-
ع
+

خلاصة فكر (22) مسلك الفهم المجمل للنص

يحيى محمد

 في الفصل الاخير من كتاب (النظام الواقعي) قدّمنا مسلكاً جديداً للفهم الديني سميناه مسلك الفهم المجمل للنص، وذلك في قبال مسلك الفهم المفصل كما هو معمول به لدى كافة المذاهب الاسلامية.

فكل نص لغوي يعتريه الاجمال الملتبس بالتشابه مهما كان واضحاً، وهو بالتالي عاجز عن التحديد التام لماهية الأشياء فهماً وحكماً. والنص الديني لا يتجاوز هذه الحقيقة اللغوية. ولمعالجة هذا النقص نحتاج الى تفكيك النص تبعاً للمقاصد وعلاقتها بكل من الوجدان العقلي والواقع.

وفي طيّات بحثنا للفهم المجمل قسمنا المجمل الى متشابه ومبيّن ولكل منهما تقسيماته الفرعية، وما يهمنا – هنا - هو الاخير، حيث ينقسم الى ثلاثة أنماط، هي العارض والإستقرائي والأصلي، كما يلي:

أ ـ المجمل العارض

وميزة هذا النوع هي أن الإجمال فيه متولد عن العوامل العارضة. وهو بيّن في بعض أطرافه وليس بإجماله، والتشابه في إجماله ليس ذاتياً من حيث الأصل، بل ناتج عن عوامل خارجية. فمثلاً عندما تتصف الأحكام الشرعية المسماة بـ (الاحكام التفصيلية) بالوضوح والبيان، سواء دلّت على الحرمة أو الوجوب أو الإباحة، تصبح أحكاماً مجملة من النوع العارض، فهي في بعض أطرافها المتعلقة بالحالة أو الواقع الخاص تكون مبينة، لكنها في غير تلك الحالة أو الواقع تصبح مجملة متشابهة. فالإجمال أو التشابه ينشأ حول ما إذا كانت هذه الأحكام تخص تلك الحالة والواقع، أو أنها شاملة لما عدا ذلك. وبالتالي فإن لهذا المجمل فرضين محتملين هما الشمول والخصوص. والأخير يعد من المفصلات المبينة، إذ هو مما ينطبق عليه الحكم، أما الشمول فهو مورد الشك والإحتمال.

ب ـ المجمل الإستقرائي

وله خصوصيتان تميزانه عن غيره من المجملات، إحداهما ان البيان فيه مستدل عليه بالطريقة الإستقرائية، أو على الأقل إن البيان ناجم عن كثرة ما تدل عليه القرائن الإحتمالية. فالبيان بهذا الاعتبار ليس ذاتياً بحسب المنطوق اللغوي. كما يمتلك ميزة أخرى متممة، وهي أن البيان فيه متحقق رغم وجود التشابه في جميع مفصلاته، بل إن الفضل في توليد هذا البيان (المجمل) يعود إلى ذات المفصلات المتشابهة. فمثلاً إن المقاصد الضرورية للشريعة هي مقاصد منتزعة من أمثلة كثيرة، لكن ليس كل واحد منها يمكن ان يدل على ذلك الأمر المعلوم. وكذا لو فرضنا ان كل ظاهر قرآني حول عصمة الانبياء يفتقر إلى البيان الكافي لنفي العصمة الشمولية، فمع ذلك نجد أن كثرة القرائن التي تدل عليها عشرات الآيات تفضي إلى تكوين البيان الكلي لنفي ذلك النوع من العصمة.

ج ـ المجمل الأصلي

وميزته أنه بيّن في اجماله من حيث الأصل أو النص، كما إن منبع التشابه في مفصلاته يعود إلى النص أيضاً. فتارة تتصف جميع مفصلاته بالتشابه، وأخرى يتصف بعضها بذلك فيما يتصف البعض الآخر بالبيان. وعليه فهو على نوعين: بسيط ومركب. فمثلاً قضايا العبادات العامة كالصلاة والصوم والزكاة وغيرها؛ يعبّر كل منها عن المجمل المبين المركب، وذلك لما تحمله من مفصلات بدورها تكون مجملات لما تحتها من تفريعات.

***

وبناء على ما سبق ان من الممكن اتخاذ موقف يناسب الفهم الديني يختلف عن الموقف المتفق عليه بين المذاهب الاسلامية وعلمائها، حيث سلكوا في البحث عن التفصيل والإيغال في النص أكثر فأكثر، وهو ما يفضي الى المزيد من الإجمالات والتشابهات؛ سواء كان التفصيل والإيغال داخل النصوص المبينة، أو النصوص المتشابهة، أو حتى ضمن ما يتفرع عنهما من قياسات وإجتهادات لا تأخذ مبادئ الفهم الديني من المقاصد والعقل والواقع بعين الاعتبار. لذلك نسمي هذا السلوك بمنهج الفهم المفصل تمييزاً له عما يقابله من منهج قائم على الفهم المجمل. ويمكن تشخيص الفروق بينهما بحسب النقاط التالية:

1 ـ إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالمقاصد. فالفهم المجمل يتسق معها من غير معارضة، في حين يعمق الفهم المفصل حالة الإنفصال والتعارض معها. وهذه النقطة هي من أهم الإشكالات التي تواجه الفهم الأخير، فهو لا يدع مجالاً للأخذ بالمقاصد؛ طالما ان الأخذ بأحدهما يفضي إلى التعارض مع الآخر. وهو ما يفسر كيف أن موقف المنظرين للمقاصد هو موقف يمتاز بالتبرير لا التشريع. فالذين نظّروا للمقاصد اعترفوا بما للمفصلات البيانية من مقاصد؛ لكنهم حصروا العمل بالأُولى وأخفوا دلالة ما تعنيه الثانية من غلبة وحاكمية على الأولى بما فيها تلك التي تتصف بالمعارضة معها. فالعمل الثابت بالمفصل لا يتسق ومقالة المقاصد مادامت تغايرات الواقع لا تنتهي بحد معين. في حين ليس الأمر كذلك عند التعويل على الفهم المجمل؛ طالما أنه يمتلك أكثر من طرف، الأمر الذي يقبل التوجيه بحسب ما تفرضه نظرية المقاصد دون تعارض. وبالتالي كان بمقدور الفهم المجمل ان يجنبنا الكثير من موارد الخلاف والمعارضة، وذلك من حيث الإجتهاد في الواقع وعلاقته بسائر مبادئ الفهم الديني.

هكذا يقضي العمل بالفهم المجمل على حالة التعارض التي تحصل بين النص من جهة، وبين الواقع والمقاصد والعقل من جهة ثانية. فحين يصادفنا تعارض من هذا النوع نعلم أو نتوقع ان هناك التباساً وتشابهاً قد حصل حول فهمنا للنص، مما يقتضي حلّه عبر الواقع أو الوجدان.

2 ـ إن الفهمين السابقين يفترقان تبعاً لطريقة معالجة قضايا الواقع. فالمسلك المجمل يولي الواقع أهمية كبرى للمعالجة والتأثير والتفصيل، فهو عنده محل بحث وفحص ومراجعة من غير انقطاع، خلافاً لما يعمل به الفهم المفصل الذي يحد من تأثير الواقع ولا يوليه الكثير من الاعتبار.

كما إنهما يفترقان من حيث المنزلة المعرفية التي يحتلها النص عندهما. فالنص لدى المسلك المجمل له صفة توجيه الفكر، ولدى المسلك المفصل له صفة تكوين الفكر. أي ان الأول يتعامل مع النص بوصفه موجهاً أكثر منه مكوناً، على خلاف الآخر الذي يتعامل معه بوصفه مكوناً أكثر منه موجهاً. ولا شك ان الخلاف بين الحالين ينعكس على الموقف من الواقع. فالذي يولي النص صفة التكوين لا يجعل للواقع مكاناً. والذي يمنحه صفة التوجيه يحتاج إلى كتلة معرفية تكوينية تمارس عليها سمة التوجيه، وهو لا يجدها غنية إلا في الواقع. مع لحاظ الأمر النسبي بين التوجيه والتكوين، إذ التوجيه لا يخلو من تكوين مهما بدا ضعيفاً، كما إن التكوين هو الآخر لا يخلو بدوره من توجيه وإن قلّ.

كما إنهما يفترقان بحسب التخفيف من حالات الخلاف المعرفي والعلمي. فالخلاف المعرفي بحسب الفهم المفصل يكاد يكون كما هو من غير تناقص، بل غالباً ما يزداد كلما كثر الرجوع إلى التدقيقات اللغوية وإحتمالاتها، وليس الأمر كذلك مع الفهم المجمل، إذ الرجوع إلى الواقع وإن كان لا يقضي على الخلاف عادة، الا أنه يمكن تخفيفه وربما ازالته عبر امتداد الزمن.

3 ـ إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب اضفاء القداسة على نتائجهما الإجتهادية. فالفهم المجمل يجعل القداسة تلوح المجملات المستلهمة من النصوص ولا يولي للمفصلات الظنية مثل هذا الاعتبار. وهو خلاف ما يقوم به الفهم المفصل من جعل القداسة مبسوطة على المجملات المعلومة والمفصلات الظنية بلا فارق جذري بين المجموعتين.

كذلك فبقدر ما يضيّق الفهم المجمل حدود دائرة النص وما يترتب عليها من قداسة؛ بقدر ما ينفتح على الواقع بهدي المقاصد. وعلى العكس منه يعمل الفهم المفصل، إذ بقدر ما ينفتح على النص ويستلهم منه القداسة حتى في المفصلات الظنية؛ بقدر ما يبتعد عن الواقع واعتباراته. فالإجتهاد لدى الفهم المفصل هو إجتهاد في النص. بينما الإجتهاد في الفهم المجمل هو إجتهاد في الواقع المفتوح.

هكذا فبفعل الفهم المجمل يمكن القضاء على الكهنوت المبتدع عبر منهج الفهم المفصل، والذي ينسب كل ما هو إجتهادي إلى أحكام الشريعة الإلهية، ومن ثم تلبيسه ثوب المقدس. وبطبيعة الحال قد تتفاوت قداسة هذا المقدس وكذا طبيعة الكهنوت القائم عليه. في حين يتقارب الناس في فهمهم للقضايا الدينية وفقاً للنهج المجمل، شبيه بما كان عليه الأمر زمن الرسالة.

4 ـ إن الفهمين السابقين يفترقان بحسب علاقتهما بالأمة المسلمة. فالمسلك المجمل هو مسلك توحيدي خلافاً للمسلك المفصل الذي يعمل على التفريق والتنازع لإرتباطه بالمقدس حتى على مستوى الظنون المنبعثة عن المفصلات. الأمر الذي تتعارض فيه المقدسات الظنية، فيتولد الخلاف والصراع للإرتباط بهذه المدعيات.

كما إنهما يفترقان من حيث التخفيف والتشديد وحدود التزامات الأفراد في قضايا الأحكام والعبادات. فالمسلك المجمل يميل إلى التخفيف والتقليل، خلافاً للمسلك المفصل الذي يتجه صوب التشديد والتوسيع.

comments powered by Disqus