-
ع
+

قاعدة المآلات والمقاصد الشرعية

 يحيى محمد

ظهر اليوم شيء من الإهتمام المتعلق بلحاظ ما يترتب على الفتوى من نتائج ضمن ما يُعرف بالنظر في مآلات أفعال المكلفين وتحقيق المناط. ويُعتقد أن نحت مصطلح (مآلات الأفعال) والتعريف به جاء لأول مرة على يد الشاطبي في (الموافقات). ومن ذلك قوله: ‹‹النظر فى مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً، سواء كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول بالمشروعية. وكذلك إذا أطلق القول فى الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب جار على مقاصد الشريعة››[1].

ومبدئياً ان لهذا المصطلح أهمية خاصة من حيث النظر القبلي في واقع الأحكام التي يراد لها التطبيق ولحاظ ما إذا كان المتوقع أنها تتفق مع المقاصد الدينية أم لا؟ لكن معالجة هذا الموضوع ظلت عالقة بذات التصورات التقليدية دون ان يُجرى عليها تغيير معتدّ به. فنظرية الشاطبي لم تتجاوز إطار الأحكام المنصوص فيها، ومعالجته لمقاصد الشريعة لم تتعدّ إطار التبرير. لهذا لم يأتِ بعد الشاطبي من يهتم بالموضوع سوى عدد محدود من الباحثين المعاصرين عندما وجدوا فيه سنداً تراثياً يتيح لهم التفكير في واقع النتائج المتمخضة عن تطبيق الأحكام وفتاوى المجتهدين.

وظهر على أثر ذلك عدد من التعاريف حول المقصود من النظر في مآلات الأفعال كما جاء في عدد من نصوص الشاطبي. وأغلبها أشار إلى ضرورة لحاظ ما يترتب على نتائج فعل التكليف من مصالح ومضار، أو موافقة مع المقاصد الشرعية ومخالفتها[2].

إن الهدف من معالجة مآلات الأفعال هو جعل الأحكام والفتاوى مراعية للمقاصد الشرعية والمصالح المعتبرة. لذلك قد يتحول الحكم الشرعي مما هو محرم إلى واجب أو مباح، وكذا العكس، أو غير ذلك من الصور والتحولات الجائزة. والأمثلة التي يُستشهد بها في المقام هي ذات الأمثلة المعروفة لدى العمل برفع الحرج وسد الذريعة والاحتياط والضرورة والإستحسان وما إلى ذلك. ويغلب عليها الاستثناءات المتعلقة بالأحكام الأصلية أو العامة لمراعاة ما عليه الواقع وظروفه الخاصة.

وعليه لم يُتخذ من قاعدة المآلات مجال مفتوح – نسبياً - بحيث يتحول فيه منهج التفكير البياني إلى منهج آخر قائم على المقاصد العامة للشريعة باتساق، رغم الإدعاء بأن الغرض من ذلك هو العمل بهذه المقاصد. لكن الحقيقة أن البحث في المآلات لم يتجاوز حدود الشكليات التقليدية، مثلما أن العمل بالمقاصد لم يتعدّ صورة تبرير الأحكام حتى لو ظهر أن الأخيرة أصبحت مجافية للواقع ومعارضة للمقاصد ذاتها. وكذا هو حال التفكير في المآلات.

لهذا تمّ وصف أحد شروط العمل بالمآلات، وهو شرط الانضباط، أن يكون ما يؤول اليه الفعل معتبراً شرعاً ‹‹فإن مجرد حكم العقل على وصف بأنه مصلحة أو مفسدة لا يعتبر ضابطاً شرعياً››. واُستشهد عليه بما قاله ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ‹‹اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة››. لذلك اُشترط أن لا تعارض المصلحة نصاً ولا دليلاً من أدلته ‹‹وانما تكون متوافقة مع المصالح التي قصد الشارع تحصيلها››. وبالتالي لا مجال للأخذ بالمصالح المخالفة لما نصّ عليه الشرع من أحكام، كالقول بجواز نكاح المشركة لجعلها تتحول إلى الإسلام مثلاً، باعتبار أن ذلك مخالف لحكم القرآن الكريم. ومن شواهد المصلحة التي اعتبرت مخالفة للشرع الفتوى القائلة بأن من كان يملك عبيداً وجامع زوجته في نهار رمضان فانه يجب عليه صيام شهرين متتابعين؛ باعتبار ان ذلك يؤول إلى زجره عن تكرار الفعل، فيما عتق الرقبة لا يزجره عن هذا التكرار، إذ غرض الشرع من الكفارة هو الزجر. ومثل ذلك القول بأن كثرة النسل تؤدي إلى الضرر بالإقتصاد[3].

فمثل هذه النماذج هي بنظر أصحاب (المآلات) لا اعتبار لها مادامت تخالف ما نطق به الشرع، سواء من حيث النص القرآني أم الحديث. لذلك ان البحث في قاعدة المآلات لم يغيّر من الصورة التقليدية التي ألِفها الفقهاء ضمن قواعدهم الخاصة في المصلحة والإستحسان وما إليها. فهذه القاعدة لم تُقدّم لنا شيئاً جديداً يخص الحالات التي تتعارض فيها أحكام النص مع المقاصد العامة، كالحال الجاري لدى واقعنا الحديث.


[1]           الموافقات، ج4، ص194ـ195.

[2]   وليد بن علي الحسين: اعتبار مآلات الأفعال وأثرها الفقهي، دار التدمرية، الطبعة الثانية، 1430هـ ـ 2009م، ج1، ص35، عن الموقع الالكتروني: http://4.bp.blogspot.com

[3]           المصدر السابق، ص226 و240.

comments powered by Disqus