-
ع
+

مجتمعنا والبنى العقلية المؤثرة فيه

يحيى محمد

قديماً كان الفقيه يشكل العنصر المختص الوحيد الذي له تأثير بارز على الساحة الإجتماعية للأمة الإسلامية، بل وعلى المسار السياسي لأنظمة الحكم المتعاقبة. فليس هناك من مختص إستطاع أن يجاريه وينازعه في هذا الميدان. إذ كان الفلاسفة آنذاك لا علاقة لهم بالغير سوى أصحابهم من أهل الفلسفة وذوي الفكر المتعالي، حيث المطالب الفلسفية هي مطالب خاصة معمقة لا يستوعبها إلا القليل من الناس، والأهم من ذلك أنها تدور في مدارات ليس ‹‹للعوام›› فيها أدنى تفكير. وكان للمتصوفة وأهل العرفان دوائرهم الخاصة التي عزلوا فيها أنفسهم عن عموم المجتمع وقضاياه. وكان المتكلمون منشغلين بقضايا تجريدية بعيدة عن واقع الأمة وهمومها، وعلى الأقل فإن ما كان يهمهم هو طرق الجدل وإفحام الخصوم التي ترضي العوام. وكذا الحال مع المفسرين والمحدثين، فهم لم ينشغلوا بشيء غير التعامل مع النص بعيداً عن المشاكل التي عجّ بها الواقع الإجتماعي. في حين كان الفقيه هو الوحيد الذي إستطاع أن يجد مساحة واسعة من النفوذ داخل المجتمع، بحكم ما لديه من الصنعة الموظفة للتعامل مع الواقع بلا انقطاع، إذ كان للناس حاجتهم الفعلية لمعرفة الأحكام التي وجدوها في هذه الصنعة، كما أن الأنظمة الحاكمة وجدت ـ هي الأخرى ـ حاجتها فيها طلباً للغطاء الشرعي وتبرير الواقع، حتى لو كان فاسداً.

لقد كان الفقيه يمارس دور الولاية العلمية حيال غيره. فله ولاية على العامة تبعاً للحاجة التكليفية، كما أن له نوعاً من الولاية على السياسة عند تغطيته لها بالغطاء الشرعي. فكما يقول الفقهاء أنه لا بد للسياسة من أن تتبع العلم الشرعي، رغم أن الأمور جرت بشكل معكوس، إذ أصبح العلم الشرعي محكوماً بهوى السياسة، إذ إستطاع السلطان أن يفرض على الفقهاء إيجاد التبريرات ‹‹الشرعية›› لما يقوم به من أفعال.

إذاً كانت العلاقات القديمة علاقات ثلاثية تتمثل بكل من السلطان والفقيه والأمة. كما كانت الأدوار الفاعلة بين هذه العناصر تعود إلى كل من السلطان والفقيه، حيث يحتل السلطان المرتبة الأولى من التأثير على العنصرين المتبقيين، ويتبعه في ذلك الفقيه. ولم يكن للأمة من دور سوى المحكومية بالتقليد والطاعة. فالتقليد هو الركن الذي رسّخه الفقيه في أعماق عقل الأمة، وقد ساعده في ذلك ما كانت عليه هذه الأخيرة من أمية، لهذا لم يكن لها من خيار سوى إتّباعه وقبول بضاعته المعرفية. أما الطاعة فهي التي فرضها السلطان وغرسها في روح الأمة بالقوة والتخويف. وبهذا لم يكن للأمة من دور غير تقليد الفقهاء وطاعة السلاطين.

هذه هي العلاقات التي كانت جارية بين العناصر الثلاثة السابقة. لكن مع هذا فهناك عنصر آخر لم يكن له دور مؤثر لهامشيته ومحدوديته، وهو الذي يعود إلى ما يطلق عليهم (الكتّاب)، فمنهم فئة وظفهم السلطان كمستشارين نظراً إلى ما يحملونه من ثقافة ومعرفة عالية بشؤون البلاد العامة وما يعتمدونه من مقاييس مردها إلى العقل والواقع. وكان أبرز من مثّل هذا الدور كل من إبن المقفع في القرن الثاني وابن خلدون في القرن الثامن للهجرة. وعادة ما كان الكتّاب من الموالي الذين ينتمون إلى أقوام وحضارات أخرى على رأسها بلاد فارس؛ الأمر الذي هيء لهم أن يمتلكوا من الخبرة والمعرفة ما يفوقون بها غيرهم. فمثلاً كان إبن المقفع يعترض على طريقة الفقهاء لكونها صنعة لا تعير إهتماماً بحقيقة الواقع وكليات المبادئ الفطرية العامة وعلى رأسها العدل[1]. كذلك هو الحال مع إبن خلدون الذي كشف عن الطريقة الإستعلائية للفقهاء في تجريد القضايا وتحويلها إلى مطلقات وكليات ذهنية كثيراً ما تصطدم بالواقع ولا تتطابق معه، وهو يعدها لا تنفع في المعالجات المناطة بشؤون الواقع المتغير[2]، كالمسائل السياسية وما إليها. وينطبق عليهم مقولة بعض الفلاسفة: إن ما تربحونه من ناحية الدقة إنما تخسرونه من ناحية الموضوعية[3].

لكن الحال في العصر الحديث تغير، إذ أصبحت العلاقة الجارية رباعية، وصار التنافس على الأمة ثلاثياً بدل إن كان ثنائياً.

لا شك أنه لم يتغير شأن الفقيه، إذ مازال يتبنى ترسيخ مفاهيم التقليد ويطالب الأمة بإتّباعه، كما لم يتغير شأن السلطان، حيث ظل يمارس القوة لأجل إخضاع الأمة لارادته والحكم عليها بالطاعة. بيد أن ما حدث جديداً فهو دور المثقف في الساحة الإجتماعية. فلأول مرة يُطلب من الأمة أو الجماهير أن تدرك مسؤوليتها في إتخاذ القرارات العامة وإعتبارها مصدراً كلياً أو جزئياً للسلطات السياسية. كما لأول مرة تمارس حيالها عمليات الإقناع والتنمية المعرفية ومحاولة خلق ما يطلق عليه الرأي العام. وقد أفضت مثل هذه المطالب والممارسات إلى التنافس على روح الأمة وعقلها بين المثقف من جانب، والسلطان والفقيه من جانب اخر. إذ قدّم المثقف في بادئ الأمر بضاعة حديثة تخاطب الجماهير لا بعنوان التقليد، ولا بعنوان سياسة الإخضاع والإذلال، وإنما بفعل التأثير والإقناع، جاعلاً من نفسه مسؤولاً عن الأمة ومعبراً عن طموحها وإرادتها. وقد امتد دوره لينال تأثيره حتى على السلطان الذي خضع لإطروحاته النظرية، مثلما يلاحظ جلياً فيما تأثرت به الأنظمة العربية بالمثقفين القوميين، رغم أن ما حققه السلطان فيما بعد هو حمل المثقف على أن يكون مبشراً لسياسته وممارسة الإستبداد المعرفي حيال الأمة والجماهير. فالمثقف الذي بدأ دوره مع الأمة خارج لعبة السلطان؛ عاد بعد ذلك ليكون ضمن هذه اللعبة ولو على حساب الأمة التي عدّ نفسه مسؤولاً عنها من قبل.

وإذا أبعدنا أنفسنا عن محاكمة المثقفين وإنقساماتهم السياسية وحجم الإلتزام الذي اتخذوه على أنفسهم، ونظرنا إليهم كطرف فاعل جديد قدّم الكثير من المعرفة التي اثرت على توجهات الأمة والسلطان؛ فإن ما يهمنا فعلاً هو التعرف على الجانب المعرفي الابستمولوجي من الوظيفة الذهنية للمثقف.

بادئ ذي بدء، يمكن القول أن مثقفي اليوم هم ككتّابنا القدماء اعتمدوا على ثقافة دخيلة تنتمي إلى حضارة أخرى غير حضارتنا الإسلامية. وفي كلا الحالين أنه مثلما كان الكتّاب ينافسون ذوي الإختصاص من أهل الفقه في طروحاتهم المعرفية وعلاقتها بالواقعين الإجتماعي والسياسي، فكذا أن المثقفين اليوم يؤدون نفس الدور من المنافسة للفقهاء، بغض النظر عن إختلاف الأغراض والوظيفة لكل منهما. إذ كان الكتّاب موظفين لخدمة السلطان، في حين عدّ المثقفون أنفسهم مسؤولين عن الأمة ومعبّرين عن طموحاتها وتطلعاتها.

وقد كان المثقف العربي شديد التأثر بالمثقف الغربي، إلى درجة أنه أخذ يعكس - في الغالب - ذات المضامين والوظيفة والأغراض تقريباً. فإذا كان هذا الأمر بيّن فيما يخص المثقف الماركسي؛ فغيره أخذ يتأثر بما عليه طلائع المثقفين الغربيين في فرنسا، وأقصد بهم مثقفي عصر الأنوار خلال القرن الثامن عشر. إذ كان لهؤلاء دور يضاهي سلطتين حاكمتين، إحداهما معرفية تتمثل بالعقائد والآراء اللاهوتية التي تقدمها الكنيسة، وأخرى سياسية تعود إلى ما عليه الانظمة الإستبدادية الحاكمة آنذاك. وقد عارض المثقفون السلطتين بأن أرسوا قبال الأولى دعائم العقل والمنطق، وقدّموا حيال الأخرى معالم الديمقراطية ودور الأمة والشعب والمناداة بالدستور والعدالة والحرية والمساواة. فعلى هذه الشاكلة من الصراع جرى الحال لدى مثقفينا العرب، وإن كان أخف وطأة وأضعف تأثيراً، وذلك أنهم عارضوا الكهنوت التقليدي وتجلياته المعرفية والسياسية. ويصدق هذا الأمر حتى على المثقفين الإسلاميين، فهم على الصعيد المعرفي رجّحوا العقل والواقع على النقل عند التعارض، مخالفين بذلك الطريقة التقليدية التي يعوّل عليها الفقهاء. وكذا أنهم على الصعيد السياسي عارضوا التبريرات التي يقدمها الفقهاء في تكريس الحكومات الإستبدادية، بل وأدخلوا حق الأمة في الخيار والحكم طبقاً لقيود الدستور والقانون والمناداة بالحرية والعدالة والمساواة. ومن ذلك أن رشيد رضا عدّ مصدر القوانين يتمثل بالأمة؛ باستثناء ما هو منصوص في الكتاب والسنة الذي حسبه قليلاً جداً[4].

مهما يكن فمن حيث المسلك المعرفي نجد أن التركة الوحيدة الفاعلة التي خلّفها لنا التاريخ الإسلامي هي تركة الفقيه، ومع ظهور ما يطلق عليه (النهضة الحديثة) ظهرت هناك عناصر فاعلة أخرى منافسة. إذ أفضى التحديث على مستوى التعليم، كبناء المدارس والجامعات وما قدمته البعثات العلمية إلى الغرب، إلى إيجاد عناصر تختلف بنية وتطلعاً عن تلك التي نراها عند الفقيه بشكله التقليدي. إذ ظهر على أيدي العناصر الجديدة - المثقفين - الإهتمام بقضايا فرضتها الظروف الحديثة كالترجمة وتسهيل اللغة وتشكيل المصطلحات الحديثة وكتابة القواميس اللغوية والموسوعات العلمية ونقل المفاهيم الغربية ونشر الصحف والكتب والمجلات وإعادة الإعتبار للتراث العقلي والمعنوي والإهتمام بقضايا الساعة والسياسة وما يجري في العالم أجمع.

لقد كانت مصر ومن ثم بلاد الشام هي أول المتأثرين بالوضع الجديد من المنافسة بين الفقيه والمثقف الجديد. وكان الفقيه يمثل - آنذاك - المؤسسات الدينية الرسمية وعلى رأسها جامعة الأزهر، في حين ارتبط المثقف الجديد بالمؤسسات العلمية والثقافية الحديثة، أو أنه كان شديد التأثر بها. فعلى صعيد المثقف العلماني نجد امثال ناصيف اليازجي واحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني واديب اسحاق ويعقوب صروف وجرجي زيدان وشبلي الشميل وفرح انطون وجميل صدقي الزهاوي واحمد لطفي السيد وغيرهم. أما على صعيد المثقف الديني فنجد رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك وخير الدين التونسي وجمال الدين الافغاني وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده ومحمد اقبال وغيرهم. وقد تأثر كل من المثقف العلماني والديني بالحضارة الغربية والتحديث الجديد غاية التأثر، بل ان وجودهما يدين الى عملية التحديث والاحتكاك بالغرب، وما زالا يعملان تأثراً بهذا الاعتبار خلافاً للفقيه الذي غلب عليه التحفظ.

وإذا كانت مهمة الفقيه هي الحفاظ على ما كان أمام تيار النهضة والتحديث والتغريب؛ فعلى خلافها كانت مهمة المثقف العلماني، وذلك إما بهجر ما كان من تركة بلا إعادة إحياء، أو بربط التحديث بالتراث ربطاً ضعيفاً؛ إعتماداً على المفاهيم المستوردة من الغرب كالحرية والتقدم والعقلانية وما إليها. فما يفكر به العلماني هو جعل التنمية الإجتماعية والإقتصادية والسياسية قائمة على مفهوم المواطنة أو القومية كضرورة لا غنى عنها في النهضة المنشودة، وكان أبرز وأقدم من يمثل هذا الإتجاه آنذاك هو مدرسة بطرس البستاني.

في حين كانت مهمة المثقف الديني هي التوفيق بين التركة الموروثة وبين الواقع الجديد، مع تغليب هذا الواقع، أو الإلتفاف عليه من منطق أن ما انتجه الغرب من علم وثقافة إنما أخذه عن المسلمين وقام بتطويره ومن ثم تمّ ما أطلقوا عليه النهضة الغربية الحديثة. وقد بدا هذا الإهتمام أول الأمر من خلال مدرسة الشيخ حسن العطار وتلامذته ‹‹وذلك إبان الحملة الفرنسية على مصر، إذ كان العطار خطيب أول حفل لتخرج أول فوج لمدرسة الطب، في كلمة أشار فيها إلى أن العلم دولي وأن الحضارة عالمية. وهو الذي حرض تلاميذه على عبور البحر إلى الغرب، فكان تلميذه رفاعة الطهطاوي أول رائد للفكر العربي المعاصر، فقد إستطاع وهو ازهري أن يدرس الفرنسية وأن يترجم منها وينشئ تياراً ضخماً قوامه الجمع بين ثقافة العرب وثقافة الغرب››[5] . لذلك عُد رمزاً للرابطة بين الأزهر والثقافة الغربية[6].

إن من الطبيعي أن تواجه أي نهضة صراعاً وجدلاً بين خط يريد إبقاء كل ما كان على ما كان، وبين رفض مضاد لما كان، وبين محاولة تجديد وإصلاح ما كان لما ينبغي أن يكون. إن مثل هذا الصراع قد حصل منذ ظهرت وتبينت معالم ‹‹النهضة الحديثة›› في بلادنا الإسلامية والعربية. فلقد كان الإتجاه الأول المتمثل بالفقيه يحتمي بسيرة السلف القدماء ويتوقف عندها بالتقليد مقتدياً بمقولة الإمام مالك: ‹‹لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها››. إذ ظهر في أوساط هذا الإتجاه من يشاطر تلك المقولة بشعار: ‹‹الدين كما تركه لنا الائمة أما ما سوى ذلك من أمور الدنيا وعلوم العصر فلا علاقة للأزهر به››. بل كان القرن التاسع عشر حافلاً بهذا التوجه حتى نعى المصلح خير الدين التونسي على المسلمين كراهية الأخذ بأساليب التنظيمات المدنية الحديثة في الإصلاح، ودفع الشُبه التي تحرم هذه التنظيمات كما كان يروّج لها الكثير، كما ونقد الإعتقاد السائد والقائل بأن كل ما يصدر عن اوروبا حرام أو مخالف للشريعة، فضلاً عن أنه انكر على العلماء اعراضهم عن استكشاف قضايا الواقع وجهلهم بمعرفة أمراض الأمة الإسلامية[7]. أما الإتجاه الثاني المتمثل بالمثقف العلماني فقد لجأ إلى الطرف المضاد من الأول وكان شعاره على شاكلة القول: ‹‹ما لنا والرماد››! في حين وقف إتجاه المثقف الديني موقف الوسط يعمل على شاكلة ما قيل: ‹‹إن أفضل تكريم للأسلاف ليس في الإحتفاظ بالرماد الذي تركوه، بل في الإحتفاظ بالشعلة التي حملوها متأججة››[8]. وبالتالي فإنه عمل على تطويع التراث ونص الخطاب الإلهي إلى ما يخدم مصالح الحاضر، بفعل الضغوط التي فرضتها الحاجات الزمنية وتطورات الواقع.

هكذا كان الرواد الأوائل من المثقفين الدينيين يعانون من هيمنة اتجاهين متضادين، كل منهما يمسك بحبل غير ما يمسك به الآخر، مما جعل المهمة التي يحملونها تعبر عن محاولة التوفيق والجمع بين الحبلين كطريق للنهضة والتقدم. فمثلاً أن المصلح خير الدين التونسي (1810 ـ 1879) حصر عوائق التقدم في فئتين، هما رجال الدين ورجال السياسة ‹‹أما رجال الدين فإنهم يعرفون الشريعة ولا علم لهم بأمور الدنيا، وأن رجال السياسة يعرفون الدنيا ولا يعلمون الدين، وهم يريدون أن يطبقوا النظم الاوروبية بحذافيرها من غير رجوع إلى الدين. فنقول للأولين اعرفوا الدنيا. ونقول للآخرين اعرفوا الدين››[9]. وقد حفزه هذا الأمر إلى وضع كتابه (أقوم المسالك في معرفة الممالك). إذ اشتمل على داعيين، أحدهما تحذيره للمسلمين من الإعراض عن الأخذ عن غيرهم من الاوروبيين، والآخر هو ايجاد الجسر الذي يربط بين كل من رجال الدين ورجال السياسة، معتبراً أن لكل منهما ضرورة تكمل الأخرى، إذ بتعاونهما يمكن للأمة أن تنهض. وقد وجد لذلك تبريراً في التوفيق بينهما من خلال الجمع بين المادتين اللتين يشكلان موضوع البحث عندهما. فهو يقول: ‹‹إن إدارة أحكام الشريعة، كما تتوقف على العلم بالنصوص، تتوقف على معرفة الأحوال التي تعتبر في تنزيل تلك النصوص. فالعالم إذا اختار العزلة والبعد عن ارباب السياسة فقد سد عن نفسه أبواب معرفة الأحوال المشار إليها، وفتح ابواب الجور للولاة››[10]. لهذا فقد حثّ الفريقين على العمل لمعرفة الوسائل الكفيلة للنهضة[11].

وعلى أثر ذلك ظهر إتجاه وسط يعبّر عن حمله لهاتين المهمتين أطلق عليه ‹‹حزب الإصلاح الإسلامي المعتدل الجامع بين الإستقلال في فهم الدين وحكم الشرع الإسلامي وكنه الحضارة الاوروبية››. وهو الحزب الذي يقبل التغييرات الضرورية على أن يربطها بمبادئ صالحة، أو يوفق بين التغيير من جهة وبين صيانة أساس الأمة الخلقي من جهة ثانية. وقد كان محمد رشيد رضا (1865 ـ 1935) من المؤيدين لهذا الاتجاه، إذ يرى أن على هذا الحزب المعتدل أن ‹‹يُنشئ مدرسة عالية لتخريج المرشحين للإمامة العظمى وللإجتهاد الشرعي بعد دراسة أصول القوانين الدولية وخلاصة تاريخ الأمم وسنن الإجتماع ونظم المؤسسات الدينية كالبابوية.. وجميع المسائل الضرورية لتطبيق الإسلام على العالم الحديث تطبيقاً صحيحاً››[12].

على أن التباعد بين رجل الدين ورجل الدنيا، أو الفقيه والعلماني ومن على شاكلتهما، مازال قائماً حتى يومنا هذا. وقد كانت الأمة في بعض الفترات منقسمة على نفسها بين هذين التوجهين، ومن ذلك شهادة محمد عبده على أن جسم الأمة في عصره كان منقسماً بين فئتين عظيمتين هما ‹‹طلاب علوم الدين ومن على شاكلتهم، وطلاب فنون هذا العصر ومن هو في ناحيتهم››، لذلك جاءت دعوته مخالفة لكل منهما[13]. وأحياناً يُخيّل للبعض في بعض الفترات أنه لا يجد بين الناس في الغالب إلا صنفين: متدين جاهل أو عاقل متهتك. وكما أنشد أبو العلاء المعري بيتاً من الشعر:

إثنان أهل الأرض: ذو عقل بلا دين، وآخر دين لا عقل له

وكأن الحلقة المفقودة هي حلقة المثقف الديني الذي بوسعه أن يشكل وسيطاً بين الطرفين المتضادين، وأن يكون جامعاً لجملة من إعتباراتهما. ومع ذلك فقد أظهر المثقف الديني رواجاً وإتساعاً؛ سيما في العقود الأخيرة، تارة بنحو من الإستقلالية الفكرية، وأخرى عبر التنظيمات السياسية وكذلك الحركات الثقافية.

هكذا يتبين لنا بأن هناك ثلاث دوائر بنيوية للمعرفة، هي دائرة الفقيه، ودائرة المثقف العلماني، واخيراً دائرة المثقف الديني. ويلاحظ ان بين الدائرتين الاوليتين تضاداً حاداً، فكل منهما يقع على الطرف البعيد من الطرف الاخر، أما الدائرة الاخيرة فتقع في الوسط؛ تجمع بعضاً مما تحمله الدائرتان الاولتان، أي انها تشترك مع كل منهما في جوانب معينة وتختلف معهما في جوانب اخرى، وفي الغالب ان ما تتفق فيه مع احداهما هو عين ما تخالف فيه الاخرى، والعكس صحيح ايضاً. وبالتالي فان المثقف الديني يتمسك بحبلين احدهما هو ذات ما ينتمي اليه الفقيه، وإن اختلف معه بالكيفية، والاخر يعود الى ما ينتمي اليه العلماني وإن اختلف معه هو الاخر بالكيفية والتفسير.



[1] رسالة الصحابة، ضمن آثار إبن المقفع، ص354ـ355.

[2] مقدمة إبن خلدون، طبعة دار الهلال، ص336ـ337.

[3] هنري بوانكاري: قيمة العلم، ترجمة الميلودي شغموم، دار التنوير، بيروت، الطبعة الأولى، 1982م، ص19. وشبيه بهذا الأمر ما صوّره أينشتاين من العلاقة بين القضايا ومنها القوانين الرياضية وبين الواقع، حيث يقول: ‹‹كلما كانت القضايا تشير إلى الواقع فانها غير قطعية، وكلما كانت قطعية فانها لا تشير إلى الواقع››. انظر:

Hemple, carl G.: Geometry and Empirical science, in: Madden, The structure of scientific thought, printed in Great Britian in 1968, P. 80. And: Maxwell, Nicholas, can there be necessary connections between successive events, in: Richard swinburne, intruduction, the justifiction of induction, edited by Richard Swinburne, oxford university press 1974, p. 152

[4] المنار، ج5، ص189.

[5] انور الجندي: الفكر العربي المعاصر، مطبعة الرسالة بمصر، ص507.

[6]  المصدر، ص36.

[7] خير الدين التونسي، مقدمة أقوم المسالك في معرفة الممالك، راجعها وحققها د. رحاب عكاوي، ضمن: السالك إلى أقوم المسالك، دار الفكر العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1993م، ص84 و87 و132 وما بعدها. والفكر العربي المعاصر، ص73.

[8] هذه مقولة العمالي والسياسي الفرنسي جان جوريس التي نقلها الدكتور البخاري حمانة في دراسته المعنونة: ‹‹من اجل فلسفة عربية للتاريخ››. لاحظ: الفلسفة العربية المعاصرة، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، 1988م، ص252

[9] الجندي: الفكر العربي المعاصر، ص73.

[10] مقدمة أقوم المسالك، ص129.

[11] مقدمة أقوم المسالك، ص87.

[12] البرت حوراني: الفكر العربي في عصر النهضة، دار النهار، الطبعة الرابعة، 1986، ص 291ـ292.

[13] الأعمال الكاملة للامام محمد عبده، حققها وقدم لها د. محمد عمارة، المؤسسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الثانية، 1980م، ج2، ص318.

comments powered by Disqus