-
ع
+

خلاصة فكر (24) علم جديد للفهم الديني

يحيى محمد

علم الطريقة، او علم منهج الفهم الديني، هو مقدمة منطقية لدراسة نُظم ومناهج الفهم الديني، بل والعلم والفكر عموماً. وهو بهذا العنوان يشكل المجلد الاول من المشروع الخماسي (المنهج في فهم الاسلام). والغرض منه إخضاع الدراسات الإسلامية تحت هيمنة البحث المنهجي الإبستيمي والقطيعة مع كافة ضروب التفكير المذهبي، حيث يتحقق التفكير في المذهب لا بالمذهب. فبدلاً من الرضوخ إلى الإجترار القائم في جعل المنهج ينتظم وفقاً للتفكير المذهبي؛ تم تصيير المذهب إلى أنماط من التفكير المنهجي المتعدد الآفاق.

ويعتمد هذا العلم على مسلمتين أساسيتين إحداهما تكامل الأخرى، وتنص الأولى على إعتبار الفهم غير النص، كما تنص الثانية على كون الفهم هو نتاج مشترك لكل من النص وذات القارئ أو القبليات، بمعنى أن للذات البشرية دوراً في إنتاج الفهم مثلما للنص هذا الدور، ولأن للذات دوراً في التأثير على الفهم؛ لذا يصبح الأخير قابلاً للتشكل بأشكال مختلفة بلا حدود. والفهم من هذه الناحية شبيه بالعلم في علاقته بالطبيعة. ففي الحالتين يفترض وجود موضوع خارجي (خام) يقام عليه الكشف الذهني، سواء كان هذا الكشف علماً، أو فهماً وتفسيراً. ففي العلم الطبيعي يتمثل الموضوع الخارجي بما يطلق عليه الطبيعة أو الفيزيقا. وفي الفهم الديني يتمثل هذا الموضوع بالنص. فكل من علم الطبيعة وفهم النص قائم على موضوع خارجي هو الشيء في ذاته، وإنه لا سبيل للتعرف على هذا الشيء من غير أدوات الذات البشرية وقبلياتها وإعتباراتها، سواء أدى ذلك إلى الابتعاد عن معرفة كنه الشيء أو الاقتراب منه. بمعنى أنه مثلما ان الفهم قائم على مسلمتين أساسيتين، وهي ان الفهم غير النص، وانه يتشكل بفعل التفاعل بين النص والذات البشرية، فكذا ان العلم قائم على هاتين المسلمتين: وهي ان العلم غير الطبيعة، كذلك فإن العلم هو نتاج متأثر بكل من الطبيعة وذاتية العالم، فالطبيعة هي الموضوع الخارجي المتصف بكونه شيئاً في ذاته لا يمكن التعرف عليه من غير التفاعل مع ذاتية العالم وقبلياته.

لذلك فقد ناظرنا بين ثلاثة أنماط من الدراسة المنهجية يجمعها شيء مشترك، وهي العلم المناط بمنهج فهم النص، ومنهج إدراك الشيء الخارجي العادي، ومن ثم منهج تفسير الطبيعة. وجميع هذه الأنماط من الدراسة يجمعها شيء يمثل الموضوع الخارجي الذي يتناوله الذهن بالإدراك والفهم والتفسير عبر أدواته الحسية والإستقرائية وما إليها. والعلم الذي يختص بمنهج فهم النص هو ذلك الذي نطلق عليه علم الطريقة، وهو يناظر العلم الذي يتناول نظريات المعرفة ومناهج الإدراك، ضمن الفلسفة، كما يناظر العلم الخاص بالمنهج العلمي المطلق عليه فلسفة العلم. وهو قابل للتطبيق على هذه الموارد المختلفة والمقارنة فيما بينها، كما قابل للتطبيق على غيرها من العلوم والمعارف الموضوعية.

ويمتاز علم الطريقة بأنه يتضمن الجمع بين فن التأويل المسمى الهرمنوطيقا، والإبستيميا العلمية. فهو يتضمن فن التأويل بإعتباره يعترف بأن كل فهم ليس بقدرته ان يتعالى على حدود التأويل والتأثر بالقبليات. وهو بذلك ينزع النزعة الذاتية كالذي تؤكد عليه الأدبيات الحديثة ونظريات التلقي، لكنه في الوقت نفسه يحمل الجذور الإبستيمية ليحافظ على المعاني العلمية دون ان يترك للهرمنوطيقا فوضى الفهم المنفتح بلا ضوابط ولا حدود، لذا فهو يعمل على تضييق الممارسة الهرمنوطيقية قدر الامكان، لكنه يعترف باستحالة القضاء عليها. وبالتالي يمكن إعتباره جسر العبور من الهرمنوطيقا إلى الإبستمولوجيا وبالعكس.

وبحسب هذا العلم يكون الفهم الديني مسبوقاً بالمنهج أو الطريقة. فلا يمكن للأول أن ينشأ دون الأخير. ويصدق هذا الحال على مختلف ضروب المعرفة الحصولية والاستدلالية، اذ يتعذر نشوء هذه المعرفة من غير أدوات وتأسيس للنظر القبلي. وبقدر ما تختلف هذه الأدوات والتأسيسات القبلية؛ بقدر ما تتباين طرق المعرفة، وبالتالي يحصل لدينا ما نطلق عليه الأجهزة المعرفية لما تحمله من إمكانات التوليد والفهم تبعاً لهذه الطرق.

ولكل جهاز معرفي قواعده الخاصة للفهم، وهي على نوعين: صغرى وكبرى. فالفهم متوقف على القواعد الصغرى، ومنه تتشكل العلوم الدينية وغيرها من العلوم التي تستهدف الفهم الديني، لكن هذه القواعد تتوقف بدورها على القواعد الكبرى، وتمثل هذه الأخيرة أصولاً مولدة للفهم والتوليد المعرفي، وهي التي تشكل موضع دراسة علم الطريقة. لذا يتصف هذا العلم بالشمول والكلية، إذ تختلف القوانين والقواعد التي يبحثها عن تلك التي تتناولها الاجهزة المعرفية بالفهم والتحليل.

ويعتبر البحث الطريقي واحداً من ثلاثة انماط للبحث في الفهم الديني، احدها البحث الاستنباطي، كالذي يزاوله العلماء، بإعتباره نوعاً من المعرفة المباشرة للنص أو الموضوع الخارجي. وثانيها البحث التاريخي، ويُعنى بتطورات الفهم الديني عبر التاريخ. أما البحث الطريقي فيختص بدراسة مناهج الفهم الديني ويوضح العلاقة فيما بينها وبين تأسيساتها القبلية، ومن ثم بين هذه التأسيسات وبين الفهم. وبعبارة اخرى انه يمارس التفكير في المنهج لا بالمنهج.

ومن مميزاته انه يتضمن البحث التاريخي من دون عكس، إلى الدرجة التي يصح فيها القول بأن البحث الطريقي من غير البحث التاريخي او التراثي هو بحث أجوف لا معنى له.

ويلاحظ أن البحث الثاني (التاريخي) قائم على البحث الأول الإستنباطي، فإذا كان هذا البحث عبارة عن معرفة، فإن البحث الثاني هو علم متعلق بهذه المعرفة. والفارق بينهما هو أن البحث الأول عبارة عن علم قائم على موضوع خارجي، هو النص، في حين إن البحث الثاني قائم على الأمر المعرفي للبحث الأول، ولا علاقة له بالنص كنص. ويصدق الأمر أيضاً مع البحث الثالث (الطريقي)، فإنه قائم على موضوع الفهم، وليس له علاقة مباشرة مع النص. وبالتالي فإن البحث الأول هو الوحيد الذي يتعامل مع النص مباشرة عبر ظاهرة الإستنباط. أما البحثان الآخران فيتعاملان مع الفهم لا النص. فالبحث التاريخي معني بدراسة الفهم سطحياً من الخارج، فيما يقوم البحث الطريقي بحفر جواني للوصول إلى بنيات الفهم الأساسية من الداخل.

لذلك يقع البحث الطريقي موقع البنية الأساسية للفهم، فالأخير مدين في تأسيسه وبنائه الى القبليات التي تتيح لنا الفهم والتفكير حتى وإن لم نتعقلها، فنفكّر بها وإن لم نفكّر فيها، وهي التي تشكل صلب الموضوع الذي يعالجه علم الطريقة بالبحث والتحقيق.

وعليه كثيراً ما يصاب الحوار المذهبي بحوار الصم والطرشان تبعاً لقيام المتحاورين على عرض وجهة نظرهما وفقاً للبنية السطحية، مع تضمن ذلك موقفاً مسبّقاً غير ملتفت إليه يخص البنية الأساسية العميقة أو البناء التحتي للفهم. فجوهر الصراع – هنا – يجري وفقاً للبنية الأخيرة من غير وعي ولا شعور، وهو ما يؤدي إلى الصراع الأول الخاص بالبنية السطحية للفهم. وبالتالي يتصف كلا المتحاورين بعدم فهم ما لدى الآخر. ولا ينفع أن يكون الحوار معتمداً على بنيتين مختلفتين؛ فينطلق أحد المتحاورين وفق البنية الأساسية العميقة، فيما ينطلق الآخر وفق البنية السطحية. إذ في هذه الحالة إن من ينتمي إلى البحث في البنية الأساسية يفهم ما لدى الآخر، في حين لا يفهم الآخر ما لدى الأول، فيكون الحوار غير متوازن، وكأنه حوار بين يقظ وسكران.

لكن مع الأخذ بعين الإعتبار أن البنية السطحية لها طبقات مختلفة، فقد تكون سطحية تماماً، أو أنها وسطى، فهي سطحية بالنسبة للأساسية منها، لكنها تحتية مقارنة بما فوقها. ويمكن أن نعبّر عن ذلك بوجود ثلاث بنى مختلفة، سطحية ووسطى وأساسية عميقة. وتتصف الوسطى بأن لها صفة مزدوجة مقارنة بما فوقها وتحتها. فمثلاً إن التعرف المباشر على فتوى في قضية ما، أو تفسير آية معينة، أو موقف الإسلام من مسألة محددة.. كل ذلك يجعل المعرفة تنتمي إلى البنية السطحية الصرفة للفهم. في حين إن تعليق هذه المعرفة على أبحاث أخرى، كاللغة والدلالة وعلم الحديث والرجال وغيرها.. كل ذلك سيجعل من الفهم منتمياً إلى بنية ثانية وسطى هي بمثابة التحتية للأولى، لكنها تظل سطحية أو وسطى مقارنة بالثالثة التي تبحث بما هو تحت هذه المباحث من قبليات الفهم ودوائره المنهجية. لهذا فالعلم الدقيق هو ذلك الذي يتدرج من البنية الأساسية العميقة إلى السطحية مروراً بالبنية الوسطى. ونحن نميل إلى جعل كل ما يتوقف على البنية الأساسية من دون وعي بأنه يدخل ضمن البنية السطحية للفهم.

فالبنية الأساسية هي شرط إمكان المعرفة وإن لم يعِها الباحث أو يفكر فيها. فلا تتأتّى معرفة هذا الشرط من دون «حفر» للوصول إلى أقصى منابع توليد الفكر. ولا نقصد بذلك حصر العملية بزمن معين كالتي تتناولها اركيولوجية ميشيل فوكو، بل يكفينا التفكير في النظام المعرفي ولو لم يُحدد بعصر ما دون غيره؛ لتداخل العصور أحياناً، ولأن الزمن المعرفي لا يتطابق بالضرورة مع الزمن التاريخي للعصور.

ولعلم الطريقة مستويات ثلاثة من البحث كالتالي:

الأول: التحليل، حيث يُرصد فيه نتاج العلماء من الفهم وتحليله من خلال ارجاعه إلى القبليات والأصول المولدة وطرق الفهم المختلفة. فإذا كان البحث الإستنباطي يتبنى عن وعي أو عن غير وعي طريقة محددة للفهم، وهو بهذا غير معني بدراسة طرق الفهم، فإن علم الطريقة يعمل على دراسة هذه الطرق بتحليل نتاج العلماء كما وردتنا.

الثاني: ضبط المعايير الخاصة بالترجيح بين المناهج والنظريات، إذ تقتضي مهمة علم الطريقة البحث عن الضوابط والمعايير اللازم اتخاذها في الترجيح بين مناهج الفهم ونظرياته المتعارضة.

الثالث: السعي نحو تأسيس معايير منضبطة لإنتاج نظريات وأنساق ذات كفاءة عالية للفهم.

أخيراً فقد فرض علينا هذا العلم أن نقدّم مفاهيم وتقسيمات مستحدثة كثيرة؛ تمتاز بالدينامية والفاعلية والثراء المعرفي والفلسفي دون ان تكون من النوع الساكن البسيط الذي لا يفيد ولا يثري ولا يثمر شيئاً.

comments powered by Disqus