يتصور الكثير خطأً أن الصحابة كلهم عدول لأدلة النص الثابتة، كالذي استدل عليه الحافظ البغدادي خلال القرن الخامس الهجري، منها ما جاء في صحيح البخاري أن النبي (ص) قال: خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم..[1]. وقال: لا تسبوا أصحابي فوالذي نفسي بيده لو انفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه[2]..
والحال ان البغدادي لم يتعرض إلى ما ورد في الصحاح من سوء عاقبة ناس من الصحابة جزاء ما فعلوه من تبديل وتغيير، ومن ذلك ما رواه البخاري ومسلم بأن النبي (ص) قال: إن أناساً من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول أصحابي أصحابي؟ فيقول: إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم.. وقال: أنا فرطكم على الحوض من ورده شرب منه ومن شرب منه لم يظمأ بعده أبداً ليردن عليّ أقوام أعرفهم ويعرفونني ثم يحال بيني وبينهم. وجاء ان أبا سعيد الخدري زاد على ذلك بقول النبي: إنهم مني، فيقال إنك لا تدري ما بدلوا بعدك فأقول سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي[3].
كما روى هذان الشيخان روايات أخرى فيها تحذير لقتال المسلم اخاه المسلم واعتباره من الكفر، وقد تكرر هذا الأمر بين الصحابة، ومن ذلك ما روي ان النبي (ص) قال: سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر[4]. وقال: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا، إلى يوم تلقون ربكم، ألا هل بلغت؟ قالوا: نعم، قال: اللهم اشهد، فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع، فلا ترجعوا بعدي كفاراً، يضرب بعضكم رقاب بعض[5].
هذا يضاف إلى ما ورد في القرآن الكريم من آيات دالة على وجود الكثير من المنافقين والمتربصين بالنبي ممن اظهروا الإسلام وتظاهروا بالإيمان، لا سيما تلك التي تضمنتها سورة التوبة.
على ان ما قدره العلماء بحق الصحابة هو حكم صحيح، لكنه مضيّق - في الأعم الأغلب - بحدود الذين صبروا مع النبي ولاقوا معه المصاعب والمتاعب طيلة سني البعثة والهجرة، ويشهد على هذا الأمر ما نصّت عليه الكثير من الآيات القرآنية. وليس هناك ما يدل على توسعة الحكم - كما أفاده العلماء - ليشمل جميع الصحابة، فمنهم الصغار الذين لم يتميز فيهم العدل عن غيره، كما ان منهم من اسلم بعد الفتح، وقد يكون أغلب هؤلاء دخلوا الإسلام ملجئين لا خيار لهم بعد الفتح العظيم، أو بعدما خُيروا بين الإسلام والقتل.
ومن الناحية النظرية اختلف العلماء في عدالة الصحابة. فبينما كان النووي في (التقريب) يقول: ‹‹الصحابة كلهم عدول من لابس الفتن وغيرهم بإجماع من يعتد به››، ذهب بعض آخر إلى نفي ذلك، وهو أنه يجب البحث عن عدالة الصحابة مطلقاً. والاهم من ذلك ما طرقه المازري في (شرح البرهان) من باب لتحديد معنى العدالة وفق معنى الصحابة، فقال: لسنا نعني بقولنا (الصحابة عدول) كل من رآه يوماً ما أو زاره أو أجتمع به لغرض وانصرف، وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه، فإذا قال الراوي عن رجل من الصحابة ولم يسمه كان ذلك حجة، ولا تضر الجهالة لثبوت عدالتهم على العموم[6].
أما من الناحية العملية والتطبيق فقد اعتبر الحفّاظ جميع الصحابة عدولاً؛ كبارهم وصغارهم، سواء صاحبوا النبي مدة طويلة أو قصيرة. وكما قال الحافظ الذهبي: ‹‹وأما الصحابة رضي الله عنهم فبساطهم مطوي وإن جرى ما جرى وإن غلطوا كما غلط غيرهم من الثقات، فما يكاد يسلم من الغلط أحد، لكنه غلط نادر لا يضر أبداً، إذ على عدالتهم وقبول ما نقلوا العمل وبه ندين الله تعالى››[7]
[1] صحيح البخاري، حديث 2509. والكفاية في علم الرواية، باب ما جاء في تعديل الله ورسوله للصحابة.
[2] صحيح البخاري، حديث 3470..
[3] صحيح البخاري، حديث 6643. وصحيح مسلم، حديث 2290.
[4] صحيح البخاري، حديث 48. وصحيح مسلم، حديث 116.
[5] صحيح البخاري، حديث 1652ـ1655. وصحيح مسلم، حديث 118ـ120.
[6] المصدر السابق، ص199.
[7] نفس المصدر، ص187.