-
ع
+

خلاصة فكر (10) أصالة الوجود الصيروري

يحيى محمد

لدى المنظومة الفلسفية التقليدية ان الشيء إما ان يكون ماهية أو وجوداً من حيث الأصالة والحقيقة الموضوعية. وان من قال بأصالة الوجود عدّ الماهية إعتبارية ذهنية، ومن قال بأصالة الماهية عدّ الوجود منتزعاً ذهنياً.

لكن للفظ الوجود التباس شديد في المعاني عند الفلاسفة، إلى درجةٍ اعتبره جماعة انه أظهر الأشياء، وعدّه آخرون انه أخفى الأشياء. ومن حيث الظهور والخفاء قيل فيه ما قيل من الأصالة والإعتبار.

ويعتبر صدر المتألهين أبرز القائلين بأصالة الوجود، وقد استخدم للأخير معنيين لأغراض توظيفية، رغم ان بينهما اختلافاً وتعارضاً ظاهراً، أحدهما أطلقنا عليه الوجود الفعلي، والآخر الوجود الذاتي. وان معنى الوجود الفعلي هو الكون ومرادفاته من الحصول والثبوت والتحقق والتشخص، والذي يدرك بالشهود الحضوري المباشر. وعلاقته بالماهية هو انه يعبّر عن كون الماهية وثبوتها وتحققها وحصولها وصيرورتها، فهذه التسميات مترادفة، وتجعل بين الماهية والوجود نوعاً من الإتحاد الخارجي، حيث يوجد الوجود بذاته، وتتحد بوجوده الماهية ويصدق عليها انها تكون موجودة به عرضاً. أما معنى الوجود الذاتي فهو نفس الماهية عند تحققها خارجاً. أي ان الشيء عندما يكون ذهنياً يطلق عليه ماهية، وعندما يكون خارجاً يطلق عليه وجوداً، وبالتالي فإن بين الخارج والذهن نوعاً من المشاكلة للشيء، أي ان بين الماهية والوجود بحسب هذا المعنى شبهاً ومحاكاة، تكون فيه الماهية في الذهن ظلاً تابعاً وحاكياً لما عليه الوجود في الخارج.

لكن لو إعتبرنا الوجود عين الماهية في الخارج وإن كان في الذهن غيرها، فإن النزاع حول أصالة أي منهما يؤول إلى نزاع لفظي، فالماهية هنا ليست نوعاً ولا جنساً وانما هي تلك الحقيقة ذات الهوية الشخصية المعبر عنها بالذات أو الهوية. فالقائلون بأصالة الماهية وإعتبارية الوجود انما يرون نفي حقيقة الوجود الفعلي المعبر عنه بالكون والثبوت، ولا يريدون نفي الوجود الذاتي المعبر عنه بتشخص الذات.

مع هذا يمكن تقرير ان ما ألفناه من القول بالوجود الذاتي، أو الذات المشخصة، قد يعطي انطباعاً باننا نعد الموضوع الخارجي عبارة عن ذات تتضمن الثبات والسكون، في حين إن الممكنات الحادثة، أو الكائنات الطبيعية، لا تخضع إلى مثل هذا المعيار. وبالتالي يمكن إعتبار الممكن الحادث ليس مجرد وجود ذاتي بالمعنى المألوف، انما حقيقته تعبّر عن ‹‹وجود صيرورة››. فهو مؤلف من أمرين متلازمين: أحدهما يمكن التعبير عنه بأنه مادة أو شيئية لا يمكن تحديدها بمعزل عن الأمر الآخر. والثاني كون هذا الشيء غير المحدد هو في حالة من الوجود الفعلي المتكرر والمتغير بلا انقطاع، فهو في صيرورة حدوثية يتجدد فيها الوجود الفعلي بشكل دائم لا يقف عند حد. والمهم في الأمر هو انه بفضل الصيرورة تتحدد ماهية الموضوع الخارجي، وتنشأ الذات، أو ما يطلق عليه الوجود الذاتي، ولولاها ما كان للأشياء ماهية بالمعنى الذي ندركه، أو انه بغير الصيرورة يكون العالم، إن شاء له الوجود، شيئاً آخر غير ما نعهده.

لذا فلسنا أمام عنصرين كالماهية والوجود، بل ثمة عناصر ثلاثة يتضمنها الموضوع الخارجي كما يلي:

الأول: الشيئية الوجودية، وهي قابلة للإدراك بحسب التحليل العقلي. ويمكن التعبير عنها بالمادة والهيولى، فهي الأصل الذي تتوارد عليها صيرورة التجددات، ولا أقول الصور، إذ ان هذه الأخيرة ناشئة بفعل الأمرين معاً، الشيئية والصيرورة.

الثاني: الصيرورة، وهي عبارة عن تجدد كينونة الشيئية ووجودها بلا انقطاع. ومن الناحية المنطقية ان الصيرورة لا يمكن تصورها من غير ان تكون واردة على تلك الشيئية الوجودية، وليس العكس صحيحاً، إذ للعقل ان يتصور وجود الشيء من غير صيرورة، في حين إن تصور الصيرورة الوجودية من غير شيء هو أمر غير ممكن ولا معقول.

الثالث: الذات، وهي مركبة من الشيئية الوجودية وصيرورتها، ولو ان أحد هذين العنصرين كان مفقوداً لما تمّ للذات ان تكون كما هي عليه، ولحلّ الخراب على العالم المشهود. وبهذا نعرف ان الأصالة ليست للوجود أو الماهية بمعناهما التقليدي، أو ما عبرنا عنهما بالوجود الفعلي والذاتي، وانما هي لما سميناه (الوجود الصيروري).

لكن الوجود الصيروري للكائنات الطبيعية على أنحاء من حيث قابلياتها المفتوحة، وأشدها مرونة تلك التي للإنسان، فهويته لا تتحدد بشخوصه وحضوره، انما فيه إمكانات أخرى تجعله ينقلب عما هو عليه صعوداً ونزولاً بلا توقف. لذلك استساغ العديد من المفكرين الغربيين ان يضفوا عليه صفة الوجود دون غيره من الكائنات التي إعتبروها مجرد ماهيات ساكنة، رغم التفاوت الحاصل بين المرونة والثبات لدى هذه الكائنات، لكنها في جميع الأحوال لا تقارن بالإمكانات المفتوحة لدى الإنسان. فهايدجر - مثلاً - يرى ان الإنسان هو وجود مقذوف على الدوام إلى الإمام؛ مستبقاً نفسه وفق الإمكانات الجديدة، لذلك يستعصي على الفهم والإدراك مقارنته بغيره، كما هو واضح مما تعاني منه الدراسات الإنسانية الحديثة.

comments powered by Disqus