-
ع
+

مبدأ القصدية والفهم الديني

يحيى محمد

لكل علم مسلماته الخاصة، ففي علم الطبيعة يعتبر مبدأ السببية أهم المسلمات المعتمد عليها في الكشف العلمي، وبالتالي فهو لا ينتمي إلى القضايا العلمية، بل يشكل أساس تكوينها، ولولاه لما كنّا نسمع عن العلم شيئاً. وكذا هو الحال في الفهم الديني، إذ يعتبر مبدأ القصدية أهم مسلمات الفهم، وهو يقابل السببية في العلم الطبيعي. وهو يفترض ان يكون لصاحب النص قصد محدد وراء الألفاظ التي بثّها فيه. فهو الشرط المعرفي الأساس لقراءة النص الديني. وبعبارة أخرى، تفترض قراءة النص ان يكون لصاحبه معنى مقصود يشكل الهدف المنشود للقارئ. وبغير ذلك سوف يكون النص لغواً بلا قيمة.

أما كيف يمكن التوصل إلى هذا الهدف من وجود المعنى المقصود للنص؟ فذلك ما يعتمد على القرائن الاستقرائية والتقديرات الاحتمالية. فالاستقراء هو قاعدة كاشفة، سواء كان الكشف سببياً يتعلق بالعلم الطبيعي وعموم الإدراك البشري للأشياء، أو كان قصدياً يستفاد منه في الفهم الديني وغيره، حيث الكشف عن مقاصد الألفاظ ومعانيها.

ففي الفهم يفترض مبدأ القصدية وجود معاني ومقاصد وراء الظواهر اللفظية المبثوثة في النص، سواء تمكنّا من تحديد هذه المعاني والمقاصد أم لم نتمكن.

وبين المعاني والمقاصد عموم وخصوص، فإحداهما تتضمن الأخرى وتزيد عليها، وهي ان إفتراض تحديد المعاني لا يسفر بالضرورة عن التمكن من معرفة مقاصد النص. أما معرفة الأخيرة فتقتضي معرفة المعاني سلفاً. فالمقصد لا يمكن تحديده من غير معرفة المعنى، في حين إن من الممكن تحديد المعنى رغم الجهل بالمقصد الذي يمثل صورة من صور معنى المعنى. لكن في جميع الأحوال إن إفتراض وجود معاني ومقاصد للنص هو إفتراض لا يمكن ردّه، فأي رد له يخدش بالغرض والحكمة من وجود النص، وانه بدون هذا الإفتراض يكون النص لغواً وعبثاً.

ونجد في الفهم الديني ان انكار فكرة الغرض الإلهي، كالذي تشير إليه الاعتبارات الفلسفية، ومثلها بعض الاعتبارات الكلامية، كتلك التي يسلم بها الأشاعرة، كل ذلك يفضي إلى انكار المقاصد. أو على نحو أدق، هو ان مقالة المقاصد لا تتسق مع مقالة نفي الغرض الإلهي، فهذا النفي يصادم المسلمة القبلية بأن للنص مقاصد بدونها تصبح الدلالات اللفظية لغواً وعبثاً، وكلاهما لا يتناسبان مع نظرية التكليف التي تشكل جوهر الحقيقة الدينية. وبالتالي فغالباً ما يكون الخلاف حول المقاصد بشأن الجزئيات والمصاديق وليس مقصد النص والدين بإطلاق.

ويقف مبدأ القصدية في الفهم الديني موازياً لمبدأ السببية في علم الطبيعة. وإذا كانت الإشكالية الخاصة بمبدأ السببية هي البحث في العلاقات الكونية التي لم يستكشف منها روابط السببية كتلك المتعلقة بحركة الإلكترون - مثلاً -؛ فإن الإشكالية التي تتصدر مبدأ القصدية في الفهم الديني هي تلك المتعلقة بالنصوص المصنفة ضمن المتشابهات. فماذا يُقصد بها من معان ومقاصد؟

ولا شك إن هذه الإشكالية حول معاني ومقاصد النص تتطور إلى إشكالية تُعنى بالفهمين التعبدي والقصدي. ونقصد بالفهم التعبدي هو ذلك الفهم الذي يتأطر بإطار النص وحرفيته دون ان يتجاوز ظواهره، كالذي يبشر به الإتجاه البياني الصرف، وعليه تُبتنى ما يُعرف بالاحكام التعبدية في الفقه. فهي أحكام وقفية طبقاً لمتبنيات هذا الفهم. وهو لا يتوقف على قضايا الفقه، وإنما ينبسط على سائر قضايا النص اجمع.

أما الفهم القصدي فهو يتجاوز حرفية النص وإطاره العام، فقد يستعين بوسائل عديدة اضافية للتعرف على مقاصده، ومن ذلك العقل والواقع. وهو الذي تُبتنى عليه مقاصد الأحكام، فلولاه لتعذر على الفهم ان يصل إلى هذه المقاصد ما لم تكن ظاهرة جلية يشير إليها النص صراحة كالذي يعول عليه الفهم التعبدي. ووظائفه لا تتوقف أيضاً عند حدود قضايا الأحكام الفقهية، بل تتعداها إلى غيرها من النصوص، مثلما يجري الحال لدى الفهم التعبدي.

وفي تراثنا الإسلامي ان الخلاف الكلامي الفلسفي حول ما إذا كان في الوجود علل اقترانية مصاحبة ذات سمة دلالية وصفية كالذي عليه الأشاعرة، أو علل فاعلة كما يراه غيرهم من الفلاسفة والمتكلمين.. ان هذا الخلاف قد انعكس على قراءاتهم للنص الديني، ومن ذلك إن الأشاعرة اعتبروا كل الباءات الواردة في النص الديني والخاصة بالأسباب والمسبَّبات هي باءات مصاحبة وليست باءات سببية[1]، لهذا عدوا الأسباب مجرد علامات دلالية دون ان تمتلك أدنى تأثير، إذ لا مؤثر في الوجود غير الله، وهو ما خالفهم عليه الفلاسفة وسائر المتكلمين. كما ظهر على ذات الشاكلة خلاف حول ما إذا كانت هناك علل غائية أو لا؟ وهنا صفّ الأشاعرة مع الفلاسفة في نفي هذه العلل مع بعض الإختلاف، وقد عارضهم حولها سائر المتكلمين، وقد انعكست هذه الخلافات على فهمهم للنص الديني.

وهنا يتجسد الخلاف حول ما إذا كانت هناك علل قصدية أو دلالات تعبدية في النص. فالطرح الذي يفيده الأشاعرة يفضي إلى التعبدية الوصفية دون القصدية، ففهمهم للنص لا يختلف عن طريقتهم في تحليل الوجود، رغم ان المتأخرين فصلوا بين الحالين ووقعوا في مفارقة لا تقبل الحل. وعليه لو أهملنا النزعة المتطرفة للإعتقاد الأشعري المتقدم وتبنينا ما انتهى إليه الفقه لدى المتأخرين من تقسيم الأحكام إلى معنوية وتعبدية، فسندرك ان هذا التقسيم يشغل منطقة محددة ضمن مساحة كبرى لإشكالية الفهم الثنائية، وذلك فيما لو اعتبرنا الأحكام المعنوية داخلة ضمن الفهم القصدي المشار إليه سلفاً. وبالتالي قد يبدو للبعض ان ما يفهمه يدخل ضمن إطار القصد، فيما يبدو لبعض آخر انه يدخل ضمن إطار التعبد؛ على شاكلة ما كان يشير إليه كالفن من أن فهم مقاصد الله غير متيسرة؛ لأن قراراته لا تتأثر بأعمال البشر ورغباتهم ومصالحهم[2].

***

تبقى المعضلة – في هذه الإشكالية - هي فيما إذا كان من الممكن تحويل الفهم التعبدي إلى الفهم القصدي، أي استكشاف الأبعاد المقصدية للدلالة النصية، لا سيما في القضايا الفقهية.

فمثلاً قد يقال إن من الأحكام المعدة من التعبديات لدى جميع المذاهب الإسلامية كالوضوء مثلاً هي من القصديات المعنوية، لا سيما عند التسليم بأن الغرض منه ومن الغسل هو المبالغة في النظافة كالذي يشير إليه السيد محمد رشيد رضا، معتبراً ان على ذلك دلالة عقلية وقرآنية لدى آية الوضوء ذاتها[3]، حيث يقول تعالى: ((مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ))[4]. فهذا التسليم يجعل من الوضوء مما يدرك قصده ومعناه دون ان يكون أمراً تعبدياً كالذي تذهب إليه المذاهب الإسلامية، ربما لكونها تعتبره داخلاً ضمن مفهوم الحكمة التي لا تكفي للتعليل.

إن التمايز بين الفهمين التعبدي والقصدي قد يطرح سؤالاً في الفقه حول ما إذا كانت وسائل الفهم القصدي لا تعد من صلب الدين، إذ الاستغناء عنها بوسائل أخرى يفي بالغرض، وبالتالي يصبح الدين مقتصراً على التعبديات المحضة. أو ان التعبديات كوسائل، والمقاصد كغايات، هي ما تشكل الدين كله.

فالتعبديات بوسائلها أو موضوعاتها، والمقاصد بذاتها دون وسائلها وموضوعاتها، هي ما تشكل جميع ما يراد من الدين. وحقيقة الأمر ان جوهر ما ينبني عليه الدين في الفقه هو المقاصد ذاتها، لأن التعبديات إنما اعتبرت ديناً لعدم إدراك مقاصدها، ولو ادركت هذه المقاصد لانتفى كونها من التعبديات، ولإنحصر الدين في الفقه كله بالمقاصد، وهي ما يتعبد بها لذاتها.

على ذلك فإن ما يهم الباحث المتبني لنظرية المقاصد عند حصول التعارض بين الفهم القائم على التعبد، والفهم القائم على القصد، هو ان يحوّل مجالات التعبد إلى القصد من دون عكس. فالمطلوب هو قلب المنهج، إذ غالباً ما يُتعبد بالأحكام ولو كانت من القصديات، بحجة انها مصنفة ضمن عنوان الحكمة غير الكافية للتعليل، بينما المطلوب في الحالة الجديدة العمل بتحويل التعبديات إلى قصديات. ولو افترضنا ان من الممكن تحويل الأولى إلى الأخيرة قاطبة؛ فستكون جميع الأحكام آيلة إلى التغيير. لكن المشكلة هي ان بعض التعبديات يصعب تحويلها إلى قصديات. وقد تكون من القصديات إلا أن تباعد الزمن وحجب الفقهاء جعلها تبدو من التعبديات، بمعنى أن الأصل هو القصد لا التعبد، وعند الشك والدوران لا بد من العودة إلى الأصل.

وعموماً إن التسليم بمبدأ الفهم القصدي، سواء في الفقه أو غيره، يجعل مجال البحث عن مقاصد النص مفتوحاً، خلافاً للفهم التعبدي. فبحسب الفهم الأخير لا جدوى من البحث عن مقاصد النص الخاصة للعجز عن معرفتها. ويكتسب العمل بمبدأ الفهم القصدي مبررات مستمدة من دلالات النص طبقاً لقاعدة الاستقراء.

ونجد في الفهم القصدي ثلاثة أنواع من البحث، أحدها منصوص، والثاني وجداني، أما الثالث فهو إجتهادي، وهو أيضاً ينقسم إلى ثلاثة فروع أخرى هي: محافظ ومغامر ومتهور، كالذي عرضناه في دراسة مستقلة.

ويتميز القصد المنصوص بأن النص دال عليه صراحة، أما القصد الوجداني فيتميز بأنه سرعان ما يصدّق به الوجدان الفطري، مخالفاً بذلك ما يعارضه من تعبد. في حين يتميز القصد الإجتهادي بانه ناتج عن التفكير والإجتهاد للتردد في القصد وعدم وضوحه، رغم وجود مراتب وسطى بين هذا القصد وكلاً من القصدين المنصوص والوجداني. وهو كما قلنا ينقسم الى ثلاثة اقسام: محافظ ومغامر ومتهور.

فالصنف المحافظ من العلماء هو ذلك الذي يعول على القراءة الاستظهارية ويميل إلى المنهج البياني، وان الصنف المغامر هو من يعول على القراءة التأويلية ويميل إلى المنهج العقلي أو الواقعي، في حين يحتكم الصنف المتهور إلى القراءة الاستبطانية، أو على الأقل التأويل البعيد، ويميل إلى المنهج الباطني للفهم.

ولا شك إن بين المحافظة والمغامرة مراتب غير محددة، إذ قد يكون الإجتهاد شديد المحافظة والإحتياط، أو يكون مغامراً، وقد يكون بين بين. كما قد يحصل تجاوز لهذا الحد من (الإجتهاد المغامر) فيما نسميه (الإجتهاد المتهور)، وميزته انه يتقبل الإستدلال بأي شيء على كل شيء من دون مراعاة لمجال العلاقة التي تربط نتائج الإستدلال بمقدماته، كالذي يفعله الكثير من المعاصرين لدى فهمهم للنص الديني وفقاً للإنتقاء اللغوي مع إغفال السياق، ومن قبلهم العرفاء والباطنية.

وبلا شك ان هذا التصنيف يتسق مع تقسيمنا للعقل إلى ثلاثة أنواع: مشدود (مكبّل) ومهدود (منفلت) وخلّاق (مبدع). فالأول هو العقل السائد اجتماعياً والمتصف بالمحافظة والتقليد، وهو ما يماثل العقل المكوَّن. والثالث هو العقل المتصف بالإبداع المستند إلى أسس وقواعد منضبطة، وهو ما يماثل العقل المكوِّن. أما الثاني (المهدود) فهو العقل المتمرد من دون التزام بقواعد منضبطة أو ثابتة، فهو ليس من العقل المكوَّن ولا المكوِّن.


[1]  إبن القيم الجوزية: مفتاح دار السعادة، عن شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، ضمن: الإلزام الثامن عشر (لم تذكر ارقام صفحاته ولا فقراته).

[2]  ريمون بودون: أبحاث في النظرية العامة في العقلانية، ترجمة جورج سليمان، مراجعة سميرة ريشا، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى، 2010م، ص181ـ182.

[3]  محمد رشيد رضا: المنار في تفسير القرآن، ج6، ص230 و234.

[4]  سورة المائدة\6.

comments powered by Disqus