-
ع
+

تصورات خاطئة (51) هل بين الفلسفة والعرفان قطيعة؟

يحيى محمد

يتصور الكثير خطأً أن بين الفلسفة التقليدية والعرفان تضاداً لا ينمحي.. فالبعض يرى ان الأخير يميل الى الخرافة والاسطورة واللاعقل، فيما تميل الأولى إلى النظام والاتساق والعقل المنطقي. ويقابل ذلك بعض آخر فيرى ان العقل الذي تتقوم به الفلسفة مقيد بالظواهر دون ان يدرك الحقائق كما هي، ولا يوجد سبيل لادراكها سوى الكشف الصوفي. وقد التزم عدد من المفكرين العرب بوجود هذا التضاد، فمال بعضهم الى نصرة الاطروحة الفلسفية كما هو الحال مع محمد عابد الجابري، فيما مال البعض الآخر الى العكس في دعمه للاطروحة العرفانية كالذي سار عليه طه عبد الرحمن. وبلا شك ان مثل هذه المواقف التي تجعل بين الفلسفة والعرفان قطيعة لا تنمحي انما عكست ما جاء في تراثنا من النزاع الظاهر بينهما كما يتجلى في موقفي الغزالي وابن رشد.

والحال ان النزاع بين الاطروحتين ولّد ثلاثة اتجاهات أحدها تصالحي لوجود تشابه بين المنظومتين باعتبارهما مدينان الى مولد معرفي مشترك، كما يتمثل بالسنخية، ونقصد بها علاقة الشبه بين الأصل الوجودي وفرعه، كالعلاقة الدائرة بين العلة والمعلول وفق المنظومة الفلسفية.

فالتنافس بين الاطروحتين أسفر عن ايجاد اتجاه لصالح العرفان بسيادة منطق الكشف من حيث أنه طور يعجز العقل عن إدراكه وتخطيه. كما أسفر عن اتجاه ثان لصالح الفلسفة بجعل العقل أداة تهذيب وتصحيح للرؤية الكشفية، بإضفاء المعقولية الفلسفية عليها. كذلك ثمة اتجاه ثالث حاول التوفيق بين الرؤيتين الآنفتي الذكر كأمرين متكاملين؛ أحدهما يتمم ما في الآخر.

ومن حيث التفصيل ان هذه الاتجاهات كانت كما يلي:

1- الكشف كطور يتجاوز العقل

لقد ذهب أنصار الكشف العرفاني الى أن العقل عاجز عن إدراك طور آخر يفوقه. وبنظر البعض ان العقل لا يعجز عن إدراك ما يدركه الكشف فحسب، بل ويرتد عما يشهده هذا الطور ويكفر به.

فهذا هو جوهر الصراع بين أهل العرفان وأصحاب النظر العقلي، وهو صراع مؤسس من الناحية المعرفية الإبستيمية على ما يحمله دينامو التفكير من شكل للسنخية، إن كانت سنخية عقلية (فلسفية) أو كشفية (عرفانية). فبهذه السنخية تتأسس الرؤية الوجودية بين أن تعبّر عن نوع من المثنوية التي تحفظ لكل من العلة والمعلول مرتبته ومكانته الخاصة كأمر محتم وضروري، أو تعبّر عن نوع من الوحدة تبرر القول بوحدة الوجود الشخصية وظاهرتي الإتحاد والحلول أو الصعود والنزول. فالعرفاء يعتقدون بأن إدراك مثل هذه الوحدة هو مما يفوق طور العقل أو يتعالى عنه. فعند هذا الطور من الكشف يرتد العقل وينهدم. إذ العلاقة بينهما شبيهة بالعلاقة السلبية التي يقيمها (عمانوئيل كانت) بين العقل النظري الذي مهمته إدراك الظاهر، والعقل العملي الموظف لإدراك الباطن. فهو لكي يفسح الطريق لمهمة العقل العملي، كان عليه هدم المعرفة التي يؤسسها العقل النظري. وكذا الحال في العلاقة بين الكشف والعقل، فلكي يتأسس طور الكشف كباطن يعكس الوحدة الشخصية للوجود كان لا بد من هدم العقل كظاهر معبر عن المثنوية الوجودية.

فعند الكشف تتبين حقيقة الربوبية وتظهر أنها كل الوجود أو الوجود كله، فليس في الدار من ديّار غيره، وبذلك يرتد العقل بالقضاء على إعتبارات مثنوية العلة والمعلول، فما في العين إلا وجود واحد قابل للتلون بمختلف الأشكال والصور، وهو ما يبرر القول بالإتحاد والحلول أو الصعود والنزول ضمن الوجود الواحد الحق، ففيه «نسلك ونسافر، إذ لا معلوم إلا هو، وهو عين السالك السافر، فلا عالم إلا هو».

فمع وجود المراتب المحددة التي يقدرها العرفاء للوجود الواحد، وهي محفوظة على كل حال، إلا أنها قابلة للتجاوز والسفر بسلاسل الصعود والنزول ضمن الوجود الواحد اللامتعين.

وبذلك تعمل هذه الرؤية الكشفية على هدم النظر العقلي لإعتباراته المثنوية الخاصة بعلاقة العلة بالمعلول. فالخاصية الجوهرية لدينامو التفكير العرفاني هي العمل على تفريغ شحنة السنخية بكاملها في الوجود، كي لا يكون في العين إلا وحدة عضوية شخصية، بتحويل علاقات الشبه إلى علاقات إتحاد ينتفي عندها التعدد والمثنوية التي يحتفظ بها العقل الفلسفي.

2- العقل كأداة ضبط للكشف

لقد ذهب عدد من الاشراقيين الى ضرورة جعل العقل مقدمة ضرورية لصحة الكشف العرفاني. فمثلاً كان الغزالي يتشبث بالعقل كمقدمة علمية للكشف خشية من ان يفضي الأخير الى الوقوع في أسر السنخية الوحدوية او اللاسببية، وفي قوله «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر..» تلويح إلى أن طريق العرفان لا يكون إلا بعد المرور بقنطرة العقل، وذلك للحفاظ على المثنوية الوجودية ودفعاً لشبهة القول بوحدة الوجود الشخصية.

ففي الوقت الذي أنكر فيه أصحاب الكشف مقدرة العقل على تخطي إدراك طور ما هو فوقه، يرى العقليون أن مهامهم الأساسية هي تعقيل الكشف بإضفاء نظام السببية على الرؤية الوجودية للمشاهدة الصوفية، وهو ما جعل موقفهم من شطحات الحلول والاتحاد سلبياً. فهم تارة يحسبونها أوهاماً يتخيلها العارف لإنبهاره بنور الحقيقة التي يراها، وأخرى يأوّلون مضمونها من العبارات الشنيعة «المستغربة» فيحولونها من نظام اللاسببية إلى نظام السببية الذي يدين له العقل بالإعتراف والتصديق، كما يتضح من المحاولات العديدة التي قام بها الغزالي عند مواجهته هذه المشكلة لدى العرفاء. فهو يعي أن قطع صلة الكشف عن العقل والتعليم يعني السقوط في دائرة نظام اللاسببية الناتج عن دعاوى شطحات الحلول والإتحاد ووحدة الوجود الشخصية. لذلك حرص على التمسك بالعقل، فهو الوسيلة الوحيدة التي تصحح حالات الكشف وشطحاته، الأمر الذي أعابه عليه ابن عربي واعتبره «زلة قدم»، لأنه يعي هو الآخر أن ما كان يرومه - الغزالي - هو إدخال الوجود تحت سلطة نظام السببية الدال على المثنوية لا الوحدة.

 3- الجمع بين الكشف والعقل

إن الرؤية التي أنتجها كل من العقل الفلسفي والكشف العرفاني تكاد تكون متماثلة لكونهما يتأسسان على مولد معرفي متقارب هو السنخية بمعناها العام. فالنزاع الحاصل بين المثنوية والوحدة، أو نظام السببية واللاسببية، هو نزاع قابل للتلاشي والاختراق، إلى الحد الذي يمكن للفيلسوف أو العارف أن ينقلب فيه من رؤية إلى منافستها. فهناك شعرة دقيقة بين الرؤيتين قابلة للقطع لأدنى سبب ومناسبة، وهو ما يفضي بالفلسفة والعرفان إلى التعاون والتكامل بدل التنافس والصراع، بحيث أن الرؤية لدى أحدهما تجر إلى الأخرى أو تتممها، بلا تنازع ولا إختلاف. ورغم ما يبدو لدى البعض وجود اختلاف جذري بين المشربين، فإن التدقيق في الأمر يجعل المرء يذعن إلى الوحدة والإتفاق بينهما طبقاً للمولّد المعرفي المشترك.

وفي الغالب ان مآل عملية الجمع والتكامل بين الفلسفة والعرفان كانت لصالح الأخير منهما. إذ كان مصير الفلسفة لا يعدو أكثر من مقدمة ممهدة له على صعيد الرؤية. فحتى الفلاسفة الذين أبدوا امتعاضاً من العرفان لم تتخلص رؤاهم من هذا المصير، ففي النهاية جعلوا فلسفاتهم لخدمة الرؤية العرفانية. فابن باجة مثلاً يقسم المراحل المعرفية للناس فينهيها نهاية عرفانية تخص الفلاسفة، فيجعل منهم يدركون الشيء فيصيرون هم نفس هذا الشيء المدرك، أو أنهم يرون الشيء بنفسه، وذلك بعد تدرجهم من مرحلة الجمهور فمرحلة النظّار الطبيعيين حتى يصلوا أخيراً إلى مرحلة الفلاسفة، فعند ذاك يكون الفيلسوف تام العقل، إذ ينظر إلى كل شيء بعين العقل فيرى العقل في كل شيء ويصير هو إياه، وهي السعادة القصوى.

لذلك لم يعترض ابن باجة على العرفان إعتراضاً جذرياً من حيث الرؤية، بقدر ما كان يشترط تقدم النظر العقلي عليه كشرط أساس وطبيعي، وان عملية الإتحاد التي تحدّث عنها هي ذاتها التي يحيلها العقل الفلسفي بإعتبارها تعني خرقاً لقانون السببية في حفظ مراتب العلة والمعلول.

وحال ابن رشد لا يختلف عن حال سابقه ابن باجة، فهو أيضاً يؤيد طريقة هذا الأخير ويعتبرها برهانية. فمؤاخذاته على العرفان هو لكونه لم يتخذ السلوك الطبيعي للتدرج العلمي، وبالتالي يرى - هو الآخر - أن العقل والتعليم شرط طبيعي للوصول إلى حالة الإتحاد كغاية قصوى، وهو يذكر في (تلخيص كتاب النفس) بأن «هذه الحال من الإتحاد هي التي ترومها الصوفية، وبيّن أنهم لم يصلوها قط، إذ كان من الضروري في وصولها معرفة العلوم النظرية... ولذلك كانت هذه الحال كأنها كمال إلهي للإنسان».

وهذا يعني أن الفلسفة وإن كانت تستند إلى طريقة العقل والتفكير النظري من التعليم الكسبي، لكنها تفضي إلى نهاية عرفانية لا تنتظم ضمن منطق العقل وشروطه في حفظ مراتب العلة والمعلول.

وفعلاً أن لإبن رشد رؤية عرفانية إتحادية تتجلى في نظريته الخاصة حول خلود النفس، والتي يضن بها على الجمهور والعامة. فهو يرى أن زيداً من الناس هو غير عمرو بالعدد، لكنه هو وعمرو واحد من حيث الصورة أو النفس، وهذا يعني أن نفس زيد وعمرو هي واحدة بالصورة، وإنما لحقت الكثرة العددية لهما أو القسمة بينهما من قبل المادة. لذا إذا فارقت النفوس الأبدان فإنها ستعود واحدة بالعدد حيث لا مادة هناك. كذلك أشار في نظريته عن الوجود الواحد المتعدد الرتب إلى نفس مقالة الصوفية (لا هو إلا هو) كما في (تهافت التهافت). فإبن رشد يعتبر للشيء الواحد أطواراً ومراتب من الوجود بعضها أشرف من البعض الآخر، كما هو معلوم من أمر النفس من حيث تكاثر أطوارها مع أنها شيء واحد. فهو يدرك ان هذه الطريقة لا تفضي فقط إلى أن يكون المبدأ الأول يمثل الموجودات كلها، بل وأنها تعني نفس ما قاله «رؤساء الصوفية (لا هو إلا هو)» كما أشار بنفسه إلى ذلك، معتبراً أن هذا الإعتقاد «هو من علم الراسخين في العلم» الذي ينبغي أن يضن به على كل من هو ليس من أهله.

أما عند فلاسفة المشرق فصورة التكامل بين الفلسفة والعرفان تبدو واضحة تماماً، وذلك منذ معلم الفلاسفة الفارابي وحتى خاتمهم صدر المتألهين. فالرؤية الفارابية وإن كانت فلسفية قائمة على إعتبارات العقل والتفكير النظري، إلا أنها ترتد أحياناً إلى المدخل العرفاني عبر مقالة الإتحاد الصوفية، كما يظهر مما جاء في كتابه (السياسة المدنية).

وتتجلى الصورة أكثر لدى ابن سينا، فهو يعترف بإتفاق العرفاء مع الفلاسفة في ما يحصل للنفس من صعود ومصير، حيث تلتحق بالعالم الإلهي وتصبح ملكاً من ملائكته في سعادة لا نهاية لها، وهي نفس الرؤية التي يراها «جماعة من أرباب الرياضة وأصحاب المكاشفة، فإنهم شاهدوا جواهر أنفسهم عند انسلاخهم عن أبدانهم واتصالهم بالأنوار الإلهية». ويُروى أن ابن سينا التقى أبا سعيد الخير فتحدثا معاً ثم أنهما بعد أن افترقا وصف أحدهما الآخر، فقال أبو سعيد في حق إبن سينا: «إنه يعلم ما أُشاهد». في حين قال ابن سينا في حق أبي سعيد: «إنه يشاهد ما أعلم».. هكذا فهناك عقل يعلم وقلب يشاهد والأمر واحد. ورسالة (حي بن يقظان) تشدد على هذا الإتفاق التام بين الفريقين: الفلاسفة والعرفاء.

كذلك فعل الغزالي وكاد يمسّ المنظور الصوفي من موقع فلسفي، إذ لا يجعل في الوجود موجوداً سوى الله من حيث الحقيقة، أما غيره فلا هوية له من حيث الحقيقة، أو أن حقيقته هي عدم محض، وإنْ أُعتبر موجوداً من حيث نسبته إلى الموجود الحق. وهو ما مهّد لبعض الإشراقيين من إعتبار هذه النسبة المطلق عليها «العلّية» بأنها نسبة إعتبارية، أو أن لها وجوداً من حيث الظاهر، وإن كانت الحقيقة باطناً تعبّر عن عدم وجود شيء في العين سواه. وهي الرؤية التي وظفها صدر المتألهين لتحقيق التكامل في العلاقة بين الفلسفة والعرفان. إذ رأى أن إدراك وحدة الوجود الصوفية ليس كما يُدعى بأنه وراء طور العقل، بل اعتقد بأن فهم هذا المعنى يحصل حتى في حدود هذا الطور الذي يتولى إثباته والبرهان عليه.

والرؤية التوفيقية التي يتحدث عنها صدر المتألهين قد أفادت من تحقيق المحققين الإشراقيين الذين استهدفوا توظيف الفلسفة لخدمة العرفان، وذلك بتحويل المثنوية التي تقتضيها علاقة العلية إلى وحدة وجود عبر جعل النسبة بين العلة والمعلول إعتبارية محضة، كما يوضح ذلك المحقق الخفري.

وقد انطلق صدر المتألهين في قلبه للعلاقة المثنوية للعلية إلى الوحدة الصوفية اعتماداً على مبدأ الشبه والسنخية. فمن منطلق أن هناك سنخية بين الوجود الحق وما دونه من المراتب، اعتبر هذا الوجود يفيض على ذاته، فهو «لغاية تمامية وفرط كماله فاض على ذاته من ذاته، وفاض ذاته لكونه فوق التمام من ذاته». وهذا الظهور الثانوي لذات الحق على نفسه هو ذاته المعبّر عنه بـ «نزول الوجود الواجبي بعبارة، والافاضة بعبارة أخرى، والنفس الرحمانية في إصطلاح قوم، والعلّية والتأثير في لسان قوم آخر، والمحبة الأفعالية عند أهل الذوق، والتجلي على الغير عند بعض» والذي نشأت منه الكثرة والتعدد.

فلولا الشبه والسنخية لتعذر تبرير الإعتقاد بتنزل وجود الحق في سائر المراتب الأخرى، وبالتالي القول بالوحدة المطلقة له، وإن كانت هذه الوحدة تتوسط بين طريقة العرفاء والفلاسفة، فهي تتضمن صدور الكثرة وإنبساطها عن الواحد الحق دفعة واحدة كما هي نظرية العرفاء. وتعد هذه الكثرة مطوية في وحدة حقيقية جامعة لكل الإختلافات، رغم تسلسلها الصدوري طبقاً لنظرية (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد)، مما يعني أنها رهينة النظر الفلسفي في العلية.

ومن الواضح أن هذا الإنتقال من السنخية والشبه بين العلة والمعلول إلى الوحدة، رغم الإمضاء في حفظ المراتب المتعينة، هو نفسه يبرر القول بالإتحاد الصوفي بطريقة عقلية، كتوفيق بين الفلسفة والعرفان، أو العقل والكشف. ذلك أن من المستحيل أن تتحقق حالة الإتحاد كما يصورها العرفاء ما لم يؤخذ بإعتبار الشبه والوحدة الوجودية. فإذا كان صدر المتألهين إستطاع أن يبرر الوحدة عبر منطق الشبه والسنخية، فقد مكّنه ذلك - ولا شك - بأن يؤسس مقالته لتفسير حالة الإتحاد من خلال الوحدة المشبعة بمرايا الظل والشبه، وبالتالي يكون قد مهّد للمرمى الصوفي عبر الطريق الفلسفي.

فالإتجاه العام للفلاسفة منذ الفارابي يتنكر لمقالة الإتحاد الصوفي حفاظاً على العلاقة السببية في العلة والمعلول. فهو يكتفي ببلوغ مرحلة الإتصال دون الإتحاد، لذا يقرر بأن أقصى صور تحقيق كمال الإنسان وبهجته وسعادته هي بلوغ الإتصال بالعقل الفعال. وقد استمرت هذه النزعة عند الفلاسفة حتى لدى فيلسوف الإشراق السهروردي الذي أحال الإتحاد معترفاً بحدود الإتصال كما في (المشارع والمطارحات). كما ولقي هذا الإتجاه شيئاً من المجاراة لدى صدر المتألهين في كتابه (المبدأ والمعاد).

إن فلسفة صدر المتألهين لعملية الإتحاد تقوم أساساً على ما أقره الفلاسفة بأن هناك حركة طبيعية للأشياء نحو معشوقاتها، غايتها التشبّه بهذه المعشوقات. لكن الجديد في فلسفته هو إتخاذ هذا «التشبّه» قنطرة للقول بالإتحاد. فقد اعتبر التكامل - من خلال الحركة - لا يحصل بمجرد تشبّه السافل العاشق بمعشوقه العالي، لأن التشبّه أمر ذهني لا وجود له في الخارج، ومن ثم فإنه ليس مقصوداً حقيقياً، وإنما يحصل بإتحاد العاشق بالمعشوق وصيرورته إياه.

فبنظر فيلسوفنا أن هذا الشكل من الإتحاد لم يُدرك غوره ويُنل طوره أكثر الفلاسفة المسلمين، بل وينفي أن يكون أحد من علماء المسلمين قبله إستطاع تنقيحه. فعموم الفلاسفة قدحوا فيه وردوا على فرفريوس الذي نُسب إليه القول به، كما هو الحال مع ابن سينا الذي عرّضه فيلسوفنا للنقد لإنكاره هذا الإتحاد في بعض كتبه الفلسفية، وإن أقرّ به في بعض رسائله العرفانية. لكن ظلت عملية تنقيحه وتحقيقه فلسفياً منوطة لأول مرة في تاريخ الفكر الوجودي بيد صدر المتألهين.

فهذا هو الإتحاد الصوفي الذي يجوز تبريره فلسفياً إذا ما كانت الحقيقة هي حقيقة واحدة لها أطوارها وفنونها.

وبذلك ننتهي إلى أن القول بوجود تضاد وقطيعة بين الفلسفة والعرفان هو قول لا يعكس حقيقة حالهما كما قدّمنا.

comments powered by Disqus