-
ع
+

تصورات خاطئة (49) السلف وقدسية الحديث النبوي المنقول

يحيى محمد

يتصور الكثير خطأً أن للحديث النبوي المنقول قدسية لم يختلف حولها السلف..

والحال ان المسلك العام للصحابة والتابعين قد كرهوا الإنشغال بالحديث والإشتغال فيه، فامتنعوا عن تدوينه ومحو المدوّن منه، وكذا الاقلال من الرواية والتحفظ في سماعها ونقلها، وذلك لسببين، أحدهما الخوف من الكذب على النبي، والآخر المنع من ان يكون هناك شاغل آخر غير القرآن. ثم ظهر بعد ذلك عصر جديد اهتم بتدوين الحديث والاكثار منه، مع التقيد بتصحيحه وفق الطرق المعروفة. وعلى أثر ذلك شهد القرن الثالث للهجرة كثرة الحديث والاسانيد المتصلة من غير سابقة، وبعد ذلك شاع تقديس الحديث المنقول إلى يومنا هذا.

فبدلاً من ضياع الكثير من الحديث بسبب موت الحفّاظ وذهاب الذاكرة؛ فإن الحال شهد العكس من ذلك. حيث أخذ العديد من الحفاظ يشيرون الى ما عندهم من مئات الآلاف من الحديث الصحيح. فمثلاً نُقل ان البخاري قد أخرج صحيحه من  ستمائة ألف حديث، وكان يقول بأنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ومائتي ألف حديث غير صحيح. ونُقل عنه ايضاً أنه قال: ما نمت البارحة حتى عددت كم أدخلت في تصانيفي من الحديث فإذا نحو مائتي ألف حديث. وقال أيضاً لو قيل لي تمنّ لما قمت حتى أروي عشرة آلاف حديث في الصلاة خاصة. كما قيل أنه عمل كتاباً في الهبة فيه ما يقارب (500) حديث، مع أنه ليس في كتاب وكيع في الهبة إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب عبد الله بن المبارك خمسة أو نحوها.

وبلا شك ان هذه الأعداد الضخمة من وفرة الحديث وحفظه تبعث المرء على التفكير والتأمل، إذ كيف غابت هذه الأحاديث عن القرن الثاني؟ فالامام مالك رغم تحريه فإنه لم يكن يملك من الحديث أعشار أعشار ما ذكر من أكداس الحديث، وحتى ان الحديث الذي استطاع تحصيله انما حفل بكثرة المراسيل والمنقطعات، وكان مع ذلك متشككاً غاية التشكك فيما جمعه من الحديث، وكان ينقص منه شيئاً فشيئاً طوال حياته، رغم قرب عهده بالصحابة مقارنة بعلماء القرن الثالث للهجرة. فكيف انقلب الموقف وتحول الحال إلى التفاخر بكثرة ما يوجد من الحديث وحفظه؟ فمن أين جاءت هذه الاكداس من الأحاديث الموصولة المتصلة والصحيحة السند؟

وقد كان العصر الأول يذم الانشغال بالحديث والاشتغال فيه، وأظهر بعضهم الندامة، إلى حدٍّ اعتبروا التعامل بالحديث من الشر. والغريب ان تعليلهم للشر في الحديث هو تزايده، باعتبار ان الخير ينقص والشر يزداد. وهذا يعني انهم لو ادركوا المسلك الذي سلكه خلَفهم من أصحاب المساند والصحاح؛ لوصموه بأبلغ حالات الشر والكراهة.

ويُنقل بهذا الصدد نصوص مستفيضة عنهم تعلن صراحة كراهة الإنشغال بالحديث والإشتغال فيه، واعتبار ذلك من الشر المتزايد، وبعض هذه النصوص يعلل هذه الكراهة بكثرة الكذب في الحديث، وآخر يعللها بأنها تأتي على حساب الإنشغال بالقرآن وذكر الله. لذلك ظهر لدى الكثير منهم الندم والرغبة في سد باب هذا ‹‹الشر المستطير››.

ومن ذلك ما قاله سفيان الثوري: لو كان في هذا الحديث خير لنقص كما ينقص الخير، ولكنه شر فأراه يزيد كما يزيد الشر. كما قال: أنا فيه يعني الحديث منذ ستين سنة وددت لو خرجت منه كفافاً لا عليّ ولا لي. وقال: ما من عملي شيء أنا أخوف منه من هذا، يعني الحديث. وقال: وددت أن يدي قطعت ولم أطلب حديثاً.

وقال سفيان بن عيينة وهو يخاطب أصحاب الحديث: ما أدري الذي تطلبونه من الخير ولو كان من الخير لنقص كما ينقص الخير. وقال مسعر: من أبغضه الله جعله محدثاً، وددت أن هذا العلم كان محل قوارير حملته على رأسي فوقع فتكسر فاسترحت من طلابه. وقال شعبة: إن هذا الحديث يصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون. وقال الضحاك بن مزاحم: يأتي على الناس زمان يُعلّق فيه المصحف حتى يعشعش عليه العنكوت لا ينتفع بما فيه ويكون أعمال الناس بالروايات والأحاديث. وجاء ان إياس بن معاوية قال لسفيان بن حسين: أراك تطلب الأحاديث والتفسير؛ فإياك والشناعة فإن صاحبها لن يسلم من العيب. وقال عمار بن رزيق لابنه حين رآه يطلب الحديث: يا بني اعمل بقليله تزهد في كثيره.

وجاء في ذم الرواة وأصحاب الحديث أقوال كثيرة، ومن ذلك ما خاطبهم به سفيان الثوري بقوله: تقدموا يا معشر الضعفاء. ومثل ذلك قال سفيان بن عيينة وهو ينظر اليهم: أنتم سخنة عين لو أدركنا وأياكم عمر بن الخطاب لأوجعنا ضرباً. وخاطبهم الأعمش فقال: لقد رددتموه حتى صار في حلقي أمرّ من العلقم، ما عطفتم على أحد إلا حملتموه على الكذب. وقال مغيرة الضبي: والله لأنا أشد خوفاً منهم من الفساق، وهو يعني أصحاب الحديث. وقال شعبة: كنت إذا رأيت رجلاً من أهل الحديث يجيء أفرح به فصرت اليوم ليس شيء أبغض إلي من أن أرى واحداً منهم.

فذلك ما رآه التابعون وتابعوهم، وهو أن الحديث من الشر المتزايد، وأوصوا بالابتعاد عنه وعدم الإنشغال به والإشتغال فيه، الأمر الذي لم يلتزم به أصحاب الصحاح، إذ رأوا الخير في الإشتغال به والعمل على تكثيره.

كما يلاحظ ان الحديث ما إن دخل التدوين والتبويب في ارض الحجاز حتى بدت فيه علامات الشك والتردد من قبل مدونيه. فرغم ان منبته أصح منبت باعتراف العلماء، ورغم قرب العهد بالصحابة مقارنة بما بعده من العهود؛ فمع ذلك كانت الشكوك تراود أولئك الذين نذروا أنفسهم لنقله وتدوينه، معترفين بالجهل وقلة البضاعة، حتى جعلوا من لفظة (لا ادري) اصلاً يفزعون اليه. وكان ذلك على خلاف ما شعر به حفاظ القرن الثالث الهجري وما بعده، حيث ابدوا الثقة التامة في الحديث، كما فخروا بالعلم به والإكثار منه، رغم تباعد الزمان والمكان عن مصدر الحديث ومنبته. فالمقارنة بين ما سلكه مالك بن أنس وما سلكه أصحاب الصحاح في الموقف من الحديث يكشف عن هذه الحقيقة. فبينهما تفاوت بالقرب والبعد عن مصدر الحديث ومنبته، كما بينهما تفاوت في قلة الحديث وكثرته، وكذا التردد به والثقة فيه. فرغم ان مالكاً عاش في منبت الحديث وانه كان أقرب نسبياً عن مصدره فإن ذلك لم يمنعه عن التردد فيه والاقلال منه باستمرار. وقد فخر بعض المالكية بما كان يسقطه مالك من موطئه كل سنة، وانه لم يحدّث بكثير مما كان عنده، على عكس ما فعله أصحاب الصحاح رغم بعدهم عن المنبت والمصدر، إذ لم يمنعهم ذلك من الثقة في الحديث والإكثار منه دون ان يصيبهم التردد والشك جراء هذه الكثرة والبعد عن المصدر، وكذا التعويل على الاماكن البعيدة عن المنبت؛ كالبصرة والشام ومصر وغيرها. يضاف إلى ان مالكاً كان يعترف - في كثير من الأحيان - بعدم اغتراره بالحديث واعتبار الكثير منه ضلالة، ومن ثم ندامته على ما رواه منه، ومن ذلك قوله: كثير من هذه الأحاديث ضلالة، لقد خرجت مني أحاديث لوددت أني ضربت بكل حديث منها سوطين وأني لم أحدث به. وهو على خلاف ما صرّح به أصحاب الصحاح من الاعتزاز بعلمهم وتباهيهم بكثرة حفظهم، واعتدادهم بأنفسهم أحياناً، كالذي يبديه البخاري في عدد من المناسبات، ومن ذلك أنه قال يوماً: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني. فعلّق هذا الأخير على قوله عندما بلغه ذلك فقال: دعوا قوله فإنه ما رأى مثل نفسه.

ومن العجب ان يعترف الحفّاظ بما كانت عليه سيرة الصحابة من التحفظ في الحديث والنهي عن الإكثار منه؛ خشية الخطأ والكذب على النبي، أو لغرض عدم الإنشغال بسوى القرآن. فهذا الاعتراف لم يمنع أصحاب الصحاح والموسوعات الحديثية من العمل بعكس ما كان عليه كبار الصحابة، رغم الفاصلة الزمنية الطويلة التي تفصلهم عن زمن النبي. وقد نقل عن عثمان بن عفان أنه كان يمنع الرواية التي لم تُسمع في عهدي الخليفتين قبله لبعد زمانه عن زمن الحديث، فماذا يقال عن البعد الذي يفصل بين عصر الصحاح والزمن المذكور؟!

comments powered by Disqus