-
ع
+

خلاصة فكر (16) قاعدة النفي المرجح في المنظومات التامة الإغلاق

يحيى محمد

تتعلق هذه القاعدة بالمنظومات والأنساق المغلقة التي لا يمكن تفكيكها والتحقيق فيها مباشرة وغير مباشرة. وخلاصتها أنه عندما تكون هناك إمكانات متعددة، أكثر من إثنين، فإن نفي أي من هذه الإمكانات سيكون أكثر توقعاً من إثباته، ويزداد توقع هذا النفي باضطراد كلما زاد عدد الإمكانات المحتملة. وعلى عكسه تضعف قيمة إحتمال الإثبات أكثر فأكثر كلما زادت تلك الإمكانات. وعموماً يترجح محور النفي على الإثبات عند الشك والتردد بينهما، لتعدد إمكانات النفي خلافاً لمحور الإثبات.

فمثلاً لو أردنا أن نقدر حساب عدد النجوم في مجرتنا السماوية، فسنتوقع خطأ أي رقم نختاره، بل إن إثبات أي عدد نختاره هو بحكم المستحيل تقريباً، فالنفي في هذه الحالة هو المتوقع، بل المتعين تقريباً، فحالة الإثبات مترددة بين عدد ضخم من الأرقام، ويُقدّر إحتمال أي رقم نختاره بواحد مقسوماً على العدد الإجمالي الكلي، فلو كانت الأرقام مترددة - مثلاً - من مليون إلى مليوني نجم، فإن إحتمال أي رقم نختاره هو واحد من مليون، وهو إحتمال في غاية الضعف والضآلة، في حين يكتسب النفي ما يقابله من إحتمال، إذ يصبح في غاية القوة وأقرب ما يكون إلى اليقين، وهو مليون إلا واحد مقسوماً على مليون.

وتفيدنا هذه القاعدة في الأمور المتعلقة بالثقة الاجتماعية وعدمها، فالفارق بينهما ليس فارقاً يتعادل في نتائجه الطرفان، بل الفارق بينهما عظيم غير قابل للتقدير. وتوضيح ذلك لو أخبرنا شخص عن مكان زيد وكنّا نحتمل وجوده في واحد من عشرة مواقع مثلاً، فإذا كنّا نثق بإخبار الشخص فإن الإحتمال سيتعين في موقع واحد من بين المواقع العشرة، حيث يكون هو المتوقع دون غيره. في حين لو كنّا لا نثق بالخبر؛ فإن محور النفي سيكون هو المرجح لأي موقع نختاره، وسيظل ترددنا دائراً بين المواقع العشرة المحتملة. فهنا إننا لم نواجه إحتمالين متضادين، بل أمامنا إحتمال متوقع في حالة الثقة في قبال عشرة إحتمالات يجري فيها التردد. أما في حالة عدم الثقة فستنقلب الدائرة إلى العكس، حيث يكون النفي هو المرجح لأي موقع نختاره. فكيف إذا كان حال الإحتمالات والترددات مفتوحاً غير قابل للحصر، كإن يتجاوز المائة أو الألف إحتمال؟! فمن الواضح إن ذلك سيدعو إلى الضلال والحرمان من إدراك الصواب؟! بمعنى أن النفي هو المتوقع دون الإثبات.

وعموماً ان للنفي إمكانات كثيرة، في حين ليس للإثبات إلا حالة واحدة. وهذا ما يجعل الترجيح لصالح النفي لكثرة إمكاناته وإحتمالاته مقابل الحالة المنفردة للإثبات. فهي الحالة التي تمثل الجانب الموضوعي للقضية، ولا شك إن هذا الجانب واحد يراد إثباته وتحديده، في حين تكون الإمكانات في حالة النفي متعددة بلا حدود.

وتنطبق هذه القاعدة على دلالات النصوص عند التردد في مضامينها الحقيقية دون ترجيح، فإذا كان التردد كثير العدد فإن تحديد أي مضمون منها يصبح مستبعداً. وطبقاً لهذا لا يمكن انتزاع عقائد ملزمة من النصوص الدينية عندما يرد التردد في مضامينها، بل وتستبعد مثل هذه العقائد فيما لو تكثرت إمكانات التردد وإحتمالاته. وأشد ما ينطبق هذا الأمر على الروايات في علم الحديث وما يتفرع عنه من علوم، كعلم الفقه مثلاً. فكل رواية تحمل ترددات كثيرة، وكل تردد محتمل، وكل محتمل ضعيف، وهو يزداد ضعفاً تبعاً لإزدياد الترددات والإحتمالات. فقد ترد الآراء في المسألة الواحدة لتصل أحياناً إلى ما يقارب العشرة، كل منها يدعي إصابته لمراد الشرع أو يظن بذلك، مما يعني أن تسعة أعشار هذه الآراء ليست من الشريعة بشيء، ولتبين لنا من الناحية المنطقية أننا – عند التردد - نراهن على إصابة الشرع باحتمال قدره واحد من عشرة فقط.

comments powered by Disqus