-
ع
+

خلاصة فكر (21) منهج جديد للفهم الديني

يحيى محمد

تضمّن كتاب (النظام الواقعي) منهجاً جديداً للفهم الديني يختلف عن نُظم ومناهج تراثنا المعرفي. ويعتمد هذا النظام على أربعة أركان: الواقع والوجدان العقلي والمقاصد والفهم المجمل للنص. فالواقع هو بمثابة المولد المعرفي، أما الوجدان والمقاصد والفهم المجمل فهي تعمل كموجهات للفهم.

وأهم ما في هذا المنهج هو انه يجعل الواقع أساس التفكير والتكوين المعرفي بعد البديهات العقلية والمنطقية. وما يميزه عن نُظم التراث، هو أن هذه النُظم قائمة على إدعاءات خاصة غير مشتركة، ففي حد ذاتها تحتاج إلى تحقيق؛ إن كانت تُقبل أو لا تُقبل، وقد جرّبها الفكر المتحقق الديني دون نجاح. في حين يعتمد النظام الواقعي على العقل البعدي، ويتقوم بالقبليات المشتركة التي يقرّها الوجدان الفطري، ومن ذلك ما يتعلق بمنطق الإستقراء والإحتمال، الأمر الذي يجعله قابلاً للتجديد والتطوير؛ لإتكائه على الواقع الثري بالمعاني.

ويترتب على ذلك ضرورة إحضار الواقع بقوة ضمن مفاصل الفكر الديني، وإحضار الدراسات التي تخص واقع الإنسان وحقوقه. بل هناك نوعان من العقل يتوجب إحضارهما، هما العقل البعدي القائم على دراسة الواقع والتزود بنتائجه، والعقل الوجداني والبديهي. ولا بد من التمييز بين العقل القبلي والعقل البعدي، وأن القضية المدعمة بالأول لا تكون بقوة تلك المدعمة بالثاني؛ ما لم تكن من القضايا الوجدانية والبديهية واللوازم المستنتجة عنها، وعدا ذلك فإن القوة المعرفية التي يحظى بها العقل البعدي هي أكثر وثوقاً مما يحظى به العقل القبلي. ووفقاً للعقل البعدي فإن للدلالة الواقعية أهميتها الخاصة للكشف المعرفي. وبالذات فان العقل المطلوب هو ذلك المحدد بالنظام الواقعي.

وبحسب هذا النظام فإن للواقع أدواراً متعددة في العلاقة مع النص والخطاب الديني. فبداية ان إدراك الواقع هو ما يتيح لنا الفهم الديني حتى وإن لم نتعقله، فنفهم ونفكّر به وإن لم نفكّر فيه. فله تأثير على فهم النص، كما له تأثير على تغيير هذا الفهم، كسنّة واقعية يمكن تقريرها كالتالي: كلما تغيّر الواقع؛ كلما أدى ذلك إلى تغيّر الفهم معه بإضطراد. وعلى هذه الوتيرة كلما اشتد تغيّر الأول كلما أفضى ذلك إلى زيادة تغيّر الثاني بالتبع.

كما للواقع علاقة جدلية مع النص والخطاب الديني، فقد تأثرت أحكام الأخير به منذ لحظة التنزيل القرآني وحتى يومنا هذا، وبشكل أدق أن كلاً منهما قد مارس التأثير على الآخر طوال هذه المدة، والمستقبل أمامهما مفتوح. وبفعل هذه الجدلية يُعرف أن الجزيرة العربية ليست مركزاً يُستقى منها الأحكام لتوزع على سائر دوائر الخليقة مدى الدهر، بل هي نموذج تمّ إختيارها ليطبق عليها شطر من الأحكام المناسبة لظروفها الخاصة. أما سائر الظروف فأمرها مختلف، إذ لا يشترط أن يُطبق عليها نفس هذه الأحكام، سواء بالقياس أو الإستصحاب، إذ كلاهما لا يتسقان مع طبيعة الواقع المتغير. وبالتالي فإن ما يعنينا من الأحكام هو العبرة والإرشاد.

كذلك للواقع حاكمية على النص عند تعارض دلالاتهما الإخبارية أو الخاصة بالحقائق الكونية والموضوعية عموماً.

يضاف إلى أن للواقع القيمي المتعلق بالمصالح والمفاسد حاكميته على النص، شرط أن تكون الحاكمية منضبطة بضوابط المقاصد العامة دون إتخاذ صورة تبرير الواقع الفاسد.

كما من أولويات هذا النظام ان الواقع يتقدم على غيره من مصادر الكشف المعرفي، ويتميز بكونه يساعد على التحقيق في أصول العقائد، كما إنه يساعد على معرفة ما يتضمنه النص من معنى، فما لم يؤخذ الواقع الخاص بالتنزيل بعين الإعتبار؛ لا يمكن التعرف على دلالة النص. يضاف إلى أنه يساعد على الكشف عن طاقة النص وإمكاناته للتطبيق، مثلما يساعد على معرفة ما يتضمنه الأخير من مصداقية دينية أو تزوير، كالحال مع نصوص الحديث التي يمكن تعريض الكثير منها للكشف الواقعي والتجريبي. كذلك تبرز أهمية الواقع عند الإعتماد عليه كمعيار لترجيح النظريات الدينية وأنساق الفهم، كالذي فصلنا الحديث عنه في (علم الطريقة).

وعند المقارنة بين الواقع والنص نجد أن الأخير ثابت لا يقبل التغيير والإفصاح عن نفسه بأكثر مما جرى فيه الأمر إبتداءاً، فهو يحمل نظاماً مغلقاً لا يسمح بإضافة المزيد، ناهيك عن كونه يعمّق ظاهرة الإبهام وعدم الوضوح كلما طال الزمن، خلافاً للواقع بإعتباره يملك نظاماً مفتوحاً يتقبل الإضافة دون إنقطاع، وهو بهذه الإضافة يكون أكثر وضوحاً كلما طال الزمن، مما يجعله مفتوحاً على المراجعة والتصحيح، أكثر فأكثر، كلما طرأ عليه شيء جديد. وهنا تبرز أهليته لأن يكون مرجعاً أساسياً للتصحيح. فهو يستقل بميزة القابلية على الإنفتاح الدائم، ومن ثم الكشف والتحقيق لتقييم النظريات، سواء تلك التي تُستخلص منه كالنظريات العلمية، أو تلك التي ترتبط معه بشيء من العلاقة، كالنظريات الفلسفية والدينية.

comments powered by Disqus