-
ع
+

تصورات خاطئة (46) هل الشريعة صالحة لكل زمان ومكان؟

يحيى محمد

يتصور الكثير خطأً أن الأحكام الشرعية صالحة لكل زمان ومكان، وأن شبه الجزيرة العربية خلال عصر الرسالة هي مركز العالم التي تُستقى منها الأحكام لتوزع على سائر دوائر الخليقة مدى الدهر، وأن من الواجب التوقف عند آخر ما تنزّل من هذه الأحكام بعد فتح مكة، وأن مقالة تأثير الزمان والمكان على الأحكام تنطبق على فتاوى المجتهدين فقط دون ان تعمم على أحكام النص الديني، وأن الحكم لا يتغير ما لم يتغير موضوعه بمعناه الظاهر أو المتعارف عليه فقهياً..

والحال ان تغيرات الواقع تجعل من الأحكام الشرعية تتصادم مع المقاصد الدينية الثابتة. وبالتالي فإما الأخذ بهذه المقاصد أو اجترار التمسك بالأحكام تبعاً للوهم القائل بأنها ثابتة، رغم ان المقاصد تمثل جوهر التشريع الديني وروحه الثابتة، وبدونها يفقد التشريع مغزاه.

لقد حوّل الفقهاء جزئيات النص إلى كليات عامة ومن ثم أسقطوها على مختلف الأحوال والظروف دون إعتبار لتغايرات الواقع وتجدداته. أو أنهم قاموا باستنساخ الأحكام وملابساتها وطبّقوها على واقع شديد المغايرة. وهي النقطة الجديرة بالدراسة والإهتمام.

لذلك لا عبرة من جعل شبه الجزيرة العربية مركزاً للأحكام وتكريس ظاهرة القياس والاستصحاب كما فعل الفقهاء فحكموا على كل زمان ومكان من موقع لحظة ما عاشتها الرسالة المحمدية.

والبعض – كما في عصرنا الحاضر – يستصحب حتى العادات والأعراف، كما يظهر أثر ذلك في اللباس وآداب الأكل والشراب وإطلاق اللحى وغيرها. ويزداد الأمر سوءاً وخطورة حينما تظهر على الإسلاميين ظاهرة التجهّم والعبوس والشدة والعنف، حتى ينتهي الأمر إلى تكفير المخالفين ومن ثم يجرّ ذلك – أحياناً - إلى إباحة القتل وسفك الدماء لأتفه الأسباب، فكل ذلك من استصحاب الحال الذي اتسم به صراع المؤمنين مع الكافرين زمن النبي (ص)، وهو مما اقتضاه الظرف المنصرم، خلافاً لما استصحبه المتأخرون، حيث الواقع والحال هو غير الواقع والحال السابقين. وبالتالي فمن القبيح حقاً أن تظهر علينا مظاهر وصفات تقتضيها الأزمان الماضية رغم إختلاف الأحوال والظروف.

ورغم ان الكثير من الفقهاء تمسكوا بمقالة جواز تغيير الأحكام طبقاً للعرف والعادة، أو تبعاً لتأثير الزمان والمكان، لكن مرادهم في ذلك يتعلق بفتاوى الفقهاء والمجتهدين القدامى دون أحكام النص التي أضفوا عليها سمة الثبات، لذلك كانت طريقتهم متناقضة. إذ كان لا بد من مراعاة علاقة النص بواقع التنزيل، فلمّا تغيّر هذا الواقع فلا بد من أن تتغيّر الأحكام المناطة به بالتبع وفقاً للمقاصد. واستناداً إلى ما قاله بعض العلماء حول علاقة الحكم بالعادة؛ فإن الحكم يجري مجرى العادة في الثبات والتغير، فحيث أن العادة هي العلة في الحكم؛ فالأخير يتبعها وجوداً وعدماً، وبالتالي فحينما تطرأ بعض العادات الجديدة فإن مصير الحكم لا بد أن يتغير.

ومن حيث الدقة إن الخلاف بين هذا الطرح وبين ما تبناه الفقهاء وفق منهجهم البياني؛ يمكن حصره في فهم طبيعة الموضوع المناط بالحكم. فموضوع الحكم هو مجموعة العناصر التي يستند إليها الأخير، بحيث لولاها ما صح العمل به. وبعبارة أخرى، يتوقف نفوذ الحكم وفعليته على عناصر الموضوع؛ كتوقف حدوث المعلول على حصول العناصر المعدة لإيجاده. ففي وجوب الصلاة - مثلاً - يكون وجود الإنسان البالغ العاقل مع حلول وقت الصلاة موضوعاً لذلك الوجوب. وكذا في وجوب الحج، حيث يكون المكلف المستطيع مع حصول الوقت موضوعاً للوجوب.. وهكذا فإن تحقق الموضوع في كافة عناصره المؤثرة يجعل من تحقيق فعلية الحكم أمراً لازماً، سواء في قضايا العبادات أو المعاملات، ولا يتغير هذا الأمر إلا لإستثناءات تخرجه عن حاله بحكم الضرورة، فتكون فعلية الحكم مستمدة في هذه الحالة مما يطلق عليه الأحكام الثانوية بدلاً عن الأحكام الأولية أو الأصلية.

وبحسب الفقهاء إن الضابط لتحديد عناصر موضوع الحكم يتمثل – أساساً - بالنقل والسماع فقط، أي ينحصر بما قررته الشريعة ونطقت به من نصوص دون حساب الظروف والأحوال بعين الإعتبار. وعليه يتوجب أن يتصف الموضوع بالقابلية على الثبات مهما طال الزمن وتغيرت الظروف.

وعلى الصعيد الواقعي أن الإرتباط القائم بين الحكم والموضوع بحسب هذا الفهم لا بد أن يكون إرتباطاً ذاتياً غير قابل للانفكاك، مثلما لا ينفك الحكم عن موضوعه في عالم الجعل المجرد. الأمر الذي يجعل من الحكم حكماً تعبدياً لذات الموضوع المنصوص عليه حرفاً، وهو ما يرفعه إلى مستوى الإطلاق والإغلاق، فليس للتطور الحضاري أثر على خلخلة مثل هذه العلاقة طالما كان الموضوع المنصوص عليه حاضراً.

أما بحسب فهمنا فالأمر يختلف تماماً، إذ الموضوع الذي نعده بمثابة العلة في فعلية الحكم ليس منتزعاً بكامله عن النقل والسماع، أي لا يصح أن نعتبره مستمداً مما هو منصوص في الشريعة فقط. فمن الواضح أن أغلب أحكام الشريعة كانت مقررة تبعاً لملابسات الأحوال والظروف السائدة آنذاك. وبالتالي فعناصر الموضوع هي وليدة تأثير عاملين: الخطاب الديني والواقع. فهما غير منفصلين، كما تدل عليهما ظواهر التدرج والنسخ والتبديل في الأحكام. إذ تعني هذه الآليات وفق النظر الدقيق بأن الخطاب لم يتقبل ثبات الحكم رغم وجود كافة عناصر الموضوع المنطوقة أو المقررة نصاً، ويترتب على ذلك أن تكون صفة التغير متولدة عما طرأ على عناصر الموضوع التابعة للواقع أو الحال السائد. وعليه يصبح الحكم أسير أمرين متلازمين؛ التنزيل المنطوق المعبّر عنه بالنص الديني، والواقع المعاش.

وبعبارة أخرى، لا يمكن عزل التنزيل عن الواقع والأحوال السائدة. فحينما يتغير التنزيل، كما في عملية النسخ، نعلم بأن هناك تغيراً ما قد طرأ على عناصر الموضوع، لكن لا شيء يدعو إلى تغيّر عناصر الموضوع المنطوقة، وبالتالي يتحدد المسؤول الأساس لآلية تغيير الحكم بعناصر الموضوع التابعة للواقع دون النص أو التنزيل. ومن ثم فإن المصدر الفاعل لتحديد الحكم يتمثل في الواقع لا التنزيل. وهو إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن التنزيل أو التشريع لم يأت مطلقاً وثابتاً بحيث لا يحده زمان ولا مكان.

وبذلك يظهر بأن للواقع تأثيراً حاسماً على تحديد الحكم الشرعي. ومن الناحية المنهجية يتخذ الواقع أصلاً متبعاً في كشف الأحكام وتحديدها ما لم يدل دليل على نفي تأثيره، خلافاً لمنهج الفقهاء. ومن ثم يتحدد التقابل بين الطريقتين الفقهية البيانية والواقعية، بكون الأولى يطغى عليها الحرفية خلافاً للثانية التي تتقوم بالروحية والمعنى. كما إن للأولى نظرة تعبدية تتفاوت ضيقاً وسعة، في حين إن لدى الأخرى نظرة إجتهادية عقلائية. والإطلاق الموجود في الأولى يتحول إلى نسبية لدى الثانية. وينقلب الإنغلاق الذي نجده عند الأولى إلى إنفتاح ومرونة عند الثانية.

ويواجه الفقهاء مشكلة أخرى عندما توقفوا عند آخر ما تنزّل من الأحكام الدينية. فهم من جانب يعولون على آخر مراحل الرسالة السماوية، وهي مرحلة ما بعد الفتح، إذ أُلغيت جميع الأحكام التي تتنافى مع ما جاء في هذه المرحلة، سواء تلك التي تعود إلى المرحلة المكية، أو المدنية. كما إنها - من جانب آخر - تعوّل على آخر الأحكام عند التعارض وإن انتسبت جميعاً إلى مرحلة ما بعد الفتح، مما يعني أنها تختزل الشريعة السماوية بما صادف أن تحقق من أحكام خلال مدة ما بعد الفتح، تاركة وراءها الكثير من الأحكام ضمن ما يسمى بالمنسوخات. وهذا الإختزال للأحكام بإختزال الواقع كان له أثره المناهض لمقاصد الشرع العامة، حيث التعالي على أخذ الظروف والأحوال بعين الإعتبار، فكان تحديد الأحكام يجري بشكل مؤبد ودائم، ما لم يتم الإضطرار إلى التغيير بفضل تراكمات الواقع وتجدداته النوعية.

ويعد هذا النمط من التفكير غير متسق، فلو صح عدّ الأحكام الأخيرة ثابتة ودائمة؛ لكان لا معنى لتغيير الأحكام المنزلة من قبل الشرع ذاته، ولكان الأولى أن تكون جاهزة منذ البداية بلا تبدل ولا نسخ ولا تغيير. فلو قيل إن عملية التغيير من قبل الشرع كانت ضرورية لا بد منها بحكم إختلاف الظروف وملابسات الواقع، لقلنا إن هذا المنطق هو ذاته الذي يبرر خطأ ثبات الأحكام، بل إن ما حدث من تغيرات طوال قرون عديدة لا يقاس بالتغيرات الطفيفة خلال عصر الرسالة، فأي تناقض هذا الذي يبرر شرعية تغيير الأحكام المنزلة بمنطق تغيرات الواقع المحدود، ويدير ظهره عن تغيرات الواقع الكبيرة طيلة أربعة عشر قرناً؟!

فالمعطى المنطقي المستخلص من هذه الطريقة أنها كي تكون متسقة في نظامها المعرفي لا بد من أن تعتبر ظروف ما بعد الرسالة إما أن تكون مشابهة لما استقرت عليه الأحكام آخر التنزيل، أو في أحسن الأحوال تعدها مشابهة للدورة التي دارت عليها الشريعة، مما يقتضي التدرج في الأحكام مثلما كان عليه منهج الخطاب الديني، وكلا الأمرين بيّن البطلان، فما ظهر ويظهر من ظروف لا يمكن إعتباره يفي بما استقر من أحكام. فمقالة استقرار الأحكام لا تتفق مع ما حصل ويحصل من تغيرات الواقع وتطوراته، وهو ما يتنافى مع ثبات الأحكام كما عرفنا. بل إن هذه المقالة ذاتها لا تتسق حتى مع منطلقات الإدعاء ذاته. وإذا قيل لا بد من التدرج بمثل ما كانت عليه الشريعة من تدرج؛ قلنا هذا يحصل فيما لو كانت ظروف التدرج في الرسالة مشابهة لما عليه بعدها، وهو أمر قلّما يحصل.

comments powered by Disqus