-
ع
+

منطق حق الملكية وجواز تكليف ما لا يطاق

 

يحيى محمد 

من النتائج المترتبة على منطق حق الملكية، كما يتمثل في الأشاعرة، الإعتقاد بجواز تكليف ما لا يطاق، حيث استدل عليه الإمام الجويني بقوله: «الدليل على جواز تكليف المحال؛ الإتفاق على جواز تكليف العبد القيام مع كونه قاعداً حالة توجه الأمر عليه، وقد اقمنا الدليل القاطع على أن القاعد غير قادر على القيام، فإذا جاز كون القيام مأموراً به قبل القدرة عليه، وإن كان ذلك غير ممكن، فلا يبقى لإستحالة تكليف المستحيل وجه»[1].

وظاهر هذا الجواب هو أنه يمنع أن تكون هناك سعة للتكليف يقتضيها الحال، فكل أمر لا بد أن يقتضي حالاً للمكلَّف يسبق الحال الذي يؤمر عليه. وواضح أنه إذا لم يوجد شيء من التراخي النسبي بين الأمر وامتثاله؛ فسيؤول التكليف إلى المحال والعبث، فلا يعقل أن يترتب عليه الجزاء من استحقاق الذم والعقاب.

والواقع أن هناك فهمين لأصحاب هذا المنطق حول عدم الطاقة والإستطاعة في التكليف. فتارة يدل المعنى عندهم على التكليف بالمحال والعجز الذاتي، كما تشهد على ذلك بعض التطبيقات، وأخرى يدل المعنى على ما هو أشبه بالصرفة منه إلى العجز الذاتي. وبحسب المعنى الأخير اعتبر الشيخ أبو الحسن الأشعري أنه ليس المقصود من عدم الطاقة والإستطاعة هو العجز عن الفعل المكلَّف به، بل بمعنى تركه والإنشغال بغيره، حيث يقول: «إن قال: أليس كلف الله تعالى الكافر الإيمان؟ قلنا له: نعم. فإن قال: أفيستطيع الإيمان؟ قيل له: لو إستطاعه لآمن. فإن قال: أفكلفه ما لا يستطيع؟ قيل له: هذا كلام على أمرين: إن أردت بقولك أنه لا يستطيع الإيمان لعجزه عنه فلا، وإن أردت أنه لا يستطيعه لتركه وإشتغاله بضده فنعم»[2]. وقد تكرر هذا المعنى أيضاً عند الباقلاني في كتابه (التمهيد) [3]. كما تمّ تطبيقه على تفسير بعض الآيات. ومن الأمثلة عليه ما ذكره الشيخ الأشعري - وكذا الباقلاني - من معنى قوله تعالى: ((ما كانوا يستطيعون السمع)) (هود/20) وقوله: ((وكانوا لا يستطيعون سمعاً)) (الكهف /101)، فقد ذكر انهم لا يستطيعون ذلك مع أنهم أُمروا لأن يسمعوا الحق، فدلّ على جواز تكليف ما لا يطاق، وكذا الحال في قوله تعالى: ((ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم)) (النساء/129)، مع أنهم مكلفون بالعدل بين النساء[4]. كما أن من أدلة الأشاعرة على ذلك قوله تعالى: ((ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به)) (البقرة/286)، فقد ذكر الباقلاني بأنه «لو كان تكليف ما لا يطاق ظلماً وعبثاً وقبيحاً من الله تعالى لكانوا قد رغبوا إليه في أن لا يظلمهم ولا يسفه عليهم ولا يوجب من الأوامر ما يخرج عن حد الحكمة. والله أجلّ من أن يثني على قوم أجازوا ذلك عليه. فدلّ هذا على ما وصفناه»[5].

هذا هو مفهوم عدم الطاقة والإستطاعة في التكليف بمعنى الصرفة. لكن هذا المعنى ليس هو الوحيد، بل هناك معنى آخر يدل على العجز الذاتي، كما تشير إليه بعض التطبيقات التي أخبر عنها الخطاب الديني، مثل تكليف أبي لهب بالإيمان، حيث أن الله أمره «بأن يصدّق النبي ويؤمن به في جميع ما يخبر به، ومما أخبر به أنه لا يؤمن به، فقد أمره أن يصدّقه بأن لا يصدّقه، وذلك جمع نقيضين»[6].

وبعبارة أخرى أن ابا لهب لو صدّق بأنه لا يؤمن بالرسالة؛ لبقي في ذمته تكليف واحد فقط هو عدم الإيمان، ولو لم يصدّق بذلك لكان يعني أنه مؤمن بالرسالة؛ فيظل مكلفاً بعدم التصديق. وفي هذه الحالة سوف لا تبرأ ذمته من التكليف، إذ لو تخلص من التكليف الأول لوقع في الثاني، والعكس صحيح. ولا شك أن هذا الإستدلال يتضمن انطواء التكليف على العجز الذاتي الذى نفاه البعض من الناحية المبدئية، كما رأينا سابقاً. وهو في جميع الأحوال يتنافى مع الوجدان، إذ كيف يعقل أن يكلف الله إنساناً عاجزاً بأن يؤمن بالرسالة؟! ولو صحّ هذا التكليف لكان شكلياً، وتظل حقيقته معبرة عن كونه عقوبة لا غير، مثل عقوبة الإلجاء المترتبة على الفعل البشري السيء، كالذي يدل عليه قوله تعالى: ((الله يستهزىء بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون)) (البقرة /15).

ولو نظرنا إلى الخطاب الديني لوجدنا أن الآيات القرآنية دالة على نفي مثل ذلك التكليف، ومن ذلك قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفساً إلا وسعها)) (البقرة/286). كما أن هناك نصوصاً أخرى ترفع التكليف عن حالات العسر والحرج في الدين، مثل قوله تعالى: ((يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) (البقرة /185).. ((وما جعل عليكم في الدين من حرج)) (الحج/78).. ((الله لطيف بعباده)) (الشورى/19). وهو يدل بالأولوية على منع التكليف بالمحال.

يبقى أن نشير إلى ما ذكره الشاطبي من أن مسألة تكليف ما لا يطاق قد منعها «أكثر العلماء من الأشعرية وغيرهم»[7]. وهذا الذي نقله الشاطبي ربما يرجع إلى المتأخرين من الأشاعرة رغم ما فيه من تناقض مع البداهة الأولية للأصل المولّد إن كان المنع منعاً عقلياً، ومن ذلك ما اعتقده الغزالي من أن تكليف الناسي والغافل هو من المحال، وكذا الساهي والمجنون والسكران[8]. وإن أقرّ في محل آخر بأن له تعالى تكليف ما لا يطاق[9].

 



[1]  الإرشاد، ص226ـ227.

[2]  اللمع، ص99ـ100.

[3]  التمهيد، ص294.

[4]  اللمع ص106 وما بعدها. والإبانة، ص113. والتمهيد، ص294.

[5]  التمهيد، ص294ـ295. والإرشاد، ص227ـ228.

[6]  لاحظ: الإبانة، ص114. والإرشاد، ص227ـ228. وقواعد العقائد، ص87ـ88. والمحصل، ص293. وأصول الدين، ص91. وشرح المواقف، ج1، ص126ـ127.

[7]  الشاطبي: الموافقات في أصول الشريعة، مع حواشي وتعليقات عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، الطبعة الثانية، 1395هـ ـ1975م، ج2، ص119.

[8]  المستصفى، ج1، ص84.

[9]  روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، ص133.

comments powered by Disqus