يحيى محمد
كثيراً ما يجول في الذهن تساؤل عما يحدث من علة القتل الجماعي الوحشي الذي نشاهده والذي لا يفرق بين الصغير والكبير والمرأة والرجل، سوى الهوية.. ما الذي يدعو المسلم إلى أن يضحي بنفسه من أجل حصد أكبر عدد ممكن من أرواح المسلمين وغيرهم من الأبرياء بحجة الكفر والشرك وعدم الايمان وما اليها من دواعي دينية؟ فلا يعنينا هنا سائر ما يرتبط بها من دواعي سياسية أو غيرها؟.. فهل يجد هذا القاتل أصلاً دينياً لما يقوم به؟ وبالأحرى هل يجد الآمر والمفتي بالقتل ما يبرر له جريمة قتله في تحريضه على القتل الإعتقادي؟ فما يعنينا هو الجانب المعرفي وتبرير هذه الجريمة النكراء بالحجة والدليل.
فكثيراً ما يجاب على ذلك بالرجوع إلى بعض الآيات والأحاديث من قبيل: ((وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)) (البقرة\193).. ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ)) (التوبة\5).. الخ.
فالدليل الذي يستند اليه المفتي القاتل هو دليل بياني نصي. فهو من النوع الذي يمارسه ويستدل به الفقهاء، لكن مع وجود فارق عظيم.. فالقاتل اليوم لا يمارس البحث الفقهي، وهو البحث الذي يترصد الدلالات المتعارضة ليقيم فيما بينها شيئاً من التوازن والترجيح فينتهي إلى النتيجة التي يظن بان النصوص دالة عليها، انما يمارس هذا القاتل نوعاً من الإنتقاء الدلالي، وما أسهل ما يجده في النصوص؛ سواء في الحديث أو القرآن.. فهو لا يهتم بالأدلة المتعارضة، انما يكفيه الدليل من النوع الخاص ليلتزم به عن قطع ويقين.
وقد يقال لماذا نجد هذا الإعتقاد دونما نجد ما يقابله من الإعتقاد المسالم، وبالاسلوب والطريقة ذاتها؟
الجواب هو ان واقعنا يشهد كلا الإعتقادين معاً وبنفس الطريقة من الاستدلال الانتقائي، لكننا نغض الطرف عن الإعتقاد المسالم، وكثيراً ما نمجده ونؤيده، فيما نعاني من الإعتقاد القاتل باعتباره مدمراً، وإلا فكلاهما يجد حجته في القرآن والحديث.
وقد يكفي الإعتقاد القاتل يقيناً ما يجده في القرآن من الدلالات الواضحة الخاصة بقتل المشركين، وهو يعمم ذلك أحياناً على قتل غير المؤمنين وإن كانوا ضمن المذهب الواحد، لكن مبررات هذا الإعتقاد كثيراً ما تعول على التكفير والشرك، وان من يقوم بقتلهم تنطبق عليهم هذه الصفة، فهم يعبدون الأوثان والأصنام من قبور الائمة والصالحين. فأول مقاربة يجدها القاتل هي التشابه الحاصل بين ما يقوم به المشركون وما يقوم به الكثير من المسلمين اليوم، وهو التوجه إلى غير الله في العبادة وقضاء الحاجات. وعادة ما يلجأ في هذا الدليل إلى ما طرحه إبن تيمية من عقيدة ملزمة يكفر أو يضلل من يخالفها، وعلى رأسها عقيدة التوحيد وتقسيمه إلى توحيد الالوهية والربوبية..
ونعتقد أن هناك مناخاً نفسياً يساعد على فعل التكفير والقتل، وأيضاً انه يتخذ ذريعة معرفية لهذا الفعل وفقاً لبعض الإستنتاجات.. وقد يكون هو أشد تأثيراً من الصياغة المعرفية المؤدية إلى التكفير ذاته.. بمعنى ان القاتل يبرر فعل الجريمة بطرح معرفي، وإن كانت دوافع القتل الحقيقية تعود إلى الكره والحقد النفسي، ومبرراتها متعلقة بالموقف من صحابة النبي الأكرم وأمهات المؤمنين كالذي يشهده عصرنا المضطرب اليوم.
فالمشكلة الأساسية لأهل السنة مع الشيعة تتعلق بهذه القضية دون غيرها في الغالب. إذ لا تعد بقية العقائد المختلف حولها موضع استفزاز، كما ان الكثير منها قد يقبل الحل، أو يجد ما يعادله لدى السنة. فارتباط الشيعة بالأئمة والإعتقاد بعصمتهم وكراماتهم وعلومهم الغيبية يجد ما يقابله لدى صوفية السنة، كذلك فإن اتهام الشيعة بمقالة تحريف القرآن يبطله بأن أغلب المتأخرين وبعض المتقدمين لا يقرون التحريف، وانه لا يوجد للشيعة ما يتعبدون به من قرآن آخر غير هذا القرآن. ورغم وجود مصحف مخطوط محرّف وآيات محرّفة بحسب الروايات، ومثل ذلك ما يُذكر حول مصحف فاطمة، فانها جميعاً لم تؤثر على تعبد الشيعة بهذا القرآن وإبطال ما سواه، أو تأويل ما ورد حوله. كما في القبال إن لدى السنة ما يؤكد بأن المصحف الرسمي للقرآن لا يمثل كل ما أُنزل من القرآن، وأن هناك روايات سنية تؤكد بأن كلمات الآيات وبعض السور فيها شيء من الاختلاف مقارنة بما موجود في المصحف الرسمي. أما اتهام الشيعة بأنهم يألهون أئمتهم فهو تعميم ينافي غالبية ما يراه الشيعة، بل هم صريحون بأنهم عباد مكرمون اصطفاهم الله على العالمين، وهم أقل رتبة من نبينا محمد (ص)، وكل ذلك يشابه نسبياً ما يوليه الكثير من السنة لأوليائهم الصوفية، أو ما يوردونه أحياناً من روايات حول الخليفتين أبا بكر وعمر. في حين إن سائر الإعتقادات الأخرى كالرجعة وولادة الإمام المهدي وبقائه حياً حتى اليوم، فكلها من الإعتقادات النظرية التي ليس لها لوازم تستفز المقابل. ومثل ذلك ما يرد في الفروع كالقول بالمتعة وما إليها، فهي أيضاً ليست بدعة ابتدعها الشيعة، بل كانت ممارسة في عصر النبي، انما الخلاف حول تحريمها فيما بعد إن كان ثابتاً أم لا، مع أن بعض الصحابة بقي متمسكاً بها وان بعض الروايات في الصحاح تشير إلى أن من حرمها هو الخليفة عمر بن الخطاب وليس النبي، وإن كان أغلب الروايات تؤكد العكس، إضافة إلى ان لها ما يقاربها من زواجات لدى بعض المذاهب السنية، ومن ذلك الزواج بنية الطلاق، وكزواج المسيار وغيره. وقد ظهر في أيامنا الحالية من يحلل نكاحاً مبتدعاً يثير الاشمئزاز هو نكاح المجاهدة الذي تم التشريع له من قبل بعض الطائفيين المتعصبين وسط الحرب الدائرة اليوم في سوريا.
هكذا لو استقرأنا كل مسائل الخلاف بين الشيعة والسنة فسنجد أنها جميعاً قابلة للنقاش العلمي دون استفزاز باستثناء المسألة التي تجرّم كبار الصحابة وعلى رأسهم الخليفتين أبي بكر وعمر. فهي العقبة الكوؤد التي تجعل من السنة يخشون التعامل مع الشيعة لقداسة الموقف. فلو كان أهل السنة نواصب يكيدون لأهل البيت العداء واللعن لما وجدنا شيعياً يتقبل مدّ يد التقارب إليهم، بل لرأينا الفتاوى تنهال عليهم بالتكفير والتضليل وربما القتل أيضاً كما هو معلوم من الفتاوى المسلّم بها سلفاً.
ولدى الشخصيات المتطرفة تزداد قائمة مبررات التكفير، مثل عدد من تلك التي عرضناها قبل قليل، وشاهد إبن تيمية في دمغ الشيعة وغيرها بهذه الوصمة ليس ببعيد، وقد اعتمد عليها المكفرون أو ذوو الإعتقاد القاتل.. فكما يعدد مبررات التكفير ضمن نصه الشهير الذي ورد ذكره في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) فيقول: إن من يزعم «أن علياً إله أو انه كان هو النبي وانما غلّط جبريل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم ان القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم ان له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم».. ومثل ذلك من زعم ان الصحابة «ارتدوا بعد رسول الله إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو انهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره، فانه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة ان نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وان هذه الأمة التي هي ((كنتم خير أمة أُخرجت للناس)) وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً ومضمونها ان هذه الأمة شر الأمم وان سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فانه يتبين انه زنديق، وعامة الزنادقة انما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بان وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح ابو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الاثم والعقاب»[1].
ويتضمن هذا النص التكفير لقضايا لا تستوجبه، بل حتى لو كانت مترتبات هذه القضايا تفضي إلى الكفر كما يحاول النص ابرازها فإن ذلك لا يستدعي التكفير للقاعدة الشهيرة (لازم المذهب ليس بمذهب). فالطعن في الصحابة وتكفيرهم ومثله القول بتحريف القرآن الكريم كثيراً ما يأتي لدواع دينية صرفة، فكيف يتهم من يلجأ إلى هذه الدواعي بتكفيره فيها، ففي ذلك تناقض واضح، فقد عُرف الخوارج بأنهم أولى الفرق المكفرة لبعض الصحابة، لكن تكفيرهم كان لدواع دينية، فهم من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف يُكفّرون في الإيمان الذي يدينون به وينتصرون إليه؟
على ذلك فإن تكفير الصحابة أو تضليلهم، ومثل ذلك القول بتحريف القرآن وان هناك مؤامرة شارك فيها جمع من الصحابة لنيل الزعامة.. ان هذه الآراء هي آراء دينية خالصة وليست زندقة، رغم إعتقادنا الكامل ببطلانها وان من مترتباتها الفساد والمفارقات فضلاً عن انها دعوى كثيراً ما يستغلها العلمانيون الذين يستدلون على فشل الدين وزيفه. لكن كل ذلك يدل على الخطأ والبطلان لا التكفيرالمخرج من الملة، وإلا فالتكفير سيفضي إلى التناقض ذاته.
وعلى خلاف ظاهر النص السابق نجد في كتب إبن تيمية المتأخرة دلالات لا تحصى على صحة إسلام أصحاب البدع كالإمامية وما اليها، حتى انه أجاز الصلاة خلفهم، ومما قاله بهذا الصدد كما في (منهاج السنة): «إن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطناً وظاهراً ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم»[2].. وقال أيضاً في (مجموع الفتوى): «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين ـ من الرافضة والجهمية وغيرهم ـ إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً»[3].
والخلاف الحاصل بين النص المذكور في (الصارم المسلول) وبين سائر كتب إبن تيمية قد يجد له حلاً عبر ما أشار إليه الأخير في مناسبات عديدة من الفارق بين الحكم بتكفير المطلق وتكفير المعين، وان احدهما لا يستلزم الاخر، فقد يوصف كل من يفعل شيئاً دالاً على الكفر بانه كافر، لكن ذلك لا يقتضي تكفير شخص معين يفعل ذلك الشيء بالضرورة، إذ هناك شروط للتكفير وموانع قد تصدق في حق الشخص أو الجماعة المعينة. وعادة ما يورد اختلاف النقل حول موقف بعض رجالات السلف من أصحاب البدع، ومن ذلك ما ينقل عن الإمام أحمد بن حنبل في تكفير أهل البدع مطلقاً على روايتين، ومثل ذلك في قتل المقدور منهم، وفي تخليدهم في النار.
وقال إبن تيمية بهذا الصدد: «وحقيقة الأمر: إنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا: من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع..»[4].
وينطبق ما سبق ذكره على التخليد في النار، فهو اشار إلى ان للعلماء قولين مشهورين «وهما روايتان عن أحمد. والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم. والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً. وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه. فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في (قاعدة التكفير)». ومما استشهد به على ذلك ما جاء في رواية من «إن رجلاً كان يشرب الخمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتي به إليه جلده الحد فأتي به إليه مرة فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر وشهد له بأنه يحب الله ورسوله مع لعنة شارب الخمر عموماً»[5].
كذلك قرر بان قتـل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم هو أيضاً فيه قـولان للفقهاء، هما روايتان عـن الإمام أحمد. وعلى رأيه أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك ممن فيه فساد. واستشهد عليه ببعض الروايات النبوية وسيرة بعض الخلفاء الراشدين.
ومما يلاحظ على طريقة إبن تيمية هو انه كان شديد المؤاخذة والتحامل على من يصفهم بالرافضة، وهم بحسب تصنيفه ثلاث فرق أو اصناف: المغالون والإمامية والزيدية. لذلك يصفهم بأقذع الأوصاف والنعوت، حتى يخيل للقارئ بأنها ماهيات ثابتة لا تتغير، الأمر الذي نجده في قراءات السلفية المعاصرة اليوم نتيجة هذه التحديدات الثابتة، سواء على مستوى الإعتقاد أو السلوك والاحوال النفسية، رغم اختلاف العقائد بين رجال الإمامية انفسهم، وأحياناً تطورها عبر الزمن، كما في بعض القضايا المتهمين فيها، ومنها مسألة القول بتحريف القرآن، فهي من المسائل التي اختلف حولها قدماء الإمامية وقد تطور الحال اليوم إلى اننا من الصعب ان نجد عالماً يلتزم بها غير الاخبارية، وهي من الفرق التي تكاد تنقرض. ومع ذلك يتداول السلفية اليوم مسألة التحريف لدى الشيعة كثوابت، وأحياناً يُتهمون بحملهم لقرآن غير هذا المتعارف لدى المسلمين كافة.. كذلك مسألة عصمة الأئمة فهي أيضاً كانت من المسائل الإعتقادية المختلف حولها لدى الشيعة القدماء، وقد يكون التيار الاقوى آنذاك هو من يميل إلى عدم العصمة، ثم انقلب الحال فيما بعد.. ومع هذا فكثيراً ما يُدمغ الشيعة بمثل هذه المعتقدات وكأنها من لوازم المذهب الثابتة والأصول الراسخة، حتى ان إبن تيمية نفسه يرى ان القول بعصمة الأئمة هو من أصول هذا المذهب، وهو خلاف الواقع[6]. وذات الشيء يجري فيما يخص عقائد أهل السنة من وجهة نظر الكثير من الشيعة. وعادة ما تتبادل الأطراف المتنازعة اتهام بعضها للبعض الآخر من دون تحقيق علمي صادق ومحاولة تفهم ما يقوله الطرف المقابل.
وشخصياً كثيراً ما كنت أتعرض إلى أسئلة عند زياراتي لبلاد المغرب حول صحة ان يكون للشيعة قرآن آخر غير هذا المتداول بين المسلمين؟ وحول اعتبار ضريح الحسين قبلة يتوجه اليها الناس للطواف والصلاة على نحو التعيين؟ وانهم يعبدون الحجارة عبر السجود عليها، بل ويرددون خان الأمين ثلاث مرات عند الانتهاء من الصلاة؟.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي أسمعها - وأصبحت مألوفة لدي - حتى من بعض اساتذة الدراسات الإسلامية والعربية في الجامعات.
هذا من جهة الإعتقاد، أما من جهة الأحوال النفسية والسلوكية فقد وصف إبن تيمية الرافضة بأبشع الأوصاف وأسوء الأحوال مقارنة ببقية المذاهب، وظل هذا الوصف يتابعه السلفية كثوابت وماهيات من دون تحقيق، بل ومن دون لحاظ الاختلاف وسنة الله في خلقه من وجود الخير والشر والحسن والقبح لدى كل فرقة وشعب وملة وقومية، وانه لا ضرورة تقتضي دون تطور الامم وأحوالها ومذاهبها. فهو يصف الرافضة بأوصاف مطلقة من الكذب والجبن والغدر والاستعانة بالكفار على المسلمين، ويستشهد على ذلك بما فعلوه خلال عصره من الجرائم والاستعانة بالعدو والكفار على المسلمين[7]. كما يخصص للإمامية مثل هذه الأوصاف المطلقة فيرى فيهم ان الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة[8]. وهو يعمم صفة الجهل على الإمامية فيراهم كما في مقدمة منهاج السنة «من أكذب الناس في النقليات ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الأضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات، فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية وتارة يتبعون المجسمة والجبرية وهم من أجل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين»[9]..
كما يكرر هذا التحامل ويصف الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها «ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم؛ لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم.. وهؤلاء كفّروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم»[10].
وحقيقة الأمر إن مختلف المذاهب وليس فقط الرافضة والشيعة من سلك مسلك التضليل والتكفير. فجميع المذاهب المعروفة استندت إلى حديث الفرقة الناجية وضللت جميع الفرق دونها، كما كفرت بعضاً منها. فالتضليل والتكفير كان ديدن المذاهب ولا يختص بالشيعة، وهم من الناحية العملية يتعاملون مع الآخرين من موقع التضليل لا التكفير المخرج من الملة، وكثيراً ما يميزون بينهم وبين غيرهم عبر التمييز بين الايمان والإسلام، بل إن هذا التمييز جار حتى في وسط من ينتمون إلى المذهب، فالذي لا يلتزم بالفرائض الدينية لا يعتبر مؤمناً حتى ولو كان من المعتقدين الموالين لأهل البيت تماماً. وفي الوسط الشيعي تجد منهم المتطرف ذا اللهجة الغليظة والمكفرة كما تجد المعتدل لا سيما في أيامنا الحالية. فمن المتطرفين ما ذهب إليه الشيخ محمد حسن النجفي قبل حوالي قرن ونصف في كتابه الشهير (جواهر الكلام) والذي يتخرج عليه العلماء والمجتهدون، بجعل أهل السنة أشر من النصارى وأنجس من الكلاب... وكما قال: إن هجاء المخالفين (أهل السنة) على رؤوس الأشهاد هو «من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية، وأولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها في جميع الأعصار والأمصار علمائهم وأعوامهم، حتى ملأوا القراطيس منها، بل هي عندهم من أفضل الطاعات، وأكمل القربات فلا غرابة في دعوى تحصيل الإجماع، كما عن بعضهم، بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات، فضلاً عن القطعيات.. لكن لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النصوص، بل تواترت من لعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم وانهم مجوس هذه الأمة، وأشر من النصارى وأنجس من الكلاب». وهو في معرض ردّه على بعض العلماء المعتدلين من الشيعة أردف قائلاً: «وكيف يتصور الأخوّة بين المؤمن والمخالف، بعد تواتر الروايات وتظافر الآيات، في وجوب معاداتهم، والبراءة منهم.. وما أبعد ما بينه وبين الخواجه نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم ممن يرى قتلهم، ونحوه من أحوال الكفار، حتى وقع منهم ما وقع في بغداد ونواحيها.. إذ لا أقل من أن يكون جواز غيبتهم لتجاهرهم بالفسق، فإن ما هم عليه أعظم أنواع الفسق بل الكفر، وإن عوملوا معاملة المسلمين في بعض الأحكام للضرورة»[11].
ولهذا الرأي نظير لدى المتطرفين في الوسط السني، فمنهم من يعتبر الشيعة أشر من اليهود والنصارى.. والعجيب إن هذه الماهيات غير واردة في الواقع، فليس اليهود ولا النصارى بأشرار، ولا المسلمين أيضاً، بل نجد الأشرار والأخيار في جميع هذه الملل ولدى كافة الأعراق والأوطان.. وهي من سنن الله في خلقه، لذلك كان القرآن الكريم لا يتقبل ادعاء الدين الناجي والفرقة الناجية، فهو يعترض على من يزعم من اليهود والنصارى بأنهم الناجون دون غيرهم، مثلما يعترض على جهلة المسلمين بذات المعيار، وهو قوله تعالى: ((وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا مَنْ كَانَ هُودًا أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ))[12]. فمعيار النجاة هو الايمان بالله والعمل الصالح، وان أكرم الناس عند الله اتقاهم من دون فرق بين مسلم وغيره، كما هو واضح مما جاء في العديد من الايات الكريمة[13].
أتذكر في وقت الشباب أنه زارني صديقان مخلصان من مشايخ لبنان وكنت مقيماً في مدينة قم الايرانية، وقد دار الحديث حول المذاهب الإسلامية، فقال أحدهما – وقد توفي رحمه الله تعالى بحادث طائرة منذ سنوات – انه يجزم بأن ليس هناك مخلص واحد وسط أهل السنة جميعاً. وكأنه اعتبر ذلك خلافاً لعدالة الله تعالى في جعل الإخلاص منحصراً لدى الإمامية الاثنى عشرية باعتبارها الفرقة الناجية حسب إعتقاده. وحينها لم أتقبل منه هذا الرأي واعتبرته خلاف الواقع الباين وضوح الشمس للعيان، وأيدني في ذلك الشيخ الآخر، وهو من الذين ينهجون اليوم منهج التقريب بين المذاهب، حفظه الله تعالى ووفقه لما يصبو إليه.
لذا فما ينقصنا هو الانصاف وتفهّم ما لدى المقابل مع احترام الرأي وعدم التجريح والمساس بالآخر قدر المستطاع، فمثل هذه الأمور هي ما تحدد قيمة المرء دون دينه وعرقه وطائفته.
ففي كل طائفة وفرقة ودين تجد من يتصف بالغلظة والشدة والطبائع النفسية الحادة، وانه لا يفهم من الحياة إلا ما يضيق، ومن ذلك تضييق النصوص، وهم يشكلون بهذا التماهي إتجاهاً واحداً وإن توزع بين الفرق والطوائف والأديان. وفي قبال هؤلاء تجد من يتصف باللين والانشراح والانفتاح رغم تفرقهم بين الأديان والطوائف. والفارق بينهما هو ان فئات الإتجاه الأول تتصف بأعظم حالات العداء والكراهية فيما بينها، فهي تشكل أقطاباً متنافرة حتى وإن اتحدت مواقفها ازاء الكثير من قضايا الواقع كما يحصل أحياناً، بل وحتى وإن تظللت تحت سقف عقيدة مشتركة أساسية. ويعود أصل التنافر العميق فيما بينها إلى ذات الخصائص والصفات المشتركة، فما تكنّه من عداء لدى بعضها البعض يفوق بكثير مما تكنّه للأطراف الأخرى. في حين تتصف فئات الاتجاه الثاني بالانفتاح والتعاطف والتفاهم حتى وإن بدا الخلاف فيما بينها عميقاً، وهو ما لا يحصل بين المتسامح والمتشدد ضمن الطائفة الواحدة.
وتشكل فئات الاتجاه الأول ما يصطلح عليه بالطائفية، وهي تستند إلى مسلّمة تفترض ان المذاهب الدينية ماهيات ثابتة، وان أتباعها كيانات لا تتقبل تغير المعتقدات. وهي مسلمة خاطئة تكذّبها الاختلافات الواسعة والمتحولة بفعل حركة الواقع لدى كل مذهب على مر العصور. بل وتكذّبها ظاهرة التنافس بين قبول الآخر واقصائه لدى كل مذهب.
وكتجربة خيالية، من الممكن تصور نتيجة ما سيحدث حين نجمع من المتطرفين الاقصائيين واحداً لكل مذهب من المذاهب الدينية في العالم ونضع بيده سلاحاً قاتلاً في صالة مقفلة، ونفس الشيء نفعل مع المعتدلين.. حيث النتيجة واضحة، ففي صالة الاقصائيين سيعمل الكل على قتل الكل بخلاف صالة المعتدلين. وهي تجربة إن دلت على شيء؛ فإنها تدل على ان الطائفية غير صالحة للحياة، سواء من حيث المسلّمة الخاطئة التي تستند إليها، أو من حيث النتيجة التي تسفر عنها.
وغالباً ما يأتي التأثير على عامة الناس من قبل أولئك المتشددين دون المعتدلين، فالاتجاه الأول يمارس الضغط النفسي على الناس، فيما يمارس المعتدلون الضغط العقلي، وهو أصعب وأقل فاعلية على الأتباع من الأول. لذلك نجد المعتدلين في الوسط السني والشيعي ليس لهم ذلك التأثير على الأتباع في قبال شحن المتطرفين، لا سيما وسط الضجيج والعراك الطائفي المتسع مع تطور وسائل الاتصال الاعلامي باضطراد.
لا شك ان لغة إبن تيمية تعود إلى هذا الوسط المتطرف، وقد شجعته على ذلك الظروف الصعبة التي عاصرها رغم عمق اخلاصه وتدينه. وقد حاول ان يظهر بمظهر آخر في بعض كلماته في (منهاج السنة)، إذ اعتبر أهل السنة هم الوحيدين المنصفين الذين لا يظلمون المخالفين ولا يكفرونهم، فعلى حد قوله: ان أهل السنة (ويقصد بهم الاتجاه السلفي بالذات) يستعملون مع المخالفين «العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض. والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين.. وأهل السنة نقاوة المسلمين فهم خير الناس للناس»[14].
لكن هذا النص لا يعكس الروح العامة لدى كتب إبن تيمية بما في ذلك كتابه الذي يتضمن هذه الاشارة المضيئة، فعباراته ونقوله عن السلف مليئة بالحدة والغلظة وحتى التكفير، ولو بصيغة المطلق، حتى شكلت علامات فارقة مقارنة بأغلب المذاهب الأخرى. وكان لذلك من التبعات ما لم نره لدى سائر المذاهب كالأشاعرة مثلاً.
وكثير من الأحيان نتفهم حال الغلظة عندما يكون الأمر متعلقاً بمس المقدسات كرد فعل متطرف على الشيعة نتيجة طعنهم الجذري في كبار الصحابة وأمهات المؤمنين.. وما زالت الساحة اليوم ساخنة بهذين النحوين من التطرف، ويتحمل العلماء الساكتون قسطاً كبيراً من المسؤولية لعدم إدانة التجريح والجرائم التي يرتكبها اتباعهم من نفس المذهب.
لا شك ان للفتاوى المكفرة، كتلك التي عرضناها سابقاً، علاقة وطيدة بالفتوى القاتلة المعاصرة، فقد تطور الحال من فتاوى التفريق بين كفر المطلق وكفر المعين إلى فتاوى الإبادة والتكفير الشمولي لدى الكثير من الشباب السلفي والشيوخ، وهو ما سيولد ردود فعل مماثلة. وأصبحت الأمة بهذه الأفعال شرّ أمة كرهها الناس بعدما كانت خير أمة أُخرجت للناس. ومع ان الله تعالى أراد لها أن تكون أمة الإسلام والسلام بحق؛ فاذا بها تنقلب إلى أمة الكفر والحرابة بتكفير وقتل بعضها للبعض الآخر.
لقد أصبح القاتل المعاصر يبني تكفيره على طوائف بعينها ولا يفرق بين شرائح الطائفة الواحدة، والكل محكوم عليه بالقتل والموت.. وبالتالي ففتوى القاتل المعاصر هي تطوير لفتوى إبن تيمية وتجاوز لها في الوقت ذاته، رغم ما آل إليه الأخير من عدم تكفير أحد من أهل القبلة كما نقل عنه تلميذه الحافظ الذهبي عند اطلاعه على ما قاله الأشعري في أواخر حياته.
فقد قال الذهبي: «رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليّ أني لا أكفر [ أحداً ] من أهل القبلة; لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا إبن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم»[15].
وعلى شاكلة هذه الاضاءة جاء في هامش الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني (طبعة حيدر آباد، ج2، ص72) ما لفظه بخط السخاوي: «قال لي شيخنا تغمده الله برحمته - إبن حجر -: انه بلغه ان إبن المطهر (الحلي) لما حج اجتمع هو وابن تيمية وتذاكرا، واعجب إبن تيمية كلامه، فقال له: من تكون يا هذا؟ فقال: الذي تسميه إبن المنجس، فحصل بينهما أُنس ومباسطة»[16].
ومعلوم إن إبن تيمية كتب كتابه (منهاج السنة) للرد على كتاب إبن المطهر الحلي (منهاج الكرامة)، ووصفه في مقدمة كتابه بالنجاسة بدل الطهارة. لذلك عرّض به الحلي بحسب النص الآنف الذكر.
***
لا شك إن الآلية المعتمدة للوصول إلى نتائج الإعتقاد القاتل هي آلية الفهم البسيط، لكن جذورها لم تكن بسيطة. فهي تقوم على نوعين من الركائز، أحدهما يعود إلى التفكير البياني، فيما يعود الآخر إلى مجمل التفكير الإسلامي، وكلاهما يحظى بأهمية بالغة، ويتقاسمان وزر مسؤولية ما يحصل اليوم من جرائم إعتقادية على أرض الواقع. وهو ما سنعرضه كالتالي..
1ـ مسؤولية النهج البياني
لنبدأ أولاً بالركائز البيانية، فالتفكير البياني هو تفكير قائم على تتبع النصوص الدينية مع تجنب المصادر المعرفية الأخرى التي يمكن ان تؤدي دورها في التأثير على النتائج، كالمصدر العقلي وما إليه. وهو ما يمارسه الفقهاء بجدارة، حيث يحتكمون إلى النصوص الدينية ويوازنون فيما بينها عند التعارض والجمع، وقد يرجحون بعضها على البعض الآخر وفقاً لعدد من القواعد الأصولية. والبحث الذي يقوم بالدور المذكور من الكفاءة العلمية يعتبر داخلاً ضمن عملية الاجتهاد. ولا يسمح عادة لكل فرد ان يمارس هذا الدور ما لم يكن ضليعاً بمثل هذا التنقيب والبحث والدراية والعلم بالأصول وكيفية الموازنة بين النصوص أو الأدلة المتعارضة. فهذه كانت طريقة الفقهاء، وهم يشددون على ان الفتوى أمر خطير للغاية لا ينبغي الاقتراب منها إلا لمن له صلاحية علمية ودينية من الإيمان والتقوى.
لكن مشكلة هذا التفكير هي بسط النصوص واسقاطها على واقع مغاير، وهو الجانب المتعلق بالاجتهاد في الموضوع إن كان ينطبق عليه حكم النص أم لا؟. فلم يولِ الفقهاء هذا الجانب عناية من البحث، لإعتقادهم ان تحديد الموضوع يتعين بالنص أو العرف الخاص بزمن الرسالة، وهو ثابت لا يتغير. وكما يرى بعض الفقهاء من أمثال الشاطبي ان الشريعة ثابتة لثبات العوائد الوجودية التي تتعلق بها الأحكام غالباً[17]. وهذه هي نقطة ضعف الطريقة الفقهية، إذ لم يدرجوا ضمن عناصر الموضوع سياق الأحوال والظروف الملابسة له، وانما أخذوه على إطلاقه في الغالب. وبالتالي فقد تعامل الفقهاء مع الأحكام في علاقتها بالموضوعات وفقاً للنهج الماهوي أو التعبدي، إذ افترضوا ان موضوعات الأحكام منقطعة عن ملابسات الواقع وأحواله، ومن ثم كانت الأحكام ثابتة مع ثبات هذه الموضوعات. كما انها بحسب النهج البياني واضحة ومفصلة، الأمر الذي دعا إلى خلق ثقافة ما سميناه (الفوضى الاستنباطية) وخطابات التكفير والشحن والتضليل.
وفي موضوعنا المطروح يفتش الفقيه عن عناصر موضوع الكفر والشرك الأساسية وهي منزوعة عن الواقع الخاص بعصر النبوة وفق النهج الماهوي التعبدي، ومن ثم يجد ما يماثلها لدى الفرق الإسلامية فيطبق حكم التكفير عليها بشكل أو بآخر. فهو يستنسخ أحكام النص معزولة عن سياقاتها الخاصة ويطبقها على واقع مغاير تماماً. وقد روي انه سئل نافع: كيف كان رأي إبن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين[18].
ومع أننا نجد في نزعة التمييز بين تكفير المطلق وتكفير المعين شكلاً مخففاً للحكم، إذ يبدي هذا الحال انه يراعي طبيعة ما عليه الواقع، إلا ان طبيعة الموضوع وحساسيته يجعل منه فكراً يجانب الصواب، فخطورته تنبع من الوسط الذي يتعامل معه. وقد كان إبن تيمية يورد هذا المعنى وهو بصدد الطعن في بعض المذاهب الإسلامية دون ايراده بإطلاق وبمعزل عن كل فئة ودين. وبالتالي فإذا كان الأصل هو التكفير، فإن من التناقض والخطأ عندما يطبق على المسلمين، وكان يمكن ان يكون له معنى فيما لو طبق على أقوام ظاهرهم يتميز بالشرك والكفر، فيكون الحكم بتكفير المطلق مع لحاظ حالات الموانع في التعيين، ومن ثم فعندما تطبق هذه القاعدة على الطوائف الإسلامية يكون الخطأ في الحكم على المطلق باعتبار ان المسألة اصبحت مجردة عن واقع الحال، وهو واقع يشهد بالإسلام جملة وتفصيلاً فكيف يطبّق عليهم ما هو نقيض ذلك تماماً؟!
صحيح ان المشرع الديني قد يفعل هذا الشيء من التمييز لدواع تربوية للجماعة الإسلامية، أو لتعاليه على جميع الفرق والجماعات، أو لكون الطرح الوارد فيه هو طرح غير ممنطق كالذي كشفنا عنه ضمن الجزء الأول من حلقة (النظام الواقعي)، لكن كل هذه الخصائص لا تنطبق على حال أصحاب التمييز. فهم خلافاً للخطاب الديني يتصفون بالتمنطق، كما انهم ليسوا متعالين على غيرهم من الفرق والمذاهب، يضاف إلى ان القاعدة المذكورة موضوعة ليس للجماعة التي يتزعمونها ليكون مفعولها تربوياً، بل مطروحة للجماعات المقابلة، ومن ذلك يستشهد إبن تيمية بما ينقل عن الامام احمد بن حنبل وغيره حول تكفير بعض المذاهب الإسلامية ويأول المنقول وفق قاعدة التمييز المذكورة.
لذا كان الأولى ان تتبدل قاعدة التكفير الآنفة الذكر إلى الأسلمة، وهي ان يجرى التمييز بين أسلمة المطلق وأسلمة المعين عوض التكفير، أو ان الأصل هو الإسلام والمحبة والتعاون لا الكفر والكره والعداء.
فقد نعبر عن ظاهرة لا تخلو من الشرك وسط ممارسات المسلمين بتعبيرين يختلفان في المعنى تمام الاختلاف، مثل ان نقول حول التعلق بالأسباب غير الطبيعية: (إن من استغاث بغير الله مشرك)، وان نقول: (إن الاستغاثة بغير الله لا تخلو من الشرك). فالعبارة الأولى تحكم على الناس بالشرك حتى لو كانوا مسلمين، بغض النظر عن الحكم على المعين، في حين إن العبارة الثانية لا تحكم على الناس بالشرك بإطلاق، فلو كان المستغيث مسلماً بشهادته وتقربه إلى الله لما صح أن ينطبق عليه القول الأول، ولكان يعتبر من المأولين وإن تضمن الفعل للشرك. وبحسب القول الأول يكون المستغيث المسلم بغير الله مشركاً من حيث الأصل، لكن قد يرفع عنه هذا الوصف بنوع من التأويل، وهو التمييز بين شرك المطلق وشرك المعين. فهنا إن الخطأ يرد في التزام القول الأول كما لجأت اليه السلفية، فافضى الحال اليوم إلى تكفير بعض المذاهب المقابلة بالتعيين لدى العديد من هذه الجماعات.
فهذه هي نتيجة فتح باب الشبهة في حق الآخرين من المسلمين المتأولين، فلسان حالهم يقول: هل كانت ممارساتهم وأحوالهم تدل على الشرك والكفر المتعين أم لا؟ بعد أن ثبت لديهم شرك وكفر المطلق أو العام. فخطورة هذا الموقف تأتي عند تطبيق المنهج المذكور على أمور حساسة كالشرك أو الكفر مثلاً.
وزاد في الطين بلّة فيما نراه اليوم من فوضى الفتاوى التي لم تتقيد بالشروط العلمية الكافية، فهي وإن انتمت إلى النهج البياني؛ لكنها بيانية مخلة إلى غاية الحدود، الأمر الذي ينطبق على فتاوى من يحملون الإعتقاد القاتل. فهي ممارسات بيانية تتميز بعدد من الركائز المخلة، كما يتضح من خلال هاتين النقطتين:
أـ عدم الكفاءة العلمية: فالذين يحملون الإعتقاد القاتل هم من الشباب الذين اصيبوا بهوس الفوضى الفتوائية أو الاستنباطية لكثرة ما يختلفون حولها من دون ضوابط سوى القول العام بالرجوع إلى الكتاب والسنة والسلف الصالح. فهم لم يتدربوا على النضج العلمي، فيكفيهم في ذلك الاعتماد على نصوص معينة للاقرار بالفتوى ومن ثم تنزيلها على واقع مغاير أشد التغاير عما كان عليه في الماضي. فيمكن لكل مسلم قليل التحصيل ان يصل إلى ما يريده في الكتاب والسنة من دون عناء، وقد يدعم ما يريده الاستشهاد بقوله تعالى: ((هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى)) (آل عمران\138).. ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ)) (النحل\89). وكثيراً ما تُستغل حال الاجتهادات التي تفضي إلى خلاف الشرع أو الكتاب والسنة كما يُنقل ذلك عن بعض اتباع المذهب الحنفي في إتباعهم أقوال زعماء المذهب ولو كان على حساب ظاهر النصوص من الكتاب والسنة.
مع انه ينقل - في القبال - عن بعض السلف ان تحقيق الشروط العلمية للفتوى هو في غاية الصعوبة، إذ يشترط البعض على المفتي ان يكون حافظاً لمئات الآلاف من الروايات. ومن ذلك سئل إبن معين: أيفتي الرجل من مائة ألف حديث؟ قال: لا، وتكرر السؤال: من مائتي ألف.. من ثلاثمائة ألف؟ قال لا، فسئل: من خمسمائة ألف؟ فقال: أرجو[19].
ب - إنتقاء النصوص: حيث الاكتفاء بالتعويل على ظواهر بعض النصوص دون البعض الاخر، خلافاً لطريقة الفقهاء. وكثيراً ما يمارس الكلاميون مثل هذا النهج في القضايا الإعتقادية اعتماداً على النهج العقلي، فأصبحت الإعتقادات مرتعاً لتوارد الخاصة والعامة، العلماء والدهماء، فالكل يمارس ذات الدور، وهو الاعتماد على نوع من الأدلة وترك ما يقابلها، سوى ان الفارق بين الفريقين هو ان العلماء يمكنهم تناول الأدلة المعارضة والرد عليها واعتبارها من الشبهات، وهو ما لا يتمكن الدهماء من ان يفعلوا ازاءها شيئاً، فهم يكتفون بالادلة الاثباتية بمحاكاة العلماء وتقليدهم على نحو الاجمال.
وكثيراً ما يتقبل العلماء هذا الفعل الذي يقوم به الدهماء في القضايا الإعتقادية من الاستدلال بالمحاكاة والتقليد؛ لظنهم ان ذلك يكفي للتوصل إلى القطع واليقين، لكنهم لا يتقبلون ذلك منهم في القضايا الفقهية، فهم يدركون ان الفقه يحتاج إلى آلة الاجتهاد ولحاظ صور التعارض بين الأدلة ومن ثم القيام بالترجيح فيما بينها، وهو ما لا يمكن للدهماء فعله، رغم انه لا يمكنهم فعل ذلك أيضاً على مستوى الإعتقاد وعلم الكلام[20].
وبالتالي فالعمل القائم على الإنتقاء هو من خاصية الدهماء أو ذوي العلم الناقص، وهو الممارس اليوم لدى الصراع الطائفي، وعلى رأسهم أصحاب الإعتقاد القاتل.
2ـ مسؤولية التفكير الإسلامي وغياب الضمير الإنساني
يعتبر غياب الضمير الإنساني أهم العناصر التي يفتقر اليها مجمل التفكير الديني الإسلامي، سواء تعلق الأمر بالمنهج البياني أو بالمنهج العقلي المعياري. وهو يعبر عن غياب التفكير في الحق الإنساني واعتبارات التكريم التي تلوحه، وكونه أهلاً للاحترام والتقدير كإنسان وبغض النظر عن كل اعتبار آخر. فلا شيء يمكن ان يسقط عنه الاحترام والتقدير غير الجريمة الكبيرة في الفعل الذي يمارس ضد الآخرين.
لقد كان عدد من المستشرقين يتهمون الإسلام بانه خال من فكرة الضمير الاخلاقية كما تم تداولها لدى بعض الأوساط المسيحية. ومعلوم ان لدى هذه الأوساط مراكز للاعتراف الطوعي بالذنب والجريمة للتخفيف عن أزمة هذه الجوهرة المكنونة، وقد نشأت خلال القرن الثالث عشر الميلادي وما زال يُعمل بها حتى يومنا هذا. وكان البعض يستدل على غياب الضمير لدى الإسلام بخلو اللغة العربية وسائر اللغات الإسلامية الاخرى من كلمة تفي التعبير بدقة عما يُقصد من هذه اللفظة (الضمير). وهو خطأ أشرنا اليه في بعض الدراسات المستقلة[21].
إن الاعتراف بملكة الضمير يتطلب قبل كل شيء الاعتراف بقيمة العقل القيمي المستقل، ونجد هذه القيمة إما انها منكرة لدى المذاهب الإسلامية، أو انها معطلة الدور في العلاقة البشرية. فالعقل القيمي منحّى كلياً لدى مذهب الأشاعرة، الذي يعتبر اكبر المذاهب الإسلامية قاطبة، رغم ان فكرة مقاصد الشريعة ظهرت لدى أتباع هذا المذهب، وبحسب التحليل فإن هذا الموقف المزدوج هو موقف متناقض، بل إن وسيلة الاجتهاد والاعتماد على القياس لا حجة لهما بحسب هذا الموقف ما لم يكن التوصل اليهما بطريق قطعي من جهة الشرع، وهو أمر ليس بالسهل[22].
ويبقى ان الأصل الذي عول عليه الأشاعرة في نفي حجية العقل القيمي، كما يتمثل في التحسين والتقبيح، يمنع تبرير قبول فكرة الضمير الإنساني ما لم يتم الرجوع فيها إلى الشرع ذاته، وعادة ما يختلف الفقهاء والعلماء لدى لجوئهم إلى الاعتبارات الشرعية. وهي نقطة الضعف والثغرة التي لا تُسدد إلا عبر الاعتماد على العقل القيمي المستقل، ومنه يمكن انتزاع فكرة الضمير لتخفيف ما يرتكبه الإنسان المسلم من جرائم تتنفر منها النفوس وتستهجنها العقول.
ومع أن فكرة العقل القيمي المستقل كانت مورد اعتبار علماء الكلام خارج نطاق الأشاعرة ومن يشاركهم الرأي، إلا ان فاعليتها لم تكن ضمن دائرة الحقوق البشرية المستقلة، فالجانب الميتافيزيقي يغلب عليها، بل وحتى ان هذا العقل كان منتهكاً عند ممارسة السجالات الكلامية، فالمخالف في الإعتقاد لم يكن محترماً غالباً، وتبريرات هذا الفعل تستند إلى الرواية عادة، كرواية الفرقة الناجية وسط فرق الضلال. وفي المجال الفقهي ان الرواية رغم كونها ليست دراية فانها كفيلة بأن تحطم صخرة العقل وتجعله قشة في مهب الريح. وأول من نظّر لهذا الفعل في إبطال كل ما لا يعود إلى الشرع هو الشافعي عند تأسيسه لأصول الفقه، وكانت بصماته قوية لدى الفقهاء ممن جاؤا بعده، فالتعويل لدى الفقهاء في مختلف المذاهب قائم بشكل رئيسي على الرواية. ومن ثم فانها مرجحة على العقل القيمي المستقل، والشواهد على ذلك كثيرة، بل وان الرواية لدى الفقهاء الملتزمين بحجية مثل هذا العقل كافية لاقناعهم بأن لا حجية له في الأحكام بتاتاً[23]. وبالتالي من أين نأتي بمورد قوي للتراث لكي نثبت صلابة العقل القيمي المستقل ونؤسس عليه فكرة الضمير الإنساني؟.. فالأرض خصبة لأصحاب البيان سواء كانوا من أصحابه الفعليين، أو ممن ارتضوا الازدواجية في الجمع بين البيان والعقل، فلم ينفعهم الاعتماد على العقل شيئاً سوى ما يتعلق بالمجادلات الميتافيزيقية.
لقد كانت نظرية ترجيح العقل على النقل عند التعارض نظرية مهمة للغاية، فهي تتأسس من منطلق كون العقل محكماً وقطعياً خلافاً للنقل الذي يتصف بالتشابه والظن. لكن مع هذا فانها مصابة بداء المفارقة والتناقض، فالذين طرحوا هذه النظرية هم ذاتهم قد انقسموا أشد الانقسام حول الأصول العقلية التي يفترض ان تكون مشتركة وقطعية. وبالتالي لا بد من طرح آخر قائم على النواحي الوجدانية الواضحة بعيداً عن الجدل الكلامي القديم. فما يهمنا بالفعل هو تفعيل دور ضمير المسلم في التزام القضايا الإنسانية بشكل مستقل عن القضايا الشرعية، مثلما آلت اليه بعض الاتجاهات المسيحية، وعلى رأسها حركة لوثر الاصلاحية التي جعلت من الضمير حاكماً حتى على نص الكتاب المقدس.
فلا شيء يفوق العقل والضمير، والشرع ذاته بحاجة إليهما. ولو تخيلنا ان الشرع لا يعير أي اعتبار للعقل والضمير كيف يمكن التسليم بمثل هكذا شرع أو دين؟.. فهو واضح البطلان، إذ ما يحكم بصوابه وبطلانه انما العقل ذاته لا غير. فالشيء لا يمكنه ان يقيم ذاته بذاته باستثناء العقل من خلال الرجوع إلى الواضحات، وكل ما عدا ذلك انما يرجع اليها. وبالتالي فكل شرع ودين يتعارض مع الضمير الإنساني هو شرع باطل تماماً. وإعتقادنا بالإسلام كدين انما يأتي من منطلق كونه يدعم هذا الضمير لا ان يعارضه. ومع هذا لا نجعل الاستدلال بالشرع يتخذ الخطوة الرئيسة في الموضوع، باعتباره قد يطرح الخلافات الفقهية المعهودة رغم ركائزها الضعيفة، وكان الأولى الاعتماد على الواضحات العقلية قبل أي اعتبار آخر. ففكرة الضمير هنا تتبع ما عليه التأسيسات العقلية، وتتأسس عليها الإمضاءات الشرعية من دون عكس، فهي تابعة من هذه الناحية للوجدان العقلي أو لقضية الاخلاق العقلية برمتها.
وينبني على هذا الأساس ما نسميه (التدين الإنساني) القائم على الضمير والمحبة والقيم الإنسانية المشتركة، ويقابله (التدين العدواني) الذي يتقرب إلى الله تعالى باللعن والتضليل والتكفير والقتل، حتى ان فيه من يمارس التسبيح باللعن ويعتبره من أفضل العبادات، بل هو المنبع الأساس لما يسمى الارهاب. فالأخير يتغذى على هذا النمط من التدين، أو هو نتاج فعل طبيعي له، وبالتالي فالحاجة تقتضي ان تكون هناك ممانعة من تغلغل هذا التدين ومقارعته فكرياً، وإلا فمن العبث ان نقوم بمحاربة نتائجه (كالارهاب) وتبقى أسبابها تفعل بنا ما تشاء؛ إن لم نمارس بدورنا الدعم لهذه الأسباب بلا وعي؛ فنكون كالطابور الخامس أو الخلايا النائمة.
لكن ينبغي ان لا يكون النقد والمقاومة وفق ما يصاغ ضد المذهب المقابل فقط، ففي ذلك خلط للأوراق ما لا يحتاج إلى بيان، لا سيما ان هذا الحال حاصل لاعتبارات ايديولوجية. بل الصحيح هو العمل على نقد الذات، بل وجلدها أيضاً، وهو ان يقوم كل منا بواحد من هذين الدورين:
أ ـ نقد توجهات هذا النمط الخطير ضمن المذهب المتبع، فهو يلازمه تقريباً، وفضح جهله وألاعيبه، مع لوم أنفسنا على ما قصرنا فيه من الرضا بعقيدة فاسدة مكفرة ومضللة للعباد، إلى الدرجة التي أوهمتنا بأننا ننتمي إلى (شعب الله المختار) عبر مقالة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال[24].
ب ـ القيام بنقد ما يرد في المذهب المتبع وما يقابله لدى المذهب الآخر بإتزان وموضوعية، فكل ما نراه هناك نراه هنا، فالتدين العدواني متغلغل في هذا المذهب مثلما انه متغلغل في المذهب المقابل، ففي كل منهما تجد التضليل والتكفير للآخر، وكأن الله لم يهد سوى هذا المذهب المضلل والمكفر.
ولنقل ان التدين العدواني هو في حد ذاته مذهب مستشر لدى جميع المذاهب، وهو ذاته الذي يمنع من حضور ما يعارضه من التدين الإنساني. وعلى الصعيد التاريخي لا نجد للتدين الأخير تياراً معتداً به، بل هناك شخصيات متفرقة هنا وهناك، وأغلبهم ينتمي إلى دائرتي الفلسفة والصوفية. فتكاد آثاره تغيب وسط المذاهب الكثيرة التي يتحكم فيها التدين العدواني بلا منازع.
***
هذا ونشير الى وجود انماط عديدة اخرى للتدين لسنا بصدد ذكرها هنا، وقد استعرضناها في محل اخر، لكن ليس فيها ما يشكل خطورة على المجتمع كالتدين العدواني، مثلما ليس فيها ما يشكل صلاحاً للمجتمع كالتدين الانساني الذي تهزه مشاعر الضمير وقيم الاخلاق العامة.
[1] ابن تيمية: الصارم المسلول، عن شبكة المشكاة الالكترونية.
[2] ابن تيمية: منهاج السنة، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، 1406هـ، ج2، ص452، عن مكتبة المشكاة الالكترونية.
[3] مجموع فتاوى إبن تيمية، ج13، فصل فيمن خالف ما جاء به الرسول، عن مكتبة الموقع الالكتروني: www.4shared.com. وانظر أيضاً حول صحة الصلاة خلف المبتدع: نفس المصدر، ج23.
[4] مجموع فتاوى إبن تيمية، ج12، فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء.
[5] منهاج السنة، ج5، ص154.
[6] انظر حول ذلك كتابنا: مشكلة الحديث.
[7] منهاج السنة، ج5، ص154ـ157.
[8] المصدر السابق، ج2، ص301.
[9] نفس المصدر، ج1، ص8.
[10] نفس المصدر، ج5، ص160ـ161.
[11] محمد حسن النجفي: جواهر الكلام، دار احياء التراث العربي، ج22، ص61ـ62.
[12] البقرة/111ـ113.
[13] انظر حول ذلك جدلية الخطاب والواقع، دار افريقيا الشرق
[14] منهاج السنة، ج5، ص157ـ158.
[15] الذهبي: سير اعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة للنشر، 1422هـ ـ 2001م، ج15، الطبقة الثامنة عشر، ص88، فقرة تحت عنوان: الأشعري. انظر: http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=3088&idto=3088&bk_no=60&ID=2944.
[16] المولى أحمد الأردبيلي: مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الاذهان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة، قم، ج1، ص20ـ21، عن مكتبة السراج الالكترونية: http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/feqh/yasoob/books/htm1/m001/01/no0174.html.[17] الشاطبي: الموافقات، ج 2، ص284ـ285.
[18] القاسمي: محاسن التأويل، ج1، ص22.
[19] الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة 1525. وأبو الحسين بن أبي يعلى الحنبلي: طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، ج1، مادة: الحسن بن إسماعيل بن الربعي، ومادة: الحسين بن إسماعيل.
[20] للتفصيل انظر الفصل الاخير من: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.
[21] انظر: نقد العقل العربي في الميزان، دار افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2009م.
[22] انظر حول ذلك فهم الدين والواقع، دار افريقيا الشرق
[23] المصدر السابق
[24] للتفصيل حول مقالة الفرقة الناجية انظر: علم الطريقة، مؤسسة العارف، بيروت.