يتصور الكثير خطأً أن الفهم الديني قائم على الهرمنوطيقا والتأويلات المنفتحة من دون ضبط..
والحال ان من الممكن جعل الفهم الديني مُحكماً تحت ضوابط إبستمولوجية دقيقة مع تضييق الممارسة الهرمنوطيقية قدر الامكان.. فلا مانع من أن يُصعّد البحث الهرمنوطيقي إلى البحث الإبستيمي عبر الاعتماد على القبليات المنضبطة المشتركة، لا سيما قرائن الاحتمال المنطقية والتي لم تراعها التيارات الحديثة للقراءة والتأويل أهمية وإعتباراً.
فقد وجدت أغلب التيارات الحديثة ان العلوم الانسانية ومنها علوم النص لا يمكنها ان تخضع للمناهج الدقيقة مثل العلوم الطبيعية؛ باعتبارها مبتلاة بالنزعات الذاتية للباحث أو القارئ، فضلاً عن أن موضوعاتها لا تتضمن العلاقات الصارمة أو الحتمية. وكان على رأس من ميّز بين هذين النوعين من العلوم المفكر دلتاي. فالعلوم الطبيعية ترمي إلى التفسير الذي يطمح ان يكون حقيقياً ومقنعاً بلا منازع ودون جدال، أما العلوم الإنسانية فتكتفي بالتأويل المناسب الذي يرتضي أن يكون واحداً ضمن تأويلات عديدة مفتوحة. وظلت هذه الإعتبارات قائمة؛ حتى أن غادامير وانطلاقاً من النزعات الذاتية نفى وجود منهج للفهم والتأويل، خلافاً لما هو معهود لدى الدراسات العلمية الدقيقة.
وحقيقة الحال إن من الصعب فصل البحث الإبستيمي عن غريمه الهرمنوطيقي، سواء في حالة فهم النص أم في حالة العلوم الطبيعية رغم اختلاف النسبة بينهما. فقد مارست العلوم الطبيعية التأويل الهرمنوطيقي بشكل مفضوح، كما في الفيزياء، رغم انها علوم إبستمولوجية دقيقة. وكذلك يجد فهم النص مجالاً للتطبيق الإبستمولوجي. وبالتالي ففي كل من الفهم والعلم نجد الهرمنوطيقا والابستمولوجيا حاضرين معاً. ففي الهرمنوطيقا ان كل فهم ليس بقدرته ان يتعالى على حدود التأويل والتأثر بالقبليات. وهو بذلك ينزع النزعة الذاتية كالذي تؤكد عليه الأدبيات الحديثة ونظريات التلقي، لكنه في الوقت نفسه قادر على حمل التوجه الإبستيمي ليحافظ على المعاني العلمية دون ان يترك للهرمنوطيقا فوضى الفهم المنفتح بلا ضوابط ولا حدود، ومن ثم فهو يعمل على تضييق الممارسة الهرمنوطيقية قدر الامكان، لكنه يعترف باستحالة القضاء عليها.
فعندما نتعامل مع النص، سواء كان دينياً أو أدبياً، نجد أن مستويات الفهم فيه تتراوح بين حدين: أدنى وأقصى، بمعنى أنه من الناحية المنطقية يمكننا تحصيل الحد الأدنى للفهم الصحيح، وهو الحد الذي يمكن بلوغه عند المستوى الأُفقي للنص، إعتماداً على قرائن الإحتمال الإستقرائية، كالذي يستهدفه البحث الإبستمولوجي. لكننا كلما تدرجنا بالفهم من خلال المستوى العمودي، بممارسة التعمق في المعنى، فإن ذلك سيعرضنا إلى امكانات وترددات عديدة تسمح بقراءات ممكنة كثيرة، ويصبح من الصعب أن نصل إلى الفهم الصائب أو المطابق لحقيقة النص كما هو في ذاته؛ لضيق أفق القرائن الإحتمالية المبثوثة في النص عند هذا المستوى، فكان لا بد من الاستعانة بالإفتراضات القبلية للتعويض عن نقص تلك القرائن، فيكون الفهم مشحوناً بالاسقاطات الذاتية للقارئ على حساب قرائن النص الموضوعية، كالذي يستهدفه البحث الهرمنوطيقي. ولا شك إن بين الحدين الأدنى والأقصى مراتب لا يمكن حصرها. لذلك فإنه إذا كان فن القراءة الأدبية يشجع على المراتب العليا للقراءة العمودية، وبعضها يشجع على أقصى حد ممكن لهذه القراءة أو التأويل - شبيه بما تطور إليه العلم الفيزيائي اليوم من ولوج مساحات قصوى تتداخل مع القضايا الميتافيزيقية البعيدة الغور -، فالأمر مع القراءة الدينية شيء مختلف، لاختلاف الغرض، إذ ما تفعله القراءة الأدبية يأتي على خلاف ما يتطلبه النص الديني من ضرورة فهم مطالبه الأساسية كما هي، وبالتالي كان لا بد من الاستعانة بالبحث الإبستيمي لتحصيل الحد الأدنى من الفهم عند المستوى الأفقي للنص.
وتعتبر نظرية التكليف أهم قضية دينية تخضع لهذا المعيار، كما تدل عليها قاعدة الإستقراء، وتتمثل في كل من: المكلِّف والمكلَّف ورسالة التكليف وثمرة التكليف. فالقرائن النصية الدالة عليها كثيرة جداً إلى الحد الذي يصعب احصاؤها تبعاً لمنطق الإحتمالات، رغم أن تفاصيلها الخاصة تخضع للترجيحات الإحتمالية من هنا وهناك. فعند المستوى الأفقي للنص تظهر جلية واضحة بما تمثل جوهر الحقيقة الدينية رغم إجمالها، لكن هذا الوضوح يختفي شيئاً فشيئاً عند استخدام القراءة العمودية المفضية للتفصيل وكثرة الترددات والإمكانات.