يحيى محمد
يتصور الكثير خطأً أن من الممكن لفكرة الأكوان المتعددة اللانهائية ان تفسر لنا النظام الكوني العام لكل من الفيزياء والحياة والذكاء العقلي بما يجعلها تنافس اطروحة التصميم..
والحال ان اعتماد هذه الفكرة على منطق الاحتمالات يجعلها لا شيء أمام اطروحة التصميم استناداً الى ذات هذا المنطق كما سنرى.
ومن الناحية التاريخية نشأت فكرة الأكوان المتوازية في خمسينات القرن العشرين على خلفية مشكلة قطة شرودنجر الكمومية، ثم تمّ توظيفها خلال الثمانينات كتفسير في قبال الضبط الفيزيائي الدقيق.
فقبل ان يكتشف الفيزيائيون الدقة المدهشة في قوانين الفيزياء وثوابتها كان التصور العلمي لنشأة الكون قائماً على المصادفات والعمليات العشوائية. وعندما رأوا الدقة العجيبة منبسطة على مفاصل انحاء الكون وتطوراته تراجع الكثير عن هذه الفكرة. ولأجل تجنب الانزلاق في محذور إله الفجوات والعوالم الميتافيزيقية لم يجدوا بديلاً مناسباً لتفسير ما نشهده من صداقة الكون للحياة والذكاء غير افتراض وجود أكوان كثيرة لا تحصى، رغم ان هذه الفكرة ذات دلالات اسطورية يصعب على العقل البشري استساغتها.
وأهم من ذلك ان هذه الفكرة تقضي على أساسيات العلوم قاطبة، إذ تجعل تفسير ما يحصل من ظواهر فيزيائية وحياتية ونفسية وعقلية قائماً على الفوضى الكونية. وهي من هذه الناحية تمثل ‹‹فوضى الفجوات››، حيث لا تختلف من حيث الحل السحري عن فكرة ‹‹إله الفجوات››، ففي كلا الحالتين لا حاجة إلى العلم ولا الاكتشاف ولا البحث عن أسباب الظواهر الموضوعية ومحاولة تفسيرها، لأنها تصبح ببساطة مفسرة وفقاً للفوضى الكونية، كما في الحالة الأولى، أو وفقاً لإله الفجوات كما في الحالة الثانية.
إن لهذه الفكرة ما لا يقل عن تسع نسخ مختلفة، أبرزها تلك التي تعود إلى مذهب الأوتار الفائقة أو نظرية (M) التي قدّرت الأكوان المتعددة بما يناسب اهتزازات الأوتار منخفضة الطاقة بحوالي (10 500) كون، وذلك اعتماداً على الأشكال الهندسية الممكنة لما يعرف بفضاء كالابي ياو Calabi–Yau. مع هذا فمن المدهش ان هذا العدد الضخم جداً للأكوان لا يعد شيئاً أمام تفسير نشوء بروتين طويل في الخلية، ناهيك عن نشأة أبسط خلية في الحياة عشوائياً، حيث تحتوي على ما يقارب 42 مليون جزيء بروتيني، وتحمل آلات رقمية مملوءة بالمعلومات المشفرة وفق نظامها اللغوي الخاص، وهي من هذه الناحية مبرمجة مثل الحواسيب والكائنات الآلية Robots، لكنها أعظم من ذلك بما لا يقارن.
ورياضياً يمكن تقدير احتمال نشأة بروتين واحد من الأحماض الأمينية عشوائياً، كالهيموغلوبين مثلاً بحوالي 10-190، ولأن العدد ضخم فقد حسبه ايزاك اسيموف Isaac Asimov تعبيراً قوياً لما فيه تعجيز للعقل، وسماه بعدد الهيموغلوبين.
وبحسب فرانسيس كريك انه إذا كان طول سلسلة البروتين 200 حامض أميني، وهو أقصر من المتوسط، وحيث ان لدينا 20 نوعاً من الأحماض فإن عدد التوافيق الممكنة لتكون هذا البروتين عشوائياً هو 10-260.
أما تقدير احتمال ان ينشأ بروتين صغير جداً بطول 100 حامض أميني عشوائياً فهو 10-130، وبروتين بطول 150 حامض أميني هو 10-195، هذا مع اهمال اضافة احتمالات أخرى تتعلق بكيفية تشكل الأحماض الأمينية وارتباطها بشكل محدد دون آخر؛ مثل ان البروتين لا يتصنع إلا من الأحماض الأمينية اليسرى فينتج هياكل عسراً، ومثل ان الأحماض الأمينية في الطبيعة تقارب 500 نوعاً وليست عشرين. وعموماً انه عند ادخال هذه الاحتمالات بعين الاعتبار فإن القيمة الاحتمالية ستزداد ضآلة بشكل ضخم جداً.
وعادة ما تكون البروتينات ذات أطوال أكبر مما ذكرنا، إذ تمتلك مئات الأحماض الأمينية، بل ان بعض البروتينات تحتوي على آلاف منها، وان الخلية بدورها تمتلك مئات البروتينات المختلفة الأنواع، أو حتى آلاف منها. لذلك فإن تقديرات نشأتها الاحتمالية عشوائياً تخلّف أرقاماً ضخمة تفوق الخيال بما لا يمكن تصوره.
ومن هذه الناحية ان الاعتماد على الحسابات الرياضية يجعل فرضية الأكوان المتعددة اللانهائية لا شيء أمام نشأة خلية حية بسيطة عشوائياً رغم تقدير هذه الاكوان بأكثر من 10500 كون. فهذا العدد الضخم جداً لا يعد شيئاً أمام تقدير تكون عشوائي لخلية بسيطة. فالارقام الاحتمالية المذهلة التي وجدناها مع بروتينات صغيرة لا تقارن مع تكون مثل هذه الخلية.. بل ان بعض الخلايا تمتلك بروتينات تحمل آلافاً من الأحماض الأمينية، وهذا ما يجعلها تعطي رقماً هائلاً يفوق عدد الأكوان المتعددة بكثير.
وثمة عدد من العلماء قاموا بحساب احتمال تشكّل ابسط خلية عشوائياً، ومنهم فريد هويل وويكراماسينج، حيث أدى بهما البحث إلى تقدير هذا الاحتمال بما يقارب 10-40000.
وعلى هذه الشاكلة توصل عالم الخلية ادموند جاك امبروز الى ان هذا الاحتمال يساوي حوالي واحد من 102000000. وهو عدد يفوق الرقم الذي حدده هويل وويكرامسينج بما لا يمكن تصوره، لكنه مبرر من حيث الحساب الرياضي بغض النظر عن الاعتبارات الأخرى.
وما يظهر لدينا هو ان الخلية العادية ليست أعظم من الكون فحسب، بل وأعظم من جميع الأكوان المتعددة حتى مع فرض انها تمتلك نُظماً فيزيائية دقيقة باستثناء الحياة. فوفقاً لمعيار المعلومات ان النظام فيها يفوق جميع نُظم هذه الأكوان. ولو أردنا ان نقدر عدد الحوادث الممكنة فيها، ومن ثم المعلومات، فلدينا معيار ما يحمله كوننا من امكانية الحوادث لنقيسه على البقية، فتحديدها يعتمد على عدد جسيمات الكون من الفرميونات والبوزنات، ويقدر هذا العدد بحوالي (1089)، ويضاف إليه عمر الكون المقدر بأكثر من 1017 ثانية، أي ما يعادل 14 مليار سنة تقريباً، حسب التقديرات الحالية، كما يضاف إلى ذلك زمن بلانك الذي يعبّر عن مجموع حوادث التفاعل في الثانية الواحدة، وهو (1043). وعند ضرب هذه المقادير الثلاثة نحصل على مجموع الحوادث الممكنة للكون، ويبلغ من حيث التقريب 10149حادثة، لذا فمن خلال الضرب مع مجموع الأكوان المتعددة سيصبح عدد حوادثها الممكنة حوالي 10649. وهو عدد ضخم جداً لكنه ليس بشيء أمام تقدير هويل وويكراماسينج، ناهيك عن تقدير امبروز لتكون خلية بكتيرية.
لذلك لو اعتمدنا على التقديرات الرياضية السابقة كما أظهرها عدد من العلماء الذين أشرنا اليهم لكانت الخلية أعظم من جميع الأكوان اللانهائية بما لا يقارن.