-
ع
+

التكليف العقلي بين النفي والإثبات

يحيى محمد 

يرى أصحاب منطق الحق الذاتي أن هناك واجبات عقلية يشهد العقل بضرورتها، وهي التي تدخل ضمن إطار الحسن والقبح. ويعبّر عنها بالتكاليف العقلية، رغم الفارق بين الأمرين، حيث التكليف العقلي يفترض ضمناً وجود مكلِّف ومكلَّف، في حين أن الواجب العقلي لا يشترط فعلاً أن يكون هناك تكليف ومكلِّف ومكلَّف.

مهما يكن، فقد قدّم البعض تبريراً للتكليف العقلي معتبراً إياه من الواجبات المناطة بالفعل الإلهي، وفحواه أن الله تعالى خلق للإنسان شهوات لو خلي بينه وبينها لأغراه ذلك بفعل القبيح، وهو من العبث إن لم يكلفه بتجنب ذلك الفعل، وبه يتحقق الغرض من علة وجود تلك الشهوات[1].

ويعتمد هذا الإستدلال على المقدمات التالية:

1ـ إن طبع الناس يميل إلى فعل القبيح بسبب وجود الشهوات.

2ـ لو ترك الناس من غير تكليف لفعلوا القبيح.

3ـ إن ترك الناس على هذا الحال يعني اغراء لهم على فعل القبيح.

4ـ إن هذا الاغراء على فعل القبيح هو عبث وقبيح.

5ـ ومن ثم فإن العبث والقبيح لا يجوزان على المولى تعالى.

6ـ وحيث أنه إذا كان هناك غرض في فعله تعالى؛ فلا يحصل هذا الغرض إلا بالتكليف، وهو المطلوب إثباته.

لكن يرد على هذا الإستدلال أمران:

أولاً: ليس كل قبيح يغري، فهناك الكثير من الأمور القبيحة التي لا تغري الإنسان عادة، مثل قتل الآباء وخيانة الأحباء وما إلى ذلك من القبائح، مع أنها ليست خارجة عن حد التكليف، وبذلك فهي لا تخضع لما طُرح في الإستدلال المذكور. كما أن درجات القبح متفاوتة، فهناك من القبائح ما لا يعتد به، كما هناك من القبائح ما يمكن اضعافه عبر بعض السلطات الرادعة، مثل سلطة الدولة التي تساعد على حفظ توازن المجتمع وإستقراره. مما يعني تضييق دائرة فعل القبيح.

ثانياً: من الناحية العقلية الصرفة قد تكون العبرة من وجود ما نعتبره من القبائح هي أنها قبائح من بعض الجهات، وأن ما فيها من مصالح يكفي لجعلها مصححة للفعل الإلهي بوجود الغرض وانتفاء العبث دون أن يكون لذلك علاقة بالتكليف؛ نظير ما يشاهد في سلوك الحيوان.

لذا فالأولى أن يقال بأن قضايا الواجبات العقلية هي من الواضحات، بمعنى أنها تدخل ضمن عنوان الحسن والقبح العقليين، وأن الإنسان يستحق عليها الجزاء. هذا من حيث الإجمال وبغض النظر عما إذا كان هناك تكليف أم لا؟ أما من حيث التفصيل، فعندما نثبت بأن لهذا العالم صانعاً يتصف بالعقل والقدرة والحكمة والإرادة؛ فذلك سيقرب من فكرة الجزاء، وإذا علمنا بأن الله بعث الأنبياء والرسل ليبلغوا لنا الدين؛ فعندئذ يمكن الكشف والمطابقة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الدين، فلو رأينا أن بين المجموعتين تطابقاً واضحاً - من حيث أن كل ما يحكم به العقل يحكم به الدين - فذلك سيدل على استبعاد حصول الصدفة والاتفاق بينهما إعتماداً على مبدأ الإستقراء وحسابات الإحتمال، بل لا بد أن يكون حكم العقل بالنحو المجمل هو حكم صحيح لا ريب فيه، وهو المطلوب.

وبعبارة أخرى، يمكن صياغة السؤال والجواب بالشكل التالي:

هل بإستطاعتنا إثبات التكليف العقلي، على فرض علمنا بوجود المكلِّف، وترددنا بين أن يكون التكليف دينياً فحسب، أو أن يضاف إليه التكليف الأول، وكذا على فرض أننا نشك بعقلية الأحكام التي يدركها العقل مباشرة، بمعنى أنه لا سبيل للإعتماد على الزعم القائل بالضرورة العقلية للقضايا الواضحة؛ مثل حرمة الخيانة والإعتداء وما إلى ذلك؟

وللجواب نلجأ إلى قاعدة الإستقراء وحسابات الإحتمال ونطبقها على موقف الخطاب الديني من القضايا المفترضة ضمن التكاليف العقلية، فالتطابق بين الموقفين الديني والعقلي يدعم فكرة إعتبار القضايا العقلية صحيحة، وبغير هذا الإعتبار فستُفسّر المسألة طبقاً لمبدأ المصادفة والاتفاق.

ويُشترط في هذا الدليل التسليم بكون الخطاب الديني هو خطاب حقاني يعكس الحقيقة الموضوعية كما هي، وإلا فقد يكون مرجع الإتفاق والتطابق بين الموقفين يعود إلى شيء آخر أجنبي؛ كالعرف الإجتماعي وما إليه.

فبحسب الطريقة الاستقرائية أنه كلما كثر عدد إقرار الخطاب الديني لما يدركه العقل من أحكام، كلما زادت قيمة إحتمال صحة الحكم العقلي لمجمل تلك الأحكام. فمثلاً لو كانت لدينا خمس قضايا مختلفة يفتي العقل فيها مجرداً؛ كحكمه بحرمة قتل النفس المحترمة وحرمة السرقة ووجوب رد الوديعة... الخ، ثم نظرنا إلى الخطاب الديني فوجدناه يطابق الإدراك العقلي لجميع هذه القضايا، ففي هذه الحالة تزداد قيمة إحتمال صدق الحكم العقلي بدرجة عالية، لأننا نعلم قبل الكشف الديني - وبغض النظر عن جميع المبررات - بأن قيمة إحتمال صدق الحكم العقلي تساوي نصفاً، لكن لما كشفنا عن تطابق تقرير الخطاب الديني لتلك القضايا؛ فسيعمل ذلك على زيادة إطمئناننا بسلامة الإدراك العقلي للأحكام، لإرتفاع درجة إحتمال صدق هذا الإدراك.

ويمكن حساب قيمة ما يحظاه الإدراك العقلي للحكم رياضياً تحت بعض الشروط والإفتراضات، كما يلي:

لو كانت جميع تلك القضايا تتطابق مع الخطاب الديني صدفة؛ فإن إحتمال هذه الصدفة ضئيل، ويقدر بضرب إحتمالات تلك القضايا ببعضها، وفي حالة وجود خمس قضايا فإن تلك الصدفة تساوي:

(1\2) مضروبة في نفسها خمس مرات، وتساوي: 1\32

وهذا يعني أن إحتمال نفي الصدفة وتقرير صحة حكم العقل سيساوي:

1 ـ (1\31) = 31\32

وهي نسبة كبيرة بلا شك. ويمكن استخراجها رياضياً كما يلي:

من الناحية القبلية نفترض أن إحتمال مطابقة كل قضية لحكم الخطاب الديني يساوي نصفاً، نرمز إليه بـ (هـ). فإذا كانت لدينا خمس قضايا فإن هناك صوراً عديدة ممكنة للتطابق مع أحكام الخطاب الديني، فقد تطابقه القضية الأولى فقط، أو الأولى والثانية، أو الثانية والخامسة، أو الأولى والرابعة والخامسة... الخ. وهذه الصور بعضها يساوي البعض الآخر في الإحتمال، وإحتمال كل واحدة منها يستخرج بقاعدة الضرب التالية:

 (هـ)م × (1-هـ)ن-م  

حيث (ن) تمثل مجموع القضايا الكلية، و(م) هي عدد القضايا المراد معرفة إحتمال تطابقها مع أحكام الخطاب الديني. واستخراج قيمة إحتمال مطابقة (م) لأحكام الخطاب يقدر بضرب تلك القاعدة بقانون التوافيق كالتالي:

       ن!

ـــــــــــــ × (هـ)م × (1-هـ)ن-م  

 م! (ن-م)!

 

 !5  

ــــــــــــ × (1\2)5 × (1-1\2)5-5 

 !(5-5)!5

 

ويساوي: 1\32

هذا هو الإحتمال القبلي لتطابق خمس قضايا عقلية مع الخطاب الديني صدفة، مما يعني أن نفي الصدفة يساوي:

1 ـ (1\32) = 31\32

وهو ما يكون لصالح الحكم العقلي.

ولا شك أنه كلما كثرت شواهد التطابق مع الخطاب الديني كلما زادت قيمة إحتمال صدق الحكم العقلي، تبعاً لتناقص القيمة الخاصة بالصدفة حتى لا يعود لها أي إعتبار، فنقطع عملياً بصحة ذلك الحكم من حيث الإجمال لا التفصيل؛ بإعتبار أن القضايا المفصلة قد لا تكون صحيحة رغم موافقتها للخطاب. لكن لو صدقت جزئية واحدة لصدقت القضية الكلية، وهي صحة الحكم العقلي. وهنا يتضح أن صدق بعض الجزئيات يحظى بالقطع رغم عدم العلم بتشخيصها، وهو معنى صحة الحكم العقلي من حيث الإجمال.

وفي بعض دراساتنا المستقلة قمنا بتحديد الصيغة الرياضية لقانون استخراج قيمة إحتمال الفرض المؤيد بالإختبارات الناجحة، وهو القانون الذي سميناه بالشد، ويمكن الإستفادة منه لإثبات قضيتنا الحالية. فمن الناحية الرياضية تتحول الدلالة المنطقية لحالة الشد بين المؤيدات والفرض المطروح إلى ما يلي:

   س ن _ 1                       (س ن _ 1) (ن - م)

 ـــــــــ      _        ــــــــــ

  س ن (س - 1)           س ن (س-1) × ن

حيث (ن) هي عدد الإختبارات الكلية، و(م) مقدار الإختبارات الناجحة، و(س) هي عدد العوامل المفترضة قبلياً[2]. واستناداً إلى القانون السابق فإن تطابق خمس قضايا عقلية مع الخطاب الديني يعطي قيمة إحتمالية قدرها (31\32)، أما لو كان التطابق حاصلاً بين اربع قضايا فقط؛ فستكون النتيجة أقل من ذلك، حيث تقدر بـ:

 

 

  5 2          _ 1                      1 × (1 - 52)

  ـــــــــ     _     ـــــــــ

                       5 2               5 ×  5 2

ويساوي: 31\40

فهذه القيمة أقل من قيمة تطابق خمس قضايا، لكنها على أي حال أعظم من النصف.

ومن خلال الطريقة السابقة يمكن تقرير صحة الحكم العقلي إجمالاً؛ بإعتبار أن التطابق بين أحكام الخطاب الديني وأحكام العقل هي من الكثرة في المجال الأخلاقي. ولا شك أن وظيفة حساب الإحتمال لا تتحدد بالتقرير الإجمالي لحكم القضايا المعهودة فحسب، بل تفرض كذلك القيم المناسبة لكل قضية مستجدة في الواقع

 



[1]  تمهيد الأصول، ص161. وشرح الأصول الخمسة، ص510. وارشاد الطالبين، ص273ـ274.

[2]  راجع كتابنا: الإستقراء والمنطق الذاتي، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 2005م، ص406 و470ـ471.

comments powered by Disqus