يحيى محمد
لعل أول ميزة امتاز بها المفكر الديني هو أنه دعا إلى تجديد النظر في الدين، ولم يتوقف عند حد فتح باب الإجتهاد بالمعنى التقليدي[1]. كما أنه حوّل النص إلى مرتع للنظر لدى جميع المدركين ليفيدوا منه ما يفهمونه من دون التوقف عند حدود ما يقوله المفسر والفقيه وما إليهما من أصحاب الطرق التقليدية. وهو بهذا يعد نفسه غير مرتبط بالفقيه والمفسر التقليدي لعدة إعتبارات كالتالي:
أـ إنه على الأقل لا يعمل بالتقليد الذي هو شأن غالب الفقهاء، بل أنه يعده من أهم أسباب انحطاط الأمة وتخلفها. بل في أحيان معينة نجد أن المثقف ينكر التقليد كلياً ويعده من الشرك الذي تجب محاربته من غير هوادة كالذي يذهب إليه محمد عبده وتلميذه رشيد رضا، ومن ذلك تنديد هذا الأخير بمقلدة الفقهاء حيث ساروا بطريق يخالفون فيه نصوص الآيات أو ظواهرها، مستشهداً بما نقله الفخر الرازي عن أحد شيوخه قائلاً: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله تعالى في بعض المسائل وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها وبقوا ينظرون إلي كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها. ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الاكثرين من أهل الدنيا[2]. وقد اعتبر رشيد رضا أن هذه الظاهرة ظلت متفشية بقوة مع مرّ الزمن إلى عصرنا هذا.
ب ـ إنكار المفكر الديني للتنطعات والتدقيقات الفقهية، ومن ذلك أن الكواكبي اعتبر أن توسيع الفقهاء لدائرة الأحكام أدى إلى تضييق الدين على المسلمين تضييقاً اوقع الأمة في ارتباك عظيم، بحيث جعل المسلم لا يكاد يستطيع أن يعد نفسه مسلماً ناجياً لتعذر تطبيق جميع عباداته ومعاملاته تبعاً لطلبات الفقهاء المتشددين الآخذين بالعزائم ‹‹فبذلك أصبح الجمهور الأكبر من المسلمين يعتقدون في أنفسهم التهاون اضطراراً، فيهون عليهم التهاون اختياراً كالغريق لا يحذر البلل. لأنه كيف يطمئن الحنفي العامي حق الإطمئنان في الاستبراء لتصح طهارته؟ وكيف يحسن مخارج الحروف كلها وقد أفسدت العجمة لسانه لتصح صلاته؟ وكذلك كيف يصحح الشافعي العامي نيته على مذهب إمامه في الصلاة؟ أو يعرف شدّات الفاتحة الثلاث عشرة وينتبه لإظهارها كلها ليكون أدى فريضته؟››[3]. وقد ضرب الكواكبي مثلاً بارزاً على التوسع المغالي في الآراء الكثيرة المتعلقة بالسواك. إذ جاء عن النبي (ص) قوله: ‹‹لولا أن اشق على امتي لأمرتهم بالسواك››، فعلى هذا الحديث تشعبت الآراء واتسعت، حيث أخذ الفقهاء يبحثون عن نوع العود المستخدم في السواك وعن طوله وطريقة استعماله والامكنة والاوقات التي ينبغي فيها إستخدامه وما إلى ذلك من تفريعات منافية للمقصد الشرعي[4].
كما أن محمد عبده هو الآخر قد ندد بطريقة بحث الفقهاء في التوسيع والتفريع واصفاً اياها بأنها هي التي ضيعت الدين، حيث أن الفرد العامي الذي يسعى إلى كسب معاشه لا يسعه صرف سنين طويلة في تعلم أحكام الطهارة وسائر العبادات من الكتب الطويلة الصعبة المألوف إستخدامها لدى الفقهاء كما في الأزهر، فعلى حد قوله: ‹‹أي حاجة إلى هذه الأبحاث الطويلة؟ والتدقيقات في مسائل المياه والطهارة والصلاة؟! قال (ص): (صلوا كما رأيتموني اصلي). وشرح صلاته ووضوءه، مما يمكن بيانه في ورقات قليلة[5]، وكل ماء يشرب وينقى به البدن يطهر به.
ج ـ والمفكر الديني إذ لا يعول على الفقيه بالتقليد ولا يعمل بالتنطعات والتدقيقات الفقهية فإن له طرقاً معرفية عدة قام بممارستها. ويمكن تصنيفها إلى أربع طرق رئيسة هي: إنفتاحه على النص مباشرة والعمل بمسلك الفهم المجمل، والتمسك بمسلك السلف الأوائل قبل بروز الخلاف، وممارسة النظر والترجيح بين الآراء العلمية، ثم الإعتماد على مصادر معرفية أخرى. أما بيان هذه الطرق فسيكون كما يلي:
الأولى: الإنفتاح على النص مباشرة: ذلك أن المفكر الديني انفتح على النص مباشرة دون وسائط الفقهاء عادة. فمثلاً شدد الكواكبي في (طبائع الإستبداد) على ضرورة فهم القرآن من غير تقييد، طبقاً لمسلمة كون الدين مبنياً على العقل، وأنه لا بد من التبصر في مقاصده. فالقرآن الكريم من أوله إلى آخره إذا ما لوحظت مقاصده وتفهم أسباب نزول آياته لا تجد فيه من حكم إلا وتلقّاه العقل بالإجلال والإعظام دون حاجة للرجوع إلى الغير ممن يعملون بالتوسعة والتدقيق، ومن ثم التشويش والتضليل[6].
كما طالب محمد عبده بقراءة القرآن وفهمه مباشرة بعيداً عن التفاسير، بل أنه حذّر من هذه التفاسير وقال وهو يخاطب أعضاء جمعية العروة الوثقى: ‹‹داومْ على قراءة القرآن وتفهّم أوامره ونواهيه، ومواعظه وعبره، كما كان يُتلى على المؤمنين والكافرين أيام الوحي، وحاذر النظر إلى وجوه التفاسير إلا لفهم لفظ مفرد غاب عنك مراد العرب منه، أو إرتباط مفرد بآخر خفي عليك متصله، ثم اذهب إلى ما يشخصك القرآن إليه، واحمل بنفسك على ما يحمل عليه، وضع إلى ذلك مطالعة السيرة النبوية واقفاً عند الصحيح المعقول، حاجزاً عينيك عن الضعيف والمبذول››[7]. وعلى هذه الشاكلة اعتبر أن لكل مسلم أن يفهم عن الله من كتابه، وعن رسوله من كلامه، بغير وساطة أحد من سلف ولا خلف، وإنما يجب عليه قبل ذلك العلم بالوسائل التي تؤهله للفهم، كقواعد اللغة العربية وآدابها وأساليبها، وأحوال العرب والناس زمن البعثة النبوية، وما وقع من الحوادث وقت نزول الوحي، وشيء من الناسخ والمنسوخ من الآثار، فإن لم تسمح له حاله بالوصول إلى ما يعده لفهم الصواب من السنة والكتاب فليس عليه إلا أن يسأل العارفين بهما، كما عليه أن يطالب المجيب بالدليل، لا فرق في ذلك إن كان السؤال في العقائد أو في الفقه والأحكام العملية ‹‹فليس في الإسلام ما يسمى عند قوم بالسلطة الدينية بوجه من الوجوه››[8].
كذلك اعتبر رشيد رضا أن مسائل الدين البحتة من العبادات والحلال والحرام لا يُرجع فيها إلى آراء الفقهاء، وإنما تُسند إلى الشرع من الكتاب والسنة مباشرة. أما المسائل الدنيوية كالقضاء والسياسة فهي مفوضة بأمر الله إلى أولي الأمر الذين هم رجال الشورى من أهل الحل والعقد، وما يقررونه يجب على حكام المسلمين تنفيذه وعلى الرعية قبوله[9]. وهو في محل آخر اعتبر أن مثل هذه القضايا تفوضها عامة الناس إلى أولي الأمر منهم ومن ثم تتبعهم فيها[10]. وهذا يعني - بحسب رأي هذا المفسر - أنه سواء في القضايا الدينية البحتة، أو القضايا الدنيوية، فإنه لا يصح الإعتماد على رأي الفقهاء.
بل من حيث الدقة إن المفكر الديني إذ ينفتح على النص مباشرة فإنه يميل في كثير من الأحيان بإتجاه الفهم المجمل. فهو كثيراً ما ينزع على الدين نزعة الإجمال ولا يرضى بالتدقيقات والتنطعات التي ألِفها الفقهاء وأهل الإختصاص، بل يميل إلى إعتبار التدقيقات ليست صفة الدين ذاته، بل هي صفة الواقع لإمكانية اختباره ومعرفة قضاياه بسهولة. وربما لهذا نجد مثلاً أن الكواكبي يصرح بالإجمالية في عدد من العبارات، منها إعتباره أن الإسلام ‹‹وضع شريعة حكمة إجمالية صالحة لكل زمان وقوم ومكان››[11]. وعليه اعتبر آيات الأحكام لا تعدو عن مائة وخمسين آية، وفي محل آخر عدها لا تتجاوز المائة[12]. وقد امتدح الطريقة التي يُفهم بها المعنى المتبادر بإطمئنان مع النفور عن التوسع في البحث وعدم إعارة السمع للإشكالات، ومن ثم لا حاجة للتدقيقات والأبحاث المسببة للتشديد والتشويش[13]. وأكثر من هذا أكد على ضرورة التمسك بكل ما يقبل الإتفاق وترك غيره من الموارد التي تثير الإختلاف، عبر الإجتماع على ما نعلمه ونفهمه من النصوص والتخلي عن كل ما يرد من نقل مختلف حوله[14].
وشبيه بهذا الموقف ما أكده رشيد رضا في موارد الأخذ بالقطعيات وتقليص دائرة الأحكام والتكاليف، مؤيداً موقفه هذا بذكر شاهد من السيرة النبوية، وهو أن بعض الأعراب كان يجيء النبي (ص) من البادية فيسلم، فيعلّمه النبي ما أوجب الله وما حرم عليه في مجلس واحد فقط، فيعاهده الأعرابي على العمل به، فيقول النبي (ص): ‹‹أفلح الأعرابي إن صدق››. إذ يمثل هذا الشاهد لدى رشيد رضا أعظم أسباب قبول الناس بالإسلام، لكن ‹‹الفقهاء أكثروا التكاليف بآرائهم الإجتهادية حتى صار العلم بها متعسراً، والعمل بها متعذراً››. لذلك فقد تمسك بالمطالبة بكل ما هو قطعي بحيث يفهمه كل من عرض عليه النص، أما ما هو غير قطعي من الآيات الظنية الدلالة، وأخبار الآحاد الظنية الرواية أو الدلالة، فهي موكولة إلى إجتهاد من تثبت عنده في العبادات والأعمال الشخصية، والى إجتهاد أولي الأمر في الأحكام القضائية والمسائل السياسية[15].
الثانية: التمسك بمسلك السلف الأوائل: حيث أن المفكر الديني لجأ إلى الأخذ بمسلك الصحابة والتابعين قبل بروز الخلاف ونشأة الفرق والمذاهب، ولو من خلال تحقيق بعض المتآخرين كإبن تيمية، وذلك في القضايا الغيبية والمسائل العبادية. وأكبر الظن أن هذا المعنى الذي اتجه صوبه بعض المثقفين الرواد، كالذي يلاحظ بوضوح لدى الشيخ الإمام وتلميذه، إنما جاء كرد مناسب على الطريقة السائدة لدى العلماء والفقهاء الذين يذهبون مذهب التقليد للمذاهب المعروفة، سواء في الأصول أو الفروع. لهذا فإن الشيخ الاستاذ يطالب: بـ ‹‹تحرير الفكر من قيد التقليد، وفهم الدين على طريقة سلف الأمة قبل ظهور الخلاف، والرجوع في كسب معارفه إلى ينابيعه الأولى››. فهو يعد هذا التحرير للفكر صديقاً للعلم من حيث أنه باعث على البحث في أسرار الكون وداعي إلى احترام الحقائق الثابتة، كما أنه يطالب بالتعويل عليها في ادب النفس وإصلاح العمل[16].
الثالثة: ممارسة النظر المعرفي: ذلك أن المفكر الديني قام بممارسة الترجيح بين الآراء العلمية الموروثة في الحالات التي لا يسعفه النص ولا يجد طريقة أخرى تقربه إلى التحقيق.
الرابعة: الإعتماد على مصادر معرفية أخرى: ذلك أن المفكر الديني اعتمد على مصدرين هامين من مصادر المعرفة، هما العقل والواقع، رغم أنه لا يملك تقنيناً منهجياً واضحاً وصريحاً كالذي نراه لدى الفقيه.
[1] الكواكبي: طبائع الإستبداد، ص493.
[2] المنار، ج8، ص169.
[3] الكواكبي: أم القرى، ص344.
[4] أم القرى، ص326ـ327.
[5] الأعمال الكاملة، ج3، ص196.
[6] الكواكبي: طبائع الإستبداد، ص508.
[7] محمد عبده: الأعمال الكاملة، ج1، ص183.
[8] الأعمال الكاملة، ج3، ص286.
[9] المنار، ج3، ص327.
[10] المنار، ج5، ص302.
[11] طبائع الإستبداد، ص447.
[12] أم القرى، ص336. وطبائع الإستبداد، ص508.
[13] أم القرى، ص328.
[14] أم القرى، ص282.
[15] المنار، ج11، ص262 و263.
[16] الأعمال الكاملة، ج2، ص318. كذلك: رشيد رضا: تاريخ الاستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، مطبعة المنار، مصر، الطبعة الأولى، 1350هـ ـ1930م، ج1، ص11.