يحيى محمد
في كتاب (الأسس المنطقية للاستقراء) ثمة محاولة مبتكرة للفيلسوف محمد باقر الصدر أرادت ان تمد جسراً منطقياً بين عالم الشهادة وعالم الغيب، فاعتبرت الاستقراء كفيلاً بحل القضية الميتافيزيقية المعبّر عنها بالمسألة الإلهية بذات القدر الذي تحل فيه القضية العلمية. وهو أمر لم يسبق للمذاهب الفلسفية أن طرقته بهذا الشكل من المساواة، رغم وجود تطبيقات دالة على أن الاستقراء المطبّق على النُظم الكونية والحيوية كفيل بإثبات هذه المسألة، وقد اهتم بها عدد من رجال النهضة العلمية، واستمر الحال حتى بداية القرن التاسع عشر. لكن بعد ظهور (أصل الأنواع) لتشارلس داروين منتصف هذا القرن تغيّر الموقف[1]، فأخذت النزعة العلمية والفلسفية تتجه إلى تقرير استحالة أن يكون للعلم والمنطق المؤسس له قدرة على إثبات المسألة المشار إليها، وبالتالي لا بد من التقيد بمعيار المادية والطبيعانية في تفسير الظواهر الكونية والحيوية. مع هذا ظهرت منذ ثمانينات القرن الماضي حركة مناهضة تدعو إلى عدم التقيد بهذا المعيار في تفسير الظواهر الحيوية المعقدة استناداً إلى الأسس العلمية ذاتها، وهي المسماة بحركة التصميم الذكي والتي سلطنا عليها الضوء في عدد من الدراسات[2].
أما المفكر الصدر فقد توصل من خلال محاولته الرامية لتأسيس الدليل الاستقرائي إلى إثبات المسألة الإلهية بنفس القدر الذي تثبت فيه أي قضية علمية أخرى. فثمة أساس مشترك لإثبات كل من العلوم الطبيعية والمسألة الإلهية، وانه ليس أمام الإنسان الوضعي ان يختار إلا طريقاً بين طريقين لا ثالث لهما، فإما الإيمان بالعلم والمسألة الإلهية، أو الكفر بهما معاً، وأي سبيل آخر فهو بلا ريب متناقض، إذ الشروط التي تثبت القضية العلمية هي ذاتها التي تثبت القضية الإلهية بلا فرق، مشيراً إلى الدور الذي مارسه القرآن الكريم في التنبيه إلى فحوى الدليل الاستقرائي للكشف عن الأصل العقائدي من خلال النظر إلى الخلق والعالم لاستكشاف ما يبديه من قصد وحكمة.
وفي كتاب (صخرة الإيمان) حددنا القضية المعرفية إن كانت علمية أو غير علمية وفق الفقرات الأربع التالية:
1ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات واستنتاجات طبيعانية؛ فهي علمية من الدرجة الأولى.
2ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المحايثة، فهي علمية من الدرجة الثانية. ويمكن أن تشمل في هذه الحالة مسألة المصمم الذكي، مثل أثير الذكاء الذي افترضناه في بعض الدراسات لعدد من المبررات.
3ـ إذا كانت القضية متضمنة لمقدمات طبيعانية، مع استنتاجات غير طبيعانية تتضمن الأسباب المفارقة، فهي غير علمية. وتتميز هذه القضية بأنها تشترك مع القضايا العلمية بنفس الأساس المعتمد عليه في الدليل. وهذه هي القضية المعنيّة في المسائل الميتافيزيقية المفارقة، كالمسألة الإلهية كما طرحها المفكر الصدر. مع الأخذ بعين الاعتبار ان الأطراف المحتملة في المسألة الإلهية – سواء كانت مفارقة أو غير مفارقة - تتصف بالضيق والانغلاق، خلافاً للنظريات العلمية المفتوحة. فأي نظرية علمية تُتخذ للتفسير يمكن استبدالها بأخرى تفوقها، وهكذا من غير حدود. ويترتب على ذلك إختلاف في القيمة المعرفية بين القضية العلمية والمسألة الإلهية. فالنظام العلمي المفتوح لا يبعث على القطع في القضايا غير المدركة مباشرة، وهو خلاف النظام المغلق لوجود الحصر العقلي للأطراف القبلية.
4ـ إذا كانت القضية لا تتضمن المقدمات الطبيعانية؛ فهي غير علمية، سواء كانت عقلية فلسفية أو دينية أو غيرها.
***
لقد استخدم المفكر الصدر نموذجاً من الظواهر الموضوعية في العالم ليثبت من خلالها المسألة الإلهية في قبال غيرها من الافتراضات، لكنه لم يحدد مبدئياً طبيعة خصائص هذه الظواهر وتمييزها عن غيرها، وهي القضية التي استحوذت اهتمام عدد من أنصار حركة التصميم الذكي، فوضعوا لها قاعدة سميت بالتعقيد المخصص أو المحدد كمعيار لاكتشاف التصميم، كالذي نجده لدى عالم الرياضيات اللاهوتي وليام ديمبسكي، ومن قبله الكيميائي تشارلس ثاكستون. ولنا طريقة أخرى نحسبها أدق في تحديد هذا المعيار كما طرقناها في بحث مخصص لهذا الغرض[3].
وبعيداً عن هذه القضية الهامة فإن الصورة التفصيلية التي طرحها الصدر حول إثبات المسألة الإلهية لا تخلو من قصور وعدم جدوى. فبداية افترض مجموعة من الظواهر موضوعاً للاستقراء، كالمجموعة التي يتكون منها التركيب الفسيولوجي لإنسان معين (سقراط مثلاً). ومثلما يمكن الإستدلال على عزو كتاب معين إلى إنسان عالم لا مجنون؛ فكذلك يمكن استخدام هذا الإستدلال في إثبات صانع حكيم لتلك المجموعة من الظواهر. ولهذا الغرض قام الصدر بوضع فرضيات أربع كما يلي:
‹‹1ـ فرضية تفسير تلك الظواهر على أساس أنها من صنع ذات حكيمة.
2ـ فرضية تفسيرها على أساس أنها صدف مطلقة.
3ـ فرضية تفسيرها على أساس أنها من صنع ذات ليست حكيمة، قد تصرفت تصرفاً غير واع ولا هادف، فأوجدت تلك الظواهر.
4ـ فرضية تفسيرها على أساس علاقات سببية غير واعية ولا هادفة، يفترض قيامها بين المادة وتلك الظواهر››.
والمطلوب إثبات الفرضية الأولى، ونفي الفرضيات الثلاث الأخيرة بالدليل الاستقرائي.
لكن ما نلاحظه هو ان الصدر قد استغرق في مناقشة الفرضية الثانية واستبعادها، واعتبر الثالثة مثل الثانية، أما الرابعة فقد ضمنّ مناقشتها بعض التعديل[4]. هذا على الرغم من أنه لا يوجد من يقول بالفرضيتين الثانية والثالثة، والبحث فيهما عديم الجدوى. أما الفرضية الرابعة فقاصرة ولا تُطرح بهذا الشكل، رغم صواب الفكرة من حيث النتيجة النهائية اجمالاً. فما يُطرح هو ان نشأة مثل هذه الظواهر إما أن تكون قائمة على أسباب وقوانين صارمة دفينة في النسيج الكوني، أو وفق قوانين التجاذب الذاتي، أو وفق قانون التطور الخوارزمي، أو وفق قانون الإنتخاب الطبيعي وعلاقته بالصدف العشوائية. وفي جميع الحالات ان صفة القانون تبقى ملازمة لما يُطرح عادة في مثل هذه الظواهر ذات التعقيد المرتفع، ويضاف إليه العامل الزمني. والسائد في النظرية العلمية هو التعويل على قانون الانتخاب الطبيعي وعلاقته بعشوائية الطفرات الجينية والبيئية استناداً إلى الداروينية الحديثة.
كذلك ثمة من يطرح حلاً مختلفاً قائماً على وجود أكوان غير متناهية كجواب لتفسير نشأة الضبط الدقيق والنُظم المعقدة. وقد جاءت هذه الفكرة خلال ثمانينات القرن الماضي، أي بعد وفاة الصدر (ره) بسنوات. ولولا معرفتنا العلمية بمدى التعقيد الحاصل في النظم الحيوية واحتمالات نشوئها لكان من الصعب دحضها تماماً.
وبعيداً عن صور الافتراضات المجردة، تمّ تسليط الضوء على بعض الظواهر الحيوية المعقدة لتفسير نشأتها، مثل بنية سوط البكتيريا ووظائفه العجيبة، وذلك استناداً إلى التجارب المختبرية ومنطق الإحتمالات وعلاقته بالصدف وقانون الانتخاب الطبيعي، وقريب من ذلك محاولة تفسير نشأة أبسط خلية حية[5]. وفي جميع الأحوال أظهرت النتائج عدم قدرة الوسائل الطبيعية على انتاج مثل هذه الظواهر المعقدة. بل ان التقديرات الإحتمالية لنشوئها عشوائياً لا تتناسب مع عمر الكون.
[1] أوردنا تفاصيل هذه القضية في دراسة بعنوان: تطورات الحجة الغائية: من بالبوس الرواقي إلى داروين، موقع فلسفة العلم والفهم، 2020م:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=144
[2] انظر مثلاً: نشأة حركة التصميم الذكي، موقع فلسفة العلم والفهم، 2021م:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=171
[3] انظر: الكأس المقدسة في اكتشاف معيار التصميم، في حلقتين، موقع فلسفة العلم والفهم، 2021م:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=166
[4] الاسس المنطقية للاستقراء، ص403 وما بعدها.
[5] لقد تناولنا هذه الموضوعات في عدد من الدراسات المنشورة في موقع فلسفة العلم والفهم، منها: اللاطبيعانية وأثير الذكاء، في حلقات ثلاث، 2020-2021م. انظر:https://www.philosophyofsci.com/index.php?id=163