-
ع
+

صلاح غير المسلم والمعايير الفطرية

يحيى محمد

تبدي الكثير من الآيات القرآنية ان مفهوم الكفر غير منفصل عن ملازمة العدوان والجحود والتكذيب، فهي تتحدث عن واقع كان متلبساً بمواصفات محددة. وليس بالضرورة ان تتفق هذه المواصفات مع مطلق الظروف قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً..

إن الكفر في اللغة يعني ستر الشيء أو تغطيته، فهو بالتالي ستر الحق والإعتراف به قلباً ونكرانه لساناً، ومن ذلك جحود النعمة وغيرها، وأن ما يقابله هو التسليم والخضوع للحق عند معرفته، وبه يتحقق معنى الإسلام. فالكفر قائم على الجحود مثلما أن الإسلام قائم على التسليم. وأن الكفر بهذا المعنى مدعاة لسائر الصفات الأخرى من التكذيب والصدّ والعدوان وغيرها.. وبالتالي نعتقد ان هناك دائرة ثالثة غير محددة بالكفر والإسلام، فلا هي من دائرة الكفر، ولا هي من دائرة الإسلام. وبالتالي ليس بالضرورة أن يتصف كل من لم ينتمِ إلى الإسلام بالكفر، أو أن يكون كافراً.

لقد وصف القرآن الكريم أقواماً غير مسلمين بأوصاف من الثناء ما لا يجعلهم منتمين الى دائرة الكفر الذميمة، من أمثال الآيات التالية: ((وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ)).. ((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ. يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ)).. ((وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)).. ((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ))..

لا أود أن أناقش هنا نصوصاً قرآنية أخرى تعارض من حيث الظاهر النصوص السابقة. فهذا ما تكفلت به في حلقة (النظام الواقعي) ضمن السلسلة الخماسية للمنهج في فهم الاسلام. لكن ما أوكد عليه هو ان فهم النصوص القرآنية والدينية عموماً لا يستقيم بمعزل عن موجهات بعض المعايير كمرجعية فطرية للقبول والرد، وهي ما يجمع عليها العلماء - من حيث المبدأ - بوعي وبغير وعي. ولو أننا عكسنا الحال وجعلنا النصوص الدينية هي المرجع الأساس في الاحتكام لأسفر الحال عن هدم كل شيء بما في ذلك النصوص الدينية ذاتها.

ويا لها من مفارقة! تجعلنا في غنى عن الخوض في الجدل النصوصي. وهو الجدل الذي لا يحتكم الى سلطة القضاء الأعلى.

إن جميع البشر، ومنهم الفقهاء وعلماء العقيدة والاديان وسائر النحل والملل، يستندون الى موجهات بعض المعايير الفطرية التي يُفكَّر بها لا فيها. فهي قضايا ثابتة تدخل ضمن مرجعية الأخذ والرد، يؤخذ ما يتفق معها ويردّ ما يعارضها مبدئياً وان كانت خفية عادة. ولولا الغشاوة لما اختلف حولها اثنان.

ووفقاً لبعض من هذه المعايير ان جميع العلماء والمذاهب الاسلامية لا يتمسكون بدلالة الاطلاق في ظواهر بعض النصوص الدينية، مثل قوله تعالى: ((إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)). فهم يدركون ان التمسك بظاهر الاطلاق في الآية يوقع في الممتنعات العقلية، كخلق الشريك في الإلوهية، أو خلق التناقض وجعل الواحد المضاف إلى آخر مثله لا يساوي اثنين، وجعل الجزء أعظم من الكل كما تُصوّره بعض الروايات. ومثل ذلك قوله تعالى: ((قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)). وكان الامام احمد بن حنبل يرى ان علم الله وقدرته وسائر صفاته الذاتية ليست داخلة في خلق الله.

إذاّ كيف نفسر هذه الاستثناءات؟ فمن الواضح انها قائمة على توجيه بعض المعايير التي يحتكم اليها العقل كمرجع للأخذ والرد حتى لو كانت على حساب ظواهر النص الديني. فهي مغروزة في أعماق النفس البشرية كأداة رفض لكل ما يعارضها، وان كانت غير ظاهرة للعيان.

ومن هذه المعايير وأهمها تلك التي لها علاقة بالقيم الاخلاقية. وللأسف انه تم تجاوزها جزئياً هنا وهناك نتيجة الغشاوة بفعل التغطية النصية كما يمارسها النظام البياني في التفكير الديني، ومن ذلك الزعم القائل بأن غير المسلم لا يشفع له صلاحه ويُعذّب في النار ولا يجوز الترحم عليه والدعاء له بعد وفاته، وكثيراً ما يُستشهد ببعض الآيات المتعلقة بالمشركين ويتم تطبيقها على أهل الكتاب بدون وجه حق. وأدى هذا الحال الى خلق مفارقة ظلت ملازمة للفكر الديني. اذ كيف يمكن تجاوز هذه المعايير التي بدونها يفشل النص الديني من ان تقوم له قائمة؟

فمثلاً هل يمكن أن تجد أحداً يؤمن بالاسلام او غيره من الأديان اذا ما كانت نصوصه تؤكد، كقاعدة عامة، على ان الله خادع وظالم لا يرحم المحسنين والصالحين ولا يحب الخير لأحد وهو يجيز الغش والغدر والخيانة والغيبة والبهتان وشهادة الزور والعدوان وضرب الوالدين وقتل الاطفال والرد بالاساءة لمن أحسن الينا وغيرها من القيم؟. فحتى لو رأى الواحد منا ألف دليل ودليل يشهد على ان مصدر هذا الدين هو الوحي فلن يشفع له ذلك وسيعتبرها علامات دالة على وحي الشيطان لا الإله.

لذلك لا يمكننا ان نتجاوز توجيه هذا المعيار الفطري، بل يجب استحضاره بوعي باستمرار ليضيء لنا الطريق ولنتجنب المفارقة المشار اليها سلفاً. والقاعدة العامة فيه هي ان فهم النص الديني يجب ان يُعرض دائماً على مرجعية هذا المعيار فيؤخذ ما يتفق معه ويوجّه ما يعارضه. 

comments powered by Disqus