-
ع
+

مبدأ التقية وتعارض الروايات

يحيى محمد

لقد اعتاد علماء الشيعة ان يعزوا كثرة التعارض بين الروايات الى امور عدة اعتماداً على ما جاء في الأخبار، كمبدأ التقية لحفظ حياة الائمة واصحابهم، وكون الائمة تقصدوا بث الخلاف بين الاصحاب حقناً لدمائهم[1]، ولأن كلام الائمة يسع لمعاني كثيرة، وان فيه طبقات من الباطن فيبدو بعضه على خلاف البعض الاخر، إذ يجيبون بأجوبة مختلفة تحتاج الى نوع من التوجيه[2]،  والعديد من الاخبار تؤكد ان في كلام الائمة سبعين وجهاً ممكناً[3]، هذا بالاضافة الى وجود الدس والكذب والتزوير... الخ.

وقد حظيت التقية باهتمام خاص من قبل العلماء، حيث حولوها الى عقيدة لازمة، خاصة وانهم رووا قول الامام الصادق: التقية ديني ودين آبائي، ولا دين لمن لا تقية له[4]، وقوله: تسعة أعشار الدين في التقية[5]، فاصبحت بذلك مرجعاً عاماً تفسر بها الكثير من مضامين الروايات المتفقة مع آراء (المخالفين) مهما كانت عادية، وهي تفترض ان (المخالفين) يحملون رأياً مشتركاً، مع ان لهم مدارس كثيرة مختلفة الرأي والاتجاه. وقد يصل التطرف الى اعتبار كل خلاف في الروايات يمكن حمله على التقية، بما في ذلك الروايات التي تتحدث عن الامور التاريخية او الكونية التي لا علاقة لها بالعقائد ولا بالفقه ولا بالتفسير، ومن ذلك ما سلكه المجلسي في (بحار الانوار) حيث اخذ يعلل او يحتمل كل ما يراه من روايات تتفق مع رأي (المخالفين) بانه يعود الى التقية، وكذا يُرجع الى هذه العلة كل ما يجده من اختلاف في الروايات يصعب علاجه. فمثلاً انه اعتبر بعض الاخبار التي تتحدث عن المادة التي خلقت حواء منها بانها جاءت للتقية[6]، ومثلها الاخبار التي تتحدث عن مكان هبوط ادم وحواء من الجنة[7]، وكذا بخصوص اخبار تزويج هابيل وقابيل من اختيهما[8]، واخبار عمر النبيين اسماعيل واسحاق[9]، واخبار طبيعة القرابة بين يحيى وعيسى[10]،  واخبار تقدم وفاة يحيى على رفع عيسى او العكس[11]، والخبر الدال على ولادة عيسى في يوم عاشوراء، والاخبار الخاصة بزمان حمله وموضع ولادته[12]، والاخبار التي تتحدث عن مدة غزو بخت نصر بني اسرائيل[13]، والاخبار الدالة على ان الذي أماته الله مائة عام هو عزير[14]، والاخبار التي تتعلق بمدة مكث يونس في بطن الحوت[15]... الى غير ذلك مما لا يعد ولا يحصى.

على انه لو كانت التقية بهذا الشكل المضخم، كما يتحدث عنها العلماء، لكان المتوقع ان نجد ما يرد خلاف التقية من الحديث قليلاً جداً، وذلك بسبب الكتمان والسرية، في حين ان الروايات التي تشير الى الدلالات المنافية لها هي ذات اعداد كبيرة جداً، يروى اغلبها عن الامام الصادق، فكيف ينسجم ذلك مع العمل بالتقية؟ وكيف لا يعرف المخالفون بهذه الاعداد الضخمة من الاحاديث لو صحّ انها فعلاً صدرت عن الامام الصادق، كتلك التي تطعن في القرآن وفي كبار الصحابة؟ فقد يكفي واحد منها لتضليله او تكفيره وربما قتله، وهو خلاف ما عرف عنه لدى علماء عصره من المذاهب الاخرى، فقد كانوا يكنّون له التقدير ويعدونه من سادات العلم والايمان، ولم يرد منهم اي طعن او تشكيك فيه وفي اقواله.

وبعبارة اخرى، كيف حق لنا التسليم بالكثرة الروائية الدالة على المناكير التي ينكرها المخالفون من الارتفاع والغلو والطعن واللعن والتكفير والتحريف، والعصر عصر تقية كما يقال، حيث يفترض ان لا يعلم بهذه الامور الا اقرب المقربين؟ فنحن - هنا - بين امرين، فاما الاخذ بالتقية وابطال ما روي من الاحاديث المنافية لها واعتبارها موضوعة من قبل المتأخرين عن زمن التقية، او الاعتراف بهذه الاحاديث من غير تقية. ومن الواضح ان احد هذين الافتراضين يقتضي نفي الاخر. لكن التعويل على الافتراض الاخير يفضي بدوره الى التردد بين امرين اخرين، فاما ان تكون تلك الروايات صادرة فعلاً عن الائمة، او انها صادرة عن رجال واصحاب نسبوها اليهم كذباً وزوراً.

والتحقيق هو انه لما كان الائمة معروفين بالعلم والصلاح والتقوى لدى معاصريهم من علماء السنة، وذلك بخلاف غيرهم من حملة تلك الروايات، فهذا يبين انها مختلقة ومنسوبة الى الائمة زوراً. وبغير هذا الافتراض كان المتوقع ان يلقى الائمة الطعن والتشهير مثلما حصل مع غيرهم من حملة تلك الروايات والاراء المنكرة، واقل ما قيل فيهم انهم (روافض) ومن اصحاب البدع، وذلك على خلاف ما لقيه الائمة من المدح والثناء.

يبقى ان التقية أصبحت ممارسة عامة لدى اتباع المذهب في اظهار الرأي الموافق لرأي (المخالفين) واخفاء خلافه. ومع انها ساعدت على سلامة هؤلاء الاتباع من عدوان الاخر طيلة قرون من الزمان، لكنها أصبحت اليوم عبئاً ثقيلاً على الاتباع، وذلك لسهولة معرفة الحقائق واشاعتها عبر وسائل الاتصال المختلفة، واهمها القنوات الفضائية والانترنيت. ولاجل الاصلاح والديمومة كان لابد من المراجعة الشاملة والنقد الذاتي.

ويبدو لي ان ما ذكره العلماء من اسباب حول تعارض الروايات، كتلك المشار اليها سلفاً، هي اسباب وهمية، حيث لا يعقل ان يعمل الائمة على بث الخلاف بين اصحابهم ولا ان يحثوا على التقية لادنى سبب، او يدعوا الى باطنية عبر تعدد معاني الكلام، فكل ذلك يفضي الى تضييع الحقيقة الدينية والباس الحق بالباطل. وهو حاصل فعلاً لكثرة التعارض بين الروايات. وقد لمح بعض العلماء الى هذه النقطة، معترفاً بانه لا يمكن التوصل الى الحقيقة الدينية النابعة عن كلام الائمة عبر الوسيلة العرفية المطلق عليها بحجية الظهور. وكما ذكر المحقق الخوئي بأن كلام الائمة لما كان يختلف من احدهم لآخر للتقية او لغيره، فإنه على ذلك لا تجري فيه أصالة حجية الظهور التي هي أصل عقلائي[16]. وقبله ذكر الانصاري ان عمدة الاختلاف في الرواية يعود الى كثرة ارادة خلاف الظواهر في الاخبار، اما بقرائن متصلة اختفت علينا من جهة تقطيع الاخبار او نقلها بالمعنى، او منفصلة مختفية لكونها حالية معلومة للمخاطبين، او مقالية اختفت بالانطماس، واما بغير القرينة لمصلحة يراها الامام من تقية وما اليها[17]. بل وقبل ذلك عرفنا كيف ان الكليني يعترف بضياع الحقيقة، الامر الذي عول فيه على صيغة العمل بما وسع له الاختيار.

هكذا يدرك المحققون كون الحقيقة الدينية ضائعة بسبب تعارض الروايات واختلافها، وان اخطأوا في تحديد السبب الاساس الذي يقف وراء هذا الضياع. لكن ظلت المحاولات ترمي الى ايجاد الطرق الكفيلة بمعالجة مثل هذا الوضع باشكال شتى، ابرزها محاولات الجمع بين الروايات المتعارضة كالذي بشر بها الشيخ الطوسي واتباعه من المجتهدين.

 

 



[1] الدرر النجفية، ص165 وما بعدها. وفرائد الاصول، ج2، ص809، ومن ذلك ما رواه الكليني عن زرارة انه سأل الامام الباقر عن مسألة فأجابه، ثم جاءه رجل فسأله عنها فاجابه بخلاف ما اجاب زرارة، ثم جاء رجل ثالث فاجابه بخلاف الجوابين، فلما خرج الرجلان قال زرارة: يا ابن رسول الله رجلان من أهل العراق من شيعتكم قدما يسألان، فاجبت كل واحد منهما بغير ما اجبت به صاحبه؟ فأجاب الامام: يا زرارة ان هذا خير لنا وابقى لنا ولكم، لو اجتمعتم على أمر واحد لصدقكم الناس علينا ولكان أقل لبقائنا وبقائكم. ثم بعد ذلك قال زرارة للامام الصادق: شيعتكم لو حملتموهم على الاسنة أو على النار لمضوا وهم يخرجون من عندكم مختلفين، قال: فأجابني بمثل جواب ابيه (الاصول من الكافي، ج1، باب اختلاف الحديث، حديث 5، والحدائق الناضرة، ج1، ص5ـ6).

[2] فرائد الاصول، ج1، ص115

[3] لاحظ الدرر النجفية، ص87ـ88، والاصول الاصيلة، ص17ـ18

[4] بحار الانوار، ج2، ص74

[5] بحار الانوار، ج59، ص486

[6] بحار الانوار، ج11، ص222

[7] بحار الانوار، ج11، ص180

[8] المصدر السابق، ص226

[9] المصدر السابق، ج12، ص113

[10] المصدر السابق، ج14، ص202

[11] المصدر السابق، ص190

[12] المصدر السابق، ص215

[13] المصدر السابق، ص355

[14] المصدر السابق، ص378

[15] المصدر السابق، ص401

[16] التنقيح في شرح العروة الوثقى، كتاب الاجتهاد والتقليد، ص161

[17] فرائد الاصول، ج2، ص810

comments powered by Disqus