يحيى محمد
ان فهم العلاقة السببية طبقاً للمفهوم الماهوي يعود بنا إلى المنطق الأرسطي. فالعلاقة الضرورية بين السبب والمسبب لدى هذا المنطق قائمة على أخذ الماهية في طرفي هذه العلاقة بعين الإعتبار. ولدى أرسطو ان الماهية لا برهان عليها لكونها من الحدود، والحد ليس عليه برهان، فالماهيات هي كليات تستخلص ذهنياً أو صورياً من خلال الجزئيات الحسية الكثيرة، أي بطريقة التعداد الإستقرائي الحدسي، ومن ثم لا بد من أن يكون العلم بالكلي لا الجزئي1. وعليه فالضرورة المعتبرة في السببية هي تلك التي تقوم بين ماهية السبب وماهية المسبب. أما العلاقة الخارجية لها فقد تتأثر بعض مشخصاتها أحياناً بما يطرأ عليها من بعض العوارض ويجعلها غير محتمة الحدوث، أي انه لا يتحتم الارتباط الضروري الدائم في علاقتها الشخصية؛ طالما انها قد تتأثر بعوامل ظرفية طارئة، الأمر الذي يجعل العقل البشري عاجزاً عن كشفها بدقة. وهذا الفصل بين الماهية أو المفهوم الكلي من جانب، وبين الواقع الموضوعي للعلاقة السببية من جانب آخر، جعل المنطق الأرسطي لا يحتم مسألة التعميم ولا يعيرها أهمية كمشكلة للإستقراء. فما يهم هذا المنطق هو الكشف عن المفهوم الكلي (الماهوي) للعلاقة السببية، ولا يضيره شيء إن أفضت القضية الإستقرائية إلى عدم تحقيق الأمر الدائم (التعميم) وانتابها بعض الشذوذ والمستثنيات نتيجة التعقيد الحاصل بين ظواهر الواقع الموضوعي. وبالتالي فهو يكتفي بتحقق الإقتران الأكثري أو الغالب ليعد الدليل الإستقرائي - أو ما يسميه التجربة - صحيحاً. ووضع لذلك مبدءاً قبلياً كاشفاً عن هذا المعنى بما يتسق مع الإعتبارات الماهوية الكلية وما تفرضه من طبائع لدى الواقع الموضوعي، وهو المبدأ القائل: ‹‹ان الإتفاق لا يتكرر أكثرياً ولا دائمياً››. فبهذا المبدأ تتعين السببية، دون ان يشترط دوام الإقتران بين الظاهرتين للكشف عنها، كما انه لم يشترط الكشف عن ماهية السبب بذاته وإنما يكفي على الأقل ما يقترن معه بالطبع. وبالتالي فإن صحة هذا الدليل لا تتوقف على سلامة التعميم، طبقاً للمبدأ المشار اليه، إنما يكفي احراز المعنى الكلي من العلاقة السببية.
بهذا يتخذ المنطق الأرسطي مسلكاً مزدوجاً، فهو يعتقد من جانب بإمكانية الكشف عن السببية الضرورية المحددة ضمن الاطار الكلي الماهوي، لكنه من جانب آخر لا يجعل ذلك مبرراً للتعميم، بل يكفي تحقق الإقتران الأكثري بين السبب والمسبب ليستكشف منه صبغتهما الطبعية في التحقق، حتى لو لم يؤد ذلك إلى الإقتران الدائم، طالما ان هذه الظاهرة قد تتلبس بعوامل متعددة تمنعها من التحقق والتعبير عن كامل شكلها الكلي من الماهية.
ويختلف هذا الأمر تماماً عما لجأ إليه الإتجاه التجريبي الذي رفض المصادرات القبلية. فهذا الإتجاه لا يتجاوز النظر إلى العلاقة المحسوسة بين وقائع الظاهرتين المتعاقبتين، وهما بهذا الإعتبار لا يدلان على عنصر الضرورة بين السبب والمسبب، كما لا يدلان على المفهوم الماهوي للعلاقة بينهما، وبالتالي فإن التعامل معهما يظل ضمن الاطار الشخصي من العلاقة لا المفهومي أو الكلي. وكلا الأمرين يجعلانه لا يجد ما يبرر حالة التعميم. وهو من حيث لا يعترف بالأمر الكلي الماهوي للعلاقة السببية فإن شذوذ الشاهد الواحد يكفي عنده ان يبطل الدليل الإستقرائي، مثلما يؤكد على ذلك الفيلسوف المعاصر كارل بوبر، وهو ما دعاه إلى رفض الاعتماد على الإستقراء واللجوء إلى المذهب الإستنباطي القائم على أساس التكذيب، أي السعي وراء اكتشاف شاهد مضاد يكفي ان يكذب القضية الكلية المفترضة، رغم أن هذا الإتجاه لا يعبّر عن المسار العلمي الذي يتوسل للوصول إلى القوانين الواسعة التأييد، فالشاهد المضاد عاجز عن أن يسقط التعميم عندما يكون مدعوماً بقوة الوقائع المختلفة الدالة عليه. لذا فإن جوهر المشكلة الإستقرائية لدى الفكر التجريبي هو التنبؤ بالحوادث الجديدة، وهذا ما جعله ينظر إلى الدليل الإستقرائي بما يحمل هذه الخاصية التنبؤية، على الرغم من أن بعض اشكال هذا الدليل ليس له علاقة بالتنبؤ والتعميم، مثل دوره في تفسير الظواهر الطبيعية وإثبات وجودها.
هكذا يمكن القول ان ما يهم المنطق التجريبي هو المشكلة الثالثة من مشاكل الإستقراء الآنفة الذكر، وبالخصوص حالة التنبؤ بالحوادث الجديدة دون التعميم في الغالب، خلافاً للمنطق الأرسطي الذي تمعّن في البحث حول المشكلة الثانية لتحديد ماهية العلاقة السببية وطبيعتها.
أما المفكر الصدر فواقع الأمر انه سلك سلوكاً جامعاً بين ما أراده المذهبين العقلي الأرسطي والتجريبي الغربي. فهو من جانب قد عوّل على الطابع الماهوي للعلاقة السببية، لكنه من جانب آخر سعى للكشف عن ضوابط الدقة لتحقيق التعميم، أي انه لم يعتمد على مجرد الأمر الكلي مثلما هو الحال لدى المنطق الأرسطي، وإنما سلّم بطابع الوقائع الخارجية، فأخذ يدقق في فئة محددة من الطابع الماهوي ليستعين بها في أمر التعميم، فأكد على ضرورة ان يأخذ المستقرئ في عين الإعتبار ما يمكن ملاحظته من تمييز بين فئات الالفات - مثلاً -، حتى لا يعمم الحكم على جميعها، بل يكتفي بخصوص الفئة التي جرّب علاقتها بالسببية - والتي أطلق عليها خاصية الوحدة المفهومية - رغم أنها تشترك مع غيرها بخاصة الوحدة النوعية أو الماهية2. فالغرض من هذا التعريج في لحاظ الواقع هو لاسناد المرحلة الإستنباطية وتبرير التعميم بلا شذوذ ولا استثناء. وبذلك فإنه يختلف عن المنطق العقلي الأرسطي لتعويله على الإستقراء القائم على الحد الأكثري وتجويز الشذوذ. كما انه يختلف عن المنطق التجريبي الرافض للمفهوم الماهوي للعلاقة السببية، وهي القضية التي آمن بها المفكر الصدر بغية تحقيق حالة اليقين والتعميم في القضية الإستقرائية حتى مع عدم الأخذ بالمصادرات القبلية. وهو موقف جديد ليس له نظير من قبل.
مشكلة إثبات الوحدة المفهومية
هكذا يتبين لنا الشكل المميز الذي اتخذه المفكر الصدر لبناء وتبرير مسألة التعميم في الدليل الإستقرائي، استناداً إلى الوحدة المفهومية ضمن الوحدة الكلية أو الماهية. ولنا على ذلك عدد من الملاحظات كالآتي:
أولاً:
ان ضرورة اخذ إعتبار الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية للالفات والباءات المقترنة يفضي بالبحث إلى ان يتأطر في دائرة الإستقراءات البسيطة ذات العلاقات المطردة، فيصاب بالعجز عن تفسير الفروض العلمية التي تتجاوز حالات الانواع والتي تنشأ على أساس الإحتمالات المتباينة (غير السوية). ففي الفرض الذي يتناول الجاذبية، لا نرى ثمة تماثلاً في الظواهر المتعلقة بتفسير هذه القوة، فكما نلاحظ ان هناك فروقاً نوعية شاسعة بين ظاهرة المد والجزر وحركة الكواكب وانحراف كوكب يورانوس وسقوط الأشياء على الارض واكتشاف كوكب نبتون الخ... فمع ان هذه الظواهر مختلفة نوعاً لكنها تنساب جميعاً نحو تأييد ذلك الإفتراض. ولعل اكتشاف (نبتون) يعبّر عن حالة خاصة تختلف اختلافاً جذرياً عما سواه من الظواهر الأخرى، فهو يتأطر باطار القالب المعرفي. وبعبارة أخرى، انه إذا كانت سائر الظواهر تعبر عن قرائن إحتمالية مصداقية، فإن اكتشاف ذلك الكوكب يعبر - في القبال - عن قرينة إحتمالية معرفية تؤيد القوة المفترضة كتأييد البقية، وهو في ذات الوقت مستلهم من الفرض الآنف الذكر، وعند اكتشافه حقيقة أصبح قرينة زادت في القوة الإحتمالية للفرض السابق.
ومعلوم ان الحظ لا يحالفنا لو اردنا تطبيق الخاصية المشتركة والوحدة المفهومية لإقترانات (أ) و(ب) على ذلك الفرض، فلو إعتبرنا (أ) بمثابة القوة الجاذبة فإن (ب) ستكون ذات أنواع متمايزة ومفككة، فبعض أفرادها يعبّر عن المد والجزر، وبعض آخر عن سقوط الأشياء على الارض، وبعض ثالث عن انحراف (يورانوس)، ورابع عن اكتشاف (نبتون) المستلهم من روح الجاذبية ذاتها، وكل ذلك مما لا يتسق مع شرط الوحدة المفهومية.
وعليه كان لا بد من أن نشخص بحث الإستقراء على منوالين، فتارة يبحث في قرائن متماثلة نوعاً، واخرى خلاف ذلك. ويعتبر البحث الأخير أهم وأشد ارتباطاً بالفروض العلمية من الأول، خاصة وان مبدأ تكوين الأول قائم على الآخر، إذ أساس التماثلات إنما يستدل عليه بالاختلاف والتباينات.
وفي الكثير من الأحيان يمكن لبعض الظواهر ان تخضع إلى كلا الطريقتين من البحث، رغم أن القيم الإحتمالية المعطاة لكل منهما لا بد أن تكون مختلفة. فبإعتبار ان البحث الثاني يعطي قرائن مختلفة كيفاً، لذا فإن القيم الإحتمالية المتجمعة منه يتوقع لها ان تكون مختلفة عن قيم إحتمال البحث الأول، شرط الحفاظ على ثبات وتساوي عدد التجارب لدى النوعين. فمثلاً إذا اردنا ان نتنبأ بإحتمال وصول طائرة من نوع معين إلى منطقة محددة بسلام، ففي هذه الحالة إما ان نستخدم الطريقة الساذجة بما تنطوي عليه من جهل؛ فنحسب القيم الإحتمالية من خلال معرفتنا لعدد الطائرات السالمات بالنسبة إلى المجموع الكلي.. أو نستخدم طريقة العمود الفقري للعلم، فنعمد إلى العديد من الإختبارات ذات الكيفية المختلفة، فنختبر اجهزة الارسال والوقود وكفاءة القائد وسلامة المحرك وغير ذلك، وهذه القرائن المختلفة لها تأثير أقوى من الناحية الموضوعية في اعطاء القيمة الإحتمالية، وان كنا من الناحية الذاتية وبحكم جهلنا نضطر أحياناً إلى ان نحسب قيمة كاملة للطريقة الأولى رغم عدم استحقاقها لها، وذلك حين نجد جميع الطائرات سالمة من الحوادث. مع ما يلاحظ ان الطريقة الأولى تقبل الحساب الكمي خلافاً للطريقة الثانية.
ولقد سبق للفيلسوف ستيوارت مل ان تساءل عن علة ان تكون عينة واحدة في بعض الحالات كافية للإستقراء المنتج الصحيح، في حين قد تكون هناك عينات كبيرة لا تكفي لذلك، كما هو الحال مع مثال الغربان السود3.
وقد حاول برتراند رسل ان يحل مثل هذا الاشكال عبر العودة إلى طرف ثالث في معادلة الإستقراء. فالرجل الذي يرى عدداً كبيراً من البجع الأبيض قد يستدل تبعاً لمبدأ الإستقراء على أن من المتوقع جداً ان يكون كل بجع أبيض، وعندما يصادف بجعاً أسود، فذلك لا يدل على خطأ مبدأ الإستقراء، إذ من خلال هذا المبدأ نعلم ان ظاهرة اللون في الحيوانات تمتاز بالتعدد، ومن ثم فمن المتوقع ان يخضع البجع إلى هذا التعدد اللوني4. وهذا يعني ان تحديد العلاقة بين البجع ولونه تتأثر بطرف ثالث هو لحاظ ما عليه إستقراء اللون في سائر الحيوانات الأخرى. لكن هذا الطرح لا يحل المشكلة الإستقرائية ولا يبررها، فهو يعني ان حل مشكلة الإستقراء ترتد إلى ما عليه الإستقراءات السابقة المتمثلة بالاطراد المشاهد في الطبيعة، وهو الإسلوب الذي اتبعه ستيوارت مل وماكس بلاك وبريثوايت5، سوى ان رسل تخلص من عقدة الدور والتسلسل، بإفتراض مبدأ الإستقراء قبلياً رغم عدم دلالته على هذه القبلية المزعومة.
وحقيقة الأمر ان مشكلتنا تتعلق هنا بالتعامل مع الأنماط المتماثلة، فلو اننا استطعنا ان نحول هذا التعامل مما هو متماثل إلى تعامل متباين؛ فذلك كفيل بأن يعطينا الدقة الكافية في البناء الإحتمالي أو الإستقرائي، حتى بدون حاجة للعودة إلى المشاهدات الإستقرائية السابقة. فمثلاً نحن نعلم ان التعميم القائل بأن كل خشب يطفو على الماء هو تعميم خاطئ ليس له أساس، بإعتباره يستند إلى مثل تلك المشاهدات والإختبارات المتماثلة، وبالتالي نجد هناك بعض الانواع من الخشب لا تطفو على الماء. ومثل ذلك ان التعميم القائل بأن كل حديد يغطس في الماء، هو تعميم خاطئ أيضاً كسابقه، إذ نجد ان الكرة الحديدية المجوفة من احجام مناسبة تطوف على الماء. فإذا كانت هذه الحالات التماثلية لا تبرر التعميم، فإن من الممكن تحويلها إلى حالات أكثر دقة من خلال الإختبارات المتباينة التي تفسر لنا حال الغطس والطوفان، كالذي استنتجه ارخميدس في قاعدته العلمية من أن الجسم الصلد لا يطفو على السائل إلا في حالة ان يكون ثقله النوعي أقل من الثقل النوعي للسائل، فهذا القانون هو أوسع من الماء والخشب والحديد، وهو يفسر لنا علة الشذوذ التي مرت معنا، كما انه يتنبأ لنا بالحالات الجديدة المستقبلية6.
اذاً ان القضايا الإستقرائية المتينة هي تلك التي لا تعتمد على المشاهدات المتماثلة بقدر ما تعتمد على تفسير الظاهرة وايجاد العلة التي تربطها بغيرها، مما يعني حاجتها إلى الإختبارات المتباينة. ويمكن التمييز بين ثلاثة أنواع من العلاقات أو القوانين، اثنان منها متينان لكونهما يستندان إلى الإختبارات المتباينة، أحدهما يتصف بالعمومية كالمثال السابق، والآخر احصائي مثل قانون دوركايم في الانتحار. أما الثالث فهو قائم على مجرد المشاهدات والإختبارات المتماثلة، مثل علاقة الغربان بالسواد. فهذا الأخير غير دقيق ما لم يحول إلى واحد من النوعين السابقين، كإن يتم التعرف مثلاً على طبيعة العلاقة التي تتحكم في جينات هذه الطيور. وحتى عندما نقول ان كل إنسان يموت، وان كل نهار يعقبه ليل، لا يعد من التعميمات الدقيقة لمجرد المشاهدة التماثلية، لكنه يمكن أن يحظى بالدقة عندما يسلط الضوء على الإختبارات التباينية التي تلوح الكشف عن قابلية الجسم البشري وتحليله علمياً، أو تحليل العلاقة التي تربط الارض بالشمس وسائر الاجرام، ليستكشف من ذلك طبيعة ما عليه مثل هذه الكائنات والظواهر المرتبطة بها.
ثانياً:
يلاحظ اننا حتى لو عولنا على الأخذ بمنطق الوحدة المفهومية، فرغم ذلك سوف لا ننجح في تعميم الأحكام التنبؤية ما دمنا نتعامل مع فئات هي غاية في التركيب والاشراط والتعقيد، فأي ظاهرة نختارها لا يمكن تحصينها عما يمكن أن يطرأ عليها من زيادة أو نقصان دون ان نشعر، وهي النقطة التي اولاها المنطق الأرسطي - على لسان أرسطو وابن سينا - اهمية خاصة في جواز خطأ النتيجة وبطلان الحكم الكلي والتعميم، والتي عبّر عنها بمشكلة أخذ ما في العرض مكان ما في الذات. فحيث اننا لا نملك قدرة لمعرفة عناصر الظاهرة المركبة إلا إجمالاً؛ فإن أي حادثة جديدة نصادفها ونتصور انها تنتمي إلى هذه الظاهرة - تبعاً لإدراك التماثل بينهما - قد تخيّب ظننا، فنتصور انها ستفرز نفس الاثر الذي يترتب على تلك الفئة، واذا بها تعصف بآمالنا ادراج الرياح، مما يعني ان الجسر الذي يوصل الوحدة المفهومية من عالم الإفتراض الذهني إلى الواقع لا يملك القوة الكافية إلى الدرجة التي يستعد فيها لأن يتحمل الدفعات الجديدة كلها.
وقد سبق لأرسطو ان حدد مشكلة هذه الخاصية عندما صرح في الكتاب الثامن من الطوبيقا (الجدل) قائلاً: إن ‹‹الإستقراء ينتقل من حالات فردية إلى حالات كلية، ومن المعلوم إلى المجهول، ويشترط لمثل هذا الإنتقال أن نبحث عن اوجه التشابه ونفحصها جيداً، لأننا لن نستطيع التوصل للحكم الكلي من البينات التي أمامنا ما لم نقم بإستقراء الأفراد في الحالات التي تكون متشابهة. ففي بعض الحالات فإنه من الممكن في الإستقراء ان نسأل السؤال في صورته الكلية، ولا يسهل هذا في حالات أخرى حيث لا يوجد حد عام مؤسس يجمع كل التماثلات. وفي هذه الحالة فإنه حين يريد الناس انقاذ الكلي يستخدمون العبارة (في كل حالات هذا النوع)، ولكن من اصعب الأمور ان نميز أياً من الأشياء الواردة هي من هذا النوع، وأيها ليس منه››7.
فمثلاً إذا قمنا بتجارب عادية فيما يتعلق بغليان الماء، فقد نحكم جزافاً بأنه يحدث عند الدرجة المئوية دائماً، ولو لم يكن لدينا علم عن علاقة الضغط الجوي به لكنا قد وقعنا في خطأ كبير لأدنى تغير يطرأ عليه دون ان نشعر. وهذا المثال البسيط يقرب لنا فكرة وجود أمور لا نشعر بها ونجهل تأثيرها على الظواهر التي نتعامل معها. ومثل ذلك ما كان مسلّماً لدى علماء الفيزياء من أنه لا علاقة للسرعة بالكتلة، فالكتلة تظل ثابتة لدى السرعات المختلفة بشهادة التجارب المقامة حول ذلك، لكن تبين فيما بعد ان هذا الحكم لا يمكن تعميمه على السرعات الكبيرة كتلك التي تقترب من سرعة الضوء، بل يصدق فقط بحدود السرعات الصغيرة المألوفة8. وقد بات من المعلوم ان هناك تغيرات كونية وارضية وكيميائية غير محسوسة، كتحولات الطاقة الحرارية وتأثيرات الاشعة الكونية وديمومة إنتقال الارض من مكان إلى آخر في فضاء مجهول بما يتضمنه من طبقات مجالية قد يكون لبعضها أثر مضاد على فاعلية الظواهر داخل معلب الوحدة المفهومية. فما يدرينا فلعل المكان الذي تهتدي إليه ارضنا أو الزمان الذي يفرض ذاته علينا، هو الذي يتولى تحويل كيمياء المفاعلة من معلب إلى آخر بمجرد إضافة قطرة حد النصاب الحاسمة. وتظل مشكلتنا هي اننا لا نعرف متى تضاف هذه القطرة المصيرية التي تحول نهار الإستقراء ليلاً.
ثالثاً:
كما يلاحظ ان الاستدراك الذي عوّل عليه المفكر الصدر في اكتفائه بمنطق الوحدة المفهومية دون الأخذ بمطلق الوحدة المشتركة للماهية؛ هو في حد ذاته يدل على وجود المبرر الكافي للاستغناء عن الضرورة فيما يخص الفئات المشتركة العامة. فلو اننا لم نرَ وجود تمايز بين الالفات بحسب ما أُتيح لنا ان نقيمه من تجارب؛ لكان هذا لا يمنع من وجود ألفات أخرى لا تخضع للحكم نفسه، فيبطل بذلك مبرر التعميم. في حين لا يرد هذا الاشكال على مبدأ علاقة الشد.
رابعاً:
أخيراً ما هو الدليل على وجود الصفة العامة لماهية الأفراد؟ فلو سألنا المفكر الصدر عن ذلك لوجدنا الجواب جاهزاً، وهو انه مستمد من الإستقراء أيضاً!
فقد اعتقد ان إثبات الماهية المشتركة هو أيضاً مما يتم عبر إستقراء آخر يكشف عن طبيعة التماثل بين أفراد تلك العناصر، لكنه لم يفصّل الحديث في هذا الأمر على أهميته. إنما سبق له ان إعتبر الإستدلال على التعميمات الإستقرائية - وهي التي تقتضي إثبات الماهية المشتركة - لا يختلف عن الإستدلال على أي قضية معرفية أخرى، حيث في جميع الحالات تمر العملية بمرحلتين هما التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي9. والشيء الأساسي الذي ذكره بهذا الصدد هو قوله: ‹‹اننا نعتقد بالتماثل بين الأشياء التي نراها متماثلة، ووجود قاسم مشترك بينها يبرر ان نعبر عنها (بفئة الالفات) أو (فئة الباءات). وهذا الإعتقاد يقوم على أساس إستقرائي، وذلك لأننا في التطبيق السابق للدليل الإستقرائي اثبتنا ان الواقع الموضوعي للصورة المحسوسة يشابهها في كثير من الخصائص، فإذا كانت الصورة المحسوسة لاشياء متعددة متماثلة؛ استنتجنا من ذلك: التماثل بين تلك الأشياء. فالتماثل بين الصور المحسوسة نفسها نتعرف عليه مباشرة، والتماثل بين الأشياء المثيرة لتلك الصور مستدل إستقرائياً بالتماثل بين الصور نفسها، مادمنا قد عرفنا أن كل صورة محسوسة تشابه الشيء الذي أثارها في الواقع الموضوعي››10.
على ان تحليل هذه القضية من إعتبار الإستقراء يقوم على أساس الوحدة المفهومية، وان هذه الوحدة تُردّ إلى إستقراء آخر؛ سيفضي إلى ان نجد انفسنا ندور في حلقة مفرغة من الدور. وهو تهديد صارخ للأساس الذي يقوم عليه الدليل الإستقرائي فيما لو اسند إلى مثل هذه الدائرة. ومن حيث التفصيل نلاحظ في النص الآنف الذكر ما يلي من القضايا:
1 ـ قضية إثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية.
2 ـ قضية إثبات تماثل الصور حين تكون هناك أشياء خارجية متماثلة.
3 ـ الإستدلال إستقرائياً على تماثل الأشياء الخارجية من خلال وجود التماثل الصوري.
لنترك مؤقتاً القضية الأولى وننتقل إلى الثانية لنتساءل: ما الذي يدعونا إلى الإعتقاد بوجود تماثل بين الصور؟ والجواب على ذلك كما ذهب إليه المفكر الصدر بحق هو ان هذه القضية مدركة إدراكاً مباشراً دون اتكاء على أي إستدلال.
تظل لدينا القضية الثالثة، وفيها اننا إذا توصلنا كما في القضية الثانية إلى ان هناك صوراً متماثلة؛ كيف يجوز لنا ان نعكسها على التماثل بين الأشياء الخارجية المقابلة لها؟
والملاحظ ان علاج المفكر الصدر لهذه القضية بالخصوص كان مجملاً، فهو لم يقل شيئاً سوى أن ردّ التماثل إلى الإستقراء، أي أننا نملك إستقرائين، أحدهما يرتكز على التماثل أو الوحدة المفهومية، والآخر يثبت هذه الوحدة، وسؤالنا هو كيف يثبت الإستقراء ذلك التماثل؟
لنعلم اولاً اننا حين ندرك التماثل بين عدد محدود من الصور يمكننا ان نعكس ذلك على التماثل بين نفس العدد المقابل من الأشياء الخارجية، واذا جاز لنا تبرير القفزة التصورية من الجزئي الذهني إلى الكلي بإعتبارها قضية مدركة مباشرة تماماً، لكن كيف جاز لنا ان نعكس ذلك على الواقع الخارجي، فنعمم على كل ما لا يدخل ضمن تجربتنا الإدراكية؟
ليس لدينا تردد في اننا سندخل مرة أخرى في صلب ذات الإستقراء المعالج طبقاً لقضايا السببية، فالمفكر الصدر لا يجيز إثبات اليقين والتعميم ما لم تثبت السببية سلفاً. لكنه حين اقام السببية على أساس الوحدة المفهومية، عاد هنا من جديد متكئاً على مصادرة السببية ذاتها، مما يعني ان كلاً منهما يصبح مشروطاً ومتوقفاً على الآخر، فالسببية تثبت من خلال الوحدة، وهذه الوحدة تحتاج إلى مصادرة السببية، وهكذا نقع في حلقة مفرغة من الدور.
وفي الحقيقة اننا في هذه الحلقة المفرغة نكون قد اصطدمنا بكل من السببية الخاصة والعامة، ذلك لاننا لكي نثبت بالإستقراء التماثل بين الأشياء نحتاج إلى المعرفة القبلية التي تقرر بأن أي صورة ذهنية لا يمكن لها الوجود ما لم ترتبط بوجود مؤثر ما أوجدها، وهو اتكاء على مصادرة السببية العامة، وكذلك نحتاج إلى تشخيص هذا المؤثر وإثبات العلاقة الضرورية القائمة بين الصورة والشيء المقابل لها في الخارج، مع أنه سبق للمفكر الصدر ان اكد على شرطية إثبات الوحدة المفهومية كي تثبت علاقة السببية الضرورية، مما يعني اننا لأجل إثبات الوحدة المفهومية بين الصورة والشيء الخارجي سنحتاج إلى وحدة مفهومية أخرى فنقع في التسلسل، ونكون قد فسّرنا الوحدة بالوحدة والسببية بالسببية والماء بالماء!
بعد هذه الجولة من التحليل نعود إلى القضية الأولى التي تركناها خلفنا والتي تتعلق بإثبات التشابه بين الشيء الخارجي وصورته الذهنية، فنعلق على ذلك بما يلي:
1ـ لقد استدل المفكر الصدر إستقرائياً على ذلك التشابه بالاستفادة من مبدأ السببية. وهو إذا كان في القضية الثالثة لم يفصّل الكيفية الإستدلالية، حيث الوقوع كما رأينا في الدور والتسلسل، فإنه في هذه القضية بالخصوص قد وقع في ذلك من غير شك؛ لاتكائه صراحة على السببية، إذ يقول: ‹‹اننا نعتقد عادة بوجود تشابه ـ بدرجة ما ـ بين الصورة المحسوسة التي ندركها، والواقع الموضوعي لها.. وهذا الإعتقاد إستقرائي مستدل، وليس علماً اولياً مباشراً، لاننا في إدراكنا الحسي لا نواجه الواقع الموضوعي مباشرة، وإنما نواجه الصورة المحسوسة. فإذا رأينا مثلاً قطعة من الخشب على شكل مربع، فنحن نواجه في الحقيقة صورة محسوسة موجودة في جهازنا الحسي تتصف بالتربيع، ولهذه الصورة واقع موضوعي هو الذي سبّب إثارة تلك الصورة››11.
2ـ ان إثبات التشابه بين الصورة والشيء الخارجي الذي يمثل أساس إثبات الوحدة المفهومية؛ يعتمد بدوره على إفتراض كون الجهاز الحسي للإدراك لم يطرأ عليه أي تغيير. مع أنّا في هذه الحالة سنرتد مرة أخرى للوقوع في الدور، وكما جاء في نص المفكر الصدر: ‹‹الإعتقاد بالتماثل بين الواقع والصورة لا يكفي وحده لكي نستكشف التماثل بين الأشياء عن طريق التماثل بين الصور، لأن هذا الاستكشاف بحاجة إلى إفتراض ان الجهاز الحسي للإدراك لم يطرأ عليه تغيير، وذلك لأن تحديد الصورة المحسوسة وتعيين معالمها نتيجة عاملين: أحدهما الواقع الموضوعي، والآخر الشروط الداخلية الفيزيائية والفسيولوجية والسايكولوجية للإدراك الحسي. فالجهاز الحسي للإدراك إذا لم يطرأ على شروطه الداخلية أي تغيير، فسوف يحصل على صورة مماثلة للصورة السابقة، متى واجه واقعاً موضوعياً مماثلاً للواقع الموضوعي السابق. وأما إذا اختلفت الشروط الداخلية لجهاز الإدراك، فمن الممكن ان تختلف طريقته في توليد الإدراكات الحسية. وهذا يعني: ان من المحتمل ان يولد إدراكاً حسياً مماثلاً لإدراك حسي سابق، عند مواجهة واقع موضوعي مختلف عن الواقع الموضوعي الذي أثار الإدراك الحسي السابق ضمن الشروط السابقة، كما ان من المحتمل ان يولد إدراكاً حسياً مختلفاً عن الإدراك السابق عند مواجهة واقع موضوعي مماثل للواقع الموضوعي الذي أثار الإدراك السابق. فلكي نثبت التماثل بين الواقعين الموضوعيين لإدراكين حسيين، يجب ان نحصل على قيمة إحتمالية كبيرة تنفي التغير وحدوث عوامل جديدة في البناء الداخلي لجهاز الإدراك››12.
وكما قلنا اننا في هذه الحالة سنرتد مرة أخرى للوقوع في الدور والتسلسل من جديد، ذلك اننا حين نتكئ على إثبات سلامة الجهاز الحسي للإدراك كي نثبت من خلاله التماثل بين الصورة والشيء الخارجي؛ إنما سنستخدم صورة ذهنية أخرى لواقع الجهاز الخارجي، وحيث ان هذه الصورة تخضع إلى نفس الخطورة من حيث كونها يحتمل ان لا تطابق حقيقة ذلك الجهاز، فلا بد ان نرجع مرة أخرى إلى تأمين إثبات الجهاز، وهكذا يتسلسل الأمر ويدور بين اتكاء إثبات التطابق للصورة والواقع وبين إثبات سلامة الجهاز العصبي، إذ ان كلاً منهما يعتمد على الآخر، وهو عين الحلقة المفرغة من الدور.
ولهذه النتيجة المؤسفة دلالتان، إحداهما ان هذه المشكلة تقف حاجزاً امام إثبات الوحدة المفهومية ومن ثم التعميم ذاته. أما الأخرى فهي ان المحاولة السابقة لإثبات التماثل بين الصورة والشيء الخارجي تتصف بالفشل، بل يمكن القول ان العقل البشري يعجز عن أن يقيم أي دليل على وجود مثل ذلك التطابق، شأنه في ذلك شأن إثبات الواقع الخارجي الإجمالي. فمن الواضح ان لجهازنا العصبي والحسي دخلاً كبيراً في تحديد شكل الصور الذهنية، إذ لو اختلف تركيب هذا الجهاز لبدت لنا الصور بشكل آخر مختلف. كالذي يولد وفي عينيه نظارة زرقاء - على حد تصوير عمانوئيل كانت - حيث ليس بوسعه رؤية العالم إلا بشكل ازرق، ولا يمكنه ان يعرف حقيقة ما عليه العالم تماماً، مما يعني ان إدراكاتنا الحسية لكيفيات الأشياء الخارجية متأثرة تماماً بما عليه جهازنا الحسي، وبالتالي جاز ان تظهر بأشكال شتى بحسب طبيعة الاجهزة الحسية. يظل ان ما يبدو لنا من كيفيات الأشياء هي كالرموز بالنسبة لنا، وهو لا يضر بمسألة إثبات التماثل بين الأشياء، إذ إثباته ليس متوقفاً على التطابق ما بين شكل الصورة وشكل الوجود الخارجي للشيء.
يضاف إلى انه حتى لو تجاوزنا ورطة القضية الثالثة التي مرت معنا، وصادرنا علاقة السببية العامة كمبدأ قبلي، بإعتباره لم يثبت بالإستقراء، فمع ذلك سنعجز عن أن نفعل شيئاً حول السببية الخاصة ما لم ننتزع عنصر الضرورة عنها، فنكون قد دخلنا إلى أروقة علاقة الشد التي تتلاءم واطروحة المفكر الصدر في كتابه (بحث حول المهدي).
ومن وجهة نظرنا انه يمكن علاج التماثل بين الشيئين الخارجيين بالشكل التالي:
ان وجود صورتين ذهنيتين متماثلتين لا يعني بالضرورة وجود شيئين خارجيين متماثلين أيضاً، فقد تكون الصورتان وهميتين دون ان تعبرا عن حقيقة موضوعية. الأمر الذي لا بد فيه من إثبات كل من الشيئين الخارجيين على حدة، وذلك من خلال العلاقة بين الصورة والشيء الخارجي لها. وفي عملية إثبات وجود الشيء من خلال الصورة الذهنية يلاحظ انه لا بد من ممارسة إستقراء من النوع التبايني القائم على القرائن التي تختلف فيما بينها من الناحية النوعية، فلا يمكن للدليل الإستقرائي ان يتم بمجرد الإستقراء التماثلي المعتمد على تماثلات القرائن والافراد.
لنفترض مثلاً ان احساسنا قد نقل لنا صورة ذهنية عن كرة تبدو أمامنا لكنا نشك في وجودها، ففي هذه الحالة علينا ان نتوسط بعدد من القرائن المختلفة لنثبت فيما لو كانت هذه الكرة حقيقية أو وهمية، وكذا فيما إذا كانت بالفعل عبارة عن كرة أو انها شيء آخر. ومع اننا بسبب تضخم الخبرات التي نمارسها في التعامل مع الأشياء الخارجية سوف لا نحتاج عادة إلى الإختبار أو المزيد منه، لكنا نفترض كما لو كنا نمارس عملاً إستدلالياً اولياً، مثلما هو الجاري في الممارسات الإستدلالية للعلوم الطبيعية. لهذا فحيث ان من المحتمل ان يكون ما نراه عبارة عن وهم من الاوهام، كان لا بد من مزاولة قرينة أخرى، كإن نتحرك من زاوية أخرى وننظر من خلالها إن كنا سنرى شيئاً ما كالسابق، وكذلك نذهب لنتلمس الشيء الذي نراه، إذ لو كان وهماً بصرياً لكان من المستبعد ان نتحسس بلمسه، لذا فهذا الاحساس يزيد الظن بأن هناك شيئاً خارجياً يحمل صفات تبدو انها دالة على الكرة، ولأجل التأكد أكثر يمكننا ان نقوم بضرب ودحرجة ما لمسناه، كما يمكننا ان نأتي بآخرين ليخبرونا عما يرونه ويلمسونه من شيء، وكذا يمكننا ان نأخذ له صوراً فوتوغرافية تبين حقيقة وجوده ومعالمه.. الخ.
هكذا ان اغلب ما فعلناه من إستدلال إستقرائي على وجود الكرة إنما كان بفعل القرائن المختلفة من الناحية النوعية، ولولا هذه القرائن ما قام للدليل الإستقرائي قائمة. وحينما نفعل نفس الشاكلة من الإستدلال الناجح على وجود كرة أخرى؛ إنما يعني اننا نحتفظ بصورتين ذهنيتين متماثلتين لهما وجود حقيقي، لذلك فانهما متماثلان. فالتماثل الصوري يدرك مباشرة، في حين أن التماثل الوجودي وان قام على التماثل الصوري إلا انه لا يكفي من غير الإستدلال على وجود كل فرد عبر الإستقراء التبايني كما رأينا. وان هذا الإستقراء هو أساس قيام الإستقراء التماثلي. فالتماثل مستدل عليه بالتباين، وان التباين من حيث الأساس يدرك مباشرة بالاحساس، كإدراكنا البصري للصورة الذهنية للكرة مقارنة بإدراكنا اللمسي لها، حيث كلاهما مدركان مباشرة مع انهما يعدان قرينتين مختلفتين يعملان على تقوية الإحتمال وتنميته. لهذا كان التباين لا التماثل هو الأساس في الإستدلال الإستقرائي دون ان يحتاج - من حيث الاصل - إلى ما يدل عليه بإعتباره من المدركات المباشرة.
قد يقال انه يمكن أحياناً بناء الدليل الإستقرائي عن طريق الإستقراء التماثلي المحض. فمثلاً لنفترض اننا اردنا ان نتحقق من وجود التماثل بين وجهي قطعة نقد، حيث يمكننا ان نعرف ذلك عن طريق اجراء مجموعة من الرميات الكبيرة العدد، وهي عبارة عن رميات متماثلة لا تباين فيها، فلو ان عدد ظهور أحد الوجهين كان يقارب الآخر لَكُنا قد إعتبرنا ذلك ناتجاً عن التماثل بينهما. وبالتالي فإن ذلك يعني ان من الممكن ان نقيم الدليل الإستقرائي طبقاً للإستقراء التماثلي المحض.
لكن واقع الأمر اننا حتى في مثل هذه العملية التماثلية ليس بوسعنا التخلي عن استخدام الإستقراء التبايني. إذ قد يكون التقارب الحاصل في عددي ظهور الوجهين ليس لوجود التماثل بينهما، وإنما لتدخل عاملين ذي قوتين متضادتين ومتساويتين، أحدهما يعمل لحساب أحد الوجهين بسبب عدم التماثل، مما يجعل إمكانية ظهور الوجه الذي يعمل لصالحه أقوى من إمكانية ظهور الوجه الآخر. أما العامل الآخر، فهو على العكس، يعمل لصالح الوجه المقابل وذلك إذا ما افترضنا وجود ظروف خارجية منحازة لها قوة قريبة من قوة إمكانية ما يعمل به العامل الأول، الأمر الذي يمكن من خلاله ان يفسر تقارب العدد بمثل ما يمكن أن يفسره الإفتراض القائم على التماثل. لكن لكي نعرف ان العدد المتقارب بين الظهورين كان نتيجة التماثل بين الوجهين وليس بسبب العاملين المذكورين؛ لا بد من معرفة مسبقة لطبيعة الظروف الخارجية المؤثرة وإثبات كونها غير منحازة، بل في كلا الحالين سواء ثبت انها منحازة وبالتالي يستنتج منه عدم التماثل، أو انها غير منحازة مما يستنتج منه التماثل؛ فإن ذلك لا يتم إلا من خلال الإستقراء التبايني، فلولاه لما كان باستطاعتنا إستنتاج التماثل أو عدمه.
فمثلاً إذا اردنا ان نثبت تكافؤ الظروف وعدم انحيازها، لا بد من أن نجري إختباراً ذا قرائن متباينة، كجعل حالات الرمي كثيرة، وان بعضها يختلف عن البعض الاخر؛ من حيث القوة والعلو وما إلى ذلك، كما لا بد من التأكد بأن الرميات تجري بحياد من دون خداع، وبالتالي فلو ان الوجهين أخذا بالظهور بشكل مختلف من دون ان يتخذا نسقاً محدداً، لكان ذلك دالاً على تكافؤ الظروف وعدم انحيازها، نتيجة القرائن التباينية السابقة.
كما قد يقال ان معرفة نفس الظروف إن كانت منحازة أو غير منحازة يمكن أن تتم عبر الإستقراء التماثلي، وذلك من خلال الرميات الكبيرة لبعض قطع ألعاب المصادفة، كقطعة النقد، حيث لو ظهر هناك ميل للاقتراب من الإحتمال القبلي لوجوه القطعة لكنّا نميل إلى إعتبار الظروف غير منحازة، والعكس بالعكس. وبالتالي ان بوسع الإستقراء التماثلي ان يبني الدليل الإستقرائي بشكل منفصل ومستقل عن الإستقراء التبايني.
لكن في هذه الحالة لا يمكننا إستنتاج تكافؤ الظروف ما لم نتأكد قبل ذلك بأن الرمي كان محايداً من دون خداع الرامي، وان الرميات كثيرة، وانها جرت وفقاً لحالات ظرفية مختلفة، وتعتبر هذه القرائن مختلفة، ولو اننا تجاهلنا هذه القرائن لكان لا يمتنع ان يكون هناك عامل هو الذي ادى إلى تقارب العدد لظهور الوجهين، مثل ان يكون الرامي قد استهدف ذلك لخداعنا.
وعلى العموم ان الإستقراء التماثلي للرميات لا يمكنه ان يشكل أساساً لمعرفة طبيعة الظروف ما لم يتم التأكد من العوامل السابقة، أو التأكد من تماثل وجوه القطعة المعدة للإختبار - كقطعة النقد في مثالنا -، وان هذا التماثل لا يثبت إلا من خلال الإستقراء التبايني. ولو قيل ان إثبات التماثل إنما يتم عبر الرمي ذاته فحسب لأفضى الأمر إلى الدور، حيث يتوقف إثبات التماثل على معرفة الظروف، كما تتوقف معرفة هذه الظروف على التماثل ان لم نأخذ عوامل القرائن المختلفة بعين الإعتبار.
هكذا نخلص إلى انه لولا (الإحتمالات غير السوية) لما أمكن للإستقراء التماثلي ان يكون منتجاً لإثبات قضايا الواقع.
وعلى العموم هناك ملاحظة جديرة بالذكر تخص علاقة الدليل الإستقرائي بحسابات الإحتمال، وهي ان هذا الدليل إنما يعتمد على اكتشاف التماثل ليطبق عليه (الإحتمالات السوية)، على الاقل بالنسبة لأفراد السبب والمسبب، كما يفترض أن يكون التماثل قائماً بين التجارب ليُطبق عليها الحساب الإحتمالي (الكمي). لكن يلاحظ ان التماثل لا يمكن اكتشافه وإثباته إلا من خلال (الإحتمالات غير السوية) للقرائن المتباينة، كما ان التجارب التي ينمو فيها الدليل الإستقرائي هي تجارب مختلفة ليس بوسعها ان تحقق العد الإحتمالي القائم على (الإحتمالات السوية)، فهي ليست متماثلة كي يمكن أن توزع الحصص الإحتمالية بشكل متساوٍ. وعليه يصبح الدليل الإستقرائي قائماً على (الإحتمالات غير السوية)، الأمر الذي يمنع العد الحسابي الكمي إلا بنوع من المسامحة والتجوز في تسوية الحصص. لكن مع هذا ان من الممكن تنمية الدليل من الناحية الكيفية، دون ان يمنع ذلك من تهيئته للمرحلة الذاتية بإفتراض اليقين ومصادرته.
***
هكذا نحن لا نملك المبرر الكافي لإثبات التعميم في الإستقراء. بل كل ما يمكن فعله هو اعطاء الصورة الترجيحية للحوادث المستقبلية المحدودة أو المتناهية؛ طبقاً للتنمية الإحتمالية. أي ان الدليل الإستقرائي يواجه مشكلة منطقية مستعصية على صعيد التعميم، لكن من الممكن تخفيفها من خلال التعامل مع العدد المتناهي للحوادث المستقبلية، حيث مع نجاح التجارب الكثيرة باستمرار يمكننا ان نتوقع الحوادث المستقبلية المتناهية بدرجة كبيرة، قد تتحول من الناحية العملية إلى نوع من اليقين، إلا انه كلما توسع نطاق مقدار هذه الحوادث فإن درجة إحتمال وقوعها جميعاً ستأخذ بالانخفاض، حيث تقدر دائماً بضرب قيمة إحتمال أول حادثة مستقبلية بنفسها في عدد المرات التي يراد لها ان تتكرر بنجاح.