يحيى محمد
هذه سطور مختصرة للتعريف بأفكار الفلاسفة والعرفاء لدى تراثنا الاسلامي
* لدى الفلاسفة إن الشيء إما ان يكون ماهية أو وجوداً من حيث الأصالة والحقيقة الموضوعية. وان من قال بأصالة الوجود عدّ الماهية إعتبارية ذهنية، ومن قال بأصالة الماهية عدّ الوجود منتزعاً ذهنياً.
* إن للفظ الوجود التباساً شديداً في المعاني عند الفلاسفة، إلى درجةٍ إعتبره جماعة انه اظهر الأشياء، وعدّه اخرون انه اخفى الأشياء. ومن حيث الظهور والخفاء قيل فيه ما قيل من الأصالة والإعتبار.
* بحسب منطق السنخية انه إذا كان المبدأ الحق محض الوجود كما يرى الفلاسفة عادة، فإن من الطبيعي ان تكون الممكنات الصادرة عنه هي الوجود أيضاً. وبالتالي انه لا بد ان تكون الحقيقة الخارجية لكليهما إما وجوداً أو ماهية بلا تفكيك.
* يعتبر صدر المتألهين أبرز القائلين بأصالة الوجود، وقد استخدم معنيين للوجود، وليس معنى واحداً، وذلك لاغراض توظيفية داخل المنظومة الفلسفية، رغم ان بين المعنيين اختلافاً وتعارضاً ظاهراً، أحدهما نسميه الوجود الفعلي، والآخر الوجود الذاتي.
* إن معنى الوجود الفعلي هو الكون ومرادفاته من الحصول والثبوت والتحقق والتشخص، والذي يدرك بالشهود الحضوري المباشر. وعلاقته بالماهية هو انه يعبّر عن كون الماهية وثبوتها وتحققها وحصولها وصيرورتها، فهذه التسميات مترادفة، وتجعل بين الماهية والوجود نوعاً من الإتحاد الخارجي، حيث يوجد الوجود بذاته، وتتحد بوجوده الماهية ويصدق عليها انها تكون موجودة به عرضاً. أما معنى الوجود الذاتي فهو نفس الماهية عند تحققها خارجاً. أي ان الشيء عندما يكون ذهنياً يطلق عليه ماهية، وعندما يكون خارجاً يطلق عليه وجوداً، وبالتالي فإن بين الخارج والذهن نوعاً من المشاكلة للشيء، أي ان بين الماهية والوجود بحسب هذا المعنى شبهاً ومحاكاة، تكون فيه الماهية في الذهن ظلاً تابعاً وحاكياً لما عليه الوجود في الخارج.
* في بداية الأمر تمّ اطلاق الوجود بالمعنى الفعلي على المبدأ الحق على نحو المجاز، حيث لا تُعلم حقيقة ذات هذا المبدأ، لكن سرعان ما انتهى اللفظ إلى معنى الحقيقة الفعلية، وهو انه لا ماهية له غير وجوده المحض. كما ان الفلاسفة المتأخرين من أمثال صدر المتألهين قد فهموا حقيقة المبدأ الحق وفقاً لكلا المعنيين السابقين للوجود رغم التعارض بينهما، لأسباب توظيفية هدفها علاج المشاكل الفلسفية داخل المنظومة الوجودية. ومن ذلك حل مشكلة التوحيد تبعاً للمعنى الفعلي للوجود، وحل مشكلة حمل المبدأ الحق لصور الأشياء كلها، فهو كل الأشياء تبعاً للمعنى الذاتي للوجود.
* نعتقد ان الأصالة في الممكنات الحادثة ليست للوجود الفعلي ولا الوجود الذاتي ولا الماهية بحسب معانيها المألوفة، انما الأصالة لما نسميه الوجود الصيروري. وبحسب هذا الوجود هناك ثلاثة عناصر، هي: الشيئية الوجودية، والصيرورة، والذات التي هي مركبة من الامرين السابقين.
* رغم ان الأصالة للوجود قبال الماهية عند الفلاسفة المتأخرين، وان وجود الماهية هو تبع لوجود الوجود ذاته، لكن مع هذا فإن الماهية تسبق وجودها في ما يسمى الأعيان الثابتة، حيث يعرض عليها الوجود بالسريان فتكون موجودة به عرضاً. والاعيان قبل ان يسري عليها الوجود لا توصف به، وانما لها نوع من الثبوت المعبر عنه بالثبوت المظلم؛ بإعتبارها لم تتنور بعد بالوجود الجعلي، رغم انها في الوجود الإلهي عبارة عن صور الأشياء ولوازم الأسماء والصفات.
* يوجد تقابل مضايف بين الوجود والماهية، فليس هناك وجود من غير ماهية، ولا ماهية من غير وجود، وان هذا الأمر يمكن تقريره بشكل آخر هو التقابل الحاصل بين الوجود والاعيان الثابتة، حيث حاجة كل منهما للاخر، فلا الوجود يمكنه ان يكون وجوداً بدونها، ولا هي يمكنها ان تكون بدونه. وهذا المعنى من التقابل هو الذي فرض مسألة سريان الوجود وظهور الأعيان بالوجود، ومن ثم القول بوحدة الوجود ووجوب الكل. وبعبارة أخرى يمكن القول انه يتحتم على الوجود ان تضايفه الماهية والاعيان الثابتة، كما يتحتم على الوجود الواجب ان يتنزل عنه الوجود الممكن، فكل منهما مفتقر للاخر، تبعاً لمنطق السنخية كأصل معرفي مولد.
* تبعاً لمنطق السنخية هناك تبادل في العلاقة الإدراكية بين المبدأ الحق والآخر، فأحدهما يعبّر عن قرينه تعبير صورة المرآة عن مقابلها. وان أصل هذه العلاقة يعود إلى ما يحمله المبدأ الحق من صور الأشياء كلها. فاذا كان المبدأ الحق هو مرآة ترى فيه صور جميع الأشياء، فإن الأشياء هي أيضاً تتجلى فيها صور الحق، وان مشاهدة أحدهما تعني مشاهدة الآخر، وكذا فإن العلم باحدهما هو في حد ذاته علم بالاخر، وذلك تبعاً للسنخية.
* إن السؤال المركزي في البحث الفلسفي التقليدي هو تفسير كيفية العلم الإلهي بالغير أو الآخر. أي ما هو مبرر علم الحق تعالى بغيره من الموجودات؟ فهناك عدد من النظريات التي تخص طبيعة العلم الإلهي وعلاقته بالأشياء أو الآخر. فهناك نظرية الفارابيين ونظرية إبن رشد وكذا السهروردي ثم العرفاء وصدر المتألهين.
* تمتاز نظرية الفارابي في العلم الإلهي للأشياء بأنها صورية ذهنية، وان العلم فيها يكون بعد المبدأ الأول وليس في الذات الإلهية، وذلك خشية من اقتضاء التركيب والكثرة في الذات، وان هذا العلم يشترط فيه ان يكون كلياً وليس جزئياً. وأهم ما في هذه النظرية هو انها لا تتسق والمبدأ الفلسفي (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، ذلك ان تبرير هذا العلم لا يحصل إلا بالاعتراف بوجود المسانخة والمشاكلة بين العلة والمعلول، فيقتضي الأمر ان تكون صورة المعلول موجودة سلفاً في العلة، وبالتالي فإن صور الأشياء لا بد ان تكون حاضرة في الذات الإلهية بإعتبارها علة الأشياء كلها.
* لقد تجاوزت نظرية إبن رشد المشكلة التي صادفتها نظرية الفارابي، حيث تم الاعتراف بكون الذات الإلهية حاملة لصور جميع الأشياء وان العلم الإلهي هو ليس من العلم الجزئي ولا الكلي، وان هذا الأمر يتفق وطبيعة المبدأ الفلسفي (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول). لكن مشكلة هذه النظرية هو فصلها بين الذات الإلهية والمادة، الأمر الذي يتعذر فيه تفسير كيفية العلم الإلهي للحوادث المستقبلية الكامنة في المادة. علماً ان هذه النظرية تفضي إلى وحدة الوجود الصوفية، وذلك بمبرر ان لا شيء يعلمه المفارق إلا ويتحد به، لعدم وجود المادة المانعة من الإتحاد، وان منشأ هذا الإتحاد هو من حيث علم المعلول بعلته، حيث تصبح سلسلة العلل والمعلولات بعضها متحداً بالبعض الآخر، والكل متحداً بالذات الإلهية.
* لقد تجاوزت نظرية السهروردي الإشراقية سائر النظريات التي سبقتها حول العلم الإلهي، فاعتبرت هذا العلم ليس صورياً ذهنياً وانما هو علم نوري شهودي، حيث لا تغيب عنه الأشياء الخارجية. أو ان هذه النظرية تقتضي ان يكون للأشياء حضور ثابت وازلي لا غياب فيه، وهو أمر انعكست عليه العديد من المشاكل الفلسفية.
* أما نظرية صدر المتألهين فقد جاءت لتجمع بين النظريتين الصورية والنورية، فالذات الإلهية عبارة عن صور الأشياء كلها مثلما هو منطق النظرية الصورية لإبن رشد. كذلك فإن لها العلم الشهودي حيث تكون الأشياء حاضرة مشهودة أمام الحق بلا غياب. ومع ان هذه النظرية حاولت ان تجمع بين أمرين متضادين في الذات الإلهية، هما البساطة وصور كل الأشياء، وذلك من خلال مبدأ (بسيط الحقيقة كل الأشياء)، إلا انها لم تفلح في البرهنة على هذا المبدأ.
* لقد طرح الفلاسفة حول العلم الإلهي مبررين، كلاهما يعبران عن قاعدتين فلسفيتين، إحداهما تنص بالقول: (بسيط الحقيقة كل الأشياء)، والأخرى تنص: (العلم بالعلة يستلزم العلم بالمعلول)، وكلا القاعدتين يستمدان مشروعيتهما من منطق السنخية. وتبعاً لهاتين القاعدتين لا بد ان تكون ماهيات الأشياء مع كثرتها موجودة بوجود واحد، والحق يعقلها بعقل واحد هو كون وجوده نفس عاقليته، فهذا الوجود هو بعينه علم بالأشياء التي هي عين ذاته.
* ان الاعتراف بإمكانية مشاهدة الحق والعلم به تترتب عليه مسائل هامة تتعلق بالنبوة والولاية، إذ يكون للنفس مقام رفيع تتحد به مع العالم الإلهي لتطل من خلاله على كل شيء، ويكون لها من القدرة ما يؤهلها على التحكم والتأثير في العالم.
* لدى الفلاسفة ان الإدراك يساوق الوجود، فحيث هناك وجود هناك إدراك، والعكس صحيح. لكن حيث ان للوجود مراتب مختلفة ومتفاضلة؛ لذا كان للإدراك مراتب مختلفة ومتفاضلة أيضاً. فالإدراك منبسط بانبساط الوجود، حيث الوجود إدراك، والإدراك وجود. وهذه العملية الإدراكية من الوجود هي السبب في تنزيل المراتب، وهي السبب في التفاضل بينها، فالتنزيل هو تنزيل إدراكي، كما ان نشأته تمت بفعل ما لدى المراتب الوجودية من صور إدراكية متباينة بحسب ما هي عليه من مقام معلوم. كذلك فإن التصعيد هو أيضاً تصعيد إدراكي. ومن ثم ظهر هناك نوعان من الإلوهة، أحدهما من حيث الأصل بحكم التنزيل، والآخر من حيث التبعية بحكم التصعيد.
* إن الإدراك العلمي هو علة تنزل المراتب الوجودية لدى الفلاسفة، وان العلم هو سبب الوجود المتنزل وليس العكس.
* يتخذ التنزيل مراتب هرمية محددة، فيبدأ من الأكمل فالأكمل طبقاً لقاعدة (الإمكان الاشرف)، سواء كان ذلك لدى الفلاسفة أم العرفاء. ولدى الفلاسفة فإن التنزيل يتوقف على ما تحدده قاعدة (الواحد لا يصدر عنه إلا واحد).
* إن مصدر الكثرة لدى الفلاسفة يتمثل في الإعتبارات الواردة لدى الصادر الأول المطلق عليه العقل الأول، في حين ان مصدر الكثرة لدى العرفاء هو بحسب الإعتبارات الواردة في ذات المبدأ الحق، فهو الواحد الكثير. أما الفلاسفة فقد خشوا ان يردوا هذه الكثرة إلى المبدأ الحق كي لا يلزم من ذلك كونه مركباً فيقتضي الأمر ان يكون معلولاً لغيره فلا يكون علة أولى.
* لقد قُدمت العديد من التبريرات حول نظرية الصدور وتفسير الكثرة الناتجة عن الوحدة، منها تلك التي تقوم على منهج الإعتبارات، كالإعتبارات الثنائية والثلاثية للفارابي وغيره. والبعض لم يلجأ إلى هذا النهج، بل إعتبر سبب الكثرة يعود إلى ما لدى المبدأ الحق من كثرة صورية، تبعاً للسنخية.
* يمكن تقسيم الوجود إلى ثلاثة عوالم، هي عالم الذات الإلهية، وعالم المفارقات والأجرام السماوية، والعالم السفلي المطلق عليه ما تحت القمر. وان ترتيب الكمال والنشوء لهذه العوالم يأتي بهذا الترتيب المذكور، وان عالم الأجرام السماوية هو عالم حي بسيط يتصف بنواحي الكمال التي يفتقر إليها عالمنا السفلي.
* إن ما يتوسط بين العالمين السماوي والارضي هو النفس السماوية التي لها دور في خلق وتكوين عناصر الأرض ومركباتها. وان الذي يعمل على خلق وتكوين العقل الإنساني هو عالم العقول المفارقة، تبعاً لما يطلق عليه العقل الفعال. وبالتالي فإن عالم الأجرام السماوية هو عالم إلهي تصدق عليه كل صفات الإلوهة وخصائصها.
* إذا كان أمر التنزيل لدى الفلاسفة يعتمد على العقل الأول بإعتباره قديماً مع كل قديم، وحادثاً مع كل حادث، وذلك لأن به يقوم كل شيء حتى أطلق عليه البعض الإله الصانع.. فإن الأمر عند العرفاء مختلف، حيث ان التنزيل عندهم ليس سوى تنزلات الحق وتقيده بالقيود، فيتنزل أولاً بإسم العقل ومن ثم بالنفس فالفلك... الخ.
* إن التنزيل لدى العرفاء لا تحكمه قوانين العلية مثلما هو الحال لدى الفلاسفة. فالمثنوية التي يتحدث عنها الفلاسفة بإسم العلة والمعلول هي عبارة عن تشكلات للوحدة الإلهية وتجلياتها.
* إن الإلوهة لدى العرفاء تأخذ أبعاداً أعمق مما هي لدى الفلاسفة، فلما كان الحق لدى العرفاء متعيناً بجميع الصور والمشاهد، لذا فإن الإلوهة تصبح مجسدة بكل هذه الصور والأشكال، وبالتالي كانت العبادة لأي صورة من العالم مبررة.
* إن العالم سواء أخذناه بحسب المثنوية الفلسفية من العلة والمعلول، أو بحسب الوحدة العرفانية المتمثلة بالحق، فإنه قديم قدم الذات الإلهية.
* بحسب الرؤية الفلسفية فإن أهم ما يبرر قدم العالم أو أزلية الصنع والحدوث هو حتمية ارتباط العلة بالمعلول، وكذلك استحالة الترجيح بلا مرجح، وهي نفس المبررات التي تبرر أبدية العالم والحوادث.
* إن عملية الخلق والتكوين لدى الرؤية الوجودية ليست منفصلة ومستقلة عن العشق والتشبه تبعاً لمنطق السنخية. ولدى العرفاء انه لولا الحب والعشق ما تكوّن شيء من الأشياء. فالحب هو علة التكوين، وانه سار في كل شيء من الوجود، وان تكوين الأشياء وحركتها قد فسرت على نحوين، أحدهما تبعاً لدور العلة الفاعلة التي يتبعها المعلول، والآخر بأنها نتاج تشبه المعلول للعلة وشوقه وإدراكه لها.
* إذا كان جميع الفلاسفة يجمعون على ان السافل يعشق العالي ويلتفت اليه، فإنهم يختلفون بشأن إلتفات العالي في حبه وعطفه على السافل. فالتفسير الارسطي ينفي ان يكون هناك أي إلتفات نحو السافل، انما تكون استفادة هذا الأخير من الأول عبر ما يترشح عنه من النفع غير المقصود، مثل ما يترشح عن حركة الأجرام من النفع للعالم السفلي، مع انها تقصد من حركتها التشبه بالمفارقات العقلية. أما التفسير الآخر الذي تبناه أغلب الفلاسفة المسلمين فهو انهم عدوا للعالي نوعاً من الإلتفات نحو السافل هو ذلك الذي يكون بالقصد الثاني لا الأول. فالعالي انما يحنو على السافل ويلتفت إليه لحبه لذاته فحسب.
* وفق تقسيمنا تنطوي الرؤية الفلسفية والعرفانية على ثلاث علاقات يتحد بعضها بالبعض الآخر، وهي العلاقة الوجودية والإدراكية والتنزيلية. فمن حيث العلاقة الوجودية ان المعتبر لدى هذه الرؤية هو ان هناك وجوداً واحداً ينبسط على جميع الموجودات. ومن حيث العلاقة الإدراكية ان هذا الوجود هو في حد ذاته عبارة عن إدراك علمي سواء كان معبراً عن الإدراك العقلي أو ما دونه من الإدراكات الأخرى. ومن حيث العلاقة التنزيلية، فإن الوجود أو الإدراك العلمي محكوم بمراتب تفاضلية بعضها يفوق البعض الآخر ويتقدمه، سواء كان هذا التقدم مبرراً بحسب نظام العلية والسببية، أو مبرراً بإعتبارات الذات والصفات، أي تقدم الذات على الصفات، أو بإعتبارات تقدم الوجود على الماهية.
* إن التنزيل بحسب الوجود يبدأ بذات الحق فالعقل ثم النفس ثم الطبيعة الجسمية ثم الهيولى المادية. أما التنزيل بحسب العلم والإدراك فإنه يبدأ بالإدراك الإلهي فالعقلي ثم الإدراك النفسي الخيالي فالحسي فالصوري الطبيعي. فهذه الإدراكات بعضها يكون مشتقاً من البعض الآخر. وبالتالي يمكن القول ان الوجود هو عوالم إدراكية متفاضلة تبدأ بالمبدأ الحق وتنتهي بآخر العوالم الإدراكية وهو عالم الجسم والمادة. وذلك بنفس القدر والمساوقة التي نقول فيها ان الوجود يتفاضل فيما بينه بحسب المراتب الوجودية، فيبدأ من الوجود البحت ثم يتنزل وينبسط ويختلط فيه الوجود بالماهية، حتى ينتهي عند آخر مرتبة وجودية تلك المعبر عنها بالهيولى المادية. فالوجود هو إدراك متفاضل، بعضه يفوق البعض الآخر، كما ان الإدراك هو وجود متفاضل بعضه أقوى من البعض الآخر. وهذا التفاضل في الوجود أو الإدراك هو الذي يتضمن مفهوم الإلوهة التعددية، حيث تتخذ الرتب الوجودية أو الإدراكية خاصية الإلوهة بعضها للبعض الآخر، بحسب ما هي عليه من التقدم والكمال.
* يستمد التوحيد الفلسفي مشروعيته وحجيته من مفهوم الوجود بمعناه الفعلي. فبهذا المفهوم تمكن الفلاسفة من إثبات وجود الحق، كما وتمكنوا من إثبات وحدة الصفات وعينيتها للذات الإلهية. وانه بفضل المفهوم المشار إليه لم تعد شبهة إبن كمونة في تعدد القديم الأزلي واردة. وبعبارة أخرى لقد تم توظيف الوجود بمعناه الفعلي لإثبات واجب الوجود وتوحيده، وكذلك إثبات الصفات ووحدتها. واهم هذه الصفات صفة العلم، لكونها سبب وجود الأشياء، وعليها تم تحديد صفتي القدرة والإرادة بإعتبارهما عين هذا العلم. وهما بهذا المعنى لا يحملان المعنى المتعارف عليه.
* إن ما يلزم عن عينية الصفات بعضها للبعض الآخر قِدم الحوادث وازليتها وفقاً لتصورات الفلاسفة. حيث إذا كان العلم عين الإرادة، وان هذه الأخيرة لا ينفك عنها المراد بالضرورة، وحيث ان العلم قديم أزلي لذا فالإرادة والمراد قديمان وأزليان بالضرورة أيضاً. وهي نتيجة تتفق مع التسليم بمبدأ العلية في علاقة المبدأ الحق بغيره، إذ يقتضي منه قدم الأشياء جميعاً. أيضاً فحيث ان العلم متحد بالمعلوم، فذلك يقتضي وحدة العالم والمعلوم، وبالتالي وحدة الوجود ذاتها.
* لقد أُعتبر سريان الوجود على الماهيات أو الأعيان الثابتة سرياناً مجهول التصور. لكن مع هذا يمكن حمله على عنوانين، أحدهما يمثل سريان الذات الإلهية فيكون الوجود الحق والساري كلاهما يعبران عن حقيقة واحدة هي الحقيقة الإلهية كما يدعي العرفاء. أو انه يمثل سريان الصادر عن الذات الإلهية المعبر عنه بالعقل الأول، وبالتالي يصبح الوجود متعيناً بالمبدأ الحق وصدوره أو فعله، فهو يمثل عين الذات والفعل لا غير، كالذي يصوره لنا الإشراقيون من الفلاسفة.
* تعتبر وحدة الوجود متأصلة بحسب المنظورين الفلسفي والعرفاني، وهو ما يجعل التوحيد الإلهي الذي تدعو إليه الأديان السماوية منقلباً إلى أشكالها المختلفة. إذ تصبح العلاقة التي تربط الحق بالخلق قابلة للتلبس بهذه الوحدة على الصعيدين النوعي والشخصي. فسواء أخذنا بالنظر الفلسفي أو بالنظر العرفاني فإن الوجود يعبّر عن حقيقة واحدة هي واجبة الوجود، وان الإلوهة هي إلوهة شاملة للكل؛ لكن ضمن مراتب متفاوتة، وانه لا يوجد تمييز جذري بين الخالق والمخلوق كالذي تبشر به الأديان السماوية. فلما كان الاثنان يشتركان في حقيقة واحدة متأصلة لذا كان الكل متصفاً بها، وان تفاوت الحال بينهما. ويزداد الأمر ايغالاً لدى النظر العرفاني، فهو لا يضع مجالاً لوجود الغير. فقد سمي العالم بالسوى والغير بإعتبار اضافته إلى الممكنات، والا فالوجود هو عين الحق.
* هناك أشكال متعددة لتصوير وحدة الوجود، بعضها يدل على وحدة الوجود النوعية، وأخرى على وحدة الوجود الشخصية، وان هناك تقريبات لهذه الأشكال عبر الأمثلة التي يقدمها الفلاسفة والعرفاء، مثل تصور علاقة الشمس بتنزلات النور عنها، وعلاقة الواحد بالعدد، والبحر بأمواجه، والشخص بصوره في المرايا، وغير ذلك. وهناك أربعة تصورات أساسية لوحدة الوجود، أحدها يعود إلى التصور الفلسفي، وهو وحدة الوجود النوعية، والبقية تعود إلى التصور العرفاني، فالأول منها يدل على ان ما يظهر في العين هو صفات الحق، والثاني يدل على ان ما يظهر هو صفات الخلق والماهية؛ وإن كان ظهورها بفعل نور الحق، أما الثالث فهو جامع بين هذين الأخيرين.
* ان درجة النبوة لدى الرؤيتين الفلسفية والعرفانية لا تفوق درجة ما عليه رتبة الفلاسفة وكذلك العرفاء. وان الأنبياء في الوقت ذاته هم فلاسفة بحسب الرؤية الأولى، وعرفاء بحسب الرؤية الثانية. وان المكانة التي يحظونها بفلسفتهم وعرفانيتهم هي أعلى وأهم من كونهم يحملون رتبة النبوة.
* ان العرفاء من جانب آخر هم أنبياء، وان النبوة لم ولن تنقطع قط، بفضل الولاية العرفانية التي هي الدرجة العليا من النبوة. وضمن الاطار الفلسفي ان الذي يناسب الروح الحكمية هو ضرورة ان يكون الفلاسفة أنبياء من دون عكس. بمعنى ان الأنبياء ليس بوسعهم ان يكونوا فلاسفة ما لم تكتمل عندهم القوة العقلية التي يتحلى بها الفلاسفة. وبالتالي فإن النبوة بحسب هذه الروح غير قابلة للانقطاع.
* ان نفس النبي بحسب الرؤية الفلسفية عبارة عن نفس جامعة لقوى إدراكية ثلاث، هي قوى الاحساس والتخيل والتعقل. وانه بقوة التخيل يتصف بالنبوة، وبقوة التعقل يتصف بالفلسفة، وبجمع القوتين يكون أكمل الناس واسعدهم درجة، حيث يجمع ما بين النبوة والفلسفة. وهما قوتان تشاكل الأولى منهما الثانية وتحاكيها، إذ تكتمل القوة الفلسفية (العقلية) بفيض العقل الفعال، ومنه يترشح الفيض إلى القوة النبوية (الخيالية)، فيصدر عنها الأمثال والرموز على شاكلة ما عليه القوة العقلية.
* من الواضح ان الفيلسوف بحسب الرؤية الفلسفية له مزايا ووظائف تفوق تلك التي للنبوة. فكشف الحقائق والتعامل مع الباطن والقيام بدور القيمومة هي كلها من مهام الفيلسوف لا النبي. فلهذا الأخير وظائف تتعلق بالتعامل مع الظاهر والامثال والرموز التي تقرب المفاهيم الدينية إلى أذهان الناس بالاقناع رغم انها تخلو من الحقيقة.
* ان الغاية التي يتحراها الفيلسوف هي ان يتشبه بالإله فيكون عقله علماً بكل شيء. فهو يتصل بالعقل الفعال، أو حتى يتحد به فيكون هو ذاته، الأمر الذي يكتسب فيه الصفات الإلهية، أو انه يصبح ذاتاً إلهية حاوية على كل شيء، وبذلك تكون له القدرة على الفعل والصنع والايجاد، فالعلم هو علة الايجاد. أما الغاية التي يتحراها العارف فهي ان تتحد نفسه بالمقامات الفوقية حتى يفنى في ذات الحق، وهو أيضاً حريص على ان تكون ذاته حاوية وعالمة بكل شيء، ومنه يتم له الخلق والايجاد.
* ان النبوة بحسب الرؤية العرفانية تتخذ صورتين إحداهما تكاد تكون متطابقة مع الرؤية الفلسفية، حيث تقتبس منها القوى الثلاث ووظائفها، سوى ان الأمر يختلف من حيث ابدال العنصر الفلسفي بالعنصر العرفاني في القوة العقلية لقوى النبوة. وايضاً ان هذه القوة العرفانية تجاوزت حدود العقل الفعال الأخير كما تعارف لدى الفلاسفة، ففي اقصى كمالها تصل إلى حد الفناء والاتحاد مع الذات الإلهية. أما الصورة الأخرى فهي أيضاً تؤكد على ان النبوة عبارة عن تلك النفس التي تتقبل ما يفيض عليها العقل المفارق، كالذي يلاحظ لدى الرؤية الفلسفية. لكن بحسب الرؤية العرفانية يكون العقل المفارق هو العقل الأول أو الصادر الأول وليس العقل الفعال الأخير. ولا شك ان هذه الصورة هي المتعارف عليها في اوساط العرفاء مقارنة بالاولى.
* بحسب الرؤية العرفانية يتم إتحاد النفس النبوية بالعقل الأول جبريل، وهما متحدان مع الحقيقة الإلهية، وهي صيغة لا تختلف عن تلك الصيغة التي شاعت لدى النصارى من ان هناك حقيقة إلهية واحدة لها ثلاث مراتب متحدة، هي الله وابنه عيسى وروح القدس.
* ان للنبوة بحسب الرؤية العرفانية ملكتين علويتين، إحداهما معرفية حيث فيها كل الحقائق، والأخرى تكوينية بما لها من ولاية في تكوين الخلق وتصريفه، وهذا ما يبرر وصفها بالإله الصانع المستخلف عن الاله المتعال. وهي بحسب هاتين الخصوصيتين يطلق عليها الحقيقة المحمدية التي تنشأ عنها سائر المراتب الوجودية، وتتمظهر بها الاشكال والصور الخلقية، فهي عبارة عن إسم الله الأعظم والإنسان الكامل والوسيط الجامع بين حقيقتي الحق والخلق.
* ان النبوة والولاية العرفانية يعبران بحسب الرؤية العرفانية عن حقيقة واحدة لها وجهان ظاهر وباطن، فمن حيث الظاهر نشهد النبوة، ومن حيث الباطن تكون الولاية، وهذه الأخيرة أعظم من الأولى. كذلك فبحسب هذه الرؤية ان الولاية العرفانية هي نبوة دائمة لا تقبل الانقطاع، وان النبوة الظاهرة منقطعة. وهذا يعني ان العرفاء في ولايتهم يفوقون الأنبياء في نبوتهم الظاهرة. مع ان كل نبي عارف، لكنه بالعرفان أكمل منه بالنبوة، وذلك على شاكلة ما تقوله الرؤية الفلسفية من ان كل نبي فيلسوف، لكنه بالفلسفة أكمل منه بالنبوة.
* ان حقيقة محمد بحسب النظر العرفاني هي الصادر الأول المعبر عنه بالعقل الأول والوجود المنبسط، والذي تتقوم به حياة العالم. فمحمد من هذه الناحية يمثل الاله الصانع قبال الاله المتعال. فهو الله المتعين قبل سائر التعينات، وهو الإنسان الكامل، ومنه تكونت الأشياء جميعاً، كما انه غاية الكل. وعلاقته بسائر الأنبياء هي علاقة قيومية. وان ولاية العرفاء تستمد فعلها الوجودي منه، حيث يتمظهر بمظاهر مختلفة، مثل صور الأنبياء ثم الأئمة وبعدهم العرفاء والحكماء. فالكل يستمد وجوده وعلمه وتأثيره منه.
* إذا كان العارف الكامل نبياً، وان النبي هو إله يقوم به كل شيء، فإن النتيجة المنطقية تقول بان العارف الكامل هو ذاته عبارة عن إله.
* بحسب الروح الوجودية يمكن القول ان للفلاسفة والعرفاء وكذا الأنبياء قدرة على تغيير العالم وتسييره، بفعل ما يحملونه من العلم الشمولي والقوة الحسية. لكن يظل ان تغيير العالم بحسب الرؤية الفلسفية هو أقلّ درجة مما تدعيه الرؤية العرفانية.
* لا يوجد فصل لدى العرفاء بين التوحيد والنبوة والولاية، فكلها تعبر في جوهر الأمر عن الذات الإلهية وتنزلاتها، أو هذه الذات وفعلها المطلق الساري في كل شيء. فللنبوة والولاية درجة الإلوهة، حيث بيدها تصريف الخلق والتكوين، كما بيدها الهداية وتقرير المصير. لذلك فإنها لا تخرج عن التوحيد، إذ هي عين صفة المشيئة والإرادة، وإذا أخذنا بإعتبار ان صفات الحق عين ذاته، وانها موجودة بوجوده، فإن ذلك يجعلها لا تتجاوز حد التوحيد، ولم يعد لدينا تعدد في الأصول، حيث تتحد الولاية والنبوة والتوحيد في أصل واحد هو حقيقة الإله وما يحمله من المرتبتين التين يعبّر عنهما بالإله المتعال والإله الصانع.
* يعتبر المعاد بحسب النظر الفلسفي والعرفاني حركة صعودية تبدأ من الأدنى فالأعلى، حيث تسلك نفس الدور الذي تسلكه الحركة النزولية. وبالتالي فإنه لا يمكن فهم المعاد حسب هذه الرؤية إلا بفهم الحركة النزولية كما أشرنا اليها من قبل.
* ان النقطة الجوهرية في المعاد حسب الرؤية الفلسفية والعرفانية هي العنصر الإدراكي المعرفي، إذ تتأسس الحركة الصعودية وفق الاتصال الإدراكي بالعالم العلوي، وبالتالي فإن النشأة الآخرة هي نشأة إدراكية علمية.
* عند الفلاسفة يمثل المعاد السعادة القصوى للإنسان، بإعتباره يحقق أعظم قدر ممكن من الإدراك العقلي والاتصال بالمفارقات المجردة، فكلما ازداد الاتصال وتجرد الإدراك فإنه يكون أشد سعادة واقوى بهجة. ومن ذلك ان الاتصال بالعقل الفعال يحقق السعادة القصوى، وبالتالي فإن اسعد الناس هم الفلاسفة لقوة اتصالهم بهذا العقل. وعلى العكس فإن النفس التي تلهو عن العالم العلوي ومعشوقها العقلي الذي تكتمل به فإن معادها الشقاوة والعذاب. مما يعني ان منشأ السعادة والشقاوة والجنة والنار مرتبط ارتباطاً وثيقاً بحضور العلم وغيابه. فالعلم العقلي هو أصل البهجة والسعادة، والجهل المعرفي هو أصل العذاب والشقاء. بل ان الجنة والنار وسائر ما يذكره النص الديني من عالم الآخرة هي تعابير ترمز إلى ما عليه القوى الإدراكية للإنسان.
* بحسب الرؤية الوجودية فإن المعاد يشكل ضرورة كمالية للنفس بإعتباره يحظى بالتجرد والصورة من غير مادة. فهو صورة كمالية لكونه يمثل العودة إلى العالم الاصلي؛ عالم العقل والوحدة والصور المفارقة. وان معاد النفس البشرية هو عودتها إلى عالمها الإلهي الذي تنزلت منه. ومن ذلك ان معاد العقل البشري، المتشكل بفعل العقل الفعال، يتمثل في اتصاله أو إتحاده بهذا المفارق. فكل شيء يعود إلى اصله.
* يذهب الفلاسفة إلى ان معاد النفس عبارة عن مفارقتها للبدن. فالمعاد هو فقط لذلك الذي يكون محلاً للتجرد والعلم، وليس للجسم المادي المحسوس. لهذا اضطربت الأقوال بالنسبة إلى النفوس الساذجة التي لم تتعقل بعد؛ هل انها تعاد أم تبطل وتموت.
* هناك عدد من الاطروحات لمعاد النفوس البشرية، تشترك في كونها تمثل معاداً صورياً غير مادي، منها ما يرى ان الحقائق نفسية داخلية مثلما يجري الحال في عالم الرؤيا والمنام، وهو ما ذهب إليه الكثير من الفلاسفة، وعلى رأسهم الفارابي وابن سينا. ومن هذه الاطروحات ما ذهب إليه السهروردي، فأقرّ بالمعاد الجسماني ولكن من حيث إعتباره عالماً خيالياً منفصلاً وغير حسي، شبيه بالمثل الافلاطونية المنفصلة عن النفس. وهناك اطروحة أخرى لصدر المتألهين إعتبر المعاد جسمانياً حسياً لكنه صوري غير مادي ولا حال في قوام مادي، وانه وإن كان لم يفرق أحياناً بين معاد النفوس السعيدة والشقية من حيث انهما يمثلان معاً صورة بلا مادة وفعلاً بلا قوة، لكنه في محل آخر ميز بينهما، معتبراً النفوس الشقية ذات أبدان من عالم جنس الطبيعة المادية، حيث تتجدد وتتغير، بخلاف أبدان النفوس السعيدة التي تكون أبدانها صورية لا تخضع لقوانين التجدد والاستحالة، فهي صورة فعلية بلا قوة، وانها لا يقاس فيها زمان ولا مكان. وانه بحسب هذه النظرية تجري تجزئة معاد الإنسان إلى عوالم متعددة، كل منها يعود إلى اصله الذي يناسبه، رغم وجود التداخل والوحدة الجمعية بين هذه العوالم، كقبور يتضمن بعضها البعض الآخر. فهناك معاد القالب الذي يبعث من قبر الأرض، كما هناك معاد القلب الذي يبعث من قبر القالب، وبعده معاد الروح الذي يبعث من قبر القلب، ثم معاد النفس من قبر الروح، وأخيراً معاد العقل الذي يبعث من قبر النفس. فهذه العوالم والقبور تجسد صور التنزلات التي تبدأ من العقل وتنتهي إلى الأرض وعناصرها المادية.
* أما المعاد لدى العرفاء فهو مفسر بحسب أسماء الله الحسنى، حيث عودة مظاهر بعض الأسماء إلى مظاهر أسماء أخرى، وتحويل عالم الظاهر وعودته إلى عالم الباطن، أزلاً وأبداً من غير انقطاع، فالدنيا والآخرة مظهران من مظاهر الحق، وان الأخيرة ما هي إلا عبارة عن ظهور الحق بصور اسمي الباطن والاخر.
* ذهب البعض إلى ان النفوس الشقية لا تفارق عالم الدنيا والامها، بإعتبار ان تحرر النفس من البدن كفيل بان يجعلها سعيدة، لكونها تصبح عارية مجردة قابلة للاتصال بمعشوقاتها من المفارقات والنفوس الجرمية السماوية. وقد قلنا ان هذا الرأي الذي يعود إلى اخوان الصفا هو أقرب الآراء اتساقاً إلى الروح الفلسفية.
* ان معاد النفوس غير قابل للانقطاع أزلاً وأبداً، تبعاً لتناوب سلسلتي النزول والصعود، وهما سلسلتان حتميتان يعبران في معناهما عن حالتي الحلول والاتحاد. وفي هذه الحالة يتعين دوام الأنواع وثباتها تبعاً لدوام الفيض وثباته، أو بإعتبار ما عليه العلاقة بين العلل ومعلولاتها، أو الأسماء الإلهية ومظاهرها. لكن في جميع الأحوال ليس هناك ما يبرر قيام القيامة الكبرى أو قطع ما عليه الفيض في عالم الدنيا أو تغيير مجراه.
* إن فهم المعاد كعودة إلى ما عليه الأشياء في الأصل؛ وجد تحليلاً يتسق معها اعتماداً على نظرية الإتحاد. فمثلما تتوارد الصور وتتنزل من فوق إلى تحت في عالمنا الأرضي، فكذلك تتصاعد الأبدال وترتقي في العالم العلوي لتتحد به، في كل آن وحين من دون انقطاع، ومن ثم تنشأ الدنيا من الآخرة عبر النزول والحلول، كما تنشأ الآخرة من الدنيا بالصعود والاتحاد. ومن ذلك يتمثل معاد النفوس البشرية باتحادها بالأصل الذي تنزلت منه، إذ يتحد كل شبيه بشبيهه، حتى ينجمع الكل في عالم العقل والجمع تحت ما يطلق عليه الحشر والفناء. وهو تعبير عما يمكن ان تؤول إليه العملية من وحدة الوجود، فمردّ الكل إلى وحدة الحق الذي تفنى فيه جميع الخلائق، وعودتها إلى العالم الالهي، وهو القيامة الكبرى التي يعود فيها كل شيء إلى اصله وطبيعته.
* لا تخلو الآراء التي يدلي بها الفلاسفة والعرفاء من تلفيقات، خاصة تلك التي لها علاقة بالنصوص الدينية. ومن ذلك تفسير القيامة الكبرى لدى صدر المتألهين بطريقة تتنافى مع ما يؤكده من دوام عملية الفيض على نسق واحد لا ينقطع ابداً، تبعاً لعلاقات العلة والمعلول، أو تبعاً لعلاقات الأسماء بمظاهرها على النحو العرفاني. ومن ذلك أيضاً ما قرره من فناء كل شيء حتى الملائكة أو العقول مع انها ثابتة بحسب النظر الوجودي، فكيف تتحول مما هي عليه إلى أمر آخر؟!
* كما من بين التلفيقات الدينية التي تبناها صدر المتألهين انه عدّ الشقاوة في الآخرة نوعاً من الكمال، وانه تقبّل حالات من النكوص في الحركة الصعودية للكائنات لدواع نقلية، كوقوع بعض الاقوام تحت عمليات المسخ. كما تقبّل ان يكون الشيطان أصل الشر مع انه أعلى مرتبة من المادة التي يحسبها الفلاسفة مصدر الشر، وكذا الحال في موقفه من القيامة الكبرى.
* ان مقالة انقطاع العذاب لدى الفلاسفة والعرفاء قد تلقى بعض التوجيه، فمن حيث الأعيان الثابتة لا يمتنع ان تكون ذواتها معبرة عن السعادة للجميع، وإن كان بعضها محكوماً عليه بالشقاء قبل النعيم. ومن حيث نظام السببية قد يفضي العذاب إلى ان يكون مطهراً للنفس من الادران، وبالتالي فإنه يبرر تحول النفس إلى النعيم. أما من حيث الأسماء الإلهية فيمكن ان يقال ان تحول النفوس على التوالي من العذاب إلى النعيم لا يعني انقطاع مظاهر الأسماء الجلالية ومنها إسم المنتقم، فمع كل تحول لبعض النفوس يأتي غيرها ليحل محلها؛ كي تكون مصداق هذا الإسم الثابت، وهو أمر يجري أزلاً وأبداً بلا انقطاع.
* يبدو انه من الصعب على الرؤية الفلسفية والعرفانية اقناعنا بتبرير العذاب في الحياة الآخرة. فمن حيث وحدة الوجود الشخصية لا يعقل ان تكون العين الواحدة سعيدة وشقية إذا ما كانت حقيقتها الجوهرية المتمثلة بالذات الحقة متصفة بالسعادة والنعيم. وكذا الحال من حيث الوحدة النوعية، إذ يصعب معها أيضاً تبرير العذاب إذا ما كانت أصول الوجودات سعيدة، فبحسب إعتبارات السنخية ان السعيد لا يولّد إلا سعيداً، وان مرحلة الصعود هي مرحلة الالتحاق بالأصول المفارقة، وبالتالي كيف امكن للعذاب والشقاء ان يتولد؟! إلا ان يقال بأن العذاب لا يكون إلا في عالم الدنيا، وان النفس الشقية لا تفارق هذا العالم ما لم تتطهر وتستعد للكمال والرحيل إلى عالم الآخرة والنعيم، كالذي يذهب إليه اخوان الصفا.
* من حيث النتيجة ان فهم المعاد لدى الفلاسفة قائم على الإلوهة، فهم يصوّرون غاية الإنسان محددة بالاتصال أو الإتحاد بعلته المفيضة، وذلك ليكون هو هي، أو على الاقل يقترب منها ليكتسب عنها صفاتها الإلهية من العلم الشمولي والصنع والتكوين، وذلك على شاكلة المهمة الملقاة على عاتق الفلاسفة والعرفاء والأنبياء والأولياء.
* إن مبرر مسألة التكليف لدى الرؤية الفلسفية يعود إلى إعتبارات وجودية، تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الإمكان الاشرف. فأصل التكليف عائد إلى ما يحدث في عالم الافلاك السماوية من اوامر فوقية، ومن ثم انعكس ذلك على ما يحدث في العالم الأرضي، ومنه العالم الإنساني. لكن في جميع الأحوال لا يمكن حمل ما تتضمنه الفكرة الفلسفية عن التكليف محمل الجد والحقيقة، بل هي من المجازات التي تفضي إليها العلاقة الحتمية بين المبدأ الحق وما تحته من المراتب العقلية والنفسية للمفارقات، والتي تنعكس على ما يحدث للإنسان، بدلالة ان الرؤية الفلسفية لا تعترف بأي نسبة من نسب حرية الاختيار للإنسان تبعاً لمبدئها في العلاقة العلية الصارمة من خضوع العوالم السفلية للعوالم العلوية، أو بإعتبار ما للمبدأ الأول من علية واجبة من جميع الجهات، أو من حيث ان إرادته وقدرته هي عين علمه، ومن ثم فإن ما يصدر عنه محدد بسبب هذا العلم ذاته.
* وكالسابق يمكن القول تبعاً للرؤية العرفانية انه لا يوجد مبرر للتكليف بإعتبارات الحقيقة الشخصية الواحدة، فهي محددة تحديداً ذاتياً بإعتبارات عديدة، منها نفي القدرة وحرية الاختيار للإنسان، وكذا بإعتبار حاكمية الأسماء الإلهية والاعيان الثابتة، فبها تُعلل تصرفات الإنسان وسلوكه وصفاته، وايضاً بإعتبار وحدة الوجود ذاتها من حيث ان الحق هو عين كل شيء، وبالتالي فلا معنى للتكليف ولا العبادة.
* تبعاً للرؤية الوجودية (الفلسفية والعرفانية) تتخذ مسائل الحساب من الثواب والعقاب شكلاً مجازاً، وفقاً لعلاقة الفعل الإنساني بما يترتب عليها من نتائج، سواء فسرنا الأمر بحسب الرؤية الفلسفية من ارتباط العلة بالمعلول، أو بحسب الرؤية العرفانية من ارتباط المظاهر الفعلية باسمائها الإلهية، أو ارتباط الوجودات باعيانها الثابتة السابقة، فسواء بهذا أو بذاك فإن هناك نمطاً من الحتمية السنخية يعمل على تحديد ما عليه الكائنات من نعيم وعذاب، أو ثواب وعقاب، وهو ما لا يتسق مع حقيقة التكليف التي أكدت عليها النصوص الدينية.
* بحسب الرؤية الوجودية (الفلسفية والعرفانية) ليس الغرض من بعث الرسالات السماوية هداية الناس عامة، بل لا يوجد في واقع الأمر ما نعده غرضاً حقيقياً؛ سوى انه فعل محتم يقع في دائرة تسلسل الأفعال التي تؤدي دورها في هداية بعض الناس وفقاً لسلطة المفارقات التي تحكم السفليات، سواء فسّرنا الأمر تبعاً لنظام العلة والمعلول، أو تبعاً لارتباط المظاهر السلوكية بالأسماء الإلهية، أو نتيجة تبعية الوجودات للأعيان الثابتة. وفي جميع الأحوال ليس لبعث الرسالات أي علاقة بالتكليف والبلاء وإلقاء حجة الحق على العباد، وانما هو من الأسباب الموضوعية المترتبة على الإعتبارات الوجودية.
* إن تعدد العبادات بحسب الرؤية الوجودية هو أمر مقبول وصحيح، بإعتبار ان فهمها قائم على الأمر التكويني الوجودي. فالعبادات وفقاً للرؤية الفلسفية مردها إلى تبعية المعلول للعلة وتشبهه بها، وهي وفق هذا المفهوم عبارة عن أمر تكويني لا يقبل الخطأ والاعتراض. أما بحسب الرؤية العرفانية فإن تعدد العبادات يخضع إلى ما عليه تعدد الأسماء الإلهية، إذ لا بد لهذه الأخيرة من توابع ومظاهر، أو انه يخضع إلى ما عليه الأعيان الثابتة من طبائع وحقائق. وفي جميع الأحوال ان التعدد في العبادات هو أمر تكويني لا يقبل الخطأ والاعتراض، وان العبادة ذاتها لا يمكن حملها إلا على نحو المجاز، فهي لا تعني سوى اتباع السفليات لما عليه الفوقيات. والكل بهذا الإعتبار يعد مطيعاً للحق، وانه يعبد الله على شاكلته، وان تعدد الأديان والعبادات هو نتاج تعدد المفارقات، وان العصيان المشاهد لبعض الكائنات ما هو إلا طاعة في صورة عصيان، أي طاعة لبعض المفارقات من العلل والأسماء الإلهية. وبالتالي فإن أصح العبادات كما لدى إبن عربي هي تلك التي تجمع كل الأديان والعقائد، اتساقاً مع نظرية وحدة الوجود الشخصية. لكن كل ذلك يُحمل على المجاز وليس الحقيقة كما هو متبادر لدى النصوص الدينية.
* هناك نمطان من القراءة الوجودية للنص، أحدهما متسق، والآخر غير متسق، حيث يتضارب فيه التنظير مع التطبيق الفعلي. والأول يعود إلى الفلاسفة التقليديين من أمثال الفارابي واتباعه، والآخر يعود إلى العرفاء وبعض الإشراقيين.
* لا يولي الفلاسفة التقليديون النص أي مرجعية معرفية مستقلة، فهو يتبع ما عليه البرهان الفلسفي، لكونه لا يحظى عندهم بدرجة القطع واليقين. فالمنهج المتخذ لديهم هو منهج تبعية النص للقبلية الفلسفية. لذلك اقرّ الفلاسفة لزوم تأويل النصوص الدينية الخاصة بعالم الغيب والآخرة، وعدوا ما جاء به الشرع لا يفيد الحقيقة، وان غرضه اقناع عوام الناس عن طريق التشبيه والتمثيل.
* وعلى خلاف هذا النهج التبعي ظهر نهج التوفيق الذي تبنّاه العرفاء والفلاسفة الإشراقيون، فهو يعترف بالنص كمرجعية معرفية مستقلة ويقينة، وعليه يمكن التوفيق بينها وبين المرجعية الأخرى للقبلية الوجودية. وهناك مبنيان لهذا النهج، أحدهما فلسفي، والآخر عرفاني، وان الأول طرح نظرية سميناها (المشاكلة)، والآخر تبنى صورة أخرى من الفهم صككنا لها مصطلح (المعاينة). وسواء لدى نظرية المشاكلة أو المعاينة فإن النص لا يُعامل معاملة التشبيه والتمثيل، ولا المجاز والتأويل، خلافاً لما كان عليه النهج الأول للفلاسفة التقليديين.
* توجد ثلاث نظريات متسقة لفهم النص، الأولى هي نظرية التمثيل التي ترى ان ما يتضمنه النص من مفاهيم انما يراد منها التمثيل والتشبيه للقضايا الموضوعية، ولا يراد منها تقرير الحقائق. والثانية هي نظرية المشاكلة التي تختلف عن الأولى بأنها ترى في النص دلالات على الحقائق الموضوعية تبعاً للمطابقة بين مفردات النص اللغوية وبين الوجود، حيث لدى كل منهما مشاكلات نوعية، مما يجعل أحدهما يدل على الآخر ويتطابق معه. أما الثالثة فهي نظرية المعاينة التي هي أيضاً تؤكد على قطعية الدلالة اللغوية للنص خلافاً للنظرية الأولى، لكنها لا تتفق مع النظرية الثانية في حملها للدلالات الظاهرة من النص على معنى المشاكلة، ولا تردّ معنى الألفاظ إلى أصولها المشتركة كما تفعل سابقتها، وانما تأخذ بالمعنى الظاهر كما هو في دلالته الخاصة مباشرة، وكثيراً ما تستند في ذلك إلى المعنى الحسي للفظ، خلافاً لنظرية المشاكلة التي تركز على المعنى غير الحسي.
* رغم اقرار العرفاء بمرجعية النص، إلا ان ممارساتهم قد غلب عليها طابع التأويل والإستبطان. ورغم ان عباراتهم تدين كل تأويل وفكرة تخالف النص، إلا ان فهمهم للنصوص قائم على اسقاط القبليات الوجودية، ومن ثم العمل بالتأويل والإستبطان. وبعضهم واقع في تردد؛ فتارة ينكر التأويل وأخرى يعترف به.
* إن لمبدأ الإعتبار أهمية خاصة في تبرير العمليات الإستبطانية التي يتم فيها اسقاط الرؤية الوجودية على فهم النص. فالإعتبار هو العبور من الظاهر إلى الباطن لمناسبة ما، لذلك يمكن توظيف أي مناسبة لفظية لأجل اسقاط الرؤية الوجودية وجعلها تمثل باطن ما يظهره النص. وكما عرفنا انه قد تحول هذا المبدأ إلى ما يطلق عليه التطبيق، أي تطبيق الرؤية الوجودية على فهم النص، ومنه يتضح حجم الموسوعة التي تنطوي عليها الديانة الوجودية.
* لا شك ان ما يبرر التطبيق لدى العرفاء هو حالة المطابقة بين العوالم تبعاً لمنطق السنخية، ومن ذلك ان عالم النص مطابق لما عليه عالم الوجود، وبالتالي جاز إنتزاع العلاقات والمفاهيم من العالم الأخير وتطبيقها على الأول.
* رغم محاولات بعض الوجوديين المخلصة لأجل التوفيق بين النص والقبليات الوجودية، إلا ان حصيلة ذلك كانت تلفيقاً أكثر من كونها توفيقاً، كالذي تشهد عليه محاولات صدر المتألهين الشيرازي.
* توجد ثلاث آليات للقراءة، هي الإستظهار والإستبطان والتأويل، وجميع هذه الآليات قد تم توظيفها على يد الفلاسفة والعرفاء لصالح القبليات الوجودية. والإستظهار هو الفهم القائم على ظاهر النص، والإستبطان هو الفهم الذي يبتعد فيه عن مجال النص، والتأويل هو دفع الظاهر مع الحفاظ على المجال. وقد استخدم الفلاسفة والعرفاء هذه الآليات جميعاً لدى قراءتهم للنص الديني. ولهم في المجال الاستبطاني أنماط من التفننات مثل تناظراتهم بين المعطيات الدينية والمعطيات الوجودية، وتحويلهم ظواهر النصوص الدينية إلى تلويحات رمزية تشير إلى ما عليه الوقائع الوجودية، وايضاً تحويل المعطيات الشرعية (الفقهية) إلى رموز تشير إلى ما عليه الوجود. كما لديهم في مجال التأويل العديد من التفننات، مثل عمليات التأويل تبعاً للإعتبارات اللغوية والتلفيق وقلب الاوصاف والاحكام وغيرها.
وفي هذا الصدد نكتفي بذكر شاهد على أحد أنماط التفنن في التأويل فيما يخص ايمان فرعون وطهارته، وذلك كالتالي:
فقد تعرض الى هذه القضية الشيخ محي الدين بن عربي ووجد له تأييداً من قبل صدر المتألهين الذي عبّر عن ان ما صدر عن ابن عربي هو من ‹‹مشكاة التحقيق وموضع القرب والولاية››. فقد استفاد ابن عربي من قول فرعون في لحظته الاخيرة قبل مماته: ‹‹آمنت بالله››، ومن قول امرأة فرعون في حق موسى انه {قرة عين لي ولك} القصص/ 9، ومن حيث ان الاسلام يجب ما قبله، فعلى ذلك خلص الى تحقق نبوءة كون موسى قرة عين لفرعون، حيث ان الله منحه الايمان في اخر لحظة عند الغرق، وذلك عندما قال كما في الاية: {آمنتُ انه لا اله الا الذي آمنتْ به بنو اسرائيل وانا من المسلمين} يونس/90. وكما يقول ابن عربي: ان الله ‹‹قبضه طاهراً مطهراً، ليس عليه شيء من الخبث، لانه قبضه عند ايمانه، قبل ان يكتسب شيئاً من الاثام، والاسلام يجب ما قبله، وجعله اية على عنايته سبحانه لمن شاء[1]، حتى لا ييأس احد من الله الا القوم الكافرون، فلو كان فرعون ممن يئس ما بادر الى الايمان، فكان موسى (ع) كما قالت امرأة فرعون عنه انه قرة عين لي ولك عسى ان ينفعنا، وكذلك وقع، فان الله نفعهما به››. ويتابع ابن عربي في دفاعه عن نجاة فرعون فيقول: ‹‹فنجّاه الله من عذاب الاخرة في نفسه ونجّى بدنه.. فقد عمّته النجاة حساً ومعنى.. ثم انا نقول بعد ذلك: والامر فيه الى الله، لما استقر في نفوس عامة الخلق من شقائه وما لهم نص في ذلك يستندون اليه››[2]. وفي (الفتوحات المكية) تدارك ابن عربي ما جاء في الاية الكريمة: {آلآن وقد عصيت قبلُ وكنتَ من المفسدين} يونس/91، حيث اعتبرها على عكس المطلوب وهي انها دالة على اخلاصه في ايمانه، وفيها عتاب على ما سبق له من العصيان والفساد، لذلك فالنص وارد بحسب ما عليه من قبل وليس فيما هو عليه بعد، والا لقال الله له: وانت من المفسدين، كذلك انه لو لم يكن مخلصاً لقال الحق فيه كما قال في الاعراب: {قالت الاعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا اسلمنا ولما يدخل الايمان في قلوبكم} الحجرات/14. كذلك تدارك ما جاء في قوله تعالى: {يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود} هود/98، حيث عدّ الاية لا تنص على دخول فرعون النار مع قومه الداخلين، وانما هو يقدمهم فحسب، مثلما جاء في قوله تعالى: {ادخلوا آل فرعون} غافر/46، ولم يقل ادخلوا فرعون وآله، وبالتالي فرحمة الله اوسع من ان لا يقبل ايمان المضطر. وبذا فقد شهد الله لفرعون بالايمان، وما كان الله ليشهد لأحد بالصدق في توحيده الا ويجازيه به وبعد ايمانه، حيث قبِل ايمانه وطهّره، اذ الكافر اذا اسلم وجب عليه الغسل، فكان غرق فرعون غسلاً وتطهيراً له[3].
وقد وجد هذا المعنى تأييداً من صدر المتألهين الذي قال بصدده: انه ‹‹يفوح من هذا الكلام رائحة الصدق، وقد صدر من مشكاة التحقيق، وموضع القرب والولاية››.[4]
ورغم كل ذلك ذهب ابن عربي في كتابه (التراجم) الى غير ما سبق، حيث وظف بعض الايات التي تخص فرعون ليدلل بان الله لا يقبل توبة العبد عند حضور لحظة الموت، وقال بهذا الصدد: ‹‹ان الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر {فلم ينفعهم ايمانهم لما رأوا بأسنا}، {الآن وقد عصيت}››[5]. بل حتى في بعض المواضع من (الفتوحات المكية) اعتبر ابن عربي المجرمين الذين يدخلون النار ولا يخرجون منها ابداً اربع طوائف، اولها المتكبرون على الله، مشيراً في ذلك الى ابرز نماذج هذه الطائفة وهو فرعون وامثاله ممن ادعى الربوبية لنفسه ونفاها عن الله، وذلك في قوله تعالى: {يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري} القصص/38، وقوله: {أنا ربكم الاعلى} النازعات/24.[6]
نقول أخيراً: ليس غرضنا تقويض المناهج المعرفية للفلسفة والعرفان عامة. فكل ما فصلناه يعتبر كشفاً عن طبيعة التراث المعرفي لهذه المناهج، وقد وجدنا فيه الكثير من المفارقات والمزاعم غير المسلحة بالأدلة الكافية. ويمكن القول اننا لسنا ضد التأمل العرفاني والسلوك الاخلاقي كما يرومهما العرفان، ولا ضد التفكير العقلي والفلسفي عموماً، بل على العكس نحن نسلم بضرورة كلا النهجين ونرى في الحقيقة الإنسانية ما يدل عليهما، إذ ليس بإمكان الإنسان ان يعزل نفسه عن الكشف الذوقي، وان المبادئ الاساسية الفطرية التي يتصرف على ضوئها ما هي إلا مبادئ عرفانية، ومن ذلك التسليم بالواقع العام كحقيقة موضوعية مع انه لا دليل عليها في ضوء العقل والاستدلال، وكذلك التسليم بخلو هذا الواقع من التناقضات الذاتية، وان العلاقات الجارية فيه مبتنية على مبدأ السببية العامة.. فكل ذلك مما لا يمكن تفسيره على ضوء الضرورات المنطقية، فضلاً عن انه لم يأتِ بواسطة الأدلة العقلية وإعتباراتها. يضاف إلى ان التجربة البشرية حافلة بمظاهر الحدوس والكشوف الوجدانية، وهي أيضاً مما لا يمكن تبريرها بحسب منطق الأدلة والبراهين.
إذن نحن مع العرفان في مثل هذه المبادئ والمنطلقات، لكنا نعيب على العرفاء عدم تعريضهم الحالات الكشفية للنقد والتمحيص، ولم يفرقوا في مكاشفاتهم بين ما هو عائد إلى الكشف كتجربة ذاتية وبين ما يقام عليه من صياغة نظرية في الغالب. فالحالات الكشفية شيء، وتفسيرها شيء آخر، والعرفاء لا يجهلون هذا التمايز من الناحية المبدئية، لكن ما ينقصهم هو النقد والتمحيص. لذا أكثروا من المزاعم والنظريات وانساقوا إلى التقليد فوقعوا في الكثير من المفارقات والتناقضات، وكانت حصيلة رؤاهم لا تختلف جذرياً عن حصيلة الرؤى الفلسفية المقدمة، وهي أيضاً قد أصابها الكثير من التقليد والادعاء ولم تنجُ من المفارقات، لتعدد ما اعتمدت عليه من الإعتبارات، ومنها الإعتبارات غير المنضبطة؛ سواء على صعيد التوليد المعرفي أو على صعيد الفهم الديني، كالذي شهدت عليه فصول كتاب (الفلسفة والعرفان والاشكاليات الدينية).
لذلك ندعو إلى ضرورة ارجاع المنظومة الفلسفية والعرفانية إلى أصولها الاساسية وتهذيبها وتنقيتها مما علق بها من شوائب المفارقات والتلفيقات والتناقضات الحاصلة بفعل الاحتكاك بالفهم الديني، بل وتسليحها بالنظريات الفيزيائية المعاصرة. وسبق ان أشرنا في (منهج العلم والفهم الديني) إلى انه كان يمكن للمنظومة الفلسفية ان تواكب تطورات العصر وان تُحدث نقلة فكرية عظيمة لو ان الراعين لها أرفقوا معها طرح الأفكار الفيزيائية الحديثة، جنباً إلى جنب، ومن ثم التخلص من الفكر العلمي القديم، مع الاكتفاء بمحض المادة النظرية. ففي هذه الحالة ‹‹سيتقابل الفكر الفيزيائي الحديث مع النظام الفلسفي العريق وجهاً لوجه، وسيفضي الجدل بينهما ليس فقط إلى الكشف عن وجوه الشبه بين الفكرين، بل الأهم من ذلك تطويرهما ضمن منظومة جديدة مهيئة لأن تكون عالمية وعصرية بامتياز››.
[1] استناداً الى قوله تعالى: {فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك اية} يونس/ 92.
[2] القيصري: مطلع خصوص الكلم، ج2، ص414-415. وشرح الفصوص للجندي، ص636.
[3] ابن عربي: الفتوحات المكية، ج2، ص273 و404.
[4] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج4، ص378.
[5]ابن عربي: كتاب التراجم، ص21. والفتوحات المكية، ج1، ص377.