-
ع
+

خلاصة فكر (18) التأطير المنهجي لتراثنا المعرفي

يحيى محمد

سبق أن قدّمنا تأطيراً منهجياً لتراثنا المعرفي، فقسّمناه الى نظامين مختلفين هما النظام الوجودي والنظام المعياري، ولكل منهما منهجان معرفيان. فالأول منهما يحمل دائرتين فلسفية وعرفانية، كما يحمل الثاني دائرتين عقلية وبيانية (نقلية). وبهذا يكون الفكر الإسلامي - كتراث - حاملاً لأربع دوائر مختلفة تتمايز منهجياً بأدواتها المعرفية، رغم أن إنتاجها المعرفي وفهمها للنص الديني يتحددان طبقاً لما تحمله من أصول مولدة فعالة تعمل كدينامو للتفكير والتنظير. إذ يتعذر على الأدوات المنهجية أن تنتج فهماً ومعرفة من غير تلك الأواصر. ومن حيث الدقة تعاملنا مع هذه الدوائر وفق مرتكزاتها المعرفية كما تتمثل بكل من المصدر والأداة والأصل المولد. وقد استغرق البحث حولها ثلاثة أجزاء من المشروع الخماسي لموسوعة (المنهج في فهم الاسلام)، وهي: نُظم التراث والنظام الوجودي والنظام المعياري.

فالمنظومات الرئيسية التي فصلنا الحديث عنها هي كل من المنظومة الفلسفية والعرفانية والبيانية، إضافة إلى المدارس الكلامية كالمعتزلة والإمامية والأشاعرة. ولكل من هذه المنظومات والدوائر المعرفية قبلياتها المتعلقة بالمصدر والأداة والأصل المولد.

فالدائرة الفلسفية تعتمد على العقل الوجودي كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى السنخية كأصل مولد. والدائرة العرفانية تعتمد على القلب الوجودي كمصدر، وعلى الكشف الذوقي كأداة، وعلى السنخية كمولد. أما الدائرة البيانية فتعتمد على النص الديني كمصدر، وعلى اللغة كأداة، وعلى الفهم العرفي كمولد. في حين ان المعتزلة والإمامية يعتمدان على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق الحق الذاتي كمولد. كذلك ان الأشاعرة تعتمد على العقل المعياري كمصدر، وعلى العقل الاستدلالي كأداة، وعلى منطق حق الملكية كمولد.

ويعتبر الأصل المولد أهم ما في هذه المرتكزات الثلاث، فله وظيفة مزدوجة للربط، فهو منهج ورؤية مولّدة في الوقت ذاته، وبهذا الإزدواج فإن ما يتولّد عنه من مفاصل الرؤية يخضع لإشتراك هذين العنصرين.. ومن ثم فانه يعمل على تأسيس المنظومات والرؤى الفكرية، كما يعمل على توجيه الفهم الدين بشكل دون آخر.

وسبق أن ميّزنا بين النظامين المعياري والوجودي من خلال المباحث الفلسفية العامة لكل من: المعرفة (الإبستمولوجيا) والوجود والقيم. فقد إستند البحث في النظام المعياري إلى إشكالية (القيم) كما تتمثل في نظرية التكليف، ومنها تعدى إلى إشكاليتي المعرفة والوجود. فقد كانت مباحث هذا النظام تدور حول (نظرية التكليف) وقد تأثرت بها كل من الإشكاليتين السابقتين.

في حين دار البحث في النظام الوجودي حول إشكالية (الوجود)، ومنه تعدى إلى المبحثين الآخرين. فقد انعكس تأثير الإشكالية الوجودية على كل من القيم ونظرية المعرفة، فأصبحت القيم لدى هذا النظام مجازية لأنها محكومة بالحتمية الوجودية، كما أصبحت المعرفة ذات أبعاد مطلقة وضرورية بفضل التطابق مع الواقع، لا سيما وأنها مستلهمة من العقل السماوي الفعال.

وفي قبال هذين النظامين اشتغل الفكر الغربي الحديث او بعض تياراته الهامة على نظرية المعرفة، ومنها تعدى البحث إلى إشكالية الوجود والقيم، كالذي يظهر لدى كل من ديكارت وبيكون ولوك وهيوم وستيوارت مل وعمانوئيل كانت والوضعيين المنطقيين وفلاسفة العلم وغيرهم. والذي جعل هذا الفكر يهتم بنظرية المعرفة هو أنه قد شكك بالمسلمات المعرفية، وغلب عليه عدم التسليم بوجود تطابق بين العقل والوجود، خلافاً للنظام الوجودي الذي برر التطابق وفقاً لمبدأ السنخية كأصل مولّد. فرؤية الفكر الغربي للوجود هي رؤية ينتابها التردد والشك وأنها لا تتوغل صوب القضايا الميتافيزيقية كما يفعل النظام الوجودي. كما إن تأثيرها على القيم بيّن هو الآخر، بإعتبارها تخضع للتحليل المعرفي لدى هذا الفكر، وهو غالباً ما يراها ذاتية وليست تجلياً من تجليات الحتمية الوجودية.

comments powered by Disqus