يحيى محمد
لقد عمل المفكر الصدر على اعادة تفسير قضايا المعرفة البشرية على ضوء التصنيف الأرسطي الذي صنف المبادئ المعرفية إلى مجموعتين: إحداهما يقينة، وهي تشكل أساس جميع البراهين المنطقية، وتنقسم إلى ستة اصناف هي: الأوليات والفطريات والمحسوسات والتجربيات والحدسيات والمتواترات. في حين أن الأخرى ليست يقينة وتنقسم إلى سبعة اصناف هي: المظنونات والمشهورات والمسلّمات والمقبولات والوهميات والمشبهات والمخيلات1. وتعد المجموعة الثانية ليست مستغنية في وجودها وإستنتاجها عن الأولى. وسنتعرف على المجموعة الأولى لاهميتها كالآتي:
1 ـ الأوليات: وهي قضايا يصدّق بها العقل لذاتها من دون أي سبب خارجي، فبمجرد تصور طرفي القضية والنسبة بينهما يكفي للحكم بصدقها. مثال عليها: النقيضان لا يجتمعان، والكل أكبر من الجزء، ولكل حادثة لا بد من سبب.
2 ـ الفطريات: وهي قضايا لا يكفي تصور طرفيها لتصديق العقل بها كالأوليات، بل لا بد لها من وسط يدركه العقل، مثل حكمنا بأن (الاثنين نصف الأربعة) لأن الأربعة تنقسم إلى اثنين مرتين، وكل ما ينقسم إلى شيء مرتين، فهذا الشيء يكون نصفه، لذا فالاثنان نصف الأربعة.
3 ـ المحسوسات: وهي قضايا يحكم بها العقل جازماً بواسطة الحس دون ان يكفي فيها تصور الطرفين. والحس إما ان يكون ظاهراً فتسمى قضاياه بالحسيات؛ كمعرفة ان الشمس موجودة، وهذا الكتاب جديد، وتلك النار مستعرة... الخ. أو يكون (الحس) باطناً فتسمى قضاياه بالوجدانيات؛ كمعرفة ان لنا فكراً ولذة والماً، وغير ذلك من المشاعر المباشرة..
4 ـ التجربيات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة تكرر المشاهدة منا في احساسنا، فيحصل بتكرر المشاهدة ما يوجب ان يرسخ في النفس حكم لا شك فيه، كالحكم بأن كل نار حارة، وان كل حديد يتمدد بالحرارة، وان كل إنسان يجوع.
5 ـ الحدسيات: وهي قضايا يحكم بها العقل على أساس حدس قوي من النفس يزول معه الشك، مثل حكمنا بأن نور القمر مستفاد من نور نسبته من الشمس قرباً وبعداً.
6 ـ المتواترات: وهي قضايا يحكم بها العقل بواسطة اخبار عدد كبير يمتنع تواطؤهم على الكذب، كالعلم بوجود البلاد البعيدة التي لم نشاهدها، وبالامم التي لم نعاصرها.
وبنظر بعض المذاهب الإسلامية كالاشاعرة ان القضايا الثلاث الأخيرة (التجربيات والحدسيات والمتواترات) لا تعد من القضايا العقلية الضرورية، فهم يعتبرونها من العلوم العادية لا العقلية، ومن ذلك ما جاء حول المتواترات بأن العقل يجوّز الكذب على كل عدد، وإن عظم ، فالاستحالة هنا عادية غير عقلية2.
***
هذه هي مبادئ المعرفة اليقينة لدى المنطق الأرسطي، والغالب فيها ان بعضها مستنتج من البعض الآخر. فالفطريات مستنتجة من الأوليات، وكذا ان التجربيات مستنتجة من بعض الأوليات كمبدأ السببية ومبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار. والحدسيات تجري مجرى التجربيات. والحال نفسه مع المتواترات، لأنها تستنتج من مبدأ قبلي يقول ان الشهادات الكثيرة يمتنع وقوعها على سبيل الإتفاق والتواطؤ على الكذب، وهذا المبدأ مشتق عن مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار.
لكن يظل هناك صنفان ليسا مشتقين لدى المنطق الأرسطي عن الغير، ويعدان أساس إستنتاج غيرهما من قضايا المعرفة، هما الأوليات والحسيات، رغم أن هذه الأخيرة مشروط صدقها بالتوقف على الأولى من دون عكس. لكن من حيث انهما مصدر سائر المعارف الأخرى، فإنه يصح إعتبارهما مبادئ اولية للمعرفة قاطبة.
وفي جميع الأحوال يمكن إعتبار جميع المعارف تعتمد في وجودها على الأوليات، ولا يعني ذلك انها مستنتجة عنها بالضرورة، فعندما نقرر حقيقة ان ما نراه هو هذا الماء، فإن قرارنا هذا مشروط بالتسليم سلفاً بمبدأ عدم التناقض، ولا يعني انه مستنتج منه، وذلك لأن المبدأ المذكور لا يولد مثل هذه المعرفة، لكنه شرط ضروري لها.
المذهب الذاتي ومبادئ المعرفة
يمكن أن نستعرض باختصار موقف المذهب الذاتي للمفكر الصدر من مبادئ المعرفة اليقينة حسب التصنيف الأرسطي. فقد إعتبر قضايا التجربيات والحدسيات والمتواترات مستنتجة بالإستقراء. إذ ان مبرر جعلها عقلية هو انها ترتكز على مبدأ عدم تكرر الصدفة باستمرار الذي اثبت انه غير عقلي خلاف الزعم الأرسطي.
أما موقفه من الحسيات، فهو انه ميّز بين القضايا المحسوسة بالحس الباطن (الوجدانيات)، وتلك المحسوسة بالحس الظاهر، حيث إعتبر الأولى من القضيا الأولية غير المستنتجة، وفيها يوافق المنطق الأرسطي، بينما إعتبر الثانية قضايا مستدلاً عليها بالإستقراء، وبالتالي فإنه يختلف فيها مع ذلك المنطق3. وقد انتهت نظريته إلى إعتبار تصديقنا بالواقع الموضوعي للعالم يمثل محض المعرفة الإستقرائية. إذ لديه انه لو ثبت بالإستقراء وجود بعض القضايا المحسوسة في الخارج؛ لكان يعني وجود واقع موضوعي منفصل عنا على نحو الإجمال. وهو يعني ان التوصل إلى الكشف عن وجود الواقع الموضوعي المجمل إنما يتم عبر إثبات القضايا الجزئية للمحسوسات4.
لكن هذه الطريقة في الكشف عن الواقع الموضوعي العام تتنافى مع حقيقة وجود إحتمال يستحيل نفيه بأي دليل كان، سواء من حيث العقل أو الإستقراء، وهو إفتراض ان تكون الحياة عبارة عن حلم دائم لا ينتهي، كالذي فصلنا الحديث عنه في دراسة مستقلة.
الإستقراء وتشابه الصورة مع الواقع
على رأي المذهب الذاتي هناك إمكانية للإستقراء لإثبات التشابه بين الصورة الذهنية ومصداقها الخارجي في الواقع. وهو وإن كان لا يريد ان يحذو حذو المذهب الأرسطي ليثبت المطابقة التامة، لكنه سعى لإثبات القدر الكبير من التشابه ضمن الشروط الموضوعية للاحساس والتي تتوقف على سلامة الجهاز النفسي (السايكولوجي) والعضوي الوظيفي (الفسيولوجي) بما في ذلك الحواس. فعلى رأيه ان الشيء الذي نتحسس باستدارته وثبت بالإستقراء كونه مستديراً، فمعنى ذلك انه مستدير حقاً أو قريب من الاستدارة؛ إلى الدرجة التي لا تجعل منه مثلثاً أو مربعاً أو غير ذلك من الاشكال الهندسية الأخرى5.
وحقيقة الأمر ان عملية الإستدلال بالإستقراء متوقفة على سلامة الجهازين العضوي والنفسي. وهناك إحتمال جاد وقوي يجعل الاستدارة التي نراها أو أي وضع آخر للشيء رهين طبيعة هذين الجهازين، فلو اننا جُبلنا على جهاز عضوي أو نفسي آخر لكان لا يمنع ذلك من أن نرى الاستدارة تربيعاً أو تثليثاً أو أي شكل هندسي اخر.
ومما يقرّب هذه الفكرة ان بعض الحيوانات تتحسس باشياء خلاف ما نتحسس بها، مما يعني نسبية احساساتنا، وهو امر شبيه بالصياغة التي اكد عليها عمانوئيل كانت في تفرقته بين (الشيء في ذاته) و(الشيء لذاتنا). فالذهن البشري ولأسباب عضوية ونفسية يرى الأشياء بصور قد لا تتطابق مع ما عليه الحقيقة في الخارج. وهذا الوهم هو اشبه بالوهم الذي أبدته النتائج العلمية من أن الصفات المرئية للمادة هي غير ما عليه واقع الحال، بحيث ترتد علاقاتها الجسيمية والموجية إلى حقيقة واحدة تتجلى بمظاهر واشكال مختلفة على شاكلة النغمة التي يرددها العرفاء في وحدة الوجود الصوفية6.
المذهب الذاتي والقضايا الضرورية
وافق المذهب الذاتي على أن الأوليات والفطريات هي من القضايا التي يصدقها العقل دون حاجة للإستدلال عليها من الخارج. ومع هذا اعتقد أن من الممكن البرهنة عليها بالإستقراء، خلافاً لما اعتقده المنطق الأرسطي. لكنه استثنى من ذلك بعض القضايا كمبدأ عدم التناقض وجميع المصادرات التي يحتاجها الدليل الإستقرائي في سيره المعرفي7.
والحقيقة انه يمكن النظر إلى (عدم التناقض) تارة بأخذه كمبدأ منطقي يخص القضايا ولا يخبر بشيء عن الواقع، واخرى ينظر إليه كقانون واقعي يخص الموضوعات الخارجية، فيكون بذلك من القضايا الاخبارية، مثل اخباره بأن هذا الشيء يستحيل أن يكون شجرة ولا شجرة في الوقت نفسه. حيث في الحالة الأولى ان المبدأ لا يقبل البرهنة ولا النقض، وذلك لأن أي عملية من هذا القبيل تقتضي التسليم به سلفاً، وان أي دعوى لنقضه تتضمن التناقض. أما في الحالة الثانية فالأمر يختلف تماماً، ذلك ان دعوى التناقض الواقعي لا يعكس تناقضاً في الحكم، الأمر الذي يجعله لا ينطوي على ضرورة منطقية، مثلما هو الحال مع مبدأ السببية العامة. بل إن بعض المدارس الفيزيائية المعاصرة تذهب إلى هذا التوجه من التناقض ونسف ما تبقى من الضرورات العقلية الاخبارية8.
على انه ليس الغرض مما سبق تجريد قانوني عدم التناقض والسببية العامة من مطلق الضرورة. فالوجدان البشري يدرك ان لهما ضرورة خاصة يهتدي من خلالها لمعرفة الأشياء والكشف عنها، مع انه لا سبيل للبرهنة عليها بأي شكل من الاشكال. لكنا سنواجه مشكلة كتلك التي أثارها ريشنباخ بوجه عمانوئيل كانت، إذ إعتبر ان إعتقاده بوجود قضايا قبلية اخبارية هو في حد ذاته ينطوي على شك ضامر، وذلك لعدم وجود ما يمكن البرهنة عليها9. فنحن نعلم ان إعتقاداتنا رهينة التصورات التي نحملها وبالخاصية الذهنية التي فُطرنا عليها، مما يعني انه لو زُودنا بخاصية ذهنية أخرى لكانت إعتقاداتنا غير ما هي عليه الان.
والواقع ان هذا التشكيك لا يمس القضايا العقلية (الاخبارية) فحسب، بل يعم اغلب المعارف البشرية، وبالتحديد جميع أحكام القضايا غير المباشرة. ونحن نعترف انه لا يوجد عندنا ما يمكن أن نلزم به من يشكك بالقضايا غير المباشرة، لكنا نقول ان إدراكنا لضرورة بعض القضايا دون البعض الآخر هي مسألة لا يمكن التنازل عنها من الناحية الوجدانية، بخلاف سائر القضايا الأخرى. فمن السهل أن نتصور النار لا تحرق والشمس لا تطلع والإنسان لا يموت، لكن من الصعب جداً أن نتصور وجود حوادث من دون أسباب، أو أشياء موجودة ومعدومة في الوقت نفسه.
المذهب الذاتي وبداية المعرفة
من المعروف ان المنطق الأرسطي يعتقد بأن للمعارف بداية تمثل الأساس الأول للبناء المعرفي قاطبة، وتتمثل بالمبادئ العقلية الأساسية كمبدأ عدم التناقض والسببية وغيرهما. وعنده ان هذه المبادئ لا تحتاج إلى أي لون من الوان الإستدلال، لوضوح صدقها بذاتها، فضلاً عن أن أي إستدلال عليها لا بد من أن يستند اليها؛ فيقع في الدور الباطل والمستحيل. ومع ان المذهب الذاتي يتفق مع هذا المنطق على وجود بداية للمعرفة وانها تتمثل بالقضايا العقلية غير المستنتجة من قضايا أخرى كمبدأ عدم التناقض، إلا انه اختلف معه في نقطتين كما يلي:
1ـ رغم أن المذهب الذاتي يعتبر القضايا العقلية غير المستنتجة هي من بدايات المعرفة التي لا تحتاج إلى أي لون من الإستدلال، لكنه مع ذلك اعتقد ان من الممكن الإستدلال عليها بطريقة الإستقراء والتجربة، واستثنى من ذلك مبدأ عدم التناقض وجميع المصادرات التي يحتاجها الدليل الإستقرائي، كتلك المتعلقة بنظرية الإحتمال، إذ لا يمكن الإستدلال عليها إستقرائياً بإعتبار ان ذلك يفضي إلى الدور الباطل.
2ـ إعتبر المذهب الذاتي ان بداية المعرفة لا تتحدد فقط بالقضايا العقلية غير المستنتجة كما يرى المنطق الأرسطي، بل أضاف إليها قضايا أخرى عائدة إلى الخبرة الحسية. فمثلاً قد نشاهد مشهداً معيناً كالشمس، ففي هذه القضية لدينا معرفتان، الأولى هي المعرفة التصديقية بوجود الشمس، والأخرى هي معرفتنا بالمشاهدة ذاتها، وهي تختلف عن المعرفة الأولى التي تتعلق بشيء خارج عن ذاتيتنا، إذ المعرفة تتعلق هنا بالعملية الإدراكية الحاصلة وهي المشاهدة. وقد إعتبر المذهب الذاتي هذه المعرفة المتعلقة بعملية الإدراك الحسي من المعارف الأولية. ولهذا فإن بداية المعرفة تتمثل بها، كما تتمثل بالقضايا العقلية غير المستنتجة، والقضايا التي تفترضها بديهيات نظرية الإحتمال.
وقد اجاز هذا المذهب ان تكون بداية المعرفة إحتمالية لا يقينة، سواء تلك المتعلقة بالقضايا العقلية، أو المتعلقة بعملية الإدراك الحسي. وكما يرى انه ‹‹اذا كان لا بد للمعرفة من بداية، وكانت هذه البداية تمثل معرفة اولية غير مستدلة، فليس من الضروري دائماً ان تكون هذه المعرفة يقينية، بل قد تكون إحتمالية››، سواء كان ذلك على صعيد الخبرة الحسية، أو على صعيد القضايا العقلية الأولية. فعلى الصعيد الأول قد يتفق ان تكون المعرفة محتملة، إذ الإنسان كثيراً ما لا يشك في أن يسمع صوتاً أو يرى شبحاً، وذلك في حالات وضوح الصوت أو الشبح، ولكن قد يتفق أحياناً ان يخفت الصوت إلى درجة يصبح سماعه محتملاً لا مؤكداً، وقد يبتعد الشبح إلى مسافة تصبح رؤيته محتملة لا يقينة. أما على الصعيد الثاني فإن إدراك القضايا العقلية الأولية كما يمكن أن يكون متمثلاً باعلى درجات التصديق فكذلك قد يتمثل في درجات إحتمالية متفاوتة10.
وقد نتساءل عن معنى القضايا الأولية للمعرفة، إذ قد يراد بها تارة تلك التي لا تتوقف على غيرها باي نحو من الانحاء، كمبدأ عدم التناقض. واخرى يمكن أن يراد بها تلك التي لم يستدل عليها من غيرها، وإن كانت قد تعتمد على الغير كشرط معرفي. فمثلاً ان الإدراكات المباشرة الحسية لا يستدل عليها من غيرها، لكن يتوقف صدقها على التسليم سلفاً بمبدأ عدم التناقض.
وما قصده المذهب الذاتي من القضايا الأولية للمعرفة هو المعنى الثاني لا الأول. حيث انه يبحث حول القضايا التي لا تستنتج من غيرها بطرق الإستدلال. لذلك كانت القضايا العقلية غير المستنتجة هي من القضايا الأولية، وكذا مثلها الخبرة الحسية، على أن نعد هذه الخبرة لا تقتصر على الحس الظاهر بل والباطن أيضاً.
أما المعنى الأول للقضايا الأولية فتارة ينظر إليه من زاوية منطقية شرطية، واخرى محض واقعية.
فمن حيث الزاوية المنطقية تتمثل القضايا الأولية ببعض القضايا العقلية التي بدونها تستحيل المعرفة كلياً، فلولا ايماننا بمبدأ عدم التناقض، لما كان بوسعنا ان نشكل أي معرفة مهما كانت بسيطة. وهنا تكون معرفتنا بالخبرة الحسية ليست اولية بحسب هذا المعنى، لكونها تعتمد بدورها على التسليم بمبدأ عدم التناقض. أما من حيث الواقع، فهذا يعني ان نتعرف على الركائز المعرفية لدى الناس، وحالها يتبين لنا ان اغلبهم يدركون الحقائق الثابتة والمبادئ المعرفية الواضحة، لكن ذلك يتم عبر مراحل تدريجية، تبتدئ اولاً بالافكار الناشئة تبعاً للإنطباعات الحسية، وهي تشتمل على مختلف المعارف بما فيها تلك التي تعد فيما بعد عقلية ضرورية.
وهذا يعني ان التصديق بالقضايا العقلية يمر بمرحلتين، أولاهما واقعية والأخرى منطقية. حيث تبدأ المرحلة الواقعية عند الصغر، فتنشأ لدينا بفعل العادة إنطباعات نفسية في مختلف المعارف العقلية والحسية. فالطفل منا يولد وهو يرى الأشياء على ما هي عليه وأنها تتغير نتيجة أسباب معينة، وهذا الحال يطبع في ذهنه - من غير شعور - الإعتقاد بأن كل شيء على حاله ما لم يغيره شيء، وان كل ما يتغير إنما يتغير طبقاً لسبب.. وبهذا ينشأ الإنطباع النفسي لحالة السببية لدى الطفل. وبه يتضح ان المعارف العقلية تنشأ في البداية على شكل إنطباعات نفسية شبيهة بالمصادرات من وجه، حيث انها ليست قائمة على الدليل، ولا على الوضوح العقلي وضرورته المنطقية، بل حتى الإستدلال في البداية ينشأ على سبيل الإنطباع والعادة، وليس على الأحكام المنطقية. إذا تتصف هذه المرحلة بالمواصفات التالية:
1ـ تنشأ المعرفة في بدايتها على شكل إنطباعات نفسية لا شعورية، وهي شبيهة بالمصادرات من وجه.
2ـ يعود سبب هذه الإنطباعات إلى عوامل معينة؛ هي العادة والتأثير الاجتماعي والمؤثرات الخارجية ذات الأثر الحاد على نفس الإنسان.
3ـ ان المعرفة (الإنطباعية) بالمبادئ العقلية تأتي متأخرة عن المعرفة بوجود الأشياء أو الشعور بها.
أما المرحلة الأخرى فتتصف بما للفرد من قدرة على التصور التجريدي والمنطقي للقضايا، فيدرك فكرة الضرورة وارتباط القضايا في توقف بعضها على البعض الآخر. وهنا باستطاعته إدراك ان المعرفة لا تتم لها قائمة من غير التسليم ببعض القضايا الأولية كمبدأ عدم التناقض11.
على ذلك ليس من الصحيح ما ذهب إليه بياجيه في إعتبار القضايا المنطقية - كالرياضيات مثلاً - بانها ليست قبلية ولا تجريبية، وربط تفسيرها بالجذور النفسية والبايلوجية12. فكل ما فعله هذا العالم الفرنسي هو التركيز على الجانب الواقعي لنشأة الفرد ضمن تفسيره البنائي.. لكنه يعجز عن أن يوضح لنا كيف تتصف القضايا العقلية بالأحكام الضرورية خلافاً لغيرها من القضايا؟ رغم أن المجموعتين تخضعان إلى الجذور النفسية والبايولجية، ومنها التأثير الإنطباعي الذي تحدثنا عنه كالذي سبق إليه ديفيد هيوم.
1 عمر بن سهلان: البصائر النصيرية، المطبعة الكبرى الاميرية، مصر، ط1 ، ص139ـ144. وعبد الله اليزدي الشهابادي: حاشية على تهذيب المنطق والكلام، مؤسسة اسماعيليان، قم، الطبعة الثانية، ص203ـ207. ومحمد رضا المظفر: المنطق، دار التعارف، ص282 وما بعدها.
2 بدر الدين الزركشي: البحر المحيط، فقرة 1018، عن: شبكة المشكاة الإلكترونية: www.almeshkat.net.
3 الأسس المنطقية للإستقراء،ص452ـ462.
4 المصدر السابق،ص463.
5 نفس المصدر،ص465ـ466.
6 انظربهذاالصددخاتمة: مدخلإلىفهمالإسلام.
7 لاحظ،ص471ـ474.
8 انظرالتفاصيلفي: منهجالعلموالفهمالديني.
9 نشأةالفلسفةالعلمية،ص53.
10 لاحظ،ص503ـ504.
11 لاحظ كتابنا: دور اللاشعور في الحياة، مطبعة نمونة، قم، 1985م، ص63ـ66.
12محمد وقيدي: الابستمولوجيا التكوينية للعلوم، دار افريقيا الشرق، المغرب، 2010م، ص86ـ88.