-
ع
+

خلاصة فكر (12) الشمولي والاقتصادي في تحليل مبدأ البساطة العلمي

يحيى محمد

تتحكم في النظرية العلمية مفاهيم كالبساطة والجمال والاقتصاد والإتساق، وعادة ما ترد المفاهيم الاخيرة إلى مبدأ البساطة. لكن هذا المبدأ يعتبر من المفاهيم المربكة المعنى، وقد اختلف في تحديده الفلاسفة والعلماء، كالذي عرضناه في (منهج العلم والفهم الديني)، وهذا ما دعانا الى تحليله فانتهينا الى انه ينطوي على مفهومين يخضعان الى منطق الاقتصاد في التفكير.

فهناك المعنى الشمولي للبساطة، كما هناك المعنى الإقتصادي أو الإختزالي لها. وبحسب المعنى الأول يمكن تفسير العدد الأكبر من الظواهر الطبيعية المختلفة طبقاً لبعض المحاور. فهو بالتالي بديل عن تفسير كل ظاهرة لسببها الخاص، حيث غياب المبدأ أو النظرية التي يمكنها تفسير مثل ذلك العدد من الظواهر. فكما يمكن تفسير الظواهر الكونية بشكل منفصل بعضها عن البعض الآخر تبعاً للأسباب والنظريات المختلفة المتعددة من دون جامع، فإنه يمكن أيضاً ارجاعها إلى سبب أو نظرية واحدة، وعندها قد يترجح الفرض الأخير على الأسباب والنظريات المتعددة وفقاً للدليل الإستقرائي.

فمثلاً تعتبر نظرية أينشتاين أفضل من نظرية نيوتن في تفسير جاذبية المجموعة الشمسية، والسبب هو ان نظرية أينشتاين تتمكن من تفسير الظواهر المختلفة لهذه المجموعة دفعة واحدة بسبب محدد، في حين ان نظرية نيوتن وإن امكنها ان تفسر أغلب ما تفسره النسبية لكنها تحتاج إلى أسباب أخرى اضافية لتفسير ما عجزت عن تفسيره، مثل الشذوذ الحاصل في حركة مدار عطارد، وانعطاف الضوء، وبالتالي فنظرية أينشتاين أبسط من نظرية نيوتن.

وفي قبال هذا المعنى هناك معنى آخر للبساطة ليس له علاقة بالدليل الإستقرائي ولا بالمعنى الشمولي، ففيه توصف البساطة بأنها تحمل أقل حد ممكن من المقولات والمقدمات الإستدلالية طبقاً لما يعرف بحد اوكام. فالنظرية البسيطة هي تلك التي تكون خالية من الحشو الزائد، فهي تمتلك أقل عدد ممكن من المقولات والمقدمات مقارنة بغيرها، لهذا اطلقنا عليها المعنى الإقتصادي للبساطة.

ويمكن التمثيل على هذا النمط من البساطة عبر ما لوحظ من ان قيمة اشعة الفا تتغير لدى المجرات البعيدة عما هو الحال في المجرات القريبة والمختبر. وتُعطى هذه القيمة من خلال النسبة بين مربع شحنة الإلكترون وحاصل ضرب سرعة الضوء في ثابت بلانك، وهذه العناصر الثلاثة تعتبر ثابتة فيزيائياً. وبالتالي عندما يلاحظ ان أشعة ألفا قد تغير شكلها عما هو مألوف لدى المجرات البعيدة والنجوم المتراصة واقراص التنامي في الثقوب السوداء، فاما ان يكون هذا التغير حاصلاً بفعل تغير في الشحنة أو في سرعة الضوء أو في طول بلانك، أو في أكثر من ثابت من هذه الثوابت الثلاثة. وعند التحليل الرياضي لوحظ أنه لو أخذت سرعة الضوء كثابت دون تغير فإن ذلك سيعطي علاقات رياضية مطولة ومعقدة، وبالتالي فبحسب مبدأ البساطة وشفرة اوكام فإن من المعقول إعتبار التغير عائداً لسرعة الضوء دون غيره من الثابتين الآخرين.

ومن حيث التحليل فإن العلاقة الجارية في المعنى الإقتصادي للبساطة تختلف عما هي عليه لدى المعنى الأول الشمولي. ففي المعنى الشمولي تتحدد البساطة وفقاً لتفسير الظواهر الكثيرة رغم إختلافها، فالمناط في البساطة يتعين – في هذه الحالة - بالنتائج التي تخضع للتفسير. في حين تتحدد بحسب المعنى الثاني الإقتصادي ليس بالنتائج والظواهر الخارجية، بل وفقاً للاقتصاد في مقولات النظرية ومقدماتها. فالنظريات بهذا المعنى يمكن ان تتكافأ في التفسير، لكن بعضها يحمل مقدمات زائدة عن اللزوم مقارنة بغيرها. وليس الأمر كذلك فيما يخص المعنى الأول، فما يحدد البساطة في المعنى الأول هو العلاقة مع الظواهر الخارجية. في حين ان ما يحددها في المعنى الثاني هو العلاقة بمقدمات النظرية أو مقولاتها. وعلى هذا الأساس فالعلاقة بين المعنيين عكسية.

ففي المعنى الشمولي قد تكون مقولات النظرية متكافئة، لكن النتائج المترتبة عليها مختلفة غير متكافئة، وذلك على الضد مما قد يكون عليه المعنى الإقتصادي. إذ قد تكون النتائج متكافئة لكن مقولات النظريات ومقدماتها متباينة. ففي هذه الحالة ان مقولات المعنى الشمولي هي على الضد من مقولات المعنى الإقتصادي، وكذا النتائج. فإذا ما تميزت إحداهما بالتكافؤ فستكون الأخرى متصفة بالإختلاف، والعكس بالعكس.

ويمكن ايضاح الإختلاف والتعاكس بين المعنيين الشمولي والإقتصادي للبساطة بحسب الرسم البياني التالي:

 

البساطة

\             ̸

المعنى الشمولي      المعنى الإقتصادي

                      ↘                              ↙

تكافؤ المقولات + إختلاف النتائج          إختلاف المقولات + تكافؤ النتائج

والملاحظ ان المعنى الشمولي للبساطة يتضمن المعنى الإقتصادي ويزيد عليه فيما يرتبط بشموليته. إذ يمكن ان نسترجع المعنى الشمولي إلى نوع من البساطة الإقتصادية مع إضافة الشمول، كالذي اثبتناه في (منهج العلم والفهم الديني). وبالتالي فالمعنى الشمولي للبساطة مرده إلى المعنى الإقتصادي أو الإختزالي، لكنه أولى بالأخذ من المعنى الإقتصادي عند التعارض لقيامه على الدليل الإستقرائي. فمثلاً تعتبر نظرية نيوتن وأينشتاين في الثقالة من النظريات التي تتصف بالوصفين المتعارضين. فنظرية نيوتن تعد إقتصادية مقارنة بنظرية أينشتاين، إذ تحتوي على ثلاث معادلات قبال أربع عشرة معادلة لنظرية أينشتاين، وبالتالي فهي أبسط منها، لكن الأخيرة في القبال تعتبر شمولية مقارنة بالأولى، لكونها تفسر ما لم تفسره النظرية الأولى، ومن ثم فهي أبسط منها. وفي هذا التعارض ترجّح نظرية أينشتاين على نظرية نيوتن. ومما يتضمنه هذا الترجيح فكرة أينشتاين حول التكافؤ بين الثقالة والعطالة بدل التمايز بينهما لدى نيوتن، واذا كانت هذه الفكرة أبسط من الناحية الإقتصادية، فإنها أبسط كذلك من الناحية الشمولية، حيث يمكنها ان تفسر الظاهرتين للثقالة والعطالة بتفسير واحد بدل تفسيرين مختلفين، ومثل ذلك التكافؤ بين الثقالة والتسارع كما في النسبية العامة، يضاف إلى حالة الاتصال الزماني المكاني دون الفصل بينهما ككيانين مستقلين. وهي أيضاً أبسط من النظريات التي تفترض الأثير.

ويمكن تطبيق ما سبق على شكل الهندسة الفضائية ان كانت إقليدية أو غير إقليدية. فبحسب المعنى الإقتصادي ان الهندسة الإقليدية أبسط من غير الإقليدية، سواء على الصعيد الرياضي، أو حتى على الصعيد الفيزيائي. أما بحسب المعنى الشمولي فقد تبين بأن الهندسة غير الإقليدية هي الأبسط، إذ أنها يمكن ان تفسر علاقات أكثر للطبيعة مقارنة بالهندسة الإقليدية، وبالتالي فهي أبسط منها بالمعنى الشمولي.

وعلى هذه الشاكلة سبق أن تساءل الفيزيائي الهندي ارفند أواخر تسعينات القرن الماضي: لماذا لا تقتصد الطبيعة في استخدام أداة المعلومات بت bit واحد (صفر، واحد، مثلاً) بدل مضاعفته بأربعة جزيئات لدى عامل الوراثة (الدنا DNA) لتشفير الحياة؟ وكان الجواب هو ان المضاعفة في هذه الحالة ضرورية من جهة الكفاءة العليا لعملية معالجة المعلومات. بمعنى ان هناك بساطة شمولية رغم عدم الاقتصاد في المقدمات.

ومن الناحية الرمزية ان التعاكس بين نظريتين إحداهما إقتصادية والأخرى شمولية يمكن ان يكون كالتالي:

ن1 (أ) ⇚ س + ص + ع

ن2 (أ + ب) ⇚ س + ص + ع + غ + ط

فبحسب المعنى الإقتصادي ان النظرية الأولى أبسط من الثانية، لكنها أعقد منها وفقاً للمعنى الشمولي، وبالتالي فإن الثانية ترجح على الأولى. مما يعني ان المعنى الشمولي هو أقرب لسمة عالم الطبيعة مقارنة بالمعنى الإقتصادي، وان الأخير أقرب لسمة العقل. فالمعنى الشمولي يبدي نوعاً من الإحتمال في كشفه عن كنه الطبيعة، وهو ما لا يرد لدى المعنى الإقتصادي الصرف.

وبحسب التحليل السابق فإن النظريات التي تبحث عن قوانين شاملة إنما تريد بذلك المعنى الشمولي للبساطة، وعلى هذه الشاكلة الذين يبحثون عن البساطة في الطبيعة كحقيقة فعلية. أما النوع الإقتصادي فكما رأينا أنه أقل أهمية مقارنة بالمعنى الشمولي، وقد يسميه البعض (الأناقة)، ويحكى عن أينشتاين بأنه قال: إن على رجال العلم ان يتركوا الأناقة للخياطين.

وينطبق ما ذكرناه من معنى البساطة على كل من المجالين الفلسفي والفهم الديني.

comments powered by Disqus