-
ع
+

معنى النظر وفارقه عن الاجتهاد والتقليد الفقهي

يحيى محمد

معلوم ان مصطلح «النظر» شائع الإستعمال عند المتكلمين، وهو يكسب أهمية خاصة لدى أهل الإعتزال، حتى أن القاضي عبد الجبار الهمداني خصص له كتاباً مستقلاً ضمن موسوعته الكلامية (المغني في أبواب التوحيد والعدل)، وعرّفه بأنه عبارة عن التفكير في الأدلة على إختلافها[1]. كما أن هذا اللفظ إستخدمه بعض الأصوليين والفقهاء، وهم يعنون به التفكير في الأدلة الفقهية لمن له حصيلة من العلم سواء كان مجتهداً أو غير مجتهد[2].

أما بحسب ما نراه من وجود مرتبة وسطى بين الإجتهاد والتقليد؛ فقد آثرنا أن نطلق عليها الإصطلاح ذاته، فالنظر هو تفكير المكلف في الأدلة. وهو بهذا المعنى لا يختلف عما أراد به المتكلمون والفقهاء، وإن كان يشترط فيه جنبة أخرى مضافة، وهي الترجيح بين الأدلة والأخذ بأقواها.

هكذا تتحدد هذه الطريقة بنظر المكلف في أدلة المجتهدين ومن ثم ترجيح بعضها على البعض الآخر، أو الإقتناع به وعدمه حسبما يمليه عليه الوجدان والإطمئنان. وبذلك تختلف عن كل من طرق الإجتهاد والتقليد والإتباع.

فمعنى الإجتهاد أساساً هو النظر في النص وإستنباط الحكم الشرعي منه مباشرة وغير مباشرة، كما في القياس لأنه يعتمد على النص كأصل، وهو بذلك غير موجّه للنظر في أدلة المجتهدين إلا بالعرض ليفاد منها التنبيه على عملية الإستنباط التي تشكل العمود الفقري وحجر الزاوية من عملية الإجتهاد، خلافاً لطريقة النظر باعتبارها معنية بالترجيح والإقتناع بأدلة المجتهدين، وليس من مهمتها القيام بعملية الإستنباط، رغم ما يحصل بينهما من تداخل أحياناً، فيكون المجتهد ناظراً عندما يكتفي بممارسة ترجيح بعض الأدلة المطروحة على البعض الآخر، بحيث لولا هذه الأدلة ما كان بإمكانه أن يتوصل إلى المطلوب، وهو ما يعني عجزه عن أن يستنبط الحكم الشرعي من مصادره وأُصوله المباشرة. كذلك يمكن للناظر أن يكون مجتهداً أحياناً، كما لو أن ترجيحه لبعض الأدلة لم يكن مجرد ترجيح، بل كان بإمكانه الاستدلال على المطلوب حتى مع عدم علمه بما هو مطروح من الأدلة الإجتهادية.

أما معنى التقليد فهو إتباع ما يفضي إليه قول المجتهد دون فحص دليله. وهو بهذا يختلف عن النظر الذي يشترط فيه فحص الدليل والنظر فيه. كذلك فإن معنى الإتباع هو الأخذ بالنص أو السيرة عند الوضوح من غير إجتهاد، وهو بهذا يختلف عن النظر، فهذا الأخير قائم على وجود الإجتهاد الذي ينشأ عند غياب النص الواضح والصريح. لذلك فالإتباع مقدم على الإجتهاد، فعند إمكان الإتباع يحرم الإجتهاد، وعند عدمه يجب هذا الأخير.



[1]           الهمداني، القاضي عبد الجبار: المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج12 (كتاب النظر والمعارف)، ص4.

[2]           انظر مثلاً: الإعتصام للشاطبي، ج3، ص252ـ254.

comments powered by Disqus