-
ع
+

الاعتقاد القاتل وغياب الضمير

يحيى محمد

كثيراً ما يتردد في الذهن سؤال مُلحّ: ما الذي يدفع إلى هذا القتل الجماعي الوحشي الذي لا يفرّق بين صغير وكبير، ولا بين امرأة ورجل، سوى الهوية والانتماء؟ ما الذي يُلجئ بعض المسلمين إلى التضحية بأنفسهم سعياً وراء حصد أكبر عدد ممكن من الأبرياء، من أرواح المسلمين وغيرهم، تحت دعوى الكفر أو الشرك أو عدم الإيمان وسائر المبررات الدينية؟

ما يعنينا هنا ليس الأسباب السياسية أو الأيديولوجية، بل الجذر المعرفي الذي يستند إليه القاتل والمحرّض في تبرير جرائم القتل النكراء بالحجة والدليل: فهل ثمة أصل ديني يُبرر مثل هذه الجرائم؟ وهل يجد الآمر والمفتي بالقتل سنداً نصياً يجيز له التحريض على القتل العقائدي؟ هذا هو موطن السؤال.

غالباً ما يُستدل على مشروعية هذا القتل بآيات وأحاديث مثل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾ (البقرة\ 193).. ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ﴾ (التوبة\ 5).. الخ.

فالدليل الذي يستند اليه المفتي القاتل هو دليل بياني نصي. فهو من النوع الذي يمارسه ويستدل به الفقهاء، لكن مع وجود فارق عظيم..

فالقاتل اليوم لا يمارس البحث الفقهي، وهو البحث الذي يترصد الدلالات المتعارضة ليقيم فيما بينها شيئاً من التوازن والترجيح فينتهي إلى نتيجة يظن فيها أن النصوص دالة عليها، انما يمارس القاتل نوعاً من الإنتقاء الدلالي، وما أسهل ما يجده في النصوص؛ سواء في الحديث أو القرآن. فهو لا يعنيه السياق، ولا يعير اهتماماً للنصوص والأدلة المتعارضة، ولا يعترف بشروط القتال أو ضوابطه الشرعية والزمانية والمكانية، بل يكتفي بنصوص محدودة يقتطعها من سياقها، فيحملها على يقين مطلق، ويتخذها مبرراً للقتل الأعمى.

وهنا تتجلى خطورة النهج البياني إذا فُهِمَ بمعزل عن أدوات التفسير والتوازن المقاصدي. فالنص وحده، إذا تُرِك فريسة لذهنية انتقائية متطرفة، يصبح أداة قتل لا بيان هداية.

وقد يقال: لماذا نجد الاعتقاد القاتل من دون أن نجد ما يقابله من الاعتقاد المسالم، وبالاسلوب والطريقة ذاتها المعتمدة على النصوص الدينية؟

والجواب هو ان واقعنا يشهد كلا النمطين من الاعتقاد – القاتل والمسالم -، وكلاهما يتوسل المنهج نفسه، أي الانتقاء الدلالي من النصوص، لكننا نغض الطرف عن تفكيك الاعتقاد المسالم، بل ونحتفي به أحياناً، فيما نعاني من آثار الاعتقاد القاتل لأنه يفضي إلى سفك الدماء وتمزيق المجتمعات، وإلا فكلاهما يجد لنفسه مستنداً في القرآن والحديث.

فالاعتقاد القاتل غالباً ما يكتفي ببعض الآيات التي يُفهم منها الأمر بقتل المشركين، ويعمم دلالتها على كل من يراهم مشركين أو خارجين عن الإيمان الصحيح، حتى وإن كانوا ضمن نفس المذهب.

وعادة ما يعمل هذا الاعتقاد بتكفير المخالفين ووصمهم بعبادة الأوثان، لا سيما حين يتعلق الأمر بزيارة قبور الأئمة والأولياء والصالحين، إذ تُعدّ في نظر أصحابه مظهراً من مظاهر الشرك الأكبر.

وأول ما يلجأ إليه القاتل هو عقد مقاربة بين أفعال المشركين الأولين - كما يصفهم النص القرآني - وأفعال بعض المسلمين اليوم، في التوسل أو طلب الحاجات من غير الله. وغالباً ما يلجأ في هذا الدليل إلى ما قرره ابن تيمية من عقيدة ملزمة يكفّر من خالفها، أو يضلل من أخلّ بها، وعلى رأسها عقيدة التوحيد وتقسيمه الثنائي: توحيد الالوهية وتوحيد الربوبية.

ونعتقد أن هناك مناخاً نفسياً يهيئ لارتكاب جريمة التكفير والقتل، وأيضاً انه يتخذ ذريعة معرفية لارتكاب هذه الجريمة وفقاً لبعض الإستنتاجات. وغالباً ما يكون هذا المناخ أشد أثراً من التبرير المعرفي الذي يُطرح لتسويغ الجريمة. بمعنى ان القاتل يبرر فعل الجريمة باستخدام الخطاب المعرفي كقناع يشرعن من خلاله أفعاله، وإن كانت دوافع القتل الحقيقية تعود إلى نوازع الكراهية والحقد النفسي، ومبرراتها متعلقة بالموقف من صحابة النبي الأكرم وأمهات المؤمنين كالذي يشهده عصرنا المضطرب اليوم.

وغالباً ما تنحصر الإشكالية بين السنة والشيعة في هذه المسألة تحديداً، دون أن تثير سائر الخلافات المذهبية ما يثيره هذا الموضوع من شحن واستفزاز. فالكثير من العقائد المختلف عليها يمكن إيجاد ما يعادلها لدى الطرف الآخر، أو لا تُعد في ذاتها مثار نزاع محتدم.

فمثلاً، ارتباط الشيعة بالأئمة والاعتقاد بعصمتهم وكراماتهم وعلومهم الغيبية يجد ما يقابله لدى صوفية السنة من كرامات الأولياء وعلومهم الباطنية.

كذلك فإن اتهام الشيعة بمقالة تحريف القرآن يبطله بأن أغلب المتأخرين وبعض المتقدمين لا يقرون التحريف، وانه لا يوجد للشيعة ما يتعبدون به من قرآن آخر غير هذا القرآن. ورغم وجود مصحف مخطوط محرّف وآيات محرّفة بحسب الروايات، ومثل ذلك ما يُذكر حول مصحف فاطمة، فانها جميعاً لم تؤثر على تعبد الشيعة بهذا القرآن وإبطال ما سواه، أو تأويل ما ورد حوله. كما في المقابل، إن لدى أهل السنة ما يؤكد بأن المصحف الرسمي للقرآن لا يمثل كل ما أُنزل من القرآن، وأن هناك روايات سنية تؤكد بأن كلمات الآيات وبعض السور فيها شيء من الفقدان والاختلاف مقارنة بما موجود في المصحف الرسمي.

كذلك فإن اتهام الشيعة بتأليه أئمتهم لا يصح على إطلاقه، فغالبية الشيعة يصرّحون بأن أئمتهم عباد مكرمون، مصطفون من الله، دون أن يضعوهم في مرتبة نبوة محمد (ص)، فضلاً عن الألوهية، وهو ما يمكن مقارنته بما يُنسب لبعض الاتجاهات الصوفية أو بعض الروايات التي تتحدث عن فضائل أبي بكر وعمر بعبارات فيها شيء من الغلو.

أما سائر المعتقدات مثل الرجعة والقول بولادة الإمام المهدي وغيبته حياً إلى يومنا الحالي، فهي لا تعدوا أن تكون مسائل نظرية لا تستفز الطرف المقابل، ولا تنعكس بشكل عملي على العلاقة بين الطوائف.

والأمر ذاته ينسحب على بعض الفروع الفقهية، مثل زواج المتعة، الذي لم يبتدعه الشيعة، بل هو مما ثبت في عهد النبي، ثم وقع الخلاف حول مشروعيته لاحقاً، بين قائلٍ بالتحريم وآخر باستمرارية الجواز، في ظل روايات متعارضة، كما في صحيح مسلم، بعضها ينسب التحريم للنبي، وبعضها للخليفة عمر. إضافة إلى أن لهذا الزواج ما يشابهه لدى بعض المذاهب السنية، مثل زواج المسيار مع بعض الفوارق. بل وثمة ما هو أسوء منه، كالزواج بنية الطلاق الذي أجازه جمهور الفقهاء رغم ما يترتب عليه من إشكالات أخلاقية وقانونية.

ونشير إلى أنه شاع في خضمّ الصراع المسلّح في سوريا، خبرٌ مثير للاشمئزاز نُسب إلى بعض الدعاة الطائفيين، مفاده إباحة نوعٍ مبتدع من الزواج عُرف بـ (نكاح المجاهدة)، وهو زواج لا أصل له في الشريعة، استُغلّ لتبرير ممارسات منحرفة تحت غطاء ديني زائف.

هكذا لو استقرأنا كل مسائل الخلاف بين الشيعة والسنة فسنجد أنها جميعاً قابلة للنقاش العلمي والحوار الهادئ دون أن تُفضي إلى الاستفزاز باستثناء المسألة التي تجرّم كبار الصحابة وعلى رأسهم الخليفتين أبي بكر وعمر. فهي العقبة الكأداء التي تجعل من جمهور السنة يخشون التعامل مع الشيعة لقداسة رموزهم، حيث تخلق حاجزاً نفسياً عميقاً يُعقّد إمكانية التفاهم. فلو عكسنا المسألة لكانت ردة الفعل ذاتها من الطرق الآخر. إذ لو كان أهل السنة نواصب يكيدون لأهل البيت العداء واللعن لما وجدنا شيعياً يتقبل مدّ يد التقارب إليهم، بل لرأينا الفتاوى تنهال عليهم بالتكفير والتضليل، وربما بالقتل أيضاً كما هو معلوم من الفتاوى المسلّم بها سلفاً.

وهذا يشير إلى أن جوهر الإشكال في العلاقة بين الطرفين غالباً ما يتمحور حول هذه المسألة، وليس غيرها من القضايا المذهبية التي يمكن الخوض فيها بعقلانية واتزان دون حواجز نفسية.

ولدى الشخصيات المتطرفة تزداد قائمة مبررات التكفير، مثل عدد من تلك التي عرضناها قبل قليل، وشاهد ابن تيمية في دمغ الشيعة وغيرها بهذه الوصمة ليس ببعيد، وقد اعتمد عليها المكفرون أو ذوو الاعتقاد القاتل. فهو قد عدّد مبررات التكفير ضمن نصه الشهير الوارد في كتابه (الصارم المسلول على شاتم الرسول)، حيث قال: إن من يزعم «أن علياً إله أو انه كان هو النبي وانما غلّط جبريل في الرسالة، فهذا لا شك في كفره، بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره. وكذلك من زعم منهم ان القرآن نقص منه آيات وكتمت، أو زعم ان له تأويلات باطنة تسقط الأعمال المشروعة ونحو ذلك، وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية ومنهم التناسخية، وهؤلاء لا خلاف في كفرهم».. ومثل ذلك من زعم ان الصحابة «ارتدوا بعد رسول الله إلا نفراً قليلاً لا يبلغون بضعة عشر نفساً، أو انهم فسقوا عامتهم، فهذا لا ريب أيضاً في كفره، فانه مكذب لما نصه القرآن في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم، بل من يشك في كفر مثل هذا فإن كفره متعين، فإن مضمون هذه المقالة ان نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وان هذه الأمة التي هي ﴿كنتم خير أمة أُخرجت للناس﴾ وخيرها هو القرن الأول كان عامتهم كفاراً أو فساقاً ومضمونها ان هذه الأمة شر الأمم وان سابقي هذه الأمة هم شرارها، وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام، ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فانه يتبين انه زنديق، وعامة الزنادقة انما يستترون بمذهبهم، وقد ظهرت لله فيهم مثلات، وتواتر النقل بان وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك، وممن صنف فيه الحافظ الصالح ابو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الاثم والعقاب»[1].

ويتضمن هذا النص التكفير لقضايا لا تستوجبه، بل حتى لو كانت مترتبات هذه القضايا تفضي إلى الكفر كما يحاول النص ابرازها؛ فإن ذلك لا يستدعي التكفير للقاعدة الشهيرة (لازم المذهب ليس بمذهب).

فالطعن في الصحابة وتكفيرهم، ومثله القول بتحريف القرآن الكريم، كثيراً ما يأتي لدواع دينية خالصة، فكيف يُحكم على من يستند إلى هذه الدواعي بالتكفير؟ ففي ذلك تناقض واضح، فقد عُرف الخوارج بأنهم أولى الفرق المكفرة لبعض الصحابة، لكن تكفيرهم كان لدواع دينية، فهم من أعبد الناس وأزهدهم، فكيف يُكفّرون في الإيمان الذي يدينون به وينتصرون له؟

وعلى هذا، فإن تكفير الصحابة أو تضليلهم، وكذا القول بتحريف القرآن، والاعتقاد بوجود مؤامرة شارك فيها بعض الصحابة للظفر بالزعامة، هي آراء تُطرح من منطلقات دينية وليست زندقة، رغم إيماننا التام ببطلانها وما يترتب عليها من مفاسد ومفارقات خطيرة. كما أنها كثيراً ما تُستغل من قِبل الاتجاهات العلمانية للطعن في الدين والتشكيك في حقانيته. غير أن كل ذلك لا يستوجب الحكم بالكفر المخرج من الملة، إذ أن التكفير في مثل هذا السياق سيفضي إلى التناقض ذاته.

وعلى خلاف ظاهر النص السابق نجد في كتب ابن تيمية المتأخرة دلالات لا تحصى على صحة إسلام ما يصفهم بأصحاب البدع، كالإمامية وما اليها، حتى انه أجاز الصلاة خلفهم، ومما قاله بهذا الصدد كما في (منهاج السنة): «إن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطناً وظاهراً ليسوا زنادقة منافقين لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم»[2].. وقال أيضاً في (مجموع الفتاوى): «وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين ـ من الرافضة والجهمية وغيرهم ـ إلى بلاد الكفار، فأسلم على يديه خلق كثير، وانتفعوا بذلك وصاروا مسلمين مبتدعين، وهو خير من أن يكونوا كفاراً»[3].

والخلاف الحاصل بين النص المذكور في (الصارم المسلول) وبين سائر كتب ابن تيمية، قد يجد له حلاً عبر ما أشار إليه الأخير في مناسبات عديدة من الفارق بين الحكم بتكفير المطلق وتكفير المعين، وان أحدهما لا يستلزم الآخر، فقد يوصف كل من يفعل شيئاً دالاً على الكفر بأنه كافر، لكن ذلك لا يقتضي تكفير شخص معين يفعل ذلك الشيء بالضرورة، إذ هناك شروط للتكفير وموانع قد تصدق في حق الشخص أو الجماعة المعينة.

وغالباً ما يُروى اختلاف في النقل عن موقف بعض أعلام السلف تجاه أهل البدع، ومن ذلك ما يُنقل عن الإمام أحمد بن حنبل من روايتين مختلفتين: إحداهما تفيد بتكفير أهل البدع مطلقاً، والأخرى بخلاف ذلك. وينسحب هذا الخلاف كذلك على حكم قتل المقدور منهم، وعلى القول بتخليدهم في النار.

وقال ابن تيمية بهذا الصدد: «وحقيقة الأمر‏:‏ إنهم أصابهم في ألفاظ العموم في كلام الأئمة ما أصاب الأولين في ألفاظ العموم في نصوص الشارع، كلما رأوهم قالوا‏:‏ من قال كذا فهو كافر، اعتقد المستمع أن هذا اللفظ شامل لكل من قاله، ولم يتدبروا أن التكفير له شروط وموانع قد تنتفي في حق المعين، وأن تكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين، إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع.‏.»[4]‏.‏

وينطبق ما سبق ذكره على التخليد في النار، فقد أشار إلى ان للعلماء قولين مشهورين «وهما روايتان عن أحمد‏.‏ والقولان فى الخوارج والمارقين من الحرورية والرافضة ونحوهم‏.‏ والصحيح أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر، وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضاً.‏ وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع، لكن تكفير الواحد المعين منهم والحكم بتخليده في النار، موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه‏.‏ فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والوعيد والتكفير والتفسيق ولا نحكم للمعين بدخوله فى ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له، وقد بسطت هذه القاعدة في ‏(‏قاعدة التكفير‏)»‏‏.‏ ومما استشهد به على ذلك ما جاء في رواية من «إن رجلاً كان يشرب الخمر وكان النبي صلى الله عليه وسلم كلما أتي به إليه جلده الحد فأتي به إليه مرة فلعنه رجل وقال ما أكثر ما يؤتى به النبي (ص) فقال لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله، فنهى عن لعن هذا المعين المدمن الذي يشرب الخمر وشهد له بأنه يحب الله ورسوله مع لعنة شارب الخمر عموماً»[5]‏.

كذلك قرر بان قتـل الواحد المقدور عليه من الخوارج كالحرورية والرافضة ونحوهم هو أيضاً فيه قـولان، وهما روايتان عـن الإمام أحمد‏.‏ وعلى رأيه أنه يجوز قتل الواحد منهم، كالداعية إلى مذهبه، ونحو ذلك ممن يحمل الفساد‏.‏ واستشهد عليه ببعض الروايات النبوية وسيرة بعض الخلفاء الراشدين.

ويلاحظ في طريقة ابن تيمية، هو انه كان شديد المؤاخذة والتحامل على من يصفهم بالرافضة، وهم بحسب تصنيفه ثلاث فرق أو أصناف: المغالون والإمامية والزيدية. لذلك يصفهم بأقذع الأوصاف والنعوت، حتى يخيل للقارئ بأنهم يشكلون ماهيات ثابتة لا تتغير، الأمر الذي نجده في قراءات السلفية المعاصرة اليوم نتيجة هذه التحديدات الثابتة، سواء على مستوى الاعتقاد أو السلوك والأحوال النفسية، رغم اختلاف العقائد بين رجال الإمامية أنفسهم، وأحياناً تطورها عبر الزمن، كما في بعض القضايا المتهمين فيها، ومنها مسألة القول بتحريف القرآن، فهي من المسائل التي اختلف حولها قدماء الإمامية، وقد تطور الحال اليوم إلى اننا من الصعب ان نجد عالماً يلتزم بها غير الاخبارية، وهي من الفرق التي تكاد تنقرض.

ومع ذلك لا تزال مسألة تحريف القرآن تُعدّ لدى كثير من السلفيين من الثوابت التي يُلصق بها مذهب الشيعة، بل يُتهمون أحياناً بحملهم لقرآن غير ما هو متعارف عليه بين سائر المسلمين. وكذا الحال في مسألة عصمة الأئمة، فهي أيضاً كانت من المسائل الاعتقادية المختلف حولها لدى الشيعة القدماء، وقد يكون التيار الأقوى آنذاك يميل إلى القول بعدم العصمة، ثم تبدّل الموقف لاحقاً حتى غلب الرأي القائل بها إلى يومنا هذا. ومع هذا التطور، فكثيراً ما يُدمغ الشيعة بمثل هذه المعتقدات وكأنها من لوازم المذهب الثابتة والأصول الراسخة التي لا تقبل النقاش، حتى ان ابن تيمية نفسه اعتبر القول بالعصمة من أصول مذهبهم، وهو خلاف ما تشهد به مراحل تطوره التاريخي[6]‏.

وليس هذا الحال مقصوراً على طرف دون آخر؛ فالكثير من الشيعة أيضاً يتناولون عقائد أهل السنة بذات النمط من الاتهام والتعميم والتأويل السلبي، وتكاد تتلاشى في هذا المناخ المشتعل فرص الإنصاف وبذور تفهم ما يراه الآخر. فبدل التحقيق العلمي الصادق، تسود ثقافة الاتهام المتبادل مع التضليل والتكفير أحياناً.

وكتجربة شخصية، سبق أن لمستُ مثل ذلك الأثر حين زرتُ بلاد المغرب خلال السنوات الماضية، حيث كنت أتلقى باستمرار أسئلة متكررة حتى من بعض أساتذة الجامعات المتخصصين في الدراسات الإسلامية، عن صحة ما يُشاع حول الشيعة، من قبيل: هل لديهم قرآن مختلف؟ هل يعتبرون ضريح الحسين قبلة يُطاف حولها؟ وهل يسجدون على الحجارة عبادةً لها؟ بل سألني بعضهم إن كان الشيعة يرددون «خان الأمين» ثلاث مرات عند ختام الصلاة؟!.. إلى غير ذلك من الأسئلة التي كنت أسمعها حتى أصبحت مألوفة لدي رغم بطلانها.

***

كان ذلك من جهة الاعتقاد، أما من حيث السلوك والانطباع النفسي، فقد وصف ابن تيمية «الرافضة» بأبشع الأوصاف وأسوء الأحوال خُلقاً وديناً مقارنة بسائر المذاهب. وقد تبنّى كثير من السلفيين من بعده هذه الأوصاف واعتبروها من الثوابت والماهيات بلا تحقيق، بل ودون مراعاة لاختلاف الأزمان وسنن التحول في أحوال الناس ومذاهبهم، أو لإمكانية وجود الخير والشر والحسن والقبح والصالح والطالح في كل شعب ومذهب وفرقة وملة وقومية، وانه لا ضرورة تقتضي دون تطور الامم وأحوالها ومذاهبها.

فقد كرّس ابن تيمية صورة نمطية عن «الرافضة» في الغدر والكذب والجبن والاستعانة بالكفار ضد المسلمين، واستشهد على ذلك باتهامهم بما فعلوه خلال عصره من الجرائم والاستعانة بالعدو والكفار على المسلمين[7]‏. لكننا اليوم نشهد في أحداث طوفان الأقصى بغزة وما سبقها، وعلى نحو الدراية واليقين لا الرواية، أن تلك الأوصاف قد انقلبت إلى الضد في الموقف من الكيان الغاصب، حتى اشتهر القول: إن الشيعة هم من يدافعون عن السنة في فلسطين ضد المحتل الغاصب، فيما خذلهم الآخرون من المذهب ذاته. وعليه فهذا التباين بين الواقع والرؤية الموروثة يطرح علامة استفهام كبيرة حول جدوى التعميم وأثره في تزييف الوعي.

وقد استمر ابن تيمية في وصفه الإمامية بأشد النعوت سوءاً، ورأى ان الكذب والجهل والتكذيب بالحق الذي اختصوا به لم يشركهم فيه أحد من طوائف الأمة[8]‏. وهو قد عمم صفة الجهل عليهم فاعتبرهم، كما في مقدمة (منهاج السنة): «من أكذب الناس في النقليات، ومن أجهل الناس في العقليات، يصدقون من المنقول بما يعلم العلماء بالاضطرار أنه من الأباطيل، ويكذبون بالمعلوم من الأضطرار المتواتر أعظم تواتر في الأمة جيلاً بعد جيل، ولا يميزون في نقلة العلم ورواة الأحاديث والأخبار بين المعروف بالكذب أو الغلط أو الجهل بما ينقل، وبين العدل الحافظ الضابط المعروف بالعلم بالآثار، وعمدتهم في نفس الأمر على التقليد وإن ظنوا إقامته بالبرهانيات، فتارة يتبعون المعتزلة والقدرية وتارة يتبعون المجسمة والجبرية وهم من أجل هذه الطوائف بالنظريات، ولهذا كانوا عند عامة أهل العلم والدين من أجهل الطوائف الداخلين في المسلمين»[9].

كما كرر هذا التحامل ووصف «الرافضة» بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها «ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم؛ لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم.. وهؤلاء كفّروا الأمة كلها أو ضللوها سوى طائفتهم التي يزعمون أنها الطائفة المحقة وأنها لا تجتمع على ضلالة فجعلوهم صفوة بني آدم»[10].

وحقيقة الأمر إن مختلف المذاهب، وليس فقط الرافضة والشيعة، سلكت مسلك التضليل والتكفير. فجميع المذاهب المعروفة استندت إلى حديث الفرقة الناجية وضللت جميع الفرق دونها، كما كفّرت بعضاً منها.

فالتضليل والتكفير كان ديدن المذاهب ولا يختص بالشيعة، وهم من الناحية العملية يتعاملون مع الآخرين من موقع التضليل لا التكفير المخرج من الملة، وكثيراً ما يميزون بينهم وبين غيرهم عبر التمييز بين الايمان والإسلام، بل إن هذا التمييز جار حتى في وسط من ينتمون إلى المذهب، فالذي لا يلتزم بالفرائض الدينية لا يعتبر مؤمناً حتى ولو كان من المعتقدين الموالين لأهل البيت تماماً. وفي الوسط الشيعي تجد منهم المتطرف ذا اللهجة الغليظة والمكفرة، كما تجد المعتدل، لا سيما في أيامنا الحالية.

فمثلاً كان من بين المتطرفين في الوسط الشيعي الشيخ محمد حسن النجفي (المتوفى سنة 1266 هـ)، حيث صرح في كتابه المعروف لدى الحوزات العلمية (جواهر الكلام) والذي يتخرج عليه العلماء والمجتهدون، بأن أهل السنة هم أشر من النصارى وأنجس من الكلاب.

وكما قال: إن هجاء المخالفين (أهل السنة) على رؤوس الأشهاد هو «من أفضل عبادة العباد ما لم تمنع التقية، وأولى من ذلك غيبتهم التي جرت سيرة الشيعة عليها في جميع الأعصار والأمصار علمائهم وأعوامهم، حتى ملأوا القراطيس منها، بل هي عندهم من أفضل الطاعات، وأكمل القربات فلا غرابة في دعوى تحصيل الإجماع، كما عن بعضهم، بل يمكن دعوى كون ذلك من الضروريات، فضلاً عن القطعيات.. لكن لا يخفى على الخبير الماهر الواقف على ما تظافرت به النصوص، بل تواترت من لعنهم وسبهم وشتمهم وكفرهم وانهم مجوس هذه الأمة، وأشر من النصارى وأنجس من الكلاب». وهو في معرض ردّه على بعض العلماء المعتدلين من الشيعة أردف قائلاً: «وكيف‌ يتصور الأخوّة بين المؤمن والمخالف، بعد تواتر الروايات وتظافر الآيات، في وجوب معاداتهم، والبراءة منهم.. وما أبعد ما بينه وبين الخواجه نصير الدين الطوسي والعلامة الحلي وغيرهم ممن يرى قتلهم، ونحوه من أحوال الكفار، حتى وقع منهم ما وقع في بغداد ونواحيها.. إذ لا أقل من أن يكون جواز غيبتهم لتجاهرهم بالفسق، فإن ما هم عليه أعظم أنواع الفسق بل الكفر، وإن عوملوا معاملة المسلمين في بعض الأحكام للضرورة»[11].

ولهذا الرأي نظير لدى المتطرفين في الوسط السني، فمنهم من يعتبر الشيعة أشر من اليهود والنصارى..

والعجيب ان هذه الماهيات التي تُلصق بالأديان والطوائف ليست إلا أوهاماً لا تثبت في ميزان الواقع. فليس اليهود ولا النصارى، كما ليس المسلمون، يُختزلون في صورة الأشرار، بل تتوزع الأخلاق بين بني البشر جميعاً على اختلاف مللهم ونحلهم وأعراقهم، وهذه من سنن الله الجارية في خلقه. ولذا لم يتقبل القرآن الكريم ادعاء الدين الناجي والفرقة الناجية،

بل اعترض على مزاعم اليهود والنصارى بأنهم الناجون بدخول الجنة دون غيرهم، مثلما اعترض على جهلة المسلمين الذين يرددون هذه المعزوفة وفق المعيار ذاته، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إلا مَنْ كَانَ هُوداً أو نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾[12].

فمعيار النجاة في القرآن لا يتوقف عند عنوان الانتماء الديني أو الطائفي، بل يتجاوز ذلك إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وان أكرم الناس عند الله اتقاهم، دون اعتبار للعرق أو الانتماء أو الاسم. كما هو واضح مما جاء في العديد من الايات الكريمة[13].

أتذكر في سنوات الشباب حين زارني صديقان عزيزان من مشايخ لبنان أثناء إقامتي في مدينة قم الإيرانية، ودار بيننا حديث طويل حول المذاهب الإسلامية. فقال أحدهما - وقد توفي رحمه الله تعالى بحادث طائرة منذ سنوات - انه يجزم بعدم اخلاص أي شخص بين أهل السنة جميعاً. وكأنه اعتبر ذلك خلافاً لعدالة الله تعالى في جعل الإخلاص منحصراً في الإمامية الاثنى عشرية باعتبارها الفرقة الناجية حسب إعتقاده. وحينها لم أتقبل منه هذا الرأي واعتبرته خلاف الواقع الباين وضوح الشمس للعيان، وأيدني في ذلك الشيخ الآخر، وهو من الذين ينهجون اليوم منهج التقريب بين المذاهب، حفظه الله تعالى ووفقه لما يصبو إليه.

إن ما نفتقر إليه في مواقفنا العقدية والدينية - عموماً – اتجاه الطرف المقابل، هو الإنصاف والتفهّم. فلا بد من  احترام الرأي وعدم التجريح والمساس بالآخر قدر المستطاع. فمثل هذه الأمور هي ما تحدد قيمة المرء دون دينه وعرقه وطائفته.

ففي كل دين وفرقة ومذهب، نجد من يتصف بالغلظة والجمود والطبع الحاد، وانه لا يفهم من الحياة إلا ما يضيق، ومن ذلك تضييق النصوص. وهؤلاء يتماهَون في نمط واحد من التفكير المتشدد، رغم اختلاف أديانهم وطوائفهم. كما نجد - في المقابل - من يتسم بالرحابة واللين والتفهم وسعة الأفق والانفتاح، وهم أيضاً موزعون بين الأمم دون احتكار.

والفارق بين الفئتين، هو ان الأولى تتصف بأعظم حالات العداء والكراهية فيما بينها، فهي تشكل أقطاباً متنافرة حتى وإن اتحدت مواقفها ازاء الكثير من قضايا الواقع، بل وحتى وإن تظللت تحت سقف عقيدة مشتركة أساسية.

ويعود أصل التنافر العميق فيما بينها إلى ذات الخصائص والصفات المشتركة، فما تكنّه من عداء لدى بعضها البعض يفوق بكثير مما تكنّه للأطراف الأخرى المعتدلة، بحيث تتخذ من هذا العداء مذهباً تتميز به عن غيرها من الناحية السلوكية.

في حين تراهن الفئة الثانية على المشترَك الإنساني، وتؤمن بأن الخير ليس حكراً على أحد، حيث تتقبل الانفتاح والتعاطف والتفاهم حتى وإن بدا الخلاف فيما بينها عميقاً، وهو ما لا يحصل بين المتسامح والمتشدد ضمن الطائفة الواحدة.

وغالباً ما يأتي التأثير على عامة الناس من قبل المتشددين الطائفيين دون المعتدلين، فالاتجاه الأول يمارس الضغط النفسي على الناس، فيما يمارس المعتدلون الضغط العقلي، وهو أصعب وأقل فاعلية على الأتباع من الأول.

لذلك نجد المعتدلين في الوسط السني والشيعي ليس لهم ذلك التأثير على الأتباع في قبال شحن المتطرفين، لا سيما وسط الضجيج والعراك الطائفي المتسع مع تطور وسائل الاتصال الاعلامي باضطراد[14].

 لا شك أن نبرة ابن تيمية الحادة تنتمي إلى هذا الوسط المتشدد، وقد شجعته على ذلك الظروف العصيبة التي عاشها في وسط مشبع بالتوترات السياسية والدينية، مما أسهم في تطويع لغته إلى خطاب صارم في أحكامه على الفرق والمذاهب الأخرى، رغم ما عُرف عنه من تدين عميق وإخلاص في الدفاع عمّا يراه حقاً.

ومع ذلك، حاول في بعض مواضع (منهاج السنة) أن يُظهر روحاً من الاعتدال، فادّعى أن أهل السنة وحدهم هم المنصفون، الذين لا يظلمون المخالفين ولا يكفّرونهم، فعلى حد قوله: ان أهل السنة (ويقصد بهم الاتجاه السلفي بالذات) يستعملون مع المخالفين «العدل والإنصاف ولا يظلمونهم، فإن الظلم حرام مطلقاً كما تقدم، بل أهل السنة لكل طائفة من هؤلاء خير من بعضهم لبعض، بل هم للرافضة خير وأعدل من بعض الرافضة لبعض، وهذا مما يعترفون هم به ويقولون أنتم تنصفوننا ما لا ينصف بعضنا بعضاً، وهذا لأن الأصل الذي اشتركوا فيه أصل فاسد مبني على جهل وظلم، وهم مشتركون في ظلم سائر المسلمين فصاروا بمنزلة قطاع الطريق المشتركين في ظلم الناس، ولا ريب أن المسلم العالم العادل أعدل عليهم وعلى بعضهم من بعض. والخوارج تكفر أهل الجماعة، وكذلك أكثر المعتزلة يكفرون من خالفهم، وكذلك أكثر الرافضة ومن لم يكفر فسق، وكذلك أكثر أهل الأهواء يبتدعون رأياً ويكفرون من خالفهم فيه، وأهل السنة يتبعون الحق من ربهم الذي جاء به الرسول ولا يكفرون من خالفهم فيه، بل هم أعلم بالحق وأرحم بالخلق كما وصف الله به المسلمين.. وأهل السنة نقاوة المسلمين فهم خير الناس للناس»[15].

لكن هذا النص لا يعكس الروح العامة لدى كتب ابن تيمية بما في ذلك كتابه الذي يتضمن هذه الاشارة المضيئة، فعباراته ونقوله عن السلف مليئة بالحدة والغلظة وحتى التكفير، ولو بصيغة المطلق، حتى شكلت علامات فارقة مقارنة بأغلب المذاهب الأخرى. وكان لذلك من التبعات ما لم نره لدى سائر المذاهب كالأشاعرة مثلاً.

وكثير من الأحيان نتفهم حال الغلظة عندما يكون الأمر متعلقاً بمس المقدسات كرد فعل متطرف على الشيعة نتيجة طعنهم الجذري في كبار الصحابة وأمهات المؤمنين.. وما زالت الساحة اليوم ساخنة بهذين النحوين من التطرف، ويتحمل العلماء الساكتون قسطاً كبيراً من المسؤولية لعدم إدانة التجريح والجرائم التي يرتكبها اتباعهم من نفس المذهب.

لا شك ان للفتاوى المكفرة، كتلك التي عرضناها سابقاً، علاقة وطيدة بالفتوى القاتلة المعاصرة، فقد تطور الحال من فتاوى التفريق بين كفر المطلق وكفر المعين إلى فتاوى الإبادة والتكفير الشمولي لدى الكثير من الشباب السلفي والشيوخ، وهو ما سيولد ردود فعل مماثلة.

وأصبحت الأمة بهذه الأفعال شرّ أمة كرهها الناس بعدما كانت خير أمة أُخرجت للناس. ومع ان الله تعالى أراد لها أن تكون أمة الإسلام والسلام بحق؛ فاذا بها تنقلب إلى أمة الكفر والحرابة بتكفير وقتل بعضها للبعض الآخر.

لقد أصبح القاتل المعاصر يبني تكفيره على طوائف بعينها ولا يفرق بين شرائح الطائفة الواحدة، والكل محكوم عليه بالقتل والموت.. وبالتالي ففتوى القاتل المعاصر هي تطوير لفتوى ابن تيمية وتجاوز لها في الوقت ذاته، رغم ما آل إليه الأخير من عدم تكفير أحد من أهل القبلة كما نقل عنه تلميذه الحافظ الذهبي عند اطلاعه على ما قاله الأشعري في أواخر حياته.

فقد قال الذهبي: «رأيت للأشعري كلمة أعجبتني وهي ثابتة رواها البيهقي، سمعت أبا حازم العبدوي، سمعت زاهر بن أحمد السرخسي يقول: لما قرب حضور أجل أبي الحسن الأشعري في داري ببغداد، دعاني فأتيته، فقال: اشهد عليّ أني لا أكفر [أحداً] من أهل القبلة; لأن الكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات. قلت: وبنحو هذا أدين، وكذا كان شيخنا ابن تيمية في أواخر أيامه يقول: أنا لا أكفر أحداً من الأمة، ويقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن فمن لازم الصلوات بوضوء فهو مسلم»[16].

وعلى شاكلة هذه الاضاءة جاء في هامش الدرر الكامنة لابن حجر العسقلاني (طبعة حيدر آباد، ج2، ص72) ما لفظه بخط السخاوي:

«قال لي شيخنا تغمده الله برحمته - ابن حجر -: انه بلغه ان ابن المطهر (الحلي) لما حج اجتمع هو وابن تيمية وتذاكرا، واعجب ابن تيمية كلامه، فقال له: من تكون يا هذا؟ فقال: الذي تسميه ابن المنجس، فحصل بينهما أُنس ومباسطة»[17].

ومعلوم إن ابن تيمية كتب كتابه (منهاج السنة) للرد على كتاب ابن المطهر الحلي (منهاج الكرامة)، ووصفه في مقدمة كتابه بالنجاسة بدل الطهارة. لذلك عرّض به الحلي بحسب النص الآنف الذكر.

***

لا شك إن الآلية المعتمدة للوصول إلى نتائج الاعتقاد القاتل هي آلية الفهم البسيط، لكن جذورها لم تكن بسيطة. فهي تقوم على نوعين من الركائز، أحدهما يعود إلى التفكير البياني، فيما يعود الآخر إلى مجمل التفكير الإسلامي، وكلاهما يحظى بأهمية بالغة، ويتقاسمان وزر مسؤولية ما يحصل اليوم من جرائم إعتقادية على أرض الواقع. وهذا ما سنعرضه كالتالي..

1ـ مسؤولية النهج البياني

لنبدأ أولاً بالركائز البيانية. فالتفكير البياني يقوم أساساً على تتبع النصوص الدينية واستنطاقها دونما استعانة بمصادر معرفية أخرى قد تؤثر في النتائج، كالعقل والواقع وغيرهما. وهو منهج يُمارَس بكفاءة في الحقل الفقهي، حيث يحتكم الفقهاء إلى النصوص ويوازنون فيما بينها عند التعارض والجمع، وقد يرجحون بعضها على البعض الآخر وفقاً لعدد من القواعد الأصولية المقررة. والبحث الذي يتمتع بهذا المستوى من الكفاءة العلمية يُعد مندرجاً في دائرة الاجتهاد، وهو مقام لا يُؤذن لكل أحد ببلوغه، ما لم يكن على دراية راسخة بطرائق التنقيب الفقهي، ومتمرساً في علم الأصول، وقادراً على الموازنة الدقيقة بين النصوص والأدلة المتعارضة.

فهذه كانت طريقة الفقهاء، وهم يشددون على ان الفتوى أمر خطير للغاية لا ينبغي الاقتراب منها إلا لمن له صلاحية علمية ودينية من الإيمان والتقوى.

غير أن المشكلة الجوهرية في هذا المنهج تكمن في بسط النصوص على وقائع مغايرة، أي في مرحلة تطبيق الحكم على الموضوع، وهي المرحلة التي تتطلب فهماً دقيقاً للسياق الواقعي والاجتماعي والنفسي المتغير. وهذه المرحلة لم تحظَ بالعناية من قبل الفقهاء، إذ غالباً ما اعتقدوا أن تحديد الموضوع يجري إما بالنص أو بالعرف السائد زمن الرسالة، وكأن الموضوعات ثابتة لا تتغير.

وكما رأى بعض الفقهاء من أمثال الشاطبي، أن الشريعة ثابتة لثبات العوائد الوجودية التي تتعلق بها الأحكام غالباً[18]. لذلك لم يدرجوا ضمن عناصر موضوعات الأحكام سياق الأحوال والظروف الملابسة لها. وقد قاد هذا التصور إلى نقطة ضعف جوهرية، إذ جرى التعامل مع هذه الموضوعات بشكل ماهوي تعبدي، دون التفات إلى الملابسات الواقعية المتغيرة. وهكذا بات يُنظر إلى الأحكام كأنها ثابتة بثبات موضوعاتها، وتُفهم النصوص على أنها واضحة ومفصلة، مما حفّز على خلق ثقافة (الفوضى الاستنباطية)، وأسهم في إنتاج خطابات التكفير والتضليل والشحن الطائفي.

وفي موضوعنا المطروح يفتش الفقيه عن عناصر موضوع الكفر والشرك الأساسية وهي منزوعة عن الواقع الخاص بعصر النبوة وفق النهج الماهوي التعبدي، ومن ثم يجد ما يماثلها لدى الفرق الإسلامية، فيطبق عليها حكم التكفير بشكل أو بآخر. فهو يستنسخ أحكام النص معزولة عن سياقاتها الخاصة ويطبقها على واقع مغاير تماماً. وقد روي انه سئل نافع: كيف كان رأي ابن عمر في الحرورية؟ قال: يراهم شرار خلق الله، إنهم انطلقوا إلى آيات أُنزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين[19].

ومع أننا نجد في نزعة التمييز بين تكفير المطلق وتكفير المعين شكلاً مخففاً للحكم، إذ يبدي هذا الحال انه يراعي طبيعة ما عليه الواقع، إلا ان طبيعة الموضوع وحساسيته يجعل منه فكراً يجانب الصواب، فخطورته تنبع من الوسط الذي يتعامل معه.

ومع أن التمييز بين تكفير المطلق وتكفير المعين يُظهر نوعاً من التخفيف في إصدار الحكم، كونه يراعي ما عليه الواقع من تعقيد، إلا أن خطورة هذا الفكر تكمن في الوسط الذي يُطبّق فيه.

وقد استخدم ابن تيمية هذا التمييز حين طعن في بعض المذاهب الإسلامية، ولم يطلقه بمعزل عن كل فئة ودين.

فإذا كان الأصل هو الحكم بالكفر، فإن إسقاطه على المسلمين يُعد خطأً وتناقضاً، وكان يمكن ان يكون له معنى فيما لو طبق على أقوام ظاهرهم يتميز بالشرك والكفر، فيكون الحكم بتكفير المطلق مع لحاظ حالات الموانع في التعيين. أما تطبيقه على الطوائف الإسلامية فهو من الخطأ الكبير، إذ كيف يُكفّر من يشهد له الواقع بالإسلام جملة وتفصيلاً؟! فهل يُعقل أن نصف أمة كاملة بالكفر في الجملة، ثم نمتنع عن تكفير أفرادها باعتبار الموانع؟!

صحيح ان المشرّع الديني قد يمارس هذا النوع من التمييز لأغراض تربوية تخص الجماعة الإسلامية، ولأنه يتعالى على جميع الفرق والجماعات، كما أن الطرح الوارد فيه يحمل طابعاً غير ممنطق كما جاء توضيحه في كتاب (النظام الواقعي). لكن كل هذه الاعتبارات لا تنطبق على حال أصحاب التمييز. فهم خلافاً للخطاب الديني يتسمون بالتمنطق، كما انهم لا يمتلكون موقعاً يُخوّلهم التفوّق على غيرهم من الفرق والمذاهب. ثم إن أصل القاعدة لم يوضع من أجل جماعتهم لتخدم بها غاية تربوية داخلية، بل وُضعت لمخاطبة الفرق المقابلة، وهو ما يُسقِط عنها أي مشروعية تربوية. لذلك نجد ابن تيمية يستشهد بأقوال منسوبة إلى الإمام أحمد بن حنبل وغيره في تكفير بعض المذاهب الإسلامية، ثم يُؤوّل تلك الأقوال ضمن إطار هذه القاعدة التمييزية.

لذا كان الأولى أن تُستبدل هذه القاعدة بقاعدة مقابلة تقوم على أسلمة المطلق، وهي ان يُجرى التمييز بين أسلمة المطلق وأسلمة المعين عوض التكفير.  أي أن يكون الأصل هو الإسلام لا الكفر؛ والمودة لا العداء، والتقارب لا التنافر.

فقد نعبّر عن ظاهرة لا تخلو من الشرك ضمن ممارسات المسلمين بتعبيرين يختلفان في الدلالة اختلافاً جوهرياً. فقد نقول حول التعلق بالأسباب غير الطبيعية: (إن من استغاث بغير الله فهو مشرك)، وقد نقول: (إن الاستغاثة بغير الله لا تخلو من الشرك).

فالعبارة الأولى تُنزّل الحكم على الفاعل، وتصفه بالشرك حتى لو كان مسلماً، مع غضّ الطرف عن تعيينه. أما العبارة الثانية فترصد الفعل بوصفه لا يخلو من شائبة الشرك، دون أن تُسقِط ذلك على الأشخاص بإطلاق. فلو كان المستغيث مسلماً، يشهد بالتوحيد ويتقرّب إلى الله، فلا يصحّ أن يُدرج تحت العبارة الأولى، بل يُعدّ من المتأوّلين، حتى لو تضمّن فعله معنىً شركياً.

ووفقاً للقول الأول، يكون المستغيث مشركاً في الأصل، إلا أن يُرفَع عنه هذا الوصف بحجة التأويل، وهو ما يُعرف بالتمييز بين شرك المطلق وشرك المعيّن. وهنا يقع الخلل، كما لجأت اليه جماعة السلفية المعاصرة، إذ ترتّب على هذا التصور تكفير صريح لبعض المذاهب الإسلامية من قبل العديد من هذه الجماعة.

إن خطورة هذه المنهجية تظهر عند فتح باب الشبهة في وجه المسلمين المتأوّلين، إذ يصبح السؤال: هل تدل ممارساتهم وأحوالهم على الشرك المتعين أم لا؟ بعد التسليم مسبقاً بثبوت الشرك المطلق. وبلا شك حين يُطبّق هذا المنهج في قضايا بالغة الحساسية، كالشرك أو الكفر، فسيفضي إلى نتائج كارثية.

وما يزيد الطين بلة هو ما نشهده اليوم من فوضى فتاوى لم تتقيد بالضوابط العلمية الرصينة، فهي رغم انتسابها إلى النهج البياني، إلا أنها تمثل نمطاً بيانياً مخلّاً إلى أبعد الحدود. وتظهر ملامح هذا الخلل من خلال عدد من الركائز المنهجية التي سنعرضها عبر النقطتين التاليتين.

أـ عدم الكفاءة العلمية:

فالذين يحملون الاعتقاد القاتل هم من الشباب الذين أصيبوا بهوس الفوضى الفتوائية أو الاستنباطية لكثرة ما يختلفون حولها نتيجة غياب الضوابط العلمية الرصينة، والاكتفاء بالشعارات العامة من قبيل الرجوع إلى الكتاب والسنة والسلف الصالح. فهم لم يتدربوا على أدوات البحث العلمي ولا نضجوا معرفياً، بل يكفي أحدهم أن يستند إلى بعض النصوص ليُصدر فتواه، ثم يُسقطها على واقع مغاير تماماً لزمن النص وبيئته. فيمكن لكل مسلم قليل التحصيل ان يصل إلى ما يريده في الكتاب والسنة من دون عناء، وقد يدعم ما يريده بالاستناد إلى آيات مثل قوله تعالى: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى﴾ (آل عمران\ 138).. ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل\ 89).

وفي كثير من الأحيان تُستغل حالة الخلاف بين الاجتهادات الفقهية لتبرير الخروج على ظاهر الكتاب والسنة، كما يُنقل عن بعض أتباع المذهب الحنفي أنهم قدّموا أقوال أئمتهم على نصوص الشرع، وإن بدت مخالفة لها.

مع انه في المقابل يُنقل عن بعض السلف ان تحقيق الشروط العلمية للفتوى هو في غاية الصعوبة، إذ يشترط البعض على المفتي ان يكون حافظاً لمئات الآلاف من الروايات. ومن ذلك سُئل يحيى بن معين: أيفتي الرجل من مائة ألف حديث؟ قال: لا، وتكرر السؤال: من مائتي ألف.. من ثلاثمائة ألف؟ قال لا، فسئل: من خمسمائة ألف؟ فقال: أرجو[20].

وهذا يعكس حجم الورع العلمي ودقّة الشرط في تولي منصب الإفتاء، على خلاف ما نراه اليوم من استسهال للفتوى وتفريط في شروطها.

ب - إنتقاء النصوص:

تتمثل إحدى السمات البارزة في الفتاوى القاتلة في اعتمادها على ظواهر بعض النصوص دون غيرها، بما يخالف طريقة الفقهاء الذين يسعون إلى الجمع بين الأدلة ومراعاة التعارضات المحتملة بينها. وكثيراً ما يمارس الكلاميون مثل هذا النهج في القضايا الاعتقادية اعتماداً على الطريقة العقلية.

وقد أفضى هذا المنهج إلى تحويل مسائل الاعتقاد إلى ساحة مفتوحة للجميع، حيث بات يتساوى فيها العلماء والدهماء، الخاصة والعامة، إذ يمارس الكل - في الظاهر - نفس الدور: الاعتماد على نصوص منتقاة دون النظر إلى نظائرها المعارضة أو المكملة. والفرق الجوهري هو أن العلماء، بما لديهم من أدوات عقلية ومنهجية، يستطيعون النظر في الأدلة المعارضة والرد عليها وتأويلها، أو اعتبارها من قبيل الشبهات، بينما يعجز عامة الناس عن ذلك، فيكتفون بالاستدلال على طريقة المحاكاة والتقليد المجمل.

وعادة ما يتسامح العلماء في قبول هذا التقليد في القضايا الاعتقادية، ظناً منهم أن المحاكاة تكفي لإنتاج يقين أو طمأنينة نفسية، لكنهم يرفضونه رفضاً صريحاً في القضايا الفقهية، لإدراكهم أن الفقه يتطلب آلة اجتهادية دقيقة، وقدرة على التمييز بين الأدلة وترجيح بعضها على بعض عند التعارض، وهو أمر يتجاوز قدرة غير المتخصصين، تماماً مثلما لا يمكنهم فعل ذلك أيضاً على مستوى الاعتقاد وعلم الكلام[21].

وعليه فإن الانتقاء النصي دون اعتبار المنظومة الكلية للخطاب الديني هو ممارسة يرتادها الدهماء أو من لم تكتمل لديهم أدوات العلم، وهي الخصيصة التي تطبع سلوك التيارات الطائفية اليوم، وعلى رأسها أصحاب الاعتقاد القاتل.

2ـ مسؤولية التفكير الإسلامي وغياب الضمير

يُعد غياب الضمير الإنساني من أبرز العناصر المفقودة في بنية التفكير الديني الإسلامي، سواء تمثل ذلك في المنهج البياني أم في المنهج العقلي المعياري. فهذا الغياب يكشف عن قصور عميق في الالتفات إلى حقوق الإنسان، وتجاهل لاعتبارات التكريم الملازمة له، بوصفه كائناً يستحق الاحترام كإنسان، بصرف النظر عن معتقده أو انتمائه، ولا يسقط عنه هذا الحق سوى الجريمة الفادحة التي يقترفها عن عمد وعدوان.

وقد وجّه عدد من المستشرقين نقداً إلى الإسلام بأنه يفتقر إلى مفهوم الضمير الأخلاقي، كما هو متداول في بعض الأوساط المسيحية. ومعلوم ان لدى هذه الأوساط مراكز مكرسة للاعتراف الطوعي بالذنب والجريمة، تُتيح للإنسان أن يخفف من وطأة الخطأ عبر الاعتراف به في إطار وجداني وأخلاقي. وقد نشأت هذه الممارسة منذ القرن الثالث عشر الميلادي، ولا تزال فاعلة حتى اليوم.

وكان البعض يستشهد على غياب هذا البُعد الأخلاقي في الإسلام بخلوّ اللغة العربية وسائر اللغات الإسلامية من مفردة تعبّر بدقة عن مفهوم (الضمير). وهو استدلال خاطئ أشرنا اليه في بعض الدراسات المستقلة[22].

إن الاعتراف بملكة الضمير يتطلب قبل كل شيء الاعتراف بقيمة العقل القيمي المستقل، ونجد هذه القيمة إما انها منكرة لدى المذاهب الإسلامية، أو انها معطلة الدور في العلاقة البشرية. فالعقل القيمي منحّى كلياً لدى مذهب الأشاعرة، الذي يُعدّ أكبر المذاهب الإسلامية قاطبة، رغم ان فكرة مقاصد الشريعة ظهرت لدى أتباع هذا المذهب. وبحسب التحليل فإن هذا الموقف المزدوج هو موقف متناقض، بل إن وسيلة الاجتهاد والاعتماد على القياس لا حجة لهما بحسب هذا الموقف ما لم يكن التوصل اليهما بطريق قطعي من جهة الشرع، وهو أمر ليس بالسهل[23]. وبالتالي كيف يُبنى الاجتهاد على القياس وغيره، بينما يُنفى معيار العقل القيمي الذي يمنح لهذه الآليات معناها وحجّيتها؟!

يبقى ان الأصل الذي عول عليه الأشاعرة في نفي حجية العقل القيمي، كما يتمثل في التحسين والتقبيح، يمنع تبرير قبول فكرة الضمير الإنساني ما لم يتم الرجوع فيها إلى الشرع ذاته. لكن الرجوع إلى الشرع في مثل هذه القضايا لطالما كان مثار خلاف واختلاف بين العلماء والفقهاء أنفسهم، مما يُفقد هذا المرجع وحدته وصلابته، ويزيد الحاجة إلى إعادة الاعتبار للعقل الأخلاقي المستقل، كشرط أساس لاستعادة الضمير بوصفه رادعاً ذاتيّاً، لا يُنتظر فيه الأمر ولا يُعلّق على الخارج، بل ينبثق من صميم الذات الأخلاقية للإنسان المسلم، ويحول دون تحوّله إلى آلة تبريرية تستهين بالجرائم التي تنفر منها الفطرة السليمة وتستنكرها العقول الراجحة.

ومع أن فكرة العقل القيمي المستقل حظيت باهتمام عدد من المتكلمين خارج الإطار الأشعري ومن وافقهم الرأي؛ غير أن هذا العقل لم يُفعّل في سياق الحقوق البشرية المستقلة، بل كان مبتغاه الأساس هو الجانب الميتافيزيقي، وانشغل بتجريداته، بعيداً عن هموم الإنسان وكرامته الحسية والعملية. والأسوأ من ذلك أن هذا العقل، الذي يُفترض فيه النضج والموضوعية، كثيراً ما كان منتهكاً في غمار السجالات الكلامية، حيث يُعامل المخالف في الاعتقاد لا باعتباره إنساناً له حق الاحترام، بل كخصم لا حرمة له، تستباح كرامته تحت ذريعة الانتصار للعقيدة. وقد وفّرت الروايات الدينية، مثل حديث (الفرقة الناجية)، الغطاء الشرعي لهذا الانتهاك، حتى أضحت عقيدة (النجاة) حجة على سائر الفرق الأخرى، لا وسيلة للحوار والتلاقي.

أما في المجال الفقهي، فقد أصبحت الرواية رغم أنها ليست (دراية)، أداة كفيلة بأن تحطم صخرة العقل وتجعله قشة في مهب الريح. ولقد كان الشافعي أول من نظّر لهذا المنهج، حين أسّس علم أصول الفقه على قاعدة ردّ كل ما لا يُستند فيه إلى نص شرعي. ومنذ ذلك الحين أصبحت بصمته راسخة في الوجدان الفقهي، وغدا التعويل على الرواية أصلاً لا يُزاح، مهما بلغت منزلة العقل. فهي مرجحة على العقل القيمي المستقل، والشواهد على ذلك كثيرة، حتى أصبحت لدى الفقهاء، بمن فيهم من يعترفون بحجية هذا العقل، سبباً كافياً لنفي هذه الحجية في الأحكام[24]. ففي مقام الاستنباط الفقهي تبقى حجية العقل مجرد افتراض نظري لا قيمة له عند التطبيق.

فمن أين لنا – إذاً - أن نستخرج من بين تضاعيف هذا التراث مرتكزاً صلباً نعتمد عليه في تثبيت العقل القيمي المستقل، لنشيّد عليه صرح الضمير الإنساني، وقد جُبِل على التهميش والتغريب؟! فالأرض خصبة لأصحاب البيان، سواء من تمحضوا له دون سواه، أو ممن ارتضوا الازدواجية في الجمع بين البيان والعقل، فلم ينفعهم الاعتماد على العقل شيئاً، إذ بقي حبيس المجادلات الميتافيزيقية، لا يملك امتداداً عمليّاً في بناء الضمير، أو في حماية الإنسان من غوائل التكفير والإقصاء.

لقد كانت نظرية ترجيح العقل على النقل عند التعارض من النظريات المهمة في تاريخ الفكر الإسلامي، إذ تأسست من منطلق كون العقل محكماً وقطعياً خلافاً للنقل الذي يتصف بالتشابه والظن. غير أنها، رغم أهميتها، مصابة بداء المفارقة؛ إذ انقسم أنصارها أشد الانقسام حول الأصول العقلية التي كان من المفترض ان تكون محل اتفاق ووضوح مشترك. وبالتالي أصبح من الواجب تجاوز هذا الانقسام إلى أفق آخر أكثر بداهة ووجداناً.

وما يعنينا - هنا - هو تفعيل ضمير المسلم في التزامه بالقضايا الإنسانية، بمعزل عن القضايا الشرعية، مثلما آلت اليه بعض الحركات الإصلاحية في الديانة المسيحية، وفي مقدّمتها حركة لوثر التي جعلت من الضمير حاكماً حتى على نص الكتاب المقدس.

فلا شيء يعلو على مقام العقل والضمير، بل إن الشرع نفسه لا يستقيم من دون الاحتكام إليهما. إذ لو تصورنا شرعاً لا يعبأ بالعقل ولا يعير الضمير أدنى اعتبار، لكان باطلاً من أساسه؛ لأن ما يُحكم له أو عليه هو العقل ذاته لا غير. فالشيء لا يمكنه ان يقوّم حجّته بذاته باستثناء العقل من خلال الرجوع إلى الواضحات، وكل ما عدا ذلك انما يعود اليها.

وبالتالي فكل شرع ودين يصطدم بالضمير الإنساني هو شرع باطل تماماً. وإيماننا بالإسلام إنما يستند إلى كونه يعضد هذا الضمير من دون معارضة. ومع ذلك، لا نجعل من النصوص الشرعية مرجعاً أولياً في هذه المسألة، خشية الوقوع في مطب الخلافات الفقهية الموروثة، رغم ما يشوبها من هشاشة. بل الأجدر أن نؤسس الضمير على الواضحات العقلية قبل أي اعتبار آخر.

فالضمير هنا ليس تابعاً للشرع، بل هو متقدم عليه من حيث التأسيس، ويكون الشرع في مقام الإمضاء، لا الابتداء. وعلى هذا الأساس، فإن الضمير الأخلاقي ينهض على العقل الوجداني، ويندرج ضمن منظومة الأخلاق العقلية لا غير.

وينبني على هذا الأساس ما نصطلح عليه بـ (التدين الإنساني)، الذي يتأسس على الضمير والمحبة والقيم المشتركة الجامعة بين بني البشر. ويقابله على الضد منه (التدين العدواني)، ذلك الذي يتقرب فيه الإنسان إلى الله باللعن والتضليل والتكفير والقتل، ويُدرج ضمنه من يرى في التسبيح الممزوج باللعن ذروة من ذرى العبادات، بل يعدّه قرين القربات ومفتاح النجاة، وهو في حقيقته المنبع الأساس لما بات يُعرف بالإرهاب.

فالإرهاب يتغذى على هذا النمط من التدين، أو هو نتاج فعل طبيعي له، وبالتالي فالحاجة تقتضي ان تكون مواجهته واجبة؛ لا في أعراضه فحسب، بل في جذوره وبُناه العميقة من خلال المقارعة الفكرية. وإلا فمن العبث أن نحارب ثماره المرّة، فيما نغضّ الطرف عن شجرته السامة التي لا تزال تمدّه بالحياة! بل قد نكون، من حيث لا نشعر، من جملة الساقين لمائها، إن نحن سكتنا أو ساهمنا عن قصد أو دونه في شرعنة وجودها.

وعليه لا يكفي ان نقوم بمحاربة نتائج هذا التدين (كالارهاب) فيما تبقى أسبابها تفعل بنا ما تشاء؛ إن لم نمارس بدورنا الدعم لهذه الأسباب بلا وعي، فنكون بذلك أشبه بالطابور الخامس، أو الخلايا النائمة، نشارك في الكارثة من حيث أردنا الوقاية منها.

لكن ينبغي، في سياق هذه الممانعة والنقد، أن لا ننزلق إلى مستنقع الإدانة الانتقائية التي تُسقط كل المسؤولية على المذهب المقابل وحده. ففي هذا التوجه خلط للأوراق ما لا يحتاج إلى بيان، وتسييس للفكر، وانزلاق إلى منطق الصراع المذهبي الأجوف، كما يحدث دائماً لاعتبارات آيديولوجية. بل الصحيح - وحتى الواجب - أن نبدأ بنقد الذات، ومحاسبتها قبل محاسبة غيرها، بل ومصارحتها وجلدها إن لزم الأمر، على أن يضطلع كل منا بواحد من هذين الدورين:

أ ـ ممارسة النقد الجريء لتوجهات هذا النمط الخطير من التدين، داخل المذهب الذي ننتمي إليه ونتبعه، إذ هو يلازمه ولا ينفك عنه عادة. ومن ثم وجب علينا أن نكشف عن جهل هذا النمط وألاعيبه، ونفضح ما فيه من مغالطات واستغلال، مع مساءلة أنفسنا بشجاعة: كيف سمحنا لهذا الانحراف أن يستقر في وعينا؟ وكيف استمرأنا الرضا بعقيدة فاسدة تقوم على التكفير والتضليل، حتى بلغ بنا الحال أن نتوهم أننا ننتمي إلى (شعب الله المختار)، عبر مقولة الفرقة الناجية وسط فرق الضلال[25]؟!

ب ـ الانخراط في نقد متزن ومتجرد، لا يقتصر على المذهب الذي ننتمي إليه، ولا يكتفي بفضح المذهب المقابل، بل يُنصف الجميع بميزان واحد. إذ الحق أن كل ما نراه من انحراف في المذهب الآخر، نجده قائماً في مذهبنا ذاته، وأن التدين العدواني متغلغل في هذا المذهب مثلما انه متغلغل في المذهب المقابل، فلا أحد معصوم من داء التكفير والتضليل، وكأنما كل مذهب قد زعم لنفسه أنه المهدي الوحيد، وأن سواه غارق في الضلالة والتيه.

ولنقل: إن التدين العدواني هو في حد ذاته مذهب مستشرٍ لدى جميع المذاهب، وهو ذاته الذي يحول دون حضور ما يعارضه من التدين الإنساني.

وعلى الصعيد التاريخي لا نجد للتدين الإنساني تياراً معتداً به، بل ثمة شخصيات متفرقة هنا وهناك، وأغلبهم ينتمي إلى دائرتي الفلسفة والصوفية. فتكاد آثاره تغيب وسط المذاهب الكثيرة التي يتحكم فيها التدين العدواني بلا منازع.


[1] ابن تيمية: الصارم المسلول، عن شبكة المشكاة الالكترونية.

[2] ابن تيمية: منهاج السنة، تحقيق محمد رشاد سالم، مؤسسة قرطبة، 1406هـ، ج2، ص452، عن مكتبة المشكاة الالكترونية.

[3] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج13، فصل فيمن خالف ما جاء به الرسول، عن مكتبة الموقع الالكتروني: www.4shared.com. وانظر أيضاً حول صحة الصلاة خلف المبتدع: نفس المصدر، ج23.

[4] مجموع فتاوى ابن تيمية، ج12، فصل في مسألة تكفير أهل البدع والأهواء.

[5] منهاج السنة، ج5، ص154.

[6] انظر حول ذلك كتابنا: مشكلة الحديث.

[7] منهاج السنة، ج5، ص154ـ157.

[8] المصدر السابق، ج2، ص301.

[9] المصدر نفسه، ج1، ص8.

[10]      المصدر نفسه، ج5، ص160ـ161.

[11]      محمد حسن النجفي: جواهر الكلام، دار احياء التراث العربي، ج22، ص61ـ62.

[12]      البقرة/ 111ـ113.

[13]      انظر حول ذلك الحلقة القادمة (النظام الواقعي).

[14]      للتوسعة انظر ما جاء في الملحق آخر الكتاب: الطائفية: التشرذم والسقوط الاخلاقي.

[15]      منهاج السنة، ج5، ص157ـ158.

[16]      الذهبي: سير اعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة للنشر، 1422هـ ـ 2001م، ج15، الطبقة الثامنة عشر، ص88، فقرة تحت عنوان: الأشعري. انظر:http://library.islamweb.net/newlibrary/display_book.php?idfrom=3088&idto=3088&bk_no=60&ID=2944.

[17]      المولى أحمد الأردبيلي: مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الاذهان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة، قم، ج1، ص20ـ21، عن مكتبة السراج الالكترونية:http://www.alseraj.net/maktaba/kotob/feqh/yasoob/books/htm1/m001/01/no0174.html.

[18]      الشاطبي: الموافقات، ج 2، ص284ـ285.

[19]      القاسمي: محاسن التأويل، ج1، ص22.

[20]      الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة 1525. وأبو الحسين بن أبي يعلى الحنبلي: طبقات الحنابلة، شبكة المشكاة الإلكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته)، ج1، مادة: الحسن بن إسماعيل بن الربعي، ومادة: الحسين بن إسماعيل.

[21]      للتفصيل انظر الفصل الاخير من: الاجتهاد والتقليد والاتباع والنظر.

[22]      انظر: نقد العقل العربي في الميزان، دار افريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الثانية، 2009م.

[23]      انظر حول ذلك حلقة (النظام الواقعي).

[24]      للتفصيل لاحظ الجزء الثاني من (النظام الواقعي).

[25]      للتفصيل حول مقالة الفرقة الناجية انظر حلقة: علم الطريقة.

comments powered by Disqus