-
ع
+

خلاصة فكر (25) محددات الذهن البشري

يحيى محمد

يخضع الذهن البشري لعدد من القوانين العامة، سواء في علاقته بمعرفة الواقع الموضوعي، أو بعلم الطبيعة وسائر العلوم، أو الفهم الديني. وتتصف هذه القوانين بكونها ترتبط بالنشاط الذهني إرتباطاً ذاتياً، فيكون كل من الإدراك والعلم والفهم محكوماً من الناحية الذاتية بالقوانين المشار إليها، لذا فهي ثابتة غير قابلة للتغير، وبدونها ليس بمستطاع الذهن ممارسة دوره الوظيفي الآنف الذكر.

كما هناك عدد من السنن تؤثر في الذهن تأثيراً عارضاً. وهي وإن كانت لا تتحكم في الإدراك والعلم والفهم ذاتياً؛ لكنها تُلقي عليها نوعاً من التأثير.

هذا بالإضافة إلى وجود قواعد لتلك العوالم الثلاثة يختارها الذهن البشري كطرائق عملية وسط عدد غير محدد من الإجراءات، سواء جرى ذلك بوعي أو من دون وعي. وكما يتم اختيار القواعد أو ابتداعها، كذلك يمكن استبدالها بغيرها حسب المطلوب. لكن من المحال ان يجري ذلك خارج نطاق ما تحدده القوانين، لأن القواعد إنما تعمل وفقاً لطبيعة هذه الأخيرة.

إذاً، سواء في حالة الإدراك أو العلم أو الفهم، فإن هذه الحالات تخضع للمحددات الذهنية من القوانين والسنن والقواعد، مع لحاظ الفارق بين القواعد من جهة، والقوانين والسنن من جهة ثانية، فقد تختلف القواعد من مجال لآخر؛ بإعتبارها تخضع لخيارات الذهن بما يناسب الموضوع المبحوث، خلافاً للقوانين والسنن، فهي تعمل على تحديد النشاطات الذهنية الآنفة الذكر والتأثير عليها من دون فرق وتمييز.

1ـ السنن

يتأثر الذهن البشري بعدد من العوامل التي تُحدِث مفعولها في نشاطه، فتحدد بذلك مسار إدراكه وعلمه وفهمه. وقد تكون هذه العوامل داخلية ضمن طبيعة الإنسان من حيث تكوينه البايولوجي - ومنه الأثر الجيني - والنفسي، كما قد تكون خارجية تتمثل في تأثير البيئة والمحيط وروح العصر والزمان، وما يستتبع ذلك من بنى ثقافية مختلفة.

وقد يكون من ضمن هذه العوامل ما يحدثه الشيء الموضوعي ذاته من تأثير متعدد على الادراك الذهني، ومن ذلك ما يحدثه النص اللغوي من امكانات الفهم المفتوحة أو المتعددة بلا حدود. وهي سنة من سنن الفهم التي لا تتوقف على شيء، ولا تنضبط بضوابط وقواعد. فالفهم هنا هو فهم تكويني أو وجودي وفقاً للتعبير الغاداميري، فهو مفتوح وسيال مسترسل بلا حدود، سواء كان فهماً منضبطاً بقواعد محددة أم لا.

ويعتبر الواقع أهم العوامل المؤثرة في الادراك الذهني، وبتغيره تتغير الثقافات والعلوم والآيديولوجيات والأفهام الدينية. فهذا التأثير يجري وفق السنن الانسانية، لهذا يتصف بعدم الانضباط. وكل ما يمكن فعله هو مراقبة جريانه من دون ان يكون لنا دور في التأثير في هذه العلاقة السننية. رغم انه من الممكن الاستفادة من هذه السنة عبر تحويل ما هو وجودي إلى ابستيمي، وما هو موضوعي إلى حالة معرفية لاستكشاف الطرق المناسبة لاستنطاق الموضوع الخارجي، ومنه الفهم الديني، بوعي وتصميم.

وفي الحالة الاخيرة يمكن اختراق ما يطلق عليه العقل المكوَّن بالعقل المكوِّن وفقاً لتعبير لالاند، إذ يتصف الأول بثقافة التقليد الراكدة، في حين يمتاز الأخير بإبداع الفكر الجديد، وهو ما يحتاج إلى القواعد الإجرائية كتلك المستلهمة من الواقع. فالاول يمثل السنة الواقعية خلافاً للأخير الذي يتأسس على القواعد الاجرائية. وبالتالي فللواقع تأثير مختلف؛ تارة بعنوان السنن، وأخرى بعنوان القواعد.

2ـ القوانين

للبحث في قوانين الاستنطاق الموضوعي، ومنه الفهم الديني، أهمية خاصة؛ وهي أنها تتيح لنا التعرف على قوانين عامة نفكر بها لا فيها، كما تتيح لنا إدراك كيف تجري عملية استنطاق الشيء الموضوعي وحدودها، وكيف يتم مجال السير عبر قواعد الاستنطاق كما في الفهم، وهل يمكن الاستغناء عنها أم لا؟ كذلك فهي تكشف لنا عن طبيعة العلاقة بين الاستنطاق والشيء الموضوعي، كما في الفهم وعلاقته بالنص، ومن ثم تحديد الشروط الكفيلة بتحقيق التطابق بينهما.

وثمة عدد من هذه القوانين، كتلك التي طرقناها في علم الطريقة، لكن سنكتفي بواحد منها يتعلق بالفهم الديني كما يلي:

قانون العلاقة العكسية

وهو قانون يشير إلى وجود علاقة عكسية بين القبليات والنص في تأثيرهما المحتّم على الفهم، فكلما زاد تأثير القبليات كلما ضعف تأثير النص، والعكس بالعكس. لكن مع الاخذ بعين الاعتبار ان فعل القبليات هو الذي يحدد فعل النص من غير عكس. فالعلاقة بينهما هي علاقة فعل وانفعال، فالفعل نتاج القبليات وعليه يتحدد انفعال النص عكسياً طبقاً للقانون المشار إليه.

وعليه نجد في هذا القانون أنواعاً ثلاثة من العلاقة، فقد تكون الاخيرة ضعيفة اذا ما كان تأثير القبليات ضعيفاً على الفهم مقارنة بتأثير النص، وهي ما اصطلحنا عليها بالمعنى الضعيف للفهم. وعلى عكسها العلاقة القوية، والتي سميناها بالمعنى القوي للفهم. كما قد تكون العلاقة متوسطة، حيث يتصف تأثير القبليات والنص على الفهم بالتوسط، لذلك سميناها بالمعنى المتوسط للفهم.

ويمكن تطبيق العلاقات الثلاث السابقة للفهم على أنماط القراءة الثلاثة (الإستظهارية والإستبطانية والتأويلية). فقانون العلاقة الضعيفة ينطبق على القراءة الإستظهارية عادة، وقانون العلاقة القوية ينطبق على القراءة الإستبطانية، كما إن قانون العلاقة المتوسطة ينطبق على القراءة التأويلية.

وتصدق هذه القوانين على نتاج العلوم الطبيعية، مثلما تصدق على الفهم الديني. ففي العلم الطبيعي نجد أيضاً قانون العلاقة الضعيفة والقوية والمتوسطة، وفقاً لطبيعة القبليات المعتمدة في البحث.

3ـ القواعد

طبقاً لقانون العلاقة العكسية، لا غنى عن العمل ببعض القواعد الإجرائية للقبليات، سواء كان ذلك بوعي كما في الثقافة العلمية، أو دون وعي كما في الثقافة الشعبية. فقوانين الادراك الاستنطاقي، كما في العلم والفهم الديني، تتماهى مع القواعد الإجرائية، حيث يحال على هذا الادراك تجاوز سلطة الخيارات الممكنة للقواعد القبلية، رغم أن هذه الخيارات مفتوحة. بمعنى ان من الممكن للذهن اختيار قاعدة أو أكثر من القواعد القبلية، لكن من المحال التفكير خارج حدود القواعد والإجراءات الممكنة، وبالتالي من المستحيل أن تتم عملية الاستنطاق من غير قواعد قبلية، بوعي أو دون وعي.

وعليه فإن للقواعد القبلية زاويتين من النظر، فهي من جهة تعبّر عن قانون للادراك الاستنطاقي من حيث العموم، لكنها من جهة أخرى تعبّر عن إجراء حر للادراك من حيث الخصوص، لأنها منتخبة ضمن جملة من الخيارات الممكنة، وإن كان من المحال تجاوز جميع هذه الخيارات، لهذا فهي تعد - من هذه الناحية - ضمن قوانين الادراك الاستنطاقي.

وبعبارة ثانية، لا تناقض في الجمع والاتحاد بين قوانين الادراك التي تتصف بالحتمية والذاتية، وبين القواعد الإجرائية الحرة غير الذاتية، فيما لو حُملت الأخيرة على أنها مجموعة خيارات ممكنة. وبالتالي تصبح هذه القواعد محتمة وغير محتمة، وكذا ذاتية وغير ذاتية. فهي محتمة من حيث إن الخيار لا بد من ان يجري ضمنها من دون تجاوزها، لكنها غير محتمة بإعتبار ان إمكانات الخيار متعددة بتعددها. وهي ذاتية من حيث إن الادراك الاستنطاقي ملتصق بها لا على التعيين والخصوص، وغير ذاتية بإعتبار ان هذا الادراك ليس ملتصقاً بها تعييناً وخصوصاً.

مع لحاظ ان الادراك الاستنطاقي لا يتجرد من بعض القواعد، سواء في العلم او الفهم الديني او غير ذلك من النشاطات الذهنية، حيث تستند إلى قاعدة الإستقراء ومنطق القرائن الإحتمالية. وبالتالي يمكن إعتبار هذه القاعدة تتضمن القانون دون ان يتنافى ذلك مع كونها خياراً إجرائياً.

ويمكن تقسيم قواعد الادراك الاستنطاقي إلى قواعد اجرائية محايدة، وأخرى مضمونية. فميزة الاخيرة انها محملة بالمضامين القبلية التي تعمل على تشكيل صورة الادراك بما يناسب هذه المضامين، كما هو حال قاعدة السنخية لدى الفلاسفة في تصورهم للوجود.

أما ابرز القواعد الإجرائية المحايدة فهي قاعدة الإستقراء التي يتوقف عليها الادراك الاستنطاقي، فهي تمثل قانوناً لا بد للمعرفة البشرية ان تعتمد عليها، سواء في ادراك الواقع الموضوعي او العلم او الفهم الديني او غير ذلك من القضايا الموضوعية.

وهناك عدد من المزايا التي تمتاز بها هذه القاعدة على غيرها من القواعد. فهي من جهة فطرية وليست مكتسبة، وذلك لقيامها على منطق الإحتمالات العقلية. وبالتالي فإنها تمثل قاعدة مشتركة لدى جميع العقلاء، وتحظى بقبول الكل. وهي من هذه الناحية تكون على شاكلة مبدأ السببية العامة. كما انها قاعدة كاشفة دون ان يكشف عنها شيء آخر. صحيح ان مبدأ عدم التناقض هو أيضاً من القبليات التي لا يكشف عنها مبدأ آخر، لكن هذا المبدأ ليس كاشفاً عن غيره بخلاف قاعدة الإستقراء.

وتحظى قاعدة الإستقراء بميزة الجانب الصوري والحيادي السالب في الكشف، إذ لا يتضمن مفادها أي قضية تتعلق بالجانب الخارجي للقضايا المبحوثة، سواء كانت هذه القضايا خطابية نصية، أو أشياء واقعية. وهي بالتالي تصلح ان تكون معياراً هاماً للتقويم والترجيح بين القضايا المتعارضة.

comments powered by Disqus