-
ع
+

خلاصة فكر (17) للنص عنصر ثالث مع قراءة جديدة

يحيى محمد

سبق الكشف عن وجود عنصر ثالث للنص يضاف الى اللفظ والسياق وسميناه (المجال)، وقصدنا به نوعاً من المحور النصي يدركه كل من أراد فهم النص، سواء استطاع تحديد القراءة أم لم يستطع، فهو يعبر عن معرفة ما تدور عليه الاحداث اللغوية بالاجمال والعنوان العام. وهو يتميز عن السياق في أن الأخير يبعث على إدراك الظهور اللفظي، فيما الأول لا يبعث على هذه الخصوصية. فالمجال هو أشبه بحدود بلد مفصول عن بلدان أخرى جغرافياً. فبغداد تقع في العراق لا مصر، والقاهرة تقع في مصر لا العراق، والخلط بينهما هو كالخلط بين المجالات المختلفة.

لذا اعتبرنا للنص ظهورين لفظي ومجالي. والظهور المجالي يعبّر عن الإدراك المجمل للكل الذي يستبق إدراك الأجزاء، فمنه يبدأ تحديد مفاصل الأجزاء المتمثلة بالدلالات اللفظية. وبذلك تنطبق عليه الصيغة الجشطالتية التي يتقدم فيها الكل على الأجزاء، ولا يساوي هذا الكل مجموع أجزائه، كما إن قوانينه تختلف عن قوانينها. وكذا الأمر بالنسبة للمجال، فهو لا يعبّر عن مجموع الدلالات اللفظية، كما إن الظهور فيه ليس من الظهور اللفظي (المفصل)، وإدراكه يحصل بالتبادر المباشر، وهو سابق في ظهوره لظهور الدلالات اللفظية، بل إن حضوره شرط في تحديد هذه الدلالات، رغم انه متوقف في وجوده على وجود الألفاظ والسياق.

إن للمجال ظهوراً بحسب الحقيقة أو المجاز؛ مثلما ان للفظ ظهوراً بحسب الحقيقة أو المجاز، وعلامة هذا الظهور هو التبادر في كلا الأمرين. فسواء كان التبادر يشير إلى المعنى المجالي الحقيقي كما تبديه ألفاظ النص وسياقها، أو كان يشير إلى المجال المجازي والرمزية الظاهرة في النص، ففي كلا الحالين يوجد ظهور مجالي. فمثلاً إن للقصص الرمزية للعرفاء دلالات بادية للفظ والمجال، لكنها ليست مرادة بذاتها، وانما ترمز إلى ما ورائها من المعاني الباطنية بحسب القبليات الوجودية، لذلك فهي من هذه الناحية لها ظهور يختلف عن تلك الدلالات البادية، وهو ما سميناه بالظهور الرمزي والمجالي، فالرمزي من حيث إعتبار اللفظ رمزاً لمعنى باطن هو غير الدلالة البادية سواء كانت حقيقة أو مجازاً، والمجالي من حيث إعتبار المجال ليس ذلك المأخوذ من المعاني البادية للألفاظ، وانما من ذلك المرموز إليه.

لكن هذا النوع من المجال الظاهر هو على الضد من مجال آخر أطلقنا عليه المجال التأويلي أو الباطني، فالأخير يقطع الصلة بين الدال والمدلول، ولا يجد ما يدل عليه بحسب القرائن الدلالية للنص وايحاءاتها. وفيه يكون القارئ متوجهاً نحو ربط كل شيء بأي شيء، وكل نص بأي نحو من الأنحاء من غير ظهور ولا ملازمة، فالدلالة النصية في واد، والمعنى الآخر في واد. وكل ذلك دال على تحويل المجال واستبداله بمجال آخر باطني بعيد. وهو أمر شائع إستخدامه لدى الباطنية والعرفاء عند قراءتهم للنص الديني.

نضيف الى ما سبق، ان لآليات قراءة النص اللغوي مستويين: اشاري وايضاحي. فالقراءة الاشارية تبحث عن المعنى، لكن القراءة الايضاحية تبحث عن شرح هذا المعنى، فهي عبارة عن معنى المعنى وفهم الفهم. بل وتمثل نصاً لنص الاشارة التي هي نص اول للنص الاصلي الذي سميناه بالمجهول كشيء في ذاته. وهذا يعني ان الايضاح هو نص نص النص.

وبفضل اكتشاف المجال تصبح انماط القراءة ثلاثة لا اثنين، سواء على مستوى الاشارة او الايضاح. فهي اما استظهار النص، او تأويله، او استبطانه. فإستظهار النص هو ذلك الذي يحافظ على الظهور المجالي وتكون فيه الدلالات اللفظية معلومة بالتبادر. وتأويل النص هو ذلك الذي يبتعد عن هذه الدلالات الظاهرة، وإن التزم بالظهور المجالي. أما إستبطان النص فإنه على خلاف كل من الإستظهار والتأويل حيث يتصف بعدم الالتزام بكل من الظهورين اللفظي والمجالي.

لذلك نعتبر ان تحقيق الآليات الثلاث (الإستظهارية والتأويلية والإستبطانية) يعتمد على طبيعة الصلة بين الظهور اللفظي والمجالي كما يلي:

فللآلية الاستظهارية شرطان هما المجال والظهور اللفظي، وان الأخذ بالظاهر يقتضي الأخذ بالمجال من دون عكس.

وعلى الضد من هذه الآلية ما تعمل به الآلية الاستبطانية، حيث تتخلى عن كلا الشرطين السابقين، فيكفي انها لا تعمل بالمجال فسيقتضي ذلك عدم استخدام الظهور اللفظي.

أما الآلية التأويلية فهي وسط بين السابقتين، حيث تحتفظ بالمجال دون الظهور اللفظي.

ويمكن التعبير عن الفوارق بين الآليات الثلاث بالصيغة الرياضية كما يلي:

الظاهر + المجال ← الإستظهار

- المجال – الظاهر ← الإستبطان

المجال – الظـاهـر ← الـتـأويـــل

وبذلك توصلنا الى نتائج هامة حول قراءة النص ومنه النص الديني، وطرحنا جدولاً ليقارن بين هذه الرؤية الجديدة والرؤية التقليدية كما يلي:

الموقف التراثي

الرؤية الجديدة

اللفظ + السياق ← النص

اللفظ + السياق + المجال ← النص

الظهور اللفظي ← ظهور النص

الظهور اللفظي + الظهور المجالي ← ظهور النص

أنواع القراءة = إستظهار + تأويل

أنواع القراءة = إستظهار + تأويل + إستبطان

مستويات القراءة = واحد

مستويات القراءة = إثنان (اشارة + إيضاح)

تأثير القبليات المعرفية = 0 أو 1

تأثير القبليات المعرفية = 1

 

comments powered by Disqus