يتصور الكثير خطأً أن التقليد في الفقه عليه دليل شرعي واضح من النص.. والحال انه لا يوجد حوله سوى رواية وحيدة – لدى الشيعة - تتعلق به مباشرة، وهي الرواية الواردة في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، حيث يقول: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»[1]، إلا أن الرواية ضعيفة ومرسلة، حيث فيها عدد من المجاهيل، يضاف إلى أن حولها بعض المناقشة ليس هنا محلها.
لذلك لم يجد الفقهاء دليلاً واضحاً غير قابل للمناقشة سوى دليل السيرة العقلائية، حيث جواز رجوع الجاهل إلى العالم من الضرورات التي لم يختلف فيها إثنان، وهو أمر مركوز في الأذهان وثابت ببناء العقلاء في جميع العصور والأزمنة[2]. فعلى حد قول الآخوند الخراساني: «يكون بديهياً جبلياً فطرياً لا يحتاج إلى دليل»[3]. فهذا الحد عند الخراساني هو العمدة في الأدلة، وماعدا ذلك فأغلبه قابل للمناقشة([4]). وإن أمكن مناقشة هذا الدليل إن كان هذا الرجوع يعدّ تقليداً أم لا..
ووفقاً لرأي المرحوم الشيخ منتظري أنه قد إستقرت سيرة الأصحاب في عصر النبي والأئمة على رجوع الجاهل للعالم والإستفتاء منه والعمل بما سمعه من الخبير الثقة. فهذا الرجوع يعود - برأيه - إلى حكم العقل لا أنه تقليد تعبدي، مادام الملاك في بناء العقلاء هو حصول الوثوق الشخصي. بمعنى أن العمل يتحقق بالوثوق الذي هو علم عادي تسكن به النفس لا بالتقليد ولا بالتعبد. ومن ثم ينتهي الى أنه ليس هناك ما يثبت التعبد بحجية قول الفقيه مطلقاً أو بشكل منقطع عن الوثوق الشخصي[5]، وذلك خلاف الحاصل في تقليد الناس مطلقاً..
ومعلوم ان التقليد لم يظهر بصورة واعية الا في فترة متأخرة بعد الاسلام. وعلى رأي إبن حزم إنه لم يكن للتقليد أثر في عصر الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، إنما بدأ أول الأمر بعد (سنة 140هـ)، ومن ثم شاع وعمّ بعد المائتين من الهجرة، فندر من لم يلتزم به ويعول عليه[6]. وإن كان قد ذكر في إحدى رسائله أنه حدث في القرن الرابع الهجري[7].
كما جاء في كتاب (أعلام الموقعين) لإبن القيم الجوزية أن التقليد لم يعرف على وجه الضرورة واليقين في عصر التابعين وتابعي التابعين، إنما حدث في القرن الرابع الهجري[8]. وأيد الشيخ ابو زهرة كون التقليد ابتدأ منذ القرن الرابع الهجري لكنه كان تقليداً جزئياً ابتداءً، ثم أخذ يتسع نطاقه حتى صار تقليداً كلياً في آخر العصور[9].
[1] الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 10، حديث 20، ص94ـ95 .
[2] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص32 و85.
[3] الكفاية، ص539.
[4] نفس المصدر والصفحة.
[5] منتظري: دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، نشر المركز العالمي للدراسات الإسلامية في إيران، الطبعة الثانية، 1409هـ، ج2، ص102 وما بعدها.
[6] إبن حزم: الإحكام في أُصول الأحكام، مطبعة السعادة، ج6، ص146 . كذلك: الشوكاني، محمد بن علي: رسالة القول المفيد في أدلة الإجتهاد والتقليد، ضمن رسائله السلفية، ص17.
[7] ملخص إبطال القياس، ص52 .
[8] أعلام الموقعين، ج2، ص 108.
[9] تاريخ المذاهب الاسلامية، ص 302 .