-
ع
+

خلاصة فكر (20) اخضاع النُظم العلمية لآليات قراءة النص

يحيى محمد

ان للنظم العلمية تشابهات كثيرة مع نُظم التراث الديني، وهذا ما جعلنا نقدم مقارنة بينهما، بحيث انتهينا الى أن التفاسير الفيزيائية هي أشبه بتأويلات النص المختلفة، فكل تفسير هو تأويل، وكل تأويل يقابله آخر، ويمكن تفسير أي شيء بتأويلات مختلفة. ومن ثم من الممكن اخضاع النُظم الفيزيائية لآليات القراءة كما تمارس في الفهم الديني وفقاً لعلم الطريقة.

فمثلما في الفهم ثلاث آليات للقراءة، هي الإستظهار والتأويل والإستبطان، فكذا يمكن ان يطبق هذا الحال في العلم، حيث فيه ما يقابل كل طريقة من هذه الآليات، فيمكن تطبيق الإستظهار على النظام الأول الإجرائي مثلما يطبق على الدائرة البيانية. كما يمكن تطبيق التأويل على النظام الثاني الإفتراضي مثلما يطبق على الدائرة العقلية، سواء كانت فلسفية أو كلامية، في حين إن الإستبطان يناسب النظام الثالث (التخميني الميتافيزيائي)، مثلما يناسب المنهج العرفاني الباطني لإعتقاداته الاسطورية لأدنى مناسبة، وكلاهما يقتربان مما تتجه إليه نظريات القراءة الأدبية فيما بعد الحداثة؛ بجعل النص مفتوحاً وقابلاً لإتخاذ الحد الأقصى للقراءة بلا حدود وضوابط، كالذي عرضناه في (علم الطريقة).

كما ومثلما ان النص يتألف من ثلاثة عناصر، هي اللفظ والسياق والمجال، وان أي قراءة لا بد من ان تحتكم إلى ترتيب العلاقة بين هذه العناصر، فكذلك يتألف الكون من ثلاثة عناصر، هي الشيء والعلاقة والمجال، وان أي تفسير لا بد من ان يستظل بترتيب الروابط بين هذه العناصر. فهناك أشياء في الطبيعة يمكن الإشارة إليها بنحو ما؛ كالشجر والحجر والإلكترون والبروتون، ولهذه الأشياء علاقاتها المتشعبة. كما إن لها مجالاتها الخاصة بحيث لا يختلط بعضها بالبعض الآخر، ومن ذلك عدم اختلاط قوانين الكوانتم للعالم الجسيمي بقوانين العالم الجسمي الكبير، رغم ان هذا الأخير قائم على الأول. ومثلما ان الكائن الحي يتألف من وحدات الحياة المسماة بالخلايا، إلا ان لكل منهما قوانينه الخاصة التي لا تختلط بالاخرى رغم التراكب الحاصل بينهما.

إذاً هناك تناظر في العناصر بين النص والكون أو الطبيعة، فأشياء هذه الأخيرة تناظر الفاظ النص، وعلاقاتها تناظر سياقاته، كما إن مجالاتها تناظر مجالاته.

وفي حالة النص عرفنا بأن الآلية الإستظهارية تتصف بكونها تعمل على مراعاة سياق النص في أخذها بالظهور اللفظي والمجال. وان الآلية الإستبطانية تعمل على الضد، فلا تأخذ بالمجال مما يقتضي عدم مراعاة السياق بتركها للظهور اللفظي. وان الآلية التأويلية تتخذ الطريق الوسطى، حيث تحتفظ بالمجال لكنها لا تراعي السياق في حمل اللفظ على الظاهر. وتنطبق هذه الآليات الثلاث للقراءة على النُظم العلمية الثلاثة. فالنظام الأول يمارس نمط الإستظهار فيحافظ على الظهور الفعلي لعلاقات الأشياء ضمن مجالها، والثاني يمارس نمط التأويل بإعتباره لا يحافظ على ظهور العلاقات، وإن كان لا يتجاوز المجال المتعلق بها، في حين يمارس الثالث نمط الإستبطان لكونه يتجاوز مجال العلاقات بإستدلالاته من أي شيء على كل شيء.

هذه هي التناظرات بين نُظم العلم والفهم الديني، فالنظام الإجرائي التجريبي للعلم يناظر المنهج البياني للفهم، فكلاهما يمارس نمط القراءة الإستظهارية. والنظام الإفتراضي الإستنباطي يناظر المنهج العقلي بشقيه الوجودي والمعياري، إذ كلاهما يمارس نمط القراءة التأويلية. كما إن النظام التخميني الميتافيزيائي يناظر المنهج العرفاني الباطني، حيث كلاهما يمارس نمط القراءة الإستبطانية لأدنى مناسبة.. وإذا كان النص هو من يحدد طبيعة المجال الذي يتضمنه عبر فعل القراءة، فإن الكون هو من يحدد طبيعة المجال الذي يتضمنه عبر فعل الملاحظة والتجربة والإختبار.

comments powered by Disqus