يحيى محمد
لقد قام المفكر الصدر بتقسيم اليقين إلى ثلاثة أنواع مختلفة، أحدها اليقين المنطقي أو الرياضي؛ كالذي ينتج في القياسات المنطقية والقضايا التضمنية، فمثلاً لو تيقنا بالقضية التي تقول: (زيد إنسان عالم) فإن القضية الثانية التي تقول: (زيد إنسان) هي يقينة تبعاً لعلاقتها بالاولى. وثاني الانواع هو اليقين الذاتي أو السايكولوجي، وهو قائم على الإعتبارات الذاتية والنفسية المحضة، مثلما يحصل لدى الكثير من الناس تبعاً لحالات التفاؤل والتشاؤم أو لاسباب نفسية أخرى، وإن يعوزها المبررات الموضوعية الكافية. أما النوع الثالث فهو اليقين الموضوعي الذي هو نتاج المبررات الموضوعية الخاصة بتراكم الحسابات الإحتمالية تبعاً للدليل الإستقرائي. وبلا شك انه يقين يجمع ما بين الإعتبارات المنطقية كالنوع الأول، بإعتباره لا ينشأ إلا وفق المرحلة الإستنباطية للقياسات المنطقية للحسابات الإحتمالية، وبين الإعتبارات الذاتية لكونه يقيناً غير مبرهن أو مستدل عليه.
وبعبارة أخرى ان لليقين الموضوعي خاصتين، إحداهما انه يعبّر عن عملية سايكولوجية تحتم على الذهن - لا شعوراً - ان يحول المعرفة الياً وذاتياً من مرحلة الإحتمال إلى اليقين، أما الأخرى فهي انه يخضع إلى المبررات الموضوعية التي تضفي عليه الطابع المنطقي1.
وهذا التقسيم لليقين شبيه بالذي افاده برتراند رسل في كتابه (المعرفة الإنسانية)، ذلك انه ميّز بين ثلاثة أنواع لليقين، أحدها أطلق عليه اليقين المنطقي أو الرياضي، وذلك عندما تتضمن قضية أو دالة قضية أخرى غيرها، فتكون هذه الأخيرة يقينة بالنسبة إلى الأولى. فمثلاً لو صدّقنا بان: (س هي حيوان عاقل) فإن الدالة التي تقول: (س هي حيوان) تعد صادقة من حيث علاقتها بالاولى. والنوع الثاني من اليقين هو عندما يكون للقضية اعلى درجة من التصديق، سواء كان مبرهناً عليه أو انه أولي ذاتي، وأطلق عليه اليقين المعرفي الابستمولوجي، وهو موظف للدليل الإستقرائي. أما النوع الأخير فعرّفه بأنه يقين ذاتي، إذ هو عبارة عن تصور سايكولوجي، بخلاف سابقه الذي يحمل في جانب منه مسحة منطقية2.
وبحسب طريقة المفكر الصدر فان زيادة التجارب الناجحة في المرحلة الإستنباطية التي سبق عرضها خلال الحلقتين السابقتين تعمل على تنمية قيمة إحتمال السببية إلى أقوى درجة ممكنة دون اليقين. لذلك كان لا بد من خطوة أخرى تفي بالغرض الأخير من تبرير الدليل الإستقرائي، وهي التي اطلق عليها الصدر المرحلة الذاتية التي منها كان اشتقاق تسمية ‹‹المذهب الذاتي››، وذلك لما تتضمنه من ابداع مبتكر لتفسير بعض أنواع المعرفة البشرية. فدور المرحلة الذاتية يختلف عما عليه في سابقتها. فهي لا تقوم بأي عمل إستقرائي وتجريبي، ولا تبني أي حساب إحتمالي، وإنما تحوّل هذه الانجازات إلى شكل آخر من المعرفة هي المعرفة الذاتية التي يثبت فيها اليقين والتعميم، فتُحل بذلك المشكلة الأخيرة من مشاكل الإستقراء. والركيزة الأساسية في هذه المرحلة هي المصادرة الموضوعة بغية تبرير النقلة من الترجيح الإحتمالي في المرحلة الإستنباطية إلى حالة اليقين (الموضوعي)، فزيادة التجارب الناجحة في المرحلة الإستنباطية تعمل على تنمية قيمة إحتمال السببية إلى أقوى درجة ممكنة من الترجيح، وعندها يبدأ دور المرحلة الذاتية في ايصال الدليل الإستقرائي إلى درجة اليقين.
فمن الواضح ان اليقين الإستقرائي لدى المنطق الأرسطي بعيد عن الصواب. في حين أن المنطق التجريبي لم يعط دلالة كافية لتبريره، إذ كل ما قيل هو ان القيمة الإحتمالية الكبيرة يمكن أن تفضي إلى ايجاد ما يسمى باليقين العملي كالذي عليه الوضعية المنطقية، وهو يقين سايكولوجي منفصل عن مبرراته الموضوعية، بإعتبار ان مردّه من حيث التحليل إلى العادة النفسية. أما المذهب الذاتي للصدر فقد انفرد في تحليل تلك المسألة الجوهرية. فابتداءاً انه نفى ان تكون هناك إمكانية للبرهنة على إثبات اليقين، واكتفى بإفتراض مصادرة تبرر تحقيق تلك المرتبة النهائية، وهي تقر الشكل التالي: ‹‹كلما تجمع عدد كبير من القيم الإحتمالية في محور واحد، فحصل هذا المحور نتيجة لذلك على قيمة إحتمالية كبيرة، فإن هذه القيمة الإحتمالية الكبيرة تتحول - ضمن شروط معينة - إلى يقين››، في الوقت الذي تتحول فيه القيمة المضادة إلى درجة الصفر3.
هذه هي مصادرة المرحلة الذاتية التي أُحيطت بشروط خاصة تحدد دائرة الوظيفة التي تقوم بها. فهناك نوعان من التجمع في القيم الإحتمالية الكبيرة على محور معين. النوع الأول يتصف بأنه تجمع لا يؤدي إلى اليقين مهما كثرت القيم الإحتمالية بجانب معين، وذلك لوجود قيمة إحتمالية ضئيلة لا يمكن افناءها ابداً. والنوع الآخر يتصف بأنه تجمع يؤدي إلى اليقين من خلال افناء القيمة الإحتمالية بجعلها تساوي صفراً.
فمثلاً على النوع الأول: إذا علمنا إجمالاً ان مريضاً واحداً قد توفي من بين مجموعة مرضى عددهم (1000) شخص، فسيتألف لدينا علم إجمالي من (1000) طرف، كل واحد منها له قيمة إحتمالية قدرها (1\1000)، وذلك فيما لو لم تكن لدينا أي معلومات عن ظروف المرضى. واذا اخترنا اسم شخص معين منهم - زيد مثلاً - فإن قيمة إحتمال وفاته هي (1\1000)، وقيمة إحتمال بقائه على قيد الحياة هي (999\1000)، وهذه القيمة تعتبر كبيرة جداً قياساً بالقيمة المضادة لها، لكنها لا تبرر افناءها، إذ لو فعلنا ذلك لكان من الضروري افناء جميع القيم التي تماثلها في بقية الأطراف الأخرى، وهذا افناء للعلم الإجمالي بكامله، حيث ينتفي ان يكون هناك شخص معلوم الوفاة.
لذلك إعتبر بعض المفكرين ان مثل هذه الحالة تتضمن نوعاً من التناقض، وهو المطلق عليه تناقض القرعة أو اليانصيب Lottery. فلو فرضنا ان لدينا مليون بطاقة ليس فيها إلا واحدة رابحة، فإن إحتمال الحصول على هذه الرابحة بسحب واحدة من هذه البطاقات عشوائياً هو إحتمال غير معقول بإعتباره في غاية الضآلة، لهذا يمكن نفيه، لكن لو فعلنا ذلك مع الكل لكان يعني انه لا توجد بطاقة رابحة، وهو تناقض. مع ان الصحيح هو ان إحتمال سحب البطاقة الرابحة يظل وارداً على ضآلته، ولا يصح نفيه بأي شكل من الأشكال، سواء كنا نهمل البطاقة المسحوبة فينتقص العدد ونأتِ بغيرها، أو نعيدها إلى ما كانت عليه4. فهنا تجتمع الصدفة النسبية مع الضرورة الحتمية من دون تناقض، فسحب البطاقة الرابحة وسط جميع البطاقات هو من الصدفة قياساً بالبقية، كما ان الحصول على بطاقة رابحة هو من الضرورات الحتمية عند السحب الشامل للجميع. ولا تنتفي الضرورة في هذه الحالة إلا عندما تكون إمكانات الصدف أو السحب مفتوحة إلى غير نهاية.
لذا كان من الضروري ابراز بعض الشروط التي تفي بقضية افناء القيم الضئيلة وتحويل القيم العظيمة إلى رقم اليقين (واحد)، دون ان يفضي ذلك إلى زوال العلم الإجمالي كما حصل مع النوع السابق في تجمع القيم الإحتمالية. وعليه إعتبر المفكر الصدر أنه لا بد من إفتراض وجود علمين إجماليين بدلاً من العلم الواحد الذي لا يحقق شرط المرحلة الذاتية من الدليل الإستقرائي، فكان هناك شكلان لتطبيق مصادرة هذه المرحلة، وهما يُعدان المجال الصالح لإثبات السببية عن طريق تكرار التعاقب بين (أ) و(ب).
الشكل الأول
يتم الشكل الأول لتطبيق المصادرة بواسطة وجود علمين إجماليين، يضم أحدهما جميع الأطراف الاصلية، فيصبح كل طرف محوراً لتجمع القيم الإحتمالية المثبتة أو النافية. أما العلم الآخر فلا يملك محاور لتجمع القيم، وإنما يضم نفس هذا التجمع من القيم، حيث بتعاظمها الكبير تحقق درجة اليقين في أحد محاور العلم الأول، مع افناء القيم الإحتمالية الخاصة ببقية المحاور الأخرى.
فمثلاً في تفسيرنا لإثبات سببية (أ) لـ (ب)، علمنا أنه حين نقوم بمجموعة من التجارب الناجحة التي تكشف عن إقتران وجود (ب) بـ (أ)؛ فإن القيمة الإحتمالية المتجمعة نحو محور سببية (أ) تزداد باطراد، في الوقت الذي تتضاءل فيه بقية المحاور الأخرى. فعند ذلك يوجد ما يبرر تحول قيمة سببية (أ) إلى درجة اليقين، بافناء قيم سائر المحاور الأخرى الضئيلة. إذ في هذه الحالة سوف لن نواجه مشكلة افناء العلم لنفسه، لأن تجمع القيم الإحتمالية يرجع إلى العلم الإجمالي البعدي، في حين أن انتفاء القيم يعود إلى العلم القبلي.
ومع ذلك فهناك شرطان لاستخدام هذا الشكل، كما جاء عن المفكر الصدر كالتالي:
الشرط الأول:وينص على أن لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الإحتمالية تلازم أحد أطراف العلم الإجمالي الثاني، لأنها ان لازمت أحد أطرافه إعتبرت طرفاً أيضاً لهذا العلم الأخير. فمثلاً لا يتحقق شرط هذا الشكل إذا كان نفي سببية (أ) ملازماً لوجود (ت) في جميع التجارب الناجحة، أي نعلم بأن (ت) إذا كانت موجودة في كل التجارب فإن (أ) سوف لا تكون سبباً لـ (ب) حتماً، فعندئذ سيكون تطبيق المصادرة متعذراً، حيث ان نفي سببية (أ) لـ (ب) سيصبح بنفسه طرفاً من أطراف العلم الإجمالي الثاني، بإعتباره ملازماً لاحد أطرافه، وملازم الطرف طرف مثله. فإذا ادى التجمع المنتمي للعلم الثاني إلى افناء القيمة الإحتمالية لنفي السببية فإنه سوف يفني في الوقت ذاته القيمة الإحتمالية لوجود (ت) في جميع التجارب؛ للتلازم بينهما، وبذلك يصبح العلم سبباً في افناء قيمة من قيمه الإحتمالية المتساوية، مما يعني ان هذا الشكل سيواجه مشكلة افناء العلم لبعض قيمه المتساوية من دون مبرر، أو انه يواجه مشكلة افناء جميع القيم، وبالتالي افناء العلم لنفسه
وعليه فلاجل انجاح تطبيق المصادرة يجب إفتراض ان لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الإحتمالية ملازمة لاحد أطراف العلم الثاني، وهو الواقع فعلاً، حيث ان نفي سببية (أ) لـ (ب) ليس ملازماً لوجود (ت) في جميع التجارب، إذ قد تكون (ت) موجودة في كل التجارب ومع هذا تكون (أ) سبباً لـ (ب)، وبالتالي فإن افناء القيمة الإحتمالية لنفي السببية لا يعني افناء لاحدى قيمه المتساوية التي يمثلها5.
الشرط الثاني:يجب ان يكون محور التجمع حقيقياً غير مصطنع. والمحور الحقيقي عبارة عن اتجاه جميع القيم الإحتمالية نحو قضية معينة وإثباتها بصورة مباشرة. أما المحور المصطنع فهو عبارة عن تجمع القيم الإحتمالية باتجاه قضيتين لا علاقة بينهما، إذ تتكون منهما قضية ثالثة تنتزع من تشتت تلك القيم بغية الوصول إلى حالة اليقين.
فمثلاً إذا كان هناك مريض يحتمل له ان يتوفى بقيمة قدرها (9\10)، فهذه النسبة الكبيرة لا يمكنها ان تزيل القيمة المضادة لها؛ بإعتبارهما ينتميان إلى علم واحد. وهنا يمكن أن يأتي دور المحور المصطنع فيخلق قضية أخرى لا علاقة لها بالاولى، فيدمجهما معاً لتتألف منهما قضية ثالثة منتزعة، كإن يبتدع قضية مفادها إحتمال مقتل ذلك المريض. وبطبيعة الحال ان النسبة الضئيلة لنفي الوفاة بالمرض (1\10) محايدة اتجاه إحتمال القتل، إلا انه مع عملية التلفيق وتكوين المحور المصطنع تتألف القضية الثالثة التي مفادها ان الشخص إما ان يتوفى أو يقتل، مع ان تحليل هذه القضية يجعلها ترد إلى قضيتين كالآتي:
الأولى: إما أن يتوفى المريض نتيجة الإصابة أو يقتل.
الثانية: إما أن يتوفى المريض نتيجة الإصابة أو لا يقتل.
واذا كان إحتمال القتل يساوي نصفاً، فإن القضيتين السابقتين تصبحان متساويتين في القيمة الإحتمالية6. لذا لو أننا رفعنا درجة إحتمال واحدة منهما إلى اليقين لكان ترجيحاً بلا مرجح، ولو اخلعنا اليقين عليهما معاً لخالفنا فرض إعتبار الوفاة مقدرة بـ (9 \10).
الشكل الثاني
عرفنا في الشكل الأول ان أحد العلمين يعمل على افناء القيمة الإحتمالية للطرف المضاد، وذلك بواسطة علم إجمالي آخر عندما تتجمع القيم الإحتمالية نحو محور واحد. فبذلك لا يحصل التناقض من افناء العلم لاحدى قيمه المتساوية. وفي الشكل الآخر تتحدد العملية من خلال افناء العلم لأقل قيمة يمتاز بها بعض أطرافه الخاصة، وذلك عندما يكون لدينا علم آخر يسبب عدم التساوي في قيم العلم الأول. وهناك طريقتان ذكرهما المفكر الصدر لتوضيح فكرة هذا الشكل، لكنه اقتنع بالثانية منهما ورفض الأولى لكونها تواجه بعد الاشكالات التي تخل بمصادرة المرحلة الذاتية7.
ويمكن توضيح الطريقة الثانية المعتمدة من خلال المثال التالي: لو كانت لدينا قطعة نقد نريد رميها عشر مرات مثلاً، فسنواجه من الناحية القبلية (1024) حالة توافيقية تتوزع بشكل متساو ضمن علم إجمالي محدد حسب ضرب عدد إمكانات الحادثة في نفسها عشر مرات، ومن هذه الحالات ظهور وجه الكتابة - أو الصورة - في المرات جميعاً، حيث انه يساوي قيمة إحتمال أي حالة توافيقية أخرى. وعلى الرغم من هذا التساوي فقد إعتبر المفكر الصدر ان ظهور تلك الحالة تثير الاستغراب في نفوسنا بما لا تثيره أي حالة توافيقية أخرى . وعزا هذه الظاهرة إلى وجود عامل آخر يقوم بدور تضعيف قيمة إحتمال تلك الحالة إلى أقل درجة ممكنة قياساً مع غيرها من الحالات الأخرى، فيحقق بذلك ما يبرر للمصادرة ان تمارس دورها في افناء أقل القيم الموجودة في العلم الإجمالي. والعامل المؤثر في ذلك عبارة عن كثرة اختلاف الظروف والملابسات التي تؤثر على ظهور أي واقعة من الوقائع، بحيث يصبح من الصعب ان نجد تماثلاً في ظهور الواقعة لعدة مرات، وذلك لأن الثبات والاشتراك في تلك الظروف والملابسات يعتبر ضئيلاً جداً قياساً بالتباين والاختلاف. ومن الممكن تشكيل علم إجمالي آخر لتلك الظروف، عبر ضرب عدد أطراف ظروف الرمية الأولى بعدد أطراف ظروف الرمية الثانية، وهكذا إلى الرمية العاشرة، حتى يتألف لدينا عدد كبير جداً من الأطراف اغلبها لصالح عدم تكرر ظهور أحد الوجهين في جميع المرات؛ لضآلة اشتراك وثبات الظروف.
وبهذا يصل الصدر إلى تفسيره الجديد لمبدأ (عدم تكرر االصدفة) الأرسطي، أو ما أطلق عليه قاعدة عدم التماثل، وهي تسمية تستند إلى ما توصل إليه من استبعاد تأثير الجزء الثابت والمشترك على تكرار وقوع الحادثة بشكل متماثل8.
ولا شك ان هذا التفسير يواجه بعض الاعتراضات كالآتي:
أولاً: قد تبين لنا في السابق ان قاعدة عدم التماثل هي قاعدة عقلية لِما تنطوي عليه من عنصر الضرورة وليست قاعدة إستقرائية.
ثانياً: لو فرضنا ان هذه القاعدة مستنتجة بالإستقراء، فمع ذلك ان عملية الإستنتاج لا تتحقق عبر شرط اللزوم والضرورة بين (أ) و(ب)، ولا من خلال شرط الوحدة المفهومية لكل منهما. فالظروف والملابسات المتحركة والمؤثرة على ظهور (ب) في أحيان دون أخرى؛ لا تتصف باللزوم والضرورة في علاقتها مع (ب)، كما انها ليست من نوع محدد ومفهوم مشترك إلا إذا حملنا الأمر على نحو المجاز.
ثالثاً: لقد طبّق الصدر طريقته على نوعين من الأمثلة يختلف أحدهما عن الآخر بعض الشيء، فأحدهما يتعلق برمي قطعة النقد الذي يمكن أن نعلم فيه بشكل قبلي القيم الثابتة للإحتمالات التي تعود اليه، وذلك عندما نعلم بانتظام القطعة وتماثل وجهيها، والثاني يتعلق بحالة أخرى لا تملك مثل تلك القيم الثابتة من الناحية القبلية. أي ان قيم إحتمالات النوع الأول موضوعية لا تقبل التغيير بالعلم البعدي، في حين أن قيم إحتمالات النوع الثاني ذاتية تتقبل التغيير بذلك العلم، والمثال المطروح حول هذا النوع الأخير هو كالتالي: لو ‹‹أنّا أقمنا دعوة لخمسين شخصاً من الاصدقاء، وحاولنا مسبقاً ان نتنبأ بلون الملابس التي سوف يرتدونها عند مجيئهم إلى الدعوة؛ فسوف نجد ان قيمة إحتمال أن يجيء الجميع صدفة بلون واحد ضئيلة جداً.. فإن اختيار كل واحد من الخمسين للون ملابسه يرتبط عادة بمجموعة من الظروف والملابسات، ونحن نعلم الاختلاف الشديد بين هؤلاء الخمسين في ظروفهم وملابساتهم، وعدم وجود اشتراك في الظروف والملابسات بينهم إلا بقدر ضئيل جداً››9.
فلو اعتمدنا على النوع الأول الذي اولاه الصدر اهتماماً أكثر من الآخر، فسنجد أن العلم الإجمالي الثاني لا يسعه ان يعطينا نتيجة تختلف عن نتيجة العلم الأول، إذ على الرغم من كثرة اختلاف الظروف وعدم ثباتها؛ إلا أن محصلتها تظل محايدة اتجاه التأثير على ظهور الواقعة وعدم ظهورها. فلو حللنا تلك الظروف إلى عناصر شتى، سنجد انها متناصفة التأثير على كل من الظهور والعدم، حيث نصف منها يكون لصالح ظهور الواقعة، والنصف الآخر لصالح العدم. وعليه لو اردنا ان نعرف قيمة إحتمال ظهور الكتابة في جميع الرميات، وضربنا الظروف ببعضها، فسوف نحصل على نفس العلم الأول، وذلك طبقاً للتحليل التالي:
نفرض ان مطلق الظروف التي لصالح ظهور الكتابة عبارة عن (ن)، وان الظروف الخاصة بالرمية الأولى عبارة عن (ن1)، وبالرمية الثانية (ن2).. وبالرمية العاشرة (ن10). وكذا نفرض نفس الشيء مع الظروف التي لصالح ظهور الصورة بـ (م). وحيث أن الظروف جميعاً متناصفة لعدم ترجيح بعضها على البعض الآخر، فان:
ن = م، ن1 = م1 ... ن10 = م10
وأيضاً: ن1 = ن2 ... = ن10
واذا كان (ح) يعبّر عن الإحتمال فان:
ح ن = ح م، ح ن1 = ح م1 ... ح ن10= ح م10
وأيضاً: ح ن1 = ح ن2 ... = ح ن10= 1\2
اذاً: ح ن = ح ن1 × ح ن2 ×... ح ن10
ح ن = (1\2)10 = 1\1024
وهو مطابق للقيمة التي يحددها العلم الأول استناداً إلى معادلة برنولي كما يلي:
10!
ـــــــــــــــ × (1\2)10 × 1 = 1\1024
10! × 1
من هنا نعرف أنه لا زيادة في أطراف العلم الثاني على الأول، ولا نقصان لقيمة إحتمال ظهور الواقعة في جميع المرات.
لكن ما هو السبب في نشوء الاستغراب النفسي عند تكرر الحالة المتماثلة إذا ما كانت جميع الحالات متساوية تبعاً للتحليل السابق؟
وبعبارة أخرى، نحن نشعر من الغرابة فعلاً ان تظهر الواقعة في جميع المرات بخلاف بقية الحالات الأخرى، مع أن القيم الإحتمالية للجميع متساوية وثابتة في العلم الأول، إذ كل منها يقدر بـ (1\1024)، ولا وجود لعامل آخر يضعّف من قيمة إحتمال تكرار الواقعة لجميع المرات.
لكن هذه الحالة ليست الوحيدة التي تفضي إلى ظاهرة الاستغراب. بل لو جعلنا أي حالة من الحالات التوافيقية – وهي 1024 حالة - محلاً للنظر والتنبؤ قبل اجراء الإختبار، وصادف ان ظهرت الحالة المشخصة، لاصابتنا - أيضاً - دهشة كبيرة. فلا فرق في الدهشة بين هذه الحالة والحالة الأولى التي تظهر فيها الواقعة في جميع المرات، وكذا الحال فيما لو ظهرت الواقعة على التناوب ابتداءاً من الأولى وحتى العاشرة... الخ.
مع هذا انه عند عدم النظر المسبق إلى الحالات؛ فإن الذي يثيرنا دهشة هي حالات قليلة كتلك التي يتكرر وقوع الحادثة فيها على الدوام خلاف غيرها. والسبب في ذلك يعود إلى كون الطبيعة الإنسانية تميل عادة إلى التأثر بظاهرة الرتابة وترجيحها على غيرها من الظواهر الأخرى المكافئة لها. لهذا لا فرق يعتد به في الدهشة بين ان يُشاهد التكرار في جميع المرات أو يُرى على التناوب. وهذه الظاهرة يمكنها ان تفسر لنا لماذا تتأثر نفوسنا - في الغالب - بالاعداد الحدية للأشياء، وهي مواضعات إصطلاحية قد الفناها، كإن تكون عشرة أو عشرين أو ثلاثين أو مائة أو ألف، فنحاول عزوها إلى سبب ما بخلاف ما لو كانت غير حدية، كتسعة أو أربعة عشر أو ثلاثة وخمسين... الخ10.
هذا هو الطرح الأول الذي نعلم فيه بالعلم القبلي الثابت أن حتمال ظهور الواقعة في كل مرة يقدر بقيمة (1\2). ولا شك أن هذا العلم لا يتغير ولا يتأثر بظهور الواقعة في جميع المرات؛ ما لم يكن تقديرنا القبلي خاطئاً.
أما الطرح الثاني الخاص بلون ملابس المدعوين الخمسين، فتارة يكون لنا علم مسبق بالظروف العشوائية التي تتعلق بكل واحد منهم بشكل مستقل كلياً عن الآخر، وهو أمر صعب التحقق منه تماماً مثلما يحصل فيه الحال مع قطعة النقد، لهذا لو اننا افترضنا الاستقلالية بين الأفراد تامة، وان الحيادية في خيار لون الملابس لكل منهم تامة هي الأخرى، فإن المثال عند ذلك يكون على شاكلة مثال قطعة النقد، وان كان الأمر من الناحية الواقعية غير ذلك تماماً. وعليه لو أخذنا الواقع بعين الإعتبار مع جهلنا بالظروف المحيطة بالافراد المدعويين، فليس لنا ان نفعل شيئاً يمكن تحديده من الناحية القبلية سوى إفتراض القيمة الإحتمالية الذاتية التي نقدرها للحادثة. ولتسهيل المطلب، لو كان لون الملابس متردداً بين الأسود والابيض، فسنفترض قبلياً انهما متساويا الإحتمال طبقاً لمبدأ عدم التمييز، وبالتالي فكل فرد يحتمل ان تكون ملابسه بيضاء بقيمة قدرها (1\2)، وذلك لجهلنا بالظروف الموضوعية التي تساعدنا على تحديد القيمة الحقيقية للإحتمال.
ويختلف هذا الطرح عن سابقه، بأنه لو ظهرت الواقعة في جميع المرات لكنا نتوقع وجود سبب مشترك خلف هذا الحدوث الشامل، ومع حضور هذا التوقع فإنه تنتفي الدهشة والاستغراب، وكما يقول المثل: (إذا عُرف السبب بطل العجب)، وعلة ذلك هي ان الإحتمالات القبلية لدى هذا الطرح ليست موضوعية ثابتة مثلما هو الحال في سابقه. وعليه فسيواجه مشكلة أخرى كالآتي:
من الواضح انه ليس في استطاعتنا تحديد التزايد في أطراف العلم الثاني على أطراف العلم الأول ما لم نعلم بالظروف المنحازة، إذ لو كانت محايدة لظهرت نتيجة العلم الثاني مكافئة للعلم الأول. ولو أننا عرفنا الانحياز، وقدرنا الأطراف، لكان معنى ذلك أننا قمنا بعملية إستقرائية كشفت لنا عن بعض القيم التي ترجح ظهور الحادثة أو عدمها، وبهذا تتغير القيم الإحتمالية، وبالتالي يمكن لبعض الحالات - ولنفترض انها حالة التكرر في جميع المرات - ان تأخذ أصغر القيم الممكنة. لكن المشكلة انه سنجد انفسنا قد دخلنا نفس الصورة التى تمتاز بها الطريقة الأولى. إذ هي أيضاً تأخذ إحتمال الترجيح عن طريق الإستقراء وتتعامل مع العلم الأول بنفس التعامل الذي يكون في حالة الطريقة الثانية. مع ان الأولى رغم أنها قد وفقت في اعطاء مزيد من القيم والأطراف من خلال العلم الثاني، إلا انها مع ذلك لم تكن مقبولة لدى استاذنا الصدر.
فالمثال الذي استعرضه لهذه الطريقة، انه لو كانت لدينا ثلاثة اخبار محتملة للصدق والكذب، واردنا ان نعرف ما يقدره العلم الأول، سنلاحظ انه يعطينا ثمانية أطراف متساوية الإحتمال حسب ضرب إمكانات الحادثة في نفسها في ثلاثة، فإحتمال كل طرف منها هو (1\8). لكن لو علمنا بواسطة الإستقراء ان قيمة إحتمال صدق أي واحد منها هو (2\3)، ففي هذه الحالة ستزداد الأطراف إلى (27) طرفاً، منها الطرف القائل بكذب الاخبار جميعاً، حيث يساوي (1 \27) طبقاً لمعادلة برنولي. وتعتبر هذه القيمة اضعف من القيمة التي يحدها العلم الأول. ولو تزايدت الاخبار لادى ذلك إلى زيادة ضعف قيمة ذلك الطرف حتى يهيء للمصادرة ان تمارس دورها في افنائها من قبل العلم الأول. وعلى الرغم من ذلك فليست هذه الطريقة صحيحة برأي الفيلسوف الصدر. إذ هو يعتبر انه لو كنا نعلم بوجود ألف خبر كاذب من المجموع الكلي المقدر عشرة آلاف خبر، واخترنا منها عشوائياً ألفاً، فإنه إذا نفينا كلياً ان تكون هذه الالف كلها كاذبة من دون بقية الآلاف الممكنة فهو ترجيح بلا مرجح، وإذا عممنا هذه الصورة مع جميع الآلاف الممكنة فسوف ننفي العلم الإجمالي بوجود ألف خبر كاذب، حيث سنتعامل وكأنه لا يوجد لدينا اخبار كاذبة.
وهذه النتيجة صحيحة، لكنها لا تصدق على الطريقة الأولى فحسب، بل تشمل الثانية أيضاً. فالترجيح الذي نصل إليه بالإستقراء ونقدر فيه قيمة إحتمال الحادثة هو أيضاً مما تعمل بعض القوانين الرياضية على استخراج أطرافه الممكنة المتساوية، والتي منها طرف قيمة التكرر في جميع المرات. فلو افنيناه من العلم الأول لكنا قد افنينا العلم الذي يحدد لنا تحقق ذلك الطرف، بإعتبار ان العلم الثاني سيحل محل العلم الأول، لا انه يعمل على تغيير قيمه الإحتمالية فحسب.
فمثلاً لو أننا أردنا أن نحدد قيم إحتمالات حادثة على أساس العلم الأول خلال تجربتين فقط، وقدرنا ان هناك أربعة أطراف محتملة، حيث ان الحادثة إما ان تظهر في التجربة الأولى، أو في الثانية، أو في كلاهما، أو انها لا تظهر ابداً، وحيث اننا لا نعلم عنها شيئاً فإن هذه الأطراف تكون متساوية تبعاً لمبدأ عدم التمييز. لكن لو ظهر لنا بالإستقراء أن قيمة إحتمال ظهور الحادثة هي (2\3)، فإن العلم الثاني سيعطينا تسعة أطراف متساوية الإحتمال، ويمكن تحديدها بالشكل التالي:
نفترض أن هناك عاملين لصالح الظهور هما (أ) و(ب) مقابل عامل واحد لصالح العدم هو (ج)، وعليه تكون الأطراف كالآتي:
1 ـ ظهور الحادثة في المرة الأولى بسبب العامل (أ).
2 ـ ظهور الحادثة في المرة الأولى بسبب العامل (ب).
3 ـ ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (أ).
4 ـ ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (ب).
5 ـ ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (أ).
6 ـ ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (ب).
7 ـ عدم ظهور الحادثة في المرة الأولى بسبب العامل (ج).
8 ـ عدم ظهور الحادثة في المرة الثانية بسبب العامل (ج).
9 ـ عدم ظهور الحادثة في المرتين بسبب العامل (ج).
وبهذه الأطراف المتساوية تتغير قيم أطراف العلم الأول كالآتي:
1 ـ إحتمال ظهور الحادثة في المرة الأولى حسب العلم الأول يساوي (1\4)، وحسب العلم الثاني (2\9).
2 ـ وكذا نفس الشيء في المرة الثانية.
3 ـ إحتمال ظهور الحادثة في المرتين حسب العلم الأول هو (1\4)، وحسب العلم الثاني (4\9).
4 ـ إحتمال عدم ظهور الحادثة في المرتين حسب العلم الأول هو (1\4)، وحسب العلم الثاني (1\9).
وتبعاً لذلك انه حين نأخذ الطرف الأخير ونجعله محوراً للمقارنة بين العلم الأول والثاني فسنرى ان قيمته في العلم الثاني تساوي قيمة أي طرف آخر من الأطراف التسعة، لكن قيمته في العلم الجديد تصبح اضعف القيم المحتملة مقارنة بالعلم الأول، ولا شك ان المصادرة لا تبرر افناءها عن طريق العلم الأول. أو انه لا يمكن للعلم الأول ان يفني هذه القيمة الضئيلة، لأن ما حصل عندنا هو تبديل العلم الأول بالعلم الثاني من خلال ادخال جميع القيم التي يحددها هذا الأخير. لهذا أصبح العلم الأول بعد عملية التغيير يعبّر عن صيغ إحتمالية قائمة على الإمكانات التسعة بدل الأربعة (2\9 ، 2\9 ، 4\9 ، 1\9).
اذاً ان القيمة الإحتمالية لعدم الظهور في المرتين والمقدرة بـ (1\9)؛ لها شيء من الحضور، حيث تعني ان هذه الحادثة من المتوقع لها ان تقع مرة واحدة كل تسع مرات. ولو أن المصادرة قامت بافنائها لكان يعني أن الحادثة لا يسعها ان تظهر خلال المرات التسع، وهو عبارة عن افناء للعلم الذي علمنا فيه ان الحادثة يمكنها ان تظهر مرة واحدة خلال تلك المرات.
وبذلك نصل إلى نفس نتيجة الطريقة الأولى التي رفضها الصدر، حيث أن افناء إحدى القيم يعني نفياً للعلم الذي يقرر تحقق مرة واحدة خلال عدد من الإختبارات طبقاً لما يحدده علم التوافيق.
***
ننتهي مما سبق إلى النتائج والملاحظات التالية:
1ـ عرفنا أن تطبيق المصادرة ينجح ويتم وفق الشكل الأول لا الثاني. فهذا الأخير يواجه صعوبات، سواء في حالة الطريقة الأولى التي رفضها استاذنا الصدر، أو في حالة الطريقة الثانية كالذي عرفناه انفاً.
2ـ تارة يكون تطبيق المصادرة لإثبات السببية، واخرى لإثبات الحوادث الجديدة. وفي الحالة الأخيرة لا مبرر لافناء الطرف الضئيل القيمة، حيث انه قابل للتحقق وذلك فيما لو فرضنا اجراء العدد الكبير من الإختبارات. أما مع إثبات السببية الخاصة فالأمر يختلف، إذ المطلوب هو افناء إحتمال وجود (ت)، وحيث اننا لا نعلم بحقيقة وجودها فإن زيادة التجارب تضعف من إحتمال هذا الوجود، وبالتالي يمكنها ان تعمل على افنائه.
3ـ يلاحظ مما سبق انه لا يوجد في المرحلة الذاتية من الدليل الإستقرائي غير العلمين الإجماليين الأول والثاني، والسبب الذي دعا فيلسوفنا إلى ان يحذف العلم الثالث الناتج عن ضرب العلمين السابقين هو لتضمنه طرف إحتمال عدم سبببية (أ) لـ (ب)، فعلى الرغم من ضآلة القيمة الإحتمالية لهذا الطرف في قبال السببية، إلا انه لا يوجد مبرر منطقي لافنائه وتحويل القضية الإستقرائية إلى اليقين. لهذا فقد اكتفى هذا المذهب بالقيم الإحتمالية المتجمعة في العلم الإجمالي الثاني، وهي قيم مضادة لإحتمال عدم سببية (أ) لـ (ب) وتعمل على افنائه11.
***
تظل هناك نقطة هامة نشير إليها كالتالي:
من الواضح ان اليقين الموضوعي (الإستقرائي) لما كان متوقفاً على القيم المتجمعة باتجاه محور محدد؛ فإن ظهور أي خطأ في تجمع هذه القيم، أو أي زوال لبعضها، سيفضي بالنتيجة إلى زوال ذلك اليقين كالذي اكد عليه الصدر12. مما يعني ان لهذا اليقين إعتبارين مختلفين، فهو من حيث المنظومة ذاتها يكون يقيناً ذا صبغة منطقية لارتباطه بالمبررات الموضوعية، لذلك نطلق عليه اليقين النظري، لكنه من حيث الواقع عبارة عن يقين عملي تتجلى فيه الصبغة السايكولوجية. ولا شك ان هذا الاختلاف بين الحالين يقتضي وجود مصادرة تعمل على انزال اليقين الموضوعي من رتبته النظرية إلى الصورة العملية. فهما مختلفان، واذا ما حصل خطأ في الأول المعتمد على المبررات الموضوعية، وكان هذا الخطأ غير ملحوظ، فإنه سوف لا يفضي إلى زوال الثاني، حيث زواله مرتهن بحالة كشف الخطأ في الأول. مما يعني ان قيمة اليقين الثاني نابعة من الثقة بالاول، ولو زالت هذه الثقة لاي خطأ ممكن، فإنها ستفضي إلى زوال الآخر، فاليقين العملي لا قيمة له من حيث ذاته، وانه لا يدل على الأول. لذلك فالمصادرة المطلوبة تنص على لزوم ان يكون صدق اليقين العملي قائماً على التقدير؛ استناداً إلى إفتراض كون اليقين النظري صادقاً.
1 لاحظ ص356ـ360. وقد يقال ماذا بشأن اليقين الخاص بالانبياء ومن على شاكلتهم من العرفاء والملهمين؟ فهو يقين ليس من النوع المنطقي ولا الموضوعي. واذا كنا نعده من اليقين الذاتي لا بد أن نميزه عن ذلك الذي يكون غير كاشف عن الواقع الموضوعي بحكم آثاره النفسية؛ مثلما عليه سائر الناس.
2 Russell; 1948; p.413ـ418.
3 الأسس المنطقية للإستقراء، ص368.
4 لاحظ ما جاء حول هذا التناقض المزعوم، مع ثلاثة أنواع أخرى من التناقضات المزعومة حول الإستقراء، في الفصل الأخير من كتاب كوهين: مدخل إلى فلسفة الإستقراء والإحتمال (Cohen; 1989).
5 تنبغي الاشارة إلى ان المثال الذي ذكرناه في الشرط الأول هو محوّر عما أفاده المفكر الصدر، فعبارته لا تخلو من قلق كما جاء في طبعة دار التعارف، إذ قال في الحرف الواحد: ‹‹الاول: ان لا تكون القضية التي يراد افناء قيمتها الإحتمالية عن طريق تجمع القيم الإحتمالية في محور واحد، ملازمة لاحد أطراف (العلم الإجمالي2) الذي تنتمي القيم المتجمعة الإحتمالية اليه. ففي مثال السببية، إذا كانت سببية (أ) لـ (ب) ملازمة لحالة وجود التاء في كل التجارب الناجحة، وكنا نعلم بأن التاء إذا كانت موجودة في كل المرات فـ (أ) ليس سبباً لـ (ب) حتماً، فهذا يجعل الشكل الأول لتطبيق المصادرة متعذراً، لأن سببية (أ) لـ (ب) في هذه الحالة سوف تصبح بنفسها طرفاً من أطراف (العلم الإجمالي2)، لأنها ملازمة لاحد أطرافه، وملازم الطرف طرف. فإذا ادى التجمع المنتمي إلى (العلم2) إلى افناء القيمة الإحتمالية للسببية فهو يفني بطبيعة الحال القيمة الإحتمالية لوجود التاء في جميع المرات، نظراً إلى التلازم بينهما، وبذلك يصبح العلم سبباً في افناء قيمة من قيمه الإحتمالية المتساوية، وتواجه المصادرة حينئذ مشكلة افناء العلم لبعض قيمه المتساوية دون بعض بدون مبرر، أو مشكلة افناء العلم لنفسه..›› (لاحظ، ص376).وتعليقنا على ذلك في نقطتين: الأولى ان المثال المذكور في النص جاء على خلاف المطلب الذي يبحثه المفكر الصدر، فالمثال يؤكد على طلب افناء قيمة إحتمال سببية (أ) لـ (ب)، في حين أن محاولات الصدر كانت تستهدف البحث في افناء قيمة إحتمال عدم تلك السببية. اما الثانية وهي الاهم، فهي ان النص السابق لا يخلو من محتوى يتضمن التناقض غير المقصود، فعبارة النص تؤكد على فقرتين مفترضتين، لكن مضمونهما يفضي إلى تناقض دون ان يقصده المطلب، أو انه ليس بصدد إثباته أو تأكيده. فالفقرة الأولى تقول: ‹‹اذا كانت سببية (أ) لـ (ب) ملازمة لحالة وجود التاء في كل التجارب الناجحة››. اما الأخرى فهي التي جاءت بعدها مباشرة كالتالي: ‹‹وكنا نعلم بأن التاء إذا كانت موجودة في كل المرات فـ (أ) ليس سبباً لـ (ب) حتماً››. والتناقض واضح، حيث كلا الفقرتين تشير إلى إفتراض وجود التاء في جميع التجارب، لكن لازم وجود التاء في الفقرة الأولى هو سببية (أ) لـ (ب)، وفي الفقرة الثانية عدم هذه السببية، وهو عين التناقض. وبعبارة ادق، طالما ان هناك طرفاً محتملاً في (العلم الإجمالي2) هو وجود التاء في جميع المرات، فهذا يعني انه مع هذا الطرف ملازمة متناقضة؛ هي إحتمال سببية (أ) لـ (ب) وإحتمال عدم سببيتها في الوقت ذاته. وهذا ما جعلنا نعمل على تحوير المثال ليطابق المطلب الآنف الذكر.هذا ما سبق ان ذكرناه لدى طبعتنا الأولى للكتاب (عام 2005). لكن وجدنا فيما بعد فقرة صحيحة للمفكر الصدر ورد ذكرها لدى الطبعة التي حققتها لجنة التحقيق التابعة للمؤتمر العالمي للامام الصدر في قم، (ط1، 1424هـ). انظر حول ذلك: تعليقاتنا على (الاسس المنطقية للإستقراء)، دار العارف عام 2008م، ص306ـ307.
6 إذ كل منهما سيقدر بقيمة إحتمال (90% + 5% = 95%)، وذلك لأنه في القضية الأولى ان إحتمال عدم القتل يساوي (50%)، وإحتمال عدم الوفاة هو (1 \10) أو بتعبير آخر (10%)، وبطريقة جمع الإحتمالات لا بد من ضرب هاتين القيمتين ببعضهما وطرح الناتج من الواحد الصحيح كما يلي: (1 – 10% × 50% =95%). والحال نفسه يجري مع القضية الثانية، مما يعني انهما متساويتان.
7 الأسس المنطقية للإستقراء، ص403ـ406.
8 المصدر السابق، ص394ـ402.
9 لاحظ، ص396ـ397.
10 من الطريف ما جاء في بعض تفاسير القرآن الكريم من أن معنى قوله تعالى: ‹‹وما جعلنا اصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا››، هو انه جاء للرد على استهزاء المشركين الذين اشكلوا على جعل عدة الملائكة تسعة عشر؛ عوضاً عن جعلهم عشرين أو ثلاثين أو غيرها من الاعداد الحدية (ابو جعفر الطوسي: الرسائل العشر، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، ص323ـ324).
11 لاحظ، ص381ـ382.
12 لاحظ، ص384.