-
ع
+

خلاصة فكر (33) الإرادة المعرفية

يحيى محمد

تخضع المعرفة البشرية لسلطتين مختلفتين، احداهما ابستيمية (عقلية اعتقادية)، والاخرى ارادية (نفسية). لكن الحكم النهائي يكون من نصيب السلطة الثانية لا الاولى. فمن حيث الواقع ان الخيار النفسي هو من يصدر القرار الحاسم النهائي.

فهناك عامل في النفس البشرية هو الذي يستقل في تحديد القرار المعرفي، فالنفس وان تأثرت بنواحي الانحيازات الذاتية والموضوعية لكن قرارها يبقى غير محتم في ان يكون بهذا الشكل او بذاك. فالقرار لا ينشأ من موضوعية الدليل ولا من الانحيازات الذاتية، بل مردّه الى (الإرادة المعرفية)، فهي التي تتخذ القرار بحرية من دون حتم ولزوم. اي ان القرار الناتج عنها هو قرار غير محتم مهما كانت طبيعة المعرفة حتى وان تضمنت الاستنباطات المنطقية والبديهية.

ويمكن ان نتصور الإرادة المعرفية على شاكلة قاضي لديه مستشاران على اليمين والشمال، احدهما يدعوه الى الدليل الموضوعي، والثاني الى الانحياز الذاتي، وذلك حينما تتلبس القضايا وتتشابك ما بين الموضوعية والانحياز بفعل العوامل الكثيرة المؤثرة.

لكن رغم الدعوة المتناقضة للمستشارين فان الإرادة المعرفية تبقى سيدة الموقف، فهي إرادة متأثرة إلا انها غير محتمة النتيجة، وبالتالي فهي تحظى باستقلالية كصاحبة قرار، سواء لصالح الدليل الموضوعي، او لصالح الانحياز الذاتي وفق الاسباب المعللة. وعادة ما يعتمد ذلك على طبيعة المجال المعرفي، فبعض المجالات تمتلك مساحات مهيئة للانحياز، كما تمتلك مجالات اخرى مساحات مهيئة للموضوعية. لكن في جميع الحالات تخضع النتيجة الى الإرادة المعرفية، وهي المسؤولة عن القرار في النهاية.

وبعبارة ثانية، إن كل معرفة تعتمد على القرار النهائي، وان هذا الاخير لا يتحقق من غير الإرادة المعرفية ايجاباً وسلباً.. فعندما تقرر هذه الإرادة عدم رغبتها في تحصيل النتائج المستدل عليها فانها تكون سلبية اتجاه هذه النتائج مهما تبدو منطقية او مبررة وصحيحة. وكان من الممكن تماماً ان تكون ايجابية لولا ان رغبة الإرادة تحول دون ذلك، وهذا ما يجعلها تصطنع مبررات رافضة، سواء كانت عقلانية مقبولة او غير عقلانية. فالرفض السلبي الوارد هنا هو رفض خاضع للإرادة لا العقل المفهومي المتمثل بالدليل ولا المؤثرات الخارجية. ويتبين فعل الإرادة بشكل جلي عندما تعبر هذه السلبية عن موقف غير عقلاني او مقبول، فنعرف اننا لسنا ازاء جدل معرفي خالص، بل هو جدل رغبوي تحدده الإرادة المعرفية، ويقع ضمن اطار علم النفس والاجتماع المعرفي. وهو ما نشهده في كل جدل معرفي، سواء ديني ومذهبي، او فلسفي او حتى علمي ايضاً.

ورغم ان الارادة المعرفية منحازة بالمعنى الاعم المشتمل على الانحيازين الموضوعي والذاتي، لكن ليس لأي من هذين الانحيازين سلطة في اتخاذ القرار بخلاف الإرادة. لذلك قد يكون لكل منا رغبة وانحياز الى نتائج معرفية معينة؛ سواء على صعيد المنطق او الواقع او الميتافيزيقا، فمثلاً البعض منا يستهويه كل دليل يتعلق بوجود الله، فيما يستهوي اخر العكس من ذلك لرغبته في ان لا يكون هناك اله. وهذه الرغبة والتمني لا علاقة لها بالادلة المقدمة، لكن من حيث القرار فقد يتخذ الواحد منا قراراً مؤيداً لما يرغب فيه رغم منافاة الدليل لذلك، فيما قد يتخذ الاخر قراراً مؤيداً للدليل رغم مخالفته لرغباته وتمنياته المنحازة. بمعنى انه يتخذ قراراً مضاداً لانحيازه، او انه يصل الى نتيجة لا يتمناها، ومع ذلك يقرر وفق الإرادة المعرفية ما يؤكدها. وتمثل هذه الحالة اعظم حالات الموضوعية.. لذا فان قرار الإرادة المعرفية غير خاضع للانحياز وعدمه، مثلما انه منفصل عن طبيعة الدليل، رغم تأثره بهذه المجالات المختلفة.

ومن حيث التحليل، تختلف الارادة المعرفية عن العقل المنتج للافكار بانها عارية عن المفاهيم خلافاً للعقل المغلف بها، فالعقل لا ينتج من غير هذه الأغلفة، فيما تقتبس الارادة المعرفية عريها من حيث انها صرف ارادة لا عقل، وهي جزء من الارادة النفسية العامة التي تشترك معها بخاصية اتخاذ القرار الذي ترجحه، فاذا كان هيكل الارادة العامة تتعلق بالسلوك والافعال الجسمية والهيئات الخيالية النفسية الصرفة؛ فان الارادة المعرفية تبتعد عن هذا الحال لتواجه جانباً اخر مختلفاً، وهو المجال المعرفي، لذلك فان ما تقوم به من قرارات معرفية يعود الى انها تواجه العقل ومفاهيمه وجهاً لوجه من دون حجاب، اذ لا يحجبها شيء من المفاهيم باعتبارها عارية، كما تواجه العوامل الاخرى المتعلقة بالعالم الوجودي. فالعقل بمفاهيمه يؤثر عليها، ومثل ذلك العوامل الاخرى التي تواجهها تؤثر عليها، واحياناً بطريقة لا شعورية. ومن خلال هاتين المواجهتين المختلفتين تقرر قرارها. أما كيف ذلك وبأي معايير تفعل ذلك، فكل هذه الامور ميتافيزيقية غيبية، كما لا يوجد قانون محتم يجعلنا ندرك ما هو القانون المتبع، لكن هناك قوانين احصائية تجعل الارادة المعرفية ميّالة في بعض الجوانب لاتجاهات موضوعية، فيما انها ميالة في جوانب اخرى للانحياز.

إذاً بحسب قراءتنا ليس ثمة ما يحتم على البشر الرضوخ لأي مفهوم ديني او فلسفي او علمي او حتى بديهي؛ كالقواعد الرياضية مثل حاصل جمع الثلاثة مع الثلاثة هو ستة، او الرضوخ لقانون السببية العامة، او لمبدأ عدم التناقض في صيغتيه (الوجودية والمنطقية). بل نجد من الفلاسفة والمفكرين من يطعن احياناً بمثل هذه المسلمات، وكل ذلك يؤكد اصالة حرية الإرادة والقرار المعرفي.

وبعبارة ثانية، اذا كانت الإرادة المعرفية تتقبل هذه الاحكام العقلية لبداهتها؛ فعلينا ان نعي في المقابل ان من البشر من يمتلك إرادة لرفضها ولا يرى نفسه مضطراً لقبولها. وتجد هذا الرفض احياناً لدى الدوائر الفلسفية والعلمية، وتزداد لدى مثقفي ما بعد الحداثة.

وحتى حينما يقال بان تقويض هذه الاحكام مطلقاً يمت الى تناقض معرفي، فذلك لا يؤثر على الإرادة المعرفية باعتبارها لا تتضمن المفاهيم ولا انها من الافعال العقلية الصرفة، بل هي سلطة نفسية متعقلنة ذات قرار متحكم بكافة الاشكال المعرفية؛ الحسية والعقلية والمنطقية والفلسفية والعلمية وغيرها. او هي «فعل نفسي» بلا كيف؛ مؤثر في النشاط المعرفي العقلي ومتحكم به تماماً، بغض النظر عن النتائج التي تتوصل اليها هذه الإرادة. لذلك انها لا تمتلك اطارات ما لدى العقل من مفاهيم وافكار، بمعنى انها غير متقولبة ضمن اطار مفاهيمي او فكري كما هو الحال في الفعل العقلي عندما يزاول نشاطه المعرفي كآلية منتجة للمعرفة بجميع اشكالها النظرية والعملية. لكنها مع ذلك تنتصر في الغالب للرؤى العقلانية او المستدل عليها عندما تكون بمنأى عن منافذ الانحيازات الذاتية.

وبلا شك ان انتصارها المشار اليه يجعلها واعية متعقلنة خلافاً للارادة اللاواعية العمياء كشيء في ذاته كما طرحها الفيلسوف الالماني شوبنهاور في مشروعه المتميز (العالم إرادة وتمثلاً)، وقصد بها إرادة الرغبات والاندفاعات والميول الجسمية والتي تستبطن العالم كله – العضوي واللاعضوي - كجوهر عميق خلّاق لكل ما هو ظاهر ومتجلّ في الطبيعة على الاطلاق.

وحقيقة الحال انه يمكن تصوير الارادة كجسم موحد ممتد على مناطق واعية وغير واعية، كامتداد النفس على البدن، فتنطبع بانطباعات ما تمتد اليه، فتكون واعية متعقلنة مع العقلي، وغير واعية ولا متعقلنة مع العناصر غير العقلية كالميول والنزوات النفسية والجسمية.

comments powered by Disqus