-
ع
+

خلاصة فكر (29) كيف يُبنى الدليل الاستقرائي؟

 يحيى محمد

إن الاطروحات التي توسلت بنظرية الاحتمال لتفسير بناء الدليل الاستقرائي قد استندت الى الاحتمال الرياضي السوي كما حددناه في دراسة سابقة، وهي من هذه الناحية لم تنجح في تفسير بناء هذا الدليل. وينطبق هذا الحكم على نظريات الفكر الغربي، مثلما ينطبق على نظرية الصدر في العلم الاجمالي.

ومن حيث التفصيل يعتمد الدليل الاستقرائي على اكتشاف التماثل ليطبق عليه (الإحتمالات السوية)، كما يفترض أن يكون التماثل قائماً بين التجارب ليُطبق عليها الحساب الإحتمالي (الكمي). لكن يلاحظ ان التماثل لا يمكن اكتشافه وإثباته إلا من خلال (الإحتمالات غير السوية) للقرائن المتباينة، كما ان التجارب التي ينمو فيها الدليل الاستقرائي هي تجارب مختلفة ليس بوسعها ان تحقق العد الإحتمالي القائم على (الإحتمالات السوية)، فهي ليست متماثلة كي يمكن أن توزع عليها الحصص الإحتمالية بشكل متساوٍ. وعليه يصبح الدليل الاستقرائي قائماً على (الإحتمالات غير السوية).

ولايضاح ذلك نفترض ان احساسنا نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكن نشك في وجودها، ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط بعدد من القرائن المختلفة لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية أو وهمية، وكذا فيما إذا كانت بالفعل عبارة عن كرة أو أنها شيء آخر. ومع انه بسبب تضخم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الأشياء الخارجية سوف لا نحتاج عادة إلى الإختبار أو المزيد منه، لكن نفترض كما لو كنا نمارس عملاً إستدلالياً أولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الإستدلالية للعلوم الطبيعية. لهذا فحيث ان من المحتمل ان يكون ما نراه عبارة عن وهم من الاوهام، كان لا بد من مزاولة قرينة أخرى، كإن نتحرك إلى زاوية أخرى وننظر من خلالها إن كنا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذلك نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، إذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، لذا فهذا الاحساس يزيد الظن بأن هناك شيئاً خارجياً يحمل صفات تبدو أنها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا ان نقوم بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.

هكذا ان أغلب ما فعلناه من إستدلال استقرائي على وجود الكرة إنما كان بفعل القرائن المختلفة من الناحية النوعية، ولولا هذه القرائن ما قام للدليل الاستقرائي قائمة. وحينما نفعل نفس الشاكلة من الإستدلال الناجح على وجود كرة أخرى؛ إنما يعني اننا نحتفظ بصورتين ذهنيتين متماثلتين لهما وجود حقيقي، لذلك فانهما متماثلان. فالتماثل الصوري يدرك مباشرة، في حين أن التماثل الوجودي وإن قام على التماثل الصوري إلا انه لا يكفي من غير الإستدلال على وجود كل فرد عبر الاستقراء التبايني. وان هذا الاستقراء هو أساس قيام الاستقراء التماثلي. فالتماثل مستدل عليه بالتباين، وان التباين من حيث الأساس يدرك مباشرة بالاحساس، كإدراكنا البصري للصورة الذهنية للكرة مقارنة بإدراكنا اللمسي لها، حيث كلاهما مدركان مباشرة مع انهما يعدان قرينتين مختلفتين يعملان على تقوية الإحتمال وتنميته. لهذا كان التباين لا التماثل هو الأساس في الإستدلال الاستقرائي دون ان يحتاج - من حيث الأصل - إلى ما يدل عليه بإعتباره من المدركات المباشرة.

comments powered by Disqus