مثلما يكون كل نبي ولياً عارفاً.
لذا نُقل عن السهروردي انه كان يقول: لا أموت حتى يقال لي: قم فأنذر. كما نُقل انه اشتهر عن إبن سبعين (المتوفى سنة 667هـ) قوله: لقد تحجّر إبن آمنة واسعاً بقوله: لا نبي بعدي.. فعلّق الذهبي على ذلك بالقول: إن كان إبن سبعين قال هذا فقد خرج به عن الإسلام[14]. وروى الذهبي عن إبن دقيق العيد أنه قال: جلست مع ابن سبعين من ضحوة الى قريب الظهر، وهو يسرد كلاماً تعمل مفرداته، ولا تعقل مركباته.
***
على ان بين الولاية العرفانية والنبوة عنصراً مشتركاً هو كشف حقائق الوجود بقوة قدسية تفوق العقل. وقد كان الغزالي يرى ان فوق العقل طوراً للكشف تُشاهد فيه أرواح الأنبياء والملائكة وسماع أصواتهم وغير ذلك. وذكر إبن عربي في (رسالة الأنوار) ان بين النبوة والولاية ثلاثة مشتركات، أحدها ان العلم عندهما هو علم من غير تعلم كسبي، والثاني ان الفعل لديهما هو فعل بالهمّة بخلاف ما جرت عليه العادة بوجود الأثر المادي في التأثير الفعلي، أي ان الفعل عندهما هو فعل خارق للعادة. أما الثالث فهو انهما يريان عالم الخيال في الحس المشهود خلافاً لسائر الناس. لكن مع هذا فانهما يفترقان بمجرد الخطاب، حيث ان مخاطبة الولي غير مخاطبة النبي. وهو يرى ان كل ولي لله فإنه يأخذ بوساطة روحانية نبيه الذي هو على شريعته، ومن ذلك المقام يشهد[15]. لكنه في (الفصوص والفتوحات) ذهب إلى ان الكل يأخذ من مصدر واحد.
مهما يكن فإن الاعتراف بمشاركة الأولياء للأنبياء بمزية العلم بالحقائق ومشاهدة عالم الخيال، وكذا التأثير على العالم الجسماني بالهمة بما يُعرف بالمعجزات والكرامات، كل ذلك يجعل من الولي تعبيراً آخر عن النبي، والعكس صحيح أيضاً. وبالتالي جاز ان لا يُسد باب النبوة مثلما ان باب الولاية غير مسدود، رغم ان الولاية مكتسبة بالرياضات والمجاهدات، بخلاف النبوة الخاصة بالتشريع، حيث تأتي مباشرة من غير اكتساب.
ويظل انه بنظر العرفاء ان العارف أفضل من النبي في نبوته الخاصة بالتشريع، تبعاً لفضل الولاية على النبوة الخاصة. فالولي على قسمين كما يذكر الآملي: أحدهما هو الذي تكون ولايته أزلية ذاتية حقيقية، ويسمى بالولي المطلق، وهو القطب الأعظم. أما الآخر فهو الذي تكون ولايته مستفادة من ذلك الولي المطلق، ويسمى بالولي المقيد، وهو الإمام أو الخليفة. وكلا القسمين يرجعان إلى حقيقة النبي محمد (ص) وورثته من أهل بيته. وحيث ان النبوة مختومة من حيث الإنباء، فلم يبق إلا الولاية من حيث التصرف في النفوس أبد الآباد، إذ يكون التصرف إلى غير نهاية، فباب الولاية مفتوح وباب النبوة مسدود، كما عرفنا[16].
فمن هذه الناحية اعتقاد عرفاء الشيعة بأفضلية الأولياء الأئمة من أهل بيت النبوة على سائر الأنبياء باستثناء نبينا محمد، وكذا رأى بعض عرفاء السنة أفضلية ولاية عرفائهم على أولئك الأنبياء، ومن ذلك ان إبن عربي نصّب نفسه كولي يفضل سائر الأنبياء بفضل مقام تبعيته لولاية النبي (ص) على جميع سائر الأنبياء والمرسلين. إذ جعل من نفسه خاتماً للأولياء على غرار خاتمية محمد للأنبياء، ورأى بحسب هذه الخاتمية التابعة لنبينا محمد؛ ان كل نبي أو رسول أو ولي انما يرث منه العلم الباطن باعتباره خاتماً للأولياء، وهو بدوره ورثه مباشرة من نبع الفيض؛ روح محمد أو الحقيقة المحمدية[17]. فقد أعلن بأن الرسل لا تشهد العلم ‹‹إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فإن الرسالة والنبوة - أي نبوة التشريع ورسالته - ينقطعان، والولاية لا تنقطع أبداً. فالمرسلون من كونهم أولياء، لا يرون ما ذكرناه إلا من مشكاة خاتم الأولياء، فكيف من دونهم من الأولياء››[18].
وبعبارة أخرى، تبعاً لهذه الرؤية فإنه يمتنع وصول أحد من الأنبياء وغيرهم إلى الحضرة الإلهية ما لم يكن ذلك بالولاية. وهي من حيث جامعية الإسم الأعظم؛ تكون لخاتم الأنبياء، ومن حيث ظهورها بتمامها في الشهادة؛ تكون لخاتم الأولياء، فصاحبها واسطة بين الحق وجميع الأنبياء والأولياء[19].
ولا شك ان هذا المعنى يعطي لخاتم الأولياء ما ليس لخاتم الأنبياء من الفضل والرتبة، سواء كان الخاتم بالولاية العامة كما يتمثل في عيسى، أو بالولاية الخاصة المقيدة كما يتمثل في إبن عربي ذاته[20].
وفعلاً فإن هذا الشيخ جعل خاتميته للأولياء تفضل خاتمية الرسل، أو ان مقام ختمه للأولياء يعلو مقام ختم النبي للرسل، وذلك من حيث رسالته لا ولايته. فهو يتفوق على النبي (ص) كرسول مشرع، وإن كان دونه من حيث الولاية.
وكما قال: ‹‹وإن كان خاتم الأولياء تابعاً في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من الشرايع، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا إليه، فإنه من وجه يكون انزل، كما انه من وجه يكون أعلى››.
وقد أيّد كلامه هذا بما اعتقده من شواهد حسية تاريخية، كما جاء في بعض الروايات، مثل فضل عمر بن الخطاب في حكمه بما يطابق حكم به الله في قتل أسرى بدر، وكان رأي النبي هو العكس. كذلك ان النبي قال في تأبير النخل: ‹‹أنتم أعلم بأمور دنياكم››[21]. وكل ذلك يعود إلى اختلاف المقامات، وان العارف والولي يمكنه الترقي من مقام إلى مقام آخر غيره حتى يصل إلى بغيته في الفناء في التوحيد الذي يُعدّ أرقى المقامات، كما سنتحدث عنه قريباً.
الإتحاد وتعدد مقامات الأنبياء والعرفاء
من وجهة نظر الفلاسفة والعرفاء، ان الحقيقة الواحدة لها تنزلات متفاوتة بالكمال والنقص والعلة والمعلولية. وحقيقة الإنسان لا تبعد عن هذه الاعتبارات، حيث تتضمن عدداً من المقامات المتفاوتة اعتماداً على درجة الكمال والرقي. فبحسب نظرية الإتحاد يمكن للعارف ان يترقى من مراتب العقول والنفوس إلى أقصى الغايات؛ مسافراً من المحسوسات إلى الموهومات ثم منها إلى المعقولات حتى يتحد بالعقل الفعال بعد تكرر الاتصالات وتعدد المشاهدات[22]، الأمر الذي يفضي إلى جواز إتحاده وفنائه في ذات المبدأ الحق، فيكون له بذلك مقامات متعددة تتفاوت بالكمال، وإن كانت تتطابق في الحقيقة وفقاً لمنطق السنخية.
وكذا هو الحال مع الأنبياء ومنهم نفس نبينا محمد (ص)، فكما جاء عن صدر المتألهين انه في مقام ‹‹قاب قوسين أو أدنى›› عقل بسيط قرآني متحد مع المعقولات كلها، وهو قلم الحق الأول وكلمة الله التامة التي فيها جوامع الكلم كما جاء في قوله (ص): ‹‹أُوتيت جوامع الكلم››. وفي مقام آخر هو لوح نفساني فيه تفاصيل العلوم وصور الحقائق المرسومة من قبل قلم الحق الفعال[23].
وهو في جميع المقامات تارة يأخذ الكلام عن الله مباشرة بلا واسطة ملك[24]، وتارة ثانية بواسطة جبريل[25]، وثالثة في مقام غير هذا المقام الإلهي الشامخ[26]، وأخيراً انه كان يسمع كلام الله في هذا العالم الحسي[27]. فعلى ذلك تكون هناك مقامات أربعة للنبي (ص) في أخذه واستماعه للكلام الالهي[28].
وبسبب تلك المقامات المتفاوتة والمتفقة الحقيقة، إعتبر صدر المتألهين ان للأنبياء نوعاً واقعاً بين الإنسان والملك، أو هو في الحد المشترك بين عالمي الملك والملكوت، فإنهم كالملائكة في اطلاعهم على ملكوت السماوات والأرض، وكالبشر في أحوال المطعم والمشرب والمنكح، فمثلهم كمثل المرجان حيث انه كالحجر والنخل في الوقت نفسه. لذلك فسّر قوله تعالى: ﴿ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً﴾[29].
وبهذا استطاع ملا صدرا ان يجمع بين اعتبار النبي (ص) بشراً كسائر الناس، مثلما صرحت بذلك النصوص القرآنية، وبين نفي بشريته كالذي يدعيه العرفاء. فاعتبر النبي (ص) في قوله المروي عنه: ‹‹لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل›› قد أخبر عن مرتبته الباطنية، وعدّ هناك حالاً آخر غير ذلك المقام؛ كما جاء في بعض الآيات مثل قوله تعالى: ﴿ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن الحكم إلا لله﴾[30]، وقوله سبحانه: ﴿لا أعلم الغيب ولا أقول لكم اني ملك، ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾[31].
وقد أفضى به هذا التلفيق إلى ان يأول سياق بعض الآيات ويحكم بكفر من إعتبر النبي ذا حقيقة بشرية، فذكر يقول: ‹‹لا شبهة في ان نفس من هو خير الخلائق لا تساوي في الحقيقة النوعية لنفس من هو شر الخلائق.. واعلم ان الله قد حكم بكفر من قال بأن نفس النبي (ص) مماثلة لنفوس سائر البشر في قوله: ﴿ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات فقالوا أبشر يهدوننا فكفروا وتولوا﴾[32]، وقوله تعالى: ﴿أبشراً منا واحداً نتبعه﴾[33]، وأما قوله تعالى: ﴿قل انما أنا بشر مثلكم﴾[34]، فإنما ذلك بحسب هذه النشأة الظاهرة››[35].
كذلك فبحسب نظرية المقامات المتعددة، علل صدر المتألهين امتناع النبي (ص) عن إجابة اليهودي الذي سأله عن معنى الروح في قوله تعالى: ﴿ويسألونك عن الروح، قل الروح من أمر ربي وما اوتيتم من العلم إلا قليلاً﴾[36]، فعزا ذلك إلى محدودية السائل وعدم استيعابه، باعتبار ان النبي والعرفاء إذا ما عبروا من مقام إلى مقام، كإن يعبروا من عالم الروح ليصلوا إلى ساحل بحر الحقيقة، فإنهم سيعرفون عالم الأرواح وما دونها بأنوار مشاهدات صفات الجمال، وإذا ما فنوا بسطوات الجلال عن أنانية وجودهم ووصلوا إلى لجة بحر الحقيقة فإنهم يكاشفون بهوية الحق، وإذا ما استغرقوا في بحر الهوية الأحدية وبقوا ببقاء الإلوهية فإنهم يعرفون الله بالله، فيوحدونه ويقدسونه ويعرفون به كل شيء، كما جاء في دعاء النبي (ص) فيما روي عنه انه قال: ‹‹ربي أرني الأشياء كما هي››[37].
لهذا قام بتأويل الآية التي تقول: ﴿ما كنت تدري ما الكتاب ولا الايمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا﴾[38]، ففسرها بأنها تعني ما كنت تكتسب بالدراية والفهم صورة ما في الكتب العلمية، ولست تتعلم الايمان من معلم غير الله، ولكن جعل الله قلبك نوراً عقلياً تتنور به حقائق الأشياء ويُهتدى به إلى ملكوت الأرض والسماء[39].
ومثل ذلك قام بتأويل آية عدم تمكن موسى من رؤية الحق تبعاً لاختلاف المقامات. فالقرآن الكريم صريح في نفي إمكان الرؤية الإلهية حتى بالنسبة إلى الأنبياء، كالنبي موسى، رغم مكانته الرفيعة عند الله[40].
لكن بحسب المفاهيم الوجودية فإن كل موجود يرى الحق ويشاهده بحسب وعائه الخاص. وبالتالي ان مسألة شهود الحق ورؤيته قد تثير بعض الإشكاليات المتعلقة بالنص الديني، وهذا ما دعا ملا صدرا إلى محاولة التوسط والتوفيق بين صراحة النص وبين مضامين تلك المفاهيم القبلية، فأجاب بأن موسى انما كان يرى الحق تعالى بما هو متجل للأولياء، وأراد ان يراه في صورة التجلي التي لا يدركها إلا الأنبياء، وحيث ان الأنبياء متفاوتون في مقام المشاهدة، فبعضهم لم ينل ما يناله البعض الآخر، لذا أراد موسى ان يرى الحق سبحانه على الوجه الذي يطلبه مقامه كنبي، لأنه كولي يراه دائماً ولا يمكن طلب الحاصل فعلاً[41].
وحقيقة ان هذا الجواب بعيد عن الاقناع، لأن الله سبحانه قد اسند رؤيته إلى إستقرار الجبل، وبحسب المفاهيم الوجودية لم يكن الجبل أعظم إدراكاً من موسى حتى يسند إليه ويعول عليه. وبالتالي فما ذلك إلا التأويل الذي نهى عنه هذا العارف.
ونخلص مما سبق إلى ان العارف وكذا النبي والولي بإمكانه الإتحاد بحسب المقامات المتعددة، لا فقط مع العقل الفعال، بل حتى مع ذات الحق والفناء فيه.
وكما سبق ان ذكرنا، بأن صدر المتألهين وان كان ينكر الحلول والإتحاد، فانما يريد بذلك وجود أمرين مختلفين. أما مع وجود حقيقة واحدة غير متعددة فالإتحاد عنده من الضرورات العرفانية، فهو لا يعني اجتماع أمرين معاً، بل هناك رقائق تذهب وتتكامل فتتحد وتفنى في الحقائق التي أعلى منها، دون ان تترك محلها خالياً، بل تنشأ أبدالها من الرقائق الأخرى لتحل مكانها وتتخذ دورها على سبيل الخلق والإعادة. وان العارف والولي يمكنه الترقي بفعل سلسلة الإتحادات فيتحول من مقام إلى آخر أعلى حتى يصل إلى آخر المقامات، وهو مقام المعاد والفناء. رغم انه في تفسيره لسورة البقرة نفى تعدد المقامات لغير الإنسان الكامل، فالملك والإنسان والشيطان والحيوان وغيرها كلها ليس لها إلا مقام واحد فقط، وهو ان كلاً منها يكون تابعاً لإسم إلهي واحد، هو ربّه الخاص لا يتعداه، أما تعدد المقامات فهي من خاصة ذلك الكامل[42].
وذكر بعض العرفاء المحققين ان الخلق اتصف أولاً بالوجود، ثم العلم، فالقدرة، فالإرادة، فالفعل. وحيث ان المعاد هو عود إلى الفطرة الأصلية والرجوع إلى نقطة البداية، لذا لا بد ان تنتفي تلك الصفات بالتدريج والترتيب المعاكس. على هذا فإن السالك العارف لا بد ان ينتفي منه الفعل أول الأمر، فيكون تقياً زاهداً في الدنيا. ثم بعد هذا المقام لا بد ان ينتفي منه الاختيار والإرادة، حيث تستهلك إرادته في إرادة الله. وبعده لا بد ان تنتفي عنه القدرة حتى لا يرى لنفسه حولاً ولا قوة ولا قدرة مغايرة لقوة الحق وقدرته، فيكون في مقام التوكل والتفويض. وبعده لا بد ان تنتفي منه صفة العلم لاضمحلال علمه في علم الله، وهو مقام التسليم. ثم بعد ذلك لا بد ان ينتفي وجوده، فيكون في وجود الله حتى لا يكون له في نفسه عند نفسه وجود، وهو مقام أهل الوحدة، والذي هو أجل المقامات وأفضلها، حيث انه عبارة عن الفناء في التوحيد[43].
وبذلك تكون مقامات الأنبياء والعرفاء مقامات منبسطة بانبساط الوجود الواحد مثلما قدمنا.
***
إذاً، بحسب الرؤية الوجودية، يتجسد الإله في النبوة بكل ما يحمله من علم وفعل. فكما ان العلم الإلهي شامل لكل شيء، فكذلك هو الحال مع العلم النبوي، إذ يمتلك العلم الشمولي، سواء استناداً إلى العقل الفلسفي كما يصوره الفلاسفة في اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، أو استناداً إلى العقل العرفاني كما يصوره العرفاء في اعتبار النبوة بمنزلة العقل الأول أو الروح الأعظم.
أما من جهة الفعل فمن الواضح ان الإلوهة في النبوة بادية الظهور. فهي لدى التصور الفلسفي نابعة من اتصال النبي بالعقل المفارق الفعال، وهو إله البشر الذي يتوسط بالنيابة عن المبدأ الحق[44]، ومنه يكتسب النبي القدرة على الخلق والتكوين، كما يظهر ذلك في المعاجز والكرامات. وتبلغ الإلوهة ذروتها عند القول بإتحاد النبي مع العقل الفعال، حيث يصبح هذا هو ذاك، كما صرح به بعض الفلاسفة أحياناً.
أما في التصور العرفاني، فالأمر أعمق وأشمل من السابق، إذ لا تقف الإلوهة عند حدود العقل الفعّال، بل تندك في الوسيط الذي تقوم به الخلائق كلها، وهو المعبّر عنه بالإله الصانع، والوجود المنبسط، والفعل الشامل، والحق المخلوق به، والمشيئة الإلهية، وإسم الله الأعظم، ومسمى الله، وغير ذلك من التعابير.
وبحسب هذا الفهم الوجودي، فإن الوظيفة الجوهرية للنبوة ليست معيارية تتعلق بإصلاح الناس في سلوكهم وأخلاقهم ومعاملاتهم الفردية والاجتماعية، بل هي وظيفة وجودية حتمية ترتبط بكل من العلم والايجاد تبعاً لسلسلة مراتب الوجود. فغايتها إمداد التنزلات العلمية وإيصالها إلى النفوس البشرية، لتحصيل السعادة عن طريق الفيض العلمي المقتبس من العالم العلوي، وهي بذلك مختصة بتكميل النوع البشري[45].
فالنبوة بهذا المعنى، تلعب دور الوسيط العلمي في ربط النفوس بالعالم العلوي. وهي من حيث العلم، تحكي السيرة الذاتية للمبدأ الحق، كما انها من حيث الفعل، تحاكي ما يقوم به هذا المبدأ من ايجاد العالم والتأثير فيه.
لكن لما كانت السيرة الذاتية للمبدأ الحق هي العلم بذاته، وان هذا العلم سبب الايجاد والصنع، لذا تتحدد النبوة على وفق هذه السيرة، أي انها علم وايجاد. وبما أنها علم، فهي تؤثر وتخلق. فالنبي، إذاً، عالم بالموجودات وصانع لها بقدر ما له من العلم بها.
وبعبارة أخرى، إن اتصال الفلاسفة والعرفاء بالعلة التكوينية للعالم، والتي هي عند الفلاسفة عبارة عن العقل الفعال الأخير، وعند العرفاء عبارة عن العقل الأول وما شاكله.. يجعل منهم آلهة في العلم والتكوين، إذ يعرفون كل شيء، ويستطيعون خلق كل شيء، وذلك انطلاقاً من أن العلم هو علة الإيجاد والتكوين، أو من أن الاتصال بالعلة يورث المتصل صفاته الشبيهة، الأمر الذي يوظفون به ما يروى: (عبدي أطعني تكن مثلي تقل للشيء كن فيكون). فكيف بالقائلين بنظرية الإتحاد، إذ يغدو العارف أو الفيلسوف هو ذاته ذلك العقل الذي يعلم كل شيء، ويمتد فعله في كل شيء؟
[1] شرح الفصوص، ص238. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص124.
[2] شرح الفصوص، ص493.
[3] لدى الغزلي مفاضلة أخرى معاكسة بين الوحي والالهام، تبعاً للاصطلاح التقليدي لهما. فهو يقول: ‹‹لم يفارق الوحي الالهام في شيء من ذلك، بل في مشاهدة الملك الملقي للعلم، فإن العلم انما يحصل في قلوبنا بواسطة الملائكة›› (الغزالي: ميزان العمل، حققه وقدم له سليمان دنيا، دار المعارف، مصر، الطبعة الأولى، 1964م، ص221).
[4] جامع الأسرار، ص385-386.
[5] شرح الفصوص، ص492.
[6] كتاب القربة، من رسائل إبن عربي، ج1، ص8-9. وكتاب مقام القربة، ضمن رسائل إبن عربي (1)، ص242. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-143. وجامع الأسرار، ص386 و389.
[7] الفتوحات، ج3، ص100. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
[8] شرح الفصوص، ص492. ومطلع خصوص الكلم، ج2، ص139-140.
[9] رسالة لا يعول عليه، من رسائل إبن عربي، ج1، ص10.
[10] الفتوحات، ج2، ص6. ويقول الجندي في هذا الصدد: ‹‹لما كانت النبوة نسبة بين الخلق والنبي فهي منقطعة ولا بد، أي لا ينزل الملك إلى أحد بعد رسول الله (ص) بشريعة مخالفة لهذه الشريعة أبداً، فهي منقطعة لذلك. وأما الولاية فغير منقطعة، لأن الأخذ عن الله والقاؤه وتجليه وتعليمه واعلامه والهامه غير منقطعة أبداً عن أولياء الله، لأن الله سمى نفسه بالولي الحميد، ولم يسم بالنبي ولا الرسول›› (شرح الفصوص، ص239-240).
[11] شرح فصوص الحكم، ص109 و111 و112. وفصوص الحكم والتعليقات عليه، ج1، ص47.
[12] الفتوحات المكية، دار احياء التراث العربي، ج1، ص203.
[13] المصدر السابق، ج1، ص203-204.
[14] الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص547 و586. وفي رواية أخرى انه قال: لقد زرب إبن آمنة حيث قال: لا نبي بعدي (عن: درء تعارض العقل والنقل، ج1).
[15] رسالة الانوار، من رسائل إبن عربي، ج1، ص15-16.
[16] أسرار الشريعة، ص99-100.
[17] الفصوص والتعليقات عليه، ج2، ص24-25 ، وج 1، الفص الثاني، ص62.
[18] شرح الفصوص، ص238 و231. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص243-244.
[19] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص243.
[20] شهد الشيخ الأعرابي في الفصوص وغيره من الكتب على نفسه وعلى النبي عيسى بختم الولاية، اذ عدّ نفسه خاتم الأولياء بالولاية الخاصة، وان عيسى هو خاتمهم بالولاية العامة، فذكر انه اجتمع مع جميع الأنبياء حين أقام بقرطبة حيث بشّره هود بأن الأنبياء اجتمعوا لتهنئته على ختمه للولاية. وهو في الفتوحات شهد لعيسى بالولاية العامة ولرجل في عصره ادعى انه شاهده وجالسه، وقد عده أقل رتبة من عيسى (الفتوحات المكية، ج1، ص243).
[21] شرح الفصوص، ص240-241. ومطلع خصوص الكلم، ج1، ص244-245.
[22] مقدمة رسائل فلسفي، ص4.
[23] أسرار الآيات، ص13.
[24] كما قال سبحانه: ﴿ثم دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما اوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، أفتمارونه على ما يرى﴾ النجم/ 8-12.
[25] كما في قوله تعالى: ﴿وما ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحي، علّمه شديد القوى ذو مرّة فاستوى، وهو بالافق الاعلى﴾ النجم/ 3-7.
[26] كما في قوله تعالى: ﴿ولقد رآه نزلة أخرى، عند سدرة المنتهى، عندها جنة المآوى، اذ يغشى السدرة ما يغشى ما زاغ البصر وما طغى، لقد رأى من آيات ربه الكبرى﴾ النجم/ 13-18.
[27] كما في قوله عز وجل: ﴿وانه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وانه لفي زبر الأولين﴾ الشعراء/ 192-196.
[28] أسرار الآيات، ص53.
[29] الانعام/ 9. انظر: أسرار الآيات، ص154-155.
[30] الاحقاف/ 9 .
[31] الاعراف/ 188. انظر: أسرار الآيات، ص172-173.
[32] التغابن/ 6.
[33] القمر/ 24 .
[34] الكهف/ 110.
[35] أسرار الآيات، ص143-144.
[36] الاسراء/ 85.
[37] أسرار الآيات، ص105-106. كذلك: التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي، ج21، سورة الاسراء، تفسير آية ويسألونك عن الروح. وقد ورد الدعاء بصيغة: ارنا الأشياء كما هي.
[38] الشورى/ 52.
[39] أسرار الآيات، ص18.
[40] مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿قال ربي ارني انظر اليك، قال لن تراني، ولكن انظر إلى الجبل فإن إستقر مكانه فسوف تراني، فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً وخر موسى صعقاً﴾ الاعراف/ 143.
[41] مفاتيح الغيب، ص191.
[42] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص411-412.
[43] أسرار الآيات، ص224-225.
[44] السياسة المدنية، طبعة انتشارات الزهراء، ص80.
[45] شواكل الحور في شرح هياكل النور، مصدر سابق، ص246.