-
ع
+

خلاصة فكر (30) النظر بين الاجتهاد والتقليد

يحيى محمد

تضمّن كتاب (الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر) إعادة النظر في تقسيم الفقهاء للمكلفين الى مجتهدين ومقلدين، فهو تقسيم ليس سليماً وفقاً لذات الاسس والاصول الفقهية المعترف بها، حيث يتجاهل فئة ثالثة ليست من المجتهدين ولا من عوام الناس الذين يفتقرون الى فهم القضايا الفقهية واصولها، بل هم اصحاب نظر يجعلهم قادرين على التمييز بين الادلة الفقهية وترجيح بعضها على البعض الاخر، وهو مسلك أوسمناه بالنظر، وقدّمنا حوله عدداً من الادلة الفقهية والاصولية والعقلية، كما نقلنا اشارات لبعض العلماء الدالة عليه.

وللنظر مرتبتان تفصيلية واجمالية، ففي الاولى يكون صاحبه على مستوى دقيق وواضح في إستبعاده لبعض الأفكار وقبول الأخرى؛ اعتماداً على تمييزه بين الأدلة المفصلة. ومن ذلك أن طلبة العلم المصنَّفين ضمن مرحلة ما يسمى بالبحث الخارج لدى الحوزات الشيعية ـ أو ما يشاكلها ـ، والذين يمكنهم التمييز بين آراء المجتهدين، إنما ينزلون هذه المنزلة من النظر التفصيلي.

أما المرتبة الاجمالية للنظر فيعتمد صاحبها على ما يرد إليه من اجمال في الأدلة فيطمئن لبعضها دون البعض الآخر؛ مستعيناً في ذلك بما له من قدرة عقلية فطرية يميز فيها ما هو أقرب إلى الصواب، كما هو حال أغلب المثقفين.

فلا يخلو الناظر من مرتكزات معرفية قد يستمدها من دراسته للعلوم الدينية كما هو الحال مع طلبة هذه العلوم، أو من الدراسات الانسانية والخبرة الحياتية كالجاري مع المثقفين، كما قد يستمدها من المقاصد الكلية للتشريع. وكل ذلك يساعده على فهم الأدلة والترجيح فيما بينها.

ويعتبر مسلك النظر من المباني العقلية الواضحة، بحيث لا يحتاج المرء إلى البحث في أدلته. وعادة ما يستخدمه الناظرون في قبول ورفض المذاهب الفكرية والعقائدية المختلفة وإن لم يكونوا مختصين.

مع ذلك فقد قدّمنا أربعة أدلة مختلفة لإثبات مشروعية الاعتماد على هذا المسلك في المجال الفقهي، وهي الدليل الشرعي والعقلي والمنطقي والبناء العقلائي.

ففي الدليل الشرعي توقفنا عند آية استماع القول في سورة الزمر: ((فَبَشِّرْ عِبَادِي الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ)). فرغم ان سياق الآية ليس بصدد الآراء الاجتهادية، لكن العموم والإطلاق فيها يمكن أن ينطبقا على ما نحن فيه من التعامل مع الآراء. فالناظر يتعامل مع الآراء الفقهية كأقوال مختلفة، لذا ينبغي أن يعوّل على ما يراه أنه أحسنها وأقربها للحق، ليصبح بذلك أحد تطبيقات الآية الشريفة.

وفي دليل العقل او الاقربية، يعول الناظر على دليل دون آخر بعد الفحص استناداً الى ما هو أقرب للحكم الشرعي.

وفي الدليل المنطقي يستند الناظر الى عدم صحة العدول عن اتّباع الدليل الراجح باتّباع الدليل المرجوح. لذا لا يجوز رجوع الناظر إلى حكم من يعتقد انه مخطئ في ذلك. وقد سلّم عدد من العلماء بإمكانية إستقلال عقل العامي واتّباع نظره ومن ثم مخالفة غيره من أهل الاجتهاد بمن فيهم الأعلم.

يبقى دليل البناء العقلائي، وفحواه هو أن الناس عندما يكون لهم نوع من التمييز والخبرة المجملة ويراجعون المختصين في جميع الحرف والمهن؛ فانهم لا يولون أهمية لقول الأكثر علماً إذا ما ظنوا أنه على خطأ وغيره على صواب.

comments powered by Disqus