يحيى محمد
تتعدّد أنماط التديّن وتتنوع، غير أنّ أخطرَها على كيان المجتمع واستقراره هو التديّن العدواني، كما أنّ أنبلَها وأكثرَها إصلاحاً هو التديّن الإنساني، الذي تهزه مشاعر الضمير وقيم الأخلاق العامة. وتتمايز هذه الأنماط بحسب ما تؤديه من وظائف، وما تتعبّد به من أشكال، وفقاً لسوسيولوجيا المعرفة الدينية. ومن أبرزها ما يلي:
التدين التقليدي:
وهو النمط الأكثر شيوعاً بين عموم الناس، حيث يقوم على مجرّد التقليد والاتباع، بلا تمحيص ولا مساءلة. وهو التديّن الذي تتوارثه الطوائف والمذاهب جيلاً بعد جيل، حتى يغدو عادة اجتماعية لا تميّز فيها بين الدين والعُرف، ولا بين الشعائر والبدع. وغالباً ما يتشكّل هذا التديّن منذ النشأة الأولى، ويتعمّق مع مرور الوقت، بحيث يبقى الفرد أسير انتمائه الأول حتى الممات، سنياً كان أم شيعياً، مسيحياً أم يهودياً، دون أن يتساءل: لِمَ أنا كذلك؟
ولا يقتصر هذا النمط على عامة الناس فحسب، بل يتعدّاهم إلى العلماء غالباً، إذ يبقون أسرى التنشئة الأولى، يُنظّرون لمذهبهم ويبرّرونه، لا لأنهم اختاروه بعد وعي ونقد، بل لأنهم وُلدوا في حضنِه ونشأوا على مفاهيمه، فكانوا مجرد صدى لتاريخه.
التدين الخرافي:
ويترعرع هذا التدين وسط ما يشيع من خرافات وأساطير وغلو، كالذي يكثر في الروايات لدى المذاهب الإسلامية، ومنها الغلو في مراتب الأئمة والأولياء وعلومهم ومعاجزهم، فينبسط عند انبساطها، وينكفئ عند انحسارها وانقباضها. ويُضفي المخيال الشعبي والأسطوري طابعاً درامياً على المعتقد، فينقله من حقل الإيمان إلى عالم الحكايات والعجائب.
وغالباً ما يُستثمر من قِبل الوعّاظ وأصحاب القصص، إذ يروّجون لمرويات تفتقر إلى التحقيق، لكنها تُلهب مشاعر الجمهور وتُشبع حاجته النفسية للتعويض الرمزي. ومن أمثلته ما يجري في المجالس الشيعية خلال شهر محرم، حيث تُستحضر الوقائع التاريخية بلغة تخيلية تجعل المستمع كأنه حاضر في قلب الحدث. أو يُنسج حول الشخصيات الدينية صفات أسطورية، كالتركيز على البطولات الخارقة لأهل البيت، ومثل ذلك عندما يتحدثون عن القوة الخارقة للإمام علي، وعن القدرة اللامحدودة في غضب شهيد كربلاء أبي الفضل العباس أخ الحسين الشهيد، وهي قدرة لا تقف عند زمانهم، بل تمتد بحسب المخيال الشعبي لتؤثر على الحياة اليومية للمتدين في الحاضر، كما هو الحال في أداء القَسم في البيئة الشعبية العراقية، حين يتحاشى بعض الناس الحلف باسمه لما يُنسب إليه من شدة الغضب، فيقال عنه في التعبير الشعبي: (أبو راس الحار).
ويتذكر صاحب هذه الكلمات في زيارته للعراق بعد الاحتلال الأمريكي بسنة، أن أحد الأشخاص التمس منه ان يقرأ ما سماها (فاتحة العباس) لتوكيد عهد تمنى تحقيقه مع صاحب السطور.. فأجابه الأخير للمزاح، ولِمَ لا نقرأ فاتحة أبيه الإمام علي فهو أولى منه!
ومثلما يتغلغل هذا النمط من التدين لدى الأوساط الشعبية من الأميين وقليلي المعرفة عبر الحكايات والقصص والأساطير، فإنه يعشعش أيضاً وسط العلماء من خلال ظاهرة الغلو. ولدى المخيال الشعبي تلعب شخصيات تاريخية محددة دوراً سلطوياً الوهياً في التأثير على جميع مفاصل حياتنا الشخصية المعاصرة.
التدين التراجيدي:
وهو تدين يركز المخيال فيه على المعاني المأساوية المرتبطة بالأحداث التاريخية الدينية، كالذي يبرز بوضوح لدى الشيعة أيام مناسبات وفيات أهل البيت، لا سيما أيام عاشوراء، حيث تمتزج فيها معاني الحزن والمبالغة في التصوير إلى حد الأسطورة.
التدين العقلاني:
وهو ما يمارسه المثقفون الدينيون عادة، وذلك بالابتعاد عن الخرافة والأساطير، وجعل الدين مستساغاً من الناحية العقلية.
وقد اهتم بهذا النمط من التدين رواد الاصلاح الحديث ومن على شاكلتهم إلى يومنا هذا.. وأحياناً يُعبّر عنهم بالمعتزلة الجدد، لكونهم يقومون بتأويل كل ما لا يتلاءم مع التطلعات العقلية الحديثة أو المعاصرة. وهو نمط يخالف الأنماط المعروضة السابقة ويقف على الضد بالخصوص من التدين الخرافي، إذ يجعل من الحاسة العقلية النقدية أساساً للتدين، فهو لا يتقبل كل ما يُنسب إلى الدين إلا بعد عرضه على هذه المصفاة، فوظيفة هذا النمط من التدين هي عقلنة الدين.
التدين الحجاجي:
وهو التدين الذي يتعبد بكل ما يتعلق بالرد على الخصوم، وقد كان المتكلمون وأصحاب العقيدة - وما زالوا - يمارسون هذا النمط من التدين، حتى وكأن الدين لديهم ليس سوى ما يُبطل رأي الآخر. ولا شك انه يترعرع وسط الخلافات المذهبية الشديدة، فترى بعضهم ينال من البعض الآخر، والكل يدعي بأن الدليل والبرهان معه، وان الآخر لا يمتلك الحجة والبرهان.
وتتكرر هذه النغمة لدى المتحاججين، وأحياناً تتخذ صورة المناظرات المباشرة عبر الإعلام المتنوع. فالكثير يعتبر ان الدخول في حلبة الصراع هو جزء من المهمة الدينية، وهي انه يقوم بدفع شبه أهل البدع والأهواء، وفيه ينشأ حال هذا النمط من التدين، والبعض يعبّر عن هذا الحال بما يعرف بقاعدة الولاء والبراء، فهي من أركان العقيدة والدين، بل وأهمها لدى هذا الصنف.
التدين الايديولوجي:
وهو التدين الذي يعمل على جعل الدين مطية الأغراض الايديولوجية، كالقضايا السياسية وما اليها، بمعنى ان للدين وفق هذا النمط وظيفة هامة لتحقيق أغراض معينة، وطنية أو قومية أو حزبية أو سلطوية أو نهضوية أو اصلاحية أو غيرها، كما هو حال ممارسات أصحاب الحركات الإسلامية السياسية والاصلاحية.
التدين النفعي والانتهازي:
وهو تدين يعمل على توظيف الدين لمنافع شخصية أو انتهازية، كالذي يقوم به ما يُعرفون بوعاظ السلاطين، ومثلهم الذين يتاجرون بالدين، وأيضاً الذين يبحثون عن الحيل الشرعية لينتفعوا بها ولو على حساب القيم والمقاصد الشرعية.
فمثلاً إن بعض الفقهاء فتح باب الحيلة أمام الذين لا يريدون دفع الزكاة خلافاً للمقاصد الشرعية، فبإمكان الشخص ان يهب ماله إلى زوجته مثلاً قبل انقضاء الحول بيوم أو أكثر، ولو مع الاشتراط عليها ان تعيده له بعد اتمام الحول بيوم أو أكثر، وبذلك تتم الحيلة، كالذي افتى به القاضي ابو يوسف. فالدين وفق هذا النمط كالبضاعة التي تباع وتشترى للكسب والمنفعة. وكثيراً ما ينتمي إلى هذا النمط أصحاب السلطة السياسية من المتدينين.
التدين التبريري:
وهو تدين وظيفته تبرير القضايا الدينية بأي شكل من الأشكال لتبقى كما هي من دون فتح مجال للتغيير، وهو الذي يمارسه رجال الدين عادة، ومنهم أصحاب المقاصد الذين وضعوها لتبرير الأحكام دون البحث في جعلها أساساً للتشريع.
التدين التبعي:
وهو الذي يجعل من الدين تابعاً لمنظومات فكرية قائمة، كالتدين الفلسفي التقليدي والتدين العرفاني النظري.
التدين الروحي:
وهو الذي يترعرع في ظل القضايا الروحية للدين، كطريقة الزهاد وأصحاب الطرق الصوفية.
التدين الاجمالي:
وهو التدين الذي يميل إلى تفهم الدين بقدر ما يمكن من الموضوعية، فيقتصر على المطمئن والمقطوع فيه ليتدين به، ويترك ما تبقى معلقاً إن لم يثبت بطلانه. فهو ليس من النمط الحجاجي ولا المعقلن، كما انه ليس تقليدياً ولا خرافياً، بل يكتفي بما هو واضح ليتعبد به. أما غير ذلك فيخضع للتحقيق والترجيحات الاحتمالية المختلفة من دون ان يُنسب إلى الدين على نحو اللزوم. فهذا هو الحد اللازم من الدين دون حاجة للمزيد أو كثرة الطلب والسؤال. ويعتبر هذا النمط من التدين نادراً للغاية؛ رغم قوة الحجة التي يقدّمها في هذا المجال[1].
التدين الإنساني:
وهو التدين الذي يستند إلى فطرة الإنسان والقيم الأخلاقية المشتركة، وتهزه مشاعر الضمير من دون ان ينحاز إلى جماعة ومذهب ودين دون آخر إلا بالقيم والتقوى. وهو تدين يندر وجوده وسط رجال الدين، ويميل اليه المتصوفة عادة.
التدين العدواني:
يقف هذا النمط من التدين على الضدّ تماماً من التدين الإنساني؛ إذ يعمل على تصنيف البشر وفق قوالب عقدية صارمة، فيُسارع إلى إدراج المخالفين في دوائر الكفر والضلال، بينما يُنزِل الموافقين منزلة أهل الإيمان والصلاح والفوز. وهذا النمط هو الغالب في خطابات كثير من رجال الدين بمختلف طوائفهم ومذاهبهم، حيث يُنصّب الاعتقاد معياراً وحيداً للنجاة أو الهلاك.
***
هذه جملة من أنماط التدين التي تختلف فيما بينها بحسب ما تمارسه من وظيفة وما تؤديه من تعبد. ولا شك ان بعضها قد يتداخل مع البعض الآخر، أو يجتمع معه لدى الشخصية الواحدة من دون تعارض، لكن منها ما يقف إزاء الآخر موقف الأضداد، فالتدين الإنساني مثلاً يقف على الضد من التدين العدواني؛ سواء عبّر الأخير عن التدين التضليلي أو التكفيري أو القاتل أو ما شاكل ذلك.
ويلاحظ انه ليس في هذه الأنماط ما يشكل خطورة على المجتمع مثل التدين العدواني، وفي القبال ليس فيها ما يشكل صلاحاً للمجتمع مثل التدين الإنساني.
وعلى العموم، فنحن اليوم نواجه طيفًا واسعًا من القضايا التي تستدعي إعادة النظر الجذرية، والعودة الصادقة إلى الأصول الأولى، بعد ما راكمتها الأزمان من حُجب وسدود حالت دون إدراك حقيقة الدين. فما يصلنا في الغالب ليس الدين في نقائه، بل آراء الرجال التي تُقدَّم إلينا على أنها تمثيلات حقيقية للإسلام، مع أنها كثيراً ما تتصادم مع المقاصد والواقع، بل ومع بداهات العقل ووجدانياته. وأصبحنا نرث تركة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال؛ التي مصيرها النار فلا يقبل منها عمل ولا عبادة، وأضحى بعضنا يتبرأ من البعض الآخر إلى حد التكفير وما يترتب عليه من سفك الدماء، والكل يدعي بأن عمله قائم على الإسلام، وكأن الأخير تحوّل إلى قاطع طريق يعمل على تدمير الناس، لا خدمة البشر وزرع المحبة للجميع.
قديماً كان العرفاء يقولون بأن العلم حجاب يحجب معرفة الحقيقة، وأن للإنسان فطرة ثانية لإدراك هذه الحقيقة بعد إزالة ذلك الحجاب، وهذا العلم الذي يتحدثون عنه هو العلم القائم على التقليد، فضلاً عما يقصدونه من العلم الكسبي، فلا توجد فرصة للعقل بأن يفكر خارج ما تمّ فرضه عليه بقوة العقل الجمعي.
لا شك أن أجيالنا القادمة بحاجة إلى تربية جديدة مغايرة لما نشأنا عليه، تربية تخلّصهم من أسر الأصنام البيكونية، وعلى رأسها التقليد..
[1] للتفصيل انظر ما جاء في الفصل الأخير من (النظام الواقعي).