-
ع
+

تشريع العقل الكلامي وتأسيس الخطاب الديني

يحيى محمد

تتحدد العلاقة بين العقل والخطاب الديني طبقاً لوجود ثلاثة أنماط من التأسيس العقلي. فمن حيث التسلسل المنطقي تتأصل البداية بالتأسيس القبلي للنظر، ثم بعد ذلك تأسيس الخطاب من الخارج، وأخيراً تأسيس هذا الأخير من الداخل. والوظيفتان الأخيرتان مختلفتان في الغرض، إذ تقوم الأولى بإثبات المسألة الدينية، في حين تعمل الأخرى على فهمها. لكن ما يجمع هاتين الوظيفتين هو التشريع العقلي ومنافسته لتشريع الخطاب. وسنفصّل الحديث عن كل منهما كالآتي..

أ ـ التأسيس الخارجي

يتوقف إثبات المسألة الدينية على عدد من قضايا العقل، كما يصورها أصحاب الدائرة العقلية، بعضها يعود إلى القضايا المشتركة، والبعض الآخر يختص بحسب ما عليه كل من المنطقين: الحق الذاتي وحق الملكية.

وأبرز قضية يشترك فيها المنطقان الآنفا الذكر، تلك التي لها علاقة بإثبات المسألة الإلهية، حيث جنّد لها المنطقان أدلة مشتركة قائمة على الاعتبارات القبلية الخاصة بمفاهيم الجسم والعرض والجوهر والحدوث وما إليها.

ففيما يتعلق بإثبات وجود الله، قدّم أصحاب الدائرة العقلية عدداً من الأدلة، أبرزها ما يُعرف بدليل الحدوث، وهو أنه لما كانت الأشياء الخارجية مكونة من الأجسام أو الجواهر الفردة، وأن هذه الجواهر تقوم فيها أعراض أو حالات متغيرة كالحركة والسكون والإجتماع والإفتراق، فعلى ذلك تكون الأعراض حادثة لكونها تحدث بعد أن لم تكن، ثم تزول، حيث الحدوث عبارة عن إخراج الشيء من العدم إلى الوجود، وبالتالي فلا بد لها من محدِث. وحيث أن الجواهر لا تنفك عن الحوادث، وكل ما لا يخلو من الحوادث فلا بد أن يكون حادثاً مثله. فالأجسام لا تنفك عن الأعراض، والأعراض حادثة، لذا فالأجسام حادثة مثلها، وبذا يثبت أن لها محدِثاً، وهو الله، إذ لا يمكن أن يتسلسل الأمر إلى غير نهاية[1].

وقد تعرّض هذا الدليل لجملة إنتقادات، أبرزها ما قدّمه الفيلسوف ابن رشد في هذا المجال، إذ لخّص الدليل بثلاث مقدمات قبل نقدها، كما يلي:

1ـ لا تخلو الجواهر من أعراض ولا تنفك عنها.

2ـ إن الأعراض حادثة.

3ـ كل ما لا ينفك عن الحوادث لا بد أن يكون حادثاً مثله.

وقد إعترض ابن رشد على المقدمة الأولى، فالخلاف حول الجوهر الفرد بين العلماء والفلاسفة كثير، أو أن عليه أقاويل كثيرة متضادة، وأنه ليس معروفاً بنفسه، فهل له وجود أم لا؟ لا سيما وأن الفلاسفة ينفونه ويرون أن كل جزء من الجسم قابل للإنقسام إلى ما لا نهاية له من الأجزاء. ولا شك أن أصحاب الدائرة العقلية على علم بمثل هذا الخلاف الحاصل بينهم وبين الفلاسفة، وأن كلا الطرفين يضع من الأدلة لإثبات موقفه من ذلك الجوهر، إن كان يقبل الإنقسام كما ذهب إليه الفلاسفة، أو لا يقبله كما يقول العقليون ضمن النظام المعياري[2].

وحول المقدمة الثانية اعتبر ابن رشد أنه لا دليل للعقليين على حدوث جميع الأعراض، إذ بنوا هذه المقدمة طبقاً لدليل الشاهد على الغائب، فإذا كنّا نشهد حدوث الأعراض في الأجسام الارضية، فإن الأمر في الجسم السماوي غير معلوم، سواء بالنسبة ما يتعلق بهذا الجسم، أو بأعراضه الخاصة، إذ ليس بالضرورة أن يكون حاله حال الجسم عندنا. وينطبق الأمر أيضاً على الزمان، فهو من الأعراض، لكن ليس للحس دلالة تشير إلى أنه حادث. وكذا ينطبق الحال على المكان الذي يكون فيه العالم، إذ كل متكوّن؛ فالمكان سابق له، الأمر الذي يعسر تصور حدوثه.

أما المقدمة الثالثة، فقد نقدها ابن رشد لعدم إمتناع أن يكون المحل مورداً لجنس الحوادث دون أن يكون حادثاً هو الآخر. فقد تتعاقب على المحل أو الجسم أعراض غير متناهية؛ متضادة وغير متضادة، مثل حدوث الحركات غير المتناهية كما يعتقده الفلاسفة[3].

وحول إثبات مسألة التوحيد، اعتمد الكثير من أصحاب الدائرة العقلية على دليل التمانع، وخلاصته هي أنه لو فرضنا وجود إلهين، أراد أحدهما خلق إنسان، وأراد الآخر عدم خلقه، ففي هذه الحالة إما أن يتحقق المرادان، أو لا يتحقق، أو يتحقق أحدهما، فالفرض الأول مستحيل لأنه يعني التناقض، والثاني مستحيل أيضاً لأنه يعني الوسط المرفوع، أما الأخير فهو الصحيح وبه تثبت الالوهية، وهو معنى قوله تعالى: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾[4].

وعادة ما يرد على هذا الدليل عدد من الإشكالات، مثل: لِمَ لا يُفترض وجود إلهين قادرين ينتج عنهما مقدور واحد؟ ولِمَ لا يُفترض أن القادرين يتفقان فلا يتمانعان؟ كذلك لِمَ لا يكون لكل إله خلقه الخاص دون العلم بالآخر، أو دون القدرة على منعه؟ أو كما جاء في شبهة ابن كمونة، حيث افترضت وجود هويتين بسيطتين كل منهما عبارة عن موجود بسيط مستغن عن العلة مطلقاً[5].

وحقيقة الأمر أنه لا هذا الدليل، ولا دليل الحدوث المطروح لإثبات وجود الله، يمكن أن يُقنع الباحث إقناعًا تامًا، بل إن قوة الدليل تُستمد عبر ملاحظة الواقع.

فمن جهة، إن العرض والجوهر كلاهما متغيران بلا فرق، وأن ذات الشيء وتغيره كلاهما يعبران عن حقيقة الموضوع الخارجي، والذي سبق أن أسميناه بالوجود الصيروري، كما جاء في حلقة (النظام الوجودي). ولما كان التغير لا يجري على وتيرة واحدة، بل هو تغير غير محدود، فذلك يكشف عن أن له أسباباً خارجية طبقاً لمبدأ السببية. إذ لو كان التغير نابعًا عن الطبيعة الذاتية للمادة؛ لكان على وتيرة واحدة، أي لكان ثابتاً من غير تغاير. أما والتغاير حاصل؛ فهذا يعني أنه بحاجة إلى تعليل من الخارج، وهو ما يثبت العلل الميتافيزيقية، ومن ثم وجود الله.

كما إنه بحسب التقديرات الإحتمالية، لا يُعقل أن يكون النظام القائم في الواقع المشهود قد نتج عن المصادفة العمياء. إذ إما أن نفسّر هذا النظام استنادًا إلى المصادفات العشوائية، أو إلى وجود عقل حكيم منظِّم.

ولا شك أن العمل باجراء الحساب الإحتمالي لا يُبقي للفرض الأول قيمة يُعدّ لها اعتبار، إذ تتحول أغلب القيم الإحتمالية لصالح إثبات تلك القضية.

فبحسب وحدة الأساس، لا يختلف استنتاج وجود العقل المدبر عن منهج استنتاج النظريات العلمية، بل يتفوق عليه، إذ تدعمه قرائن لا تُحصى من دون منافس، ما دام لا توجد ظواهر مضادة تكذبه. فضلًا عن أن أطراف هذه المسألة مغلقة وضيّقة للغاية، خلافًا للنظريات العلمية التي تظل مفتوحة وقابلة للاستبدال بلا حدود؛ إذ يمكن لكل تفسير علمي أن يحل محله تفسير آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية، بينما المسألة الإلهية محصورة بين فرضين لا ثالث لهما: إما النظام العاقل أو المصادفة العمياء. وبالتالي إذا كانت القرائن متجهة نحو إثبات هذه المسألة؛ فذلك يعني دحضاً للطرف الآخر، إذ ليس هناك طرف ثالث منافس في هذه المعادلة.

وبذلك يمكن القول إنه لا توجد قضية خارجية تحظى بتأييد معرفي يماثل ما تحظى به هذه المسألة. فحتى القضايا الحسية، رغم تعاملنا معها على أساس القطع واليقين، لا تبلغ - عند التحليل الدقيق - درجة ما تحظى به هذه القضية من تأييد، لما تختزنه من قرائن لا تقبل الحصر والنهاية[6].

وينطبق هذا الحال على إثبات مسألة التوحيد، فوحدة هذا النظام تدل على وحدة المصدر، فلو كان هناك أكثر من إله لكنا نجد أثار الإختلاف في الخلق، أو فساده واضطرابه، وحيث اننا لم نجد ذلك؛ فالأمر دال على صدوره عن واحد أحد. وهو ما يرشد إليه قوله تعالى: ﴿ما اتّخذ اللّه من ولد وما كان معه من إله إذاً لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض﴾ (المؤمنون/ 91)، وقوله: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا﴾ (الأنبياء/ 22). إذ تدل الآية الأولى على نفي الإختلاف، وتدل الأخرى على نفي الاضطراب والفساد. وبالتالي فلو كان هناك اتفاق بين إلهين؛ لبان التعدد في آثارهما، ولدلّت عليه الحسابات الإحتمالية، مثلما دلّت على عظمة الخالق ووحدته.

كذلك فإن إفتراض وجود إلهين قادرين ينتج منهما مقدور واحد، هو إفتراض معقد لا مبرر له، إذ يكفي أن يكون المقدور الواحد صادراً عن إله فرد. مثلما أنه لا مبرر لإفتراض التسلسل في الآلهة أو العلل، طالما يمكن تفسير النظام القائم طبقاً لأصل واحد تبعاً لمبدأ البساطة الذي تعتمد عليه العلوم الطبيعية[7].

***

يضاف إلى ما سبق، ثمة قضايا أخرى رئيسية يتوقف عليها إثبات المسألة الدينية. وهنا يأتي دور المنطقين الخاصين بالدائرة العقلية، فلكل منهما تشريعه الخاص تبعاً للإعتبارات التي يفرضها أصله المولّد، وهو ما سنتعرف عليه كالتالي:

الحق الذاتي والتأسيس الخارجي

معلوم أن منطق الحق الذاتي يرى أن أول الواجبات هو الواجب العقلي المتمثل في وجوب (النظر)، والذي يؤدي إلى معرفة الله وصفاته الرئيسة، ومن ثم يتأسس التشريع العقلي الخاص بسائر الألطاف ومتفرعات الحسن والقبح، كما يتأسس الخطاب الديني من الخارج.

فطبقاً لهذا المنطق أنه لا يمكن الإستدلال بالسمع ما لم تتقرر جملة من الأمور العقلية، كمعرفة الله وعدالته وحكمته وأنه لا يفعل القبيح مطلقاً. فلهذه المعارف أهمية خاصة لتصحيح صدق الباري في كلامه وإخباره، وأنه لا يُجري المعجز على يد الكذابين. وعندئذ يمكن الإستدلال بالسمع والاحتجاج به، لأن صحته تتوقف على هذه الأمور العقلية[8].

ومن الواضح أن جميع هذه القضايا، بإستثناء معرفة الله، هي قضايا معيارية تحددها قاعدة الحسن والقبح العقليين. بل حتى معرفة الله إنما تتحقق بشكلها الطبيعي عبر تلك القضية المعيارية الخاصة بوجوب النظر العقلي. وبالتالي فإن إثبات المسألة الدينية متوقف على تلك القاعدة. لذلك قال بعض أتباع هذا المنطق: إن عزل العقل عن إدراك الحسن والقبح يوجب هدم أساس إثبات الصانع، ويلزم عنه افحام الأنبياء، وبالتالي يوجب هدم أصل الشريعة[9].

ويمكن القول إن التشريع العقلي لدى هذا المنطق يفضي إلى تأسيس العديد من المسائل الوجودية، وعلى رأسها المسألة الإلهية. ولأجل ذلك ظهر البحث في القضايا الكونية، كالبحث في الجسم والأعراض والجوهر والجزء والخلاء والمكان والزمان وغيرها.

فالغرض من هذه البحوث هو إثبات المسألة الإلهية، وأن الغرض من هذه الأخيرة هو إثبات التكاليف العقلية والدينية وفقاً للحق الذاتي، رغم ما يفضي إليه الأمر من الدور. حيث تتوقف التكاليف الدينية على صحة التكاليف العقلية من غير عكس. فبحسب هذا المنطق تحتوي العقول على إدراك الأمور التكليفية بصورة إجمالية، ولا تُعرف تفاصيلها إلا عبر السمع أو الخطاب الديني[10]. وهو بذلك يجعل من هذه التكاليف مبرراً لإثبات منظومة الحقائق الدينية. لهذا كان وجوب النظر هو أول هذه التكاليف وأساس إثبات سائر التكاليف الأخرى، سواء العقلية منها أو الدينية.

ووفقًا لهذا المنطق، جاء الخطاب الديني محفزًا على النظر؛ كمنبّه لما ينبغي على العقل فعله، لذلك أشار جماعة من أتباعه إلى أن الله تعالى قد وبّخ الكفار بسبب تركهم الإستدلال بعقولهم على وحدانيته وربوبيته بما يشاهدونه في أنفسهم وغيرهم، فقال تعالى في عدد من الآيات القرآنية: ﴿لآيات لأولي الألباب﴾ (آل عمران/ 190).. ﴿لأولي النهى﴾ (طه/ 54).. ﴿أفلا تعقلون﴾ (البقرة/ 44).. ﴿لقوم يعقلون﴾ (البقرة/ 164).. ﴿وقالوا لو كنّا نسمع أو نعقل﴾ (الملك/ 10).. الخ[11].

ويتوقف إثبات المسألة الدينية على العديد من الواجبات والشروط العقلية التي تجمعها نظرية اللطف، ومن ذلك إثبات البعثة وعصمة الأنبياء، وكذا الأئمة لدى بعض المذاهب، فهذه القضايا هي الأصول المباشرة لتأسيس الخطاب من الخارج. وسنقتصر الحديث في هذه الفقرة على وجوب البعثة كما يلي:

وجوب البعثة

لمنطق الحق الذاتي عدد من المبررات التي تؤكد وجوب بعثة الأنبياء على الله؛ تبعاً لنظرية اللطف، كالتي ذكرها الشيخ الطوسي بقوله: «الذي يدل على حسن بعثة الرسل فهو ما يؤدونه إلينا من المصالح والألطاف؛ لأنه لا يمتنع أن يعلم الله تعالى أن في أفعال المكلَّف ما إذا دعاه إلى فعل الواجب العقلي أو صرفه عن فعل القبيح العقلي، أو ما إذا فعله دعاه إلى فعل القبيح والإخلال بالواجب، فيجب إعلامه ذلك، لأن الأول لطف له والثاني مفسدة، ويجب عليه تعالى إزاحة علته في التكليف في فعل اللطف على ما بيناه فيما مضى، ولا يمكن إعلام المكلَّف ذلك إلا بأن يبعث إليه نبياً يعلمه ذلك، وإنما قلنا ذلك لأنه لا يمكن الوصول إلى ذلك بإستدلال عقلي، ولا يحسن خلق العلم ضرورة بذلك لأن التكليف يمنع منه، فلم يبق بعد ذلك إلا بعثة الرسول ليعرفه ذلك، وهذا الوجه الذي نقول إنه متى حسنت بعثة الأنبياء وجبت، فلا ينفصل الحسن من الوجوب، وإنما قلنا لا يمكن العلم بهذه الألطاف ضرورة؛ لأنا قد بينّا أن العلم بالله تعالى إنما يكون لطفاً إذا كان كسباً، وإن كان ضرورة لا يكون لطفاً»[12].

بهذا المعنى تكون التكاليف السمعية ألطافاً للتكاليف العقلية، فاللطف يدعو إلى فعل الواجبات وترك النواهي، ومنها الواجبات والنواهي العقلية. فمثلاً «إنا نعلم ضرورة أن الإنسان إذا واظب على فعل الصلاة والصوم - مثلاً - دعاه ذلك إلى العلم بالله تعالى وصفاته، ليعلم أن العبادة هل هي لائقة به أم لا؟ وكل لطف واجب كما تقدم»[13].

وشبيه بذلك ما أكده القاضي الهمداني حول تحديد وجوب لطف النبوة بما تقرر لدى العقل من أن الأفعال يدعو بعضها إلى بعض، ويصرف بعضها عن بعض «فإذا علم الله أن فعل المكلَّف ما إذا تمسك به كان أقرب إلى فعل الواجبات، أو أنه يكون فاعلاً لها لا محالة، ولم يكن في قوة العقول ما يمكن معه الوقوف على تفاصيله، فلا بد من حكمة أن يبعث إليهم من يعرفهم به. وبعبارة أخرى إن ما يحصل للمكلفين من الصلاح في بعض أفعالهم التي لا يمكنهم أن يقفوا عليها بعقولهم فلا بد من أن يزيح الله علتهم بالبيان ونصب الأدلة، كما لا بد فيما هو لطف من فعله تعالى أن يفعله، فإذا لم يكن لضرورة العقل مدخل في معرفة ذلك، ولا لأدلة العقول والنظر مجال، فلا بد من طريقة أخرى يعلمهم الله بواسطتها، وهذه هي طريقة السمع والنبوة». وأكد القاضي أيضاً بأن سبب وجوب البعثة هو أن فيها وجوهاً تحسن عليها[14].

كما قدّم هذا الشيخ تفصيلاً حول وجوب البعثة وعدمه، فذكر ثلاثة أحوال:

«1ـ فإما أن يكون من المعلوم من حالهم - أي حال المكلَّفين - التمسك بسائر ما كلفوه عقلاً، سواء تمسكوا بما نزل عن طريق النبوة أو لم يتمسكوا به، ومثل هذا المكلَّف لا تجب بعثة الرسول له لتأكيد ما يستملك به الأمور العقلية، ولكنها واجبة لما يتصل بالتكليف السمعي.

2ـ أن يكون المعلوم من حالهم أنهم لا يتمسكون بما في عقولهم أو بعضها، وهؤلاء لا تؤثر البعثة في حالهم من حيث أداؤهم الواجبات العقلية، ولذلك لا تجب بعثة الرسول إليهم عقلاً، ولكنها تجب سمعاً لإقامة الحجة، ومعرفة التكليف السمعي.

3ـ وأخيراً فإن هناك من المعلوم من حاله أنه إذا تمسك ببعض الشرائع صلح في بعض ما كلف به شرعاً وعقلاً واختار الواجب، ولولاه كان لا يختاره، وهذا النوع هو الذي تحسن البعثة له وتجب عقلاً وشرعاً. وإذا فإن النبوة تجب للمكلفين جميعاً، وإن اختلفت سبل وجوبها لهم»[15].

***

نستخلص مما سبق النقطتين التاليتين:

أ ـ إن سبب وجوب بعثة الأنبياء يعود إلى كونها لطفاً؛ لحثّها على الواجبات، ومنها الواجبات العقلية، وتفصيلها لما يجمله العقل من واجبات ومنهيات.

ب ـ إن تعيين هذا الوجوب مستند إلى ملاحظة جهات الحسن في بعثة الأنبياء.

فحول هاتين النقطتين سنجمل نقاشنا عبر الفقرتين التاليتين:

1ـ أول ما يلاحظ أنه لا يمكن البت في وجوب اللطف، فليس كل ما يدعو إلى فعل الحسن يكون واجباً، ولا كل ما يدعو إلى فعل القبيح يكون محظوراً. ويظل العلم بهذا الوجوب متوقفاً على العلم بالحكمة. والعلم العقلي بطبيعة الأخيرة منفي لمجمل الأفعال الإلهية.

ولو أخذنا بنظرية اللطف لأعتبرنا بأن من الواجب ملئ الفترات الشاغرة للأنبياء والأئمة، فاستمرار وجودهم من غير إنقطاع يعمل على حفظ الدعوة إلى فعل الحسن وتجنب القبيح، بل لكان من الواجب أيضاً أن تكون بعثات الأنبياء ورسالاتهم شاملة لكل الناس على السواء، لذات العلة من لطف الدعوة إلى فعل الحسن وتجنب القبيح، ولأصبحنا اليوم نحفل بوجود عدد من الأنبياء أو الأئمة، طالما ظلت الحاجة إليهم قائمة لرفع اللبس والإنقسام بين الناس حول معرفة الحقيقة الدينية وتقويم السلوك، وذلك لنفس المبررات والدواعي التي وجبت بها بعثة الأنبياء في السابق.

2ـ كذلك يمكن القول إنه لا دليل على وجوب النبوة تبعاً لملاحظة وجوه الحسن فيها، إذ ما الذي يؤكد أنه لا بديل لهذه الوجوه؟ فلعل هناك مصالح أخرى سوى البعثة لا نعلمها قد تستوجب التعيين؛ مثل إفتراض أن تكون حكمة الله ناظرة إلى ما يتحقق للإنسان من مكاسب وتطورات بفعل الخبرة التاريخية، كالذي يُشاهد في القضايا الدنيوية التي تتقبل البحث العلمي. وبالتالي يتعذر علينا معرفة الواجبات الإلهية الفعلية؛ طالما ليس بإستطاعتنا العلم بكافة وجوه الحسن والحكمة في الخلق والتدبير.

على أن هناك صورة أخرى لإثبات النبوة منسوبة إلى الحكماء (الفلاسفة)، وهي طريقة كلامية غير فلسفية، وتقريرها كالتالي: «كلما كان صلاح النوع مطلوباً لله تعالى كانت الشريعة واجبة، وكلما كانت الشريعة واجبة كانت البعثة واجبة، فكلما كان صلاح النوع مطلوباً فالبعثة واجبة»[16].

وواضح أنه لا يمكن البت في المقدمة الأولى، إذ قد يكون صلاح النوع مطلوباً بأمر آخر غير المسألة الدينية. كما أن إستخدام مصطلح (الوجوب) إن كان يُقصد به ما تعارف لدى أهل الكلام من أن تركه قبيح؛ فهو غير لازم عن تلك المقدمة، وإن كان يقصد بالوجوب ما تعارف لدى أهل الفلسفة من معنى مرادف للضرورة والحتمية؛ فهو غير معقول بالمرة.

ومن الناحية العقلية الصرفة، تظل مسألة البعثة مرجحة تبعاً لقضايا الإحتمال، حيث من مصلحة الناس أن يأتيهم الأنبياء لحثهم على الفعل الحسن وتجنب القبيح، وأن يطمئنوا إلى أن ما يفعلونه من خير وما يصيبهم من شر لا يذهب سدى، فمثل ذلك لا يتحقق بقوة أخرى أفضل من النبوة. أما إثباتها فيعتمد على دراسة الواقع الخاص بمدعي النبوة وفقاً للقرائن الاستقرائية وحسابات الإحتمال، كالذي تناوله المفكر الصدر في كتابه (المرسل، الرسول، الرسالة). إذ لو ثبتت جزئية واحدة موجبة؛ لدلّ ذلك على صدق القضية على النحو الكلي.

حق الملكية والتأسيس الخارجي

تبعاً لمنطق الحق الذاتي، ان تأسيس المسألة الدينية يستند إلى الواجبات المعيارية قبل أي اعتبار آخر، فتبدأ العملية بإثبات الواجبات المتعينة على المكلَّف، وعلى رأسها وجوب النظر، ليتم من خلالها إثبات حالة الثبوت التي تتعين بها الواجبات المفترضة على المكلِّف، ومنها واجبات بناء المسألة الدينية وفق بعثة الأنبياء والعصمة. لكن الأمر مع منطق حق الملكية يختلف تماماً، فهو لا يسمح بوجود واجبات عقلية مفترضة سلفاً، طالما أن كل واجب تكليفي مبعثه من المالك الحقيقي لا غير، مما يعني أنه لا بد من إذن شرعي لتبرير الواجبات دون أن يكون للعقل حظ من التشريع. وأيضاً فإنه بحسب اعتبارات البداهة الأولية لهذا المنطق لا مجال للقول بواجبات المكلِّف، طالما أن الأخير يمتلك سلطة الواجبات بإطلاق دون أن تعلو عليه سلطة أخرى كما هو واضح. وهذا يعني أن المسألة الدينية لا يمكنها أن تتأسس على القضايا المعيارية، فأي تأسيس لها على هذه القضايا يفضي بها إلى التناقض والصدام مع الأصل المولّد، وهو ما كان يعيه أصحاب هذا المنطق تماماً.

والسؤال المطروح: على ماذا تتأسس المسألة الدينية إذاً؟

من الواضح أنه لم يبق من الأمر شيء سوى أن يكون تأسيسها قائماً على القضايا الوجودية أو التكوينية. وإذا كنّا نعلم بأن ما يغلب على المسألة الدينية هو المضمون المعياري، فهذا يعني أنه لا بد من أن يتأسس المعيار وفقاً للأمر الوجودي، مما يقرِّب هذا الاتجاه من الاعتبارات التي عوّل عليها النظام الوجودي، خلافاً لما ذهب إليه منطق الحق الذاتي الذي جعل الأخير قائماً على الأول، ومن ذلك ما يتعلق بالأساس الأول للواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف، وهو وجوب النظر، والذي تتأسس عليه المسألة الإلهية والدينية.

نعود لنسأل: ما هي القضايا الوجودية المعول عليها في إثبات المسألة الدينية؛ كبعثة الأنبياء وما إليها؟ إذ كنا مع منطق الحق الذاتي نعتمد على قاعدة العدل ومشتقاتها فيما يخص المكلِّف، وعلى وجوب النظر العقلي فيما يخص المكلَّف. لكن ماذا مع منطق حق الملكية؟

من المقرر لدى هذا المنطق أن إثبات المسألة الدينية يستند أساساً إلى نظرية (الكلام الإلهي). إذ تشكل هذه النظرية المناط الذي يربط القضايا العقلية بالدينية، كالذي يوضحه نص الإمام الغزالي التالي: إن «المعلوم بدليل العقل دون الشرع فهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وإرادته، فإن كل ذلك ما لم يثبت؛ لم يثبت الشرع، إذ الشرع يبنى على الكلام فإن لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل إثباته بكلام النفس وما يستند إليه، ونفس الكلام أيضاً فيما اخترناه لا يمكن إثباته بالشرع»[17].

وما يعنيه هذا النص هو تأسيس المسألة الدينية عبر العقل النظري، إذ لا مجال للعقل العملي كالذي يفيده منطق الحق الذاتي. وبعبارة أخرى: لا مجال للقول بنظرية اللطف والوجوب العقلي على للمكلِّف.

لكن قد تثار إشكالية بهذا الصدد، وهي أن عدم أخذ اعتبارات الوجوب العقلي يمكن أن يفضي إلى جواز إتصاف الإخبار الإلهي بالكذب والخداع، ومن ثم استحالة تأسيس المسألة الدينية. وبالتالي كيف يمكن اثبات صدق الإخبار الإلهي وفق منطق حق الملكية؟

وكجواب عن الإشكالية المطروحة، نفى أصحاب هذا المنطق إمكانية الكذب والخداع في الإخبار الإلهي، وذلك إعتماداً على العقل النظري. إذ اعتبروا كلام الله كلاماً نفسياً ثابتاً وصادقاً يستحيل عليه الكذب. فالصدق والكلام كلاهما من الصفات الذاتية للمكلِّف[18]. وتبرير هذه المقالة يستند إلى قولهم بأنه لما كان الصدق من صفات الله تعالى، وأن الكذب نقص، فإن النقص محال عليه. وهم وإن جوزوا الكذب في مواضع مختلفة؛ إلا أنهم جوزوه لأغراض صحيحة من وجود ضرورة وحاجة، والله منزه عن الضرورة والأغراض والمصالح[19].

وتواجه هذه المسألة عدد من الاعتراضات كما يلي:

الاعتراض الأول: إن إستخدام العقل النظري لتبرير نفي الكذب الإلهي يمكن أن يثير إشكالية حول صلاحيات هذا العقل وفقاً لذات البداهة الأولية لحق الملكية، فماذا نقول لو أن المالك يمنعنا من إستخدام هذا العقل؟

صحيح ما قد يجاب على ذلك بأنه لا دليل على هذا المدعى، لكن صحيح أيضاً أنه لا دليل على العكس، إذ ما الدليل على جواز إستخدام العقل قبل ورود الشرع وقيام المسألة الدينية؟

فلو اعتمدنا على المرجعية الدينية في جواز إستخدام العقل؛ لوقعنا في الدور، إذ كيف نعلم حجية هذا الإستخدام من غير إثبات المسألة الدينية، وإن إثبات هذه المسألة موكول على عدم ممانعة المالك في إستخدام العقل، والعلم بعدم الممانعة لا يُعرف إلا بثبوت المسألة الدينية، وهكذا نقع في الدور والتسلسل.

الاعتراض الثاني: لا يوجد لدى العقل ما يدل على إستحالة الكذب في الإخبار الإلهي، فطالما أن القدرة حاصلة والإختيار ممكن، فذلك يجعل من الصدق والكذب أمرين ممكنين، وأن حتمية أحدهما لا تكون إلا على ضوء الفهم الوجودي كالذي يبشّر به النظام الوجودي.

الاعتراض الثالث: لا يتوقف الأمر عند الحد السابق، فحتى مع سلامة حتمية صدق الإخبار الإلهي، تظل هناك إشكالية أخرى تتعلق بالصدق البشري، إذ كيف يمكن التأكد من صدق الناس الذين ينقلون كلام الله تحت عنوان النبوة؟

فقد تكون دعوى النبوة كاذبة، لا سيما وأن أصحاب هذا المنطق يرون أن الأفعال البشرية هي أفعال إلهية، وأن كل شيء يعود إليه بحكم العادة، وأن من الجائز أن ينقلب كل شيء إلى ضده. وعليه ما المانع من أن يُظهِر الله المعجزات على يد الكذابين؟ وإذا كانت قد جرت عادة الله أن لا يُظهِر المعجز على يد الكذابين؛ فكيف نُثبت ذلك، مع أننا لم نطلع على الغيب، ولم نعرف إن كان أجراها سابقاً على يد كذابين أم لا؟

فكل ما قرره أصحاب هذا المنطق هو استحالة ظهور المعجزة عند دعوى الكاذب، باعتبار أن المعجزة تتضمن تصديقاً، فالخارق للعادة «يمتنع من الدعوى لأنه يكون تصديقاً لكاذب، وتصديق الكاذب محال، ولا يمتنع مع عدمها». وبعبارة أخرى: لا يمكن أن تظهر المعجزة على يد الكاذب؛ لأنها لو ظهرت لدلّت على صدقه، وتصديق الكاذب أمر مستحيل وفقاً لقضايا العقل[20].

وحقيقة الأمر، إنه لا توجد إستحالة عقلية فيما ذُكر، لكن القائلين بذلك اضطروا لهذا القول؛ لأنهم لا يملكون دليلاً آخر يُثبتون به إثبات المسألة الدينية، مثلما ألجأتهم الضرورة إلى اعتبار الكلام الإلهي صادقاً صدقاً محتماً. وكل ذلك يتنافى مع الاعتبارات المعيارية لهذه القضايا.

وقد ظهر من أصحاب هذا الاتجاه من ناقض نفسه، فجمع بين الأخذ بنظرية التقبيح والتحسين الشرعيين، وبين الإعتقاد بوجوب عصمة الأنبياء عقلاً في الحالة التي لا تناقض فيها مدلول المعجرة، وهي عبارة عن صدقهم فيما يبلّغون[21]، وكأنه بهذا عبّر عن وجدانه في حقيقة كون هذه القضايا معيارية غير محتمة.

الاعتراض الرابع: يدرك أتباع هذا المنطق أن ما يترتب على نفي عقلية الحسن والقبح يفضي إلى إستحالة إثبات الصدقين الخاصين بالإله والنبوة، أي أنه يفضي بالنتيجة إلى عدم إمكان تأسيس المسألة الدينية برمتها، ومن ثم عدم إثبات صحة ما يخبرنا التشريع الديني بقبح الكذب والخداع، إذ قد يكون ذلك من الكذب المتعلق بالكلام الإلهي، أو الكذب المتعلق بالنبوة.

فلأجل الفرار من مثل هذه اللوازم الفاسدة اعتبروا الصدق من الأمور الحتمية المناطة بالكلام الإلهي والنبوة، رغم أن التسليم بالصفة الذاتية للكلام الإلهي لا يستلزم ضرورة الإتصاف بالصدق دون الكذب. فالكلام الثابت شيء، وصدقه أو كذبه شيء آخر، ومثلما يحتاج الأول إلى دليل، فالآخر يحتاج إلى دليل غيره.

أما آراء أتباع هذا المنطق حول علاقة النبوة بمقالة الصدق التي يترتب عليها تأسيس المسألة الدينية؛ فهي مضطربة وضعيفة. فكما لاحظنا خلال الاعتراض السابق أنه لا مبرر للقول بإستحالة إجراء المعجزات على يد الكذابين، كما لا مبرر للقول بأن ذلك جار ضمن العادة الإلهية الثابتة من دون خرق.

 

الاعتراض الخامس: أضف إلى ما سبق أن في هذا المنطق ما يُغيّب مدلول المعجزة عن معناها. ذلك أنه إذا كانت السببية عبارة عن عادة إلهية تتضمن الخلق المستمر للأعراض، وأنه لا يوجد تأثير لبعض الأشياء على البعض الآخر، بل الله هو المؤثر المباشر، فذلك يجعل من المعجزة فعلاً لا يختلف نوعاً عن سائر الأفعال الإلهية الأخرى، فليس هناك خرق لقوانين الطبيعة، ولا ايقاف لتأثير بعض القوى على البعض الآخر، إنما الموجود هو أفعال نتوهم أنها جاءت خارقة للقوانين، وإلا فالكل عبارة عن فعل الله المباشر، وكل شيء جائز الحصول، وبالتالي فإن مقولة (لا فاعل في الوجود إلا الله) كما يقرها هذا المنطق لا تبرر لنا المعجزات بمعناها الخارق، ومن ثم فإنها لا تبرر صدق دعوى النبوة.

ب ـ التأسيس الداخلي

يتأسس فهم الخطاب حسب الدائرة العقلية وفقاً لتشريعات العقل القبلية، سواء تلك المترتبة على منطق الحق الذاتي، أو على منطق حق الملكية. ففي كلا الحالين يتخذ فهم الخطاب صوراً ومراتب مختلفة أبرزها تلك التي تُعرف بالتأويل والتي يتحكم من خلالها العقل في نص الخطاب.

ولهذا التأسيس مبرران: فمن جانب، إن للعقل أصوله وتشريعاته القبلية، ومن ذلك الأصل المولّد ومشتقاته المعرفية، فكل هذه القضايا معدة من المسلمات القطعية التي تتحكم في فهم الخطاب الديني وتوجيهه، وبالتالي لا يمكن فصل تأسيس «الفهم» عن التأسيس القبلي للنظر العقلي.

ومن جانب آخر، فهو أن التأسيس الخارجي للخطاب قائم على التشريع العقلي، إذ لولا الأخير لتعذّر إثبات حجية الخطاب وجعل قضاياه صحيحة ومعتمدة. وهو ما يبرر للتأسيس الداخلي أن يرتكز عليه، أي على شاكلة ما أُعتمد عليه في التأسيس الخارجي، وأن الفصل بينهما - من وجهة نظر هذه الدائرة - يفضي إلى التناقض وعدم الإتساق، إذ لا يمكن أن يُقبل التشريع المذكور في المرتكز الأول بإطلاق، ويُرفض في المرتكز الآخر بإطلاق، فإما أن يُقبل فيهما معاً، أو يُرفض كلية. لذلك كثيراً ما يردد نقاد هذه الطريقة بأنها تستغني بالعقل عن النقل، وأنها تحكّم الأول في الثاني عند التعارض، بل وتبالغ بقدرته في التشريع. ومع أن هذه التهمة توجّه ضد المعتزلة عادة، إلا أن متأخري الأشاعرة لم يختلفوا كثيراً عن نظرائهم المعتزلة.

فعادة ما يقال وسط الدائرة العقلية أن إثبات المسألة الدينية قائم على الدليل العقلي بإطلاق، وأن إنكار دور الأخير في الفهم يفضي إلى العجز عن إثبات تلك المسألة. وهذا الادعاء يفترض ضمناً أن القضيتين متماثلتان؛ فبطلان إحداهما يقتضي بطلان الأخرى. مع أن الدليل العقلي فيه من العموم والإطلاق ما يتعسر تحديده والاتفاق على قبوله، فما يُعدّ دليلاً وبرهاناً لدى اتجاه؛ قد يكون عكسه لدى اتجاه آخر. كما أن هذه الدائرة لم تميز بين ما يندرج ضمن قائمة العقل القبلي، وما يندرج ضمن قائمة العقل البعدي. ولم تميز أيضاً بين قيم الأدلة الناشئة عن الاعتبارات الخاصة، وبين غيرها مما يُعدّ ضمن الاعتبارات المشتركة.

وتتحدد وظيفة العقل في تأسيسه لفهم الخطاب بعدد من الجوانب، إذ يتصف العقل بالمشرِّع المحكم؛ فيستقبل ما تُعرض عليه من قضايا الخطاب لتصحيحها؛ سواء بالتأييد والتأكيد، أو بعدم الممانعة، أو بالتوجيه والتأويل، أو بالرفض والإنكار، كإن يكون بصدد تكذيب الأخبار والأحاديث المنافية للنظر القبلي. فالحَكَم الفصل عائد إلى التشريع العقلي لا الخطاب الديني، لا سيما وأن الأخير يُعتبر مصدر التشابه والإحتمال والمجاز، خلافاً للعقل الموصوف بأنه مصدر الإحكام والقطع والحقيقة.

وكما قال الشيخ أبو جعفر الطوسي: «الظواهر تبنى على أدلة العقول، ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر»[22]. وقال القاضي عبد الجبار الهمداني: «إن أدلة العقول بعيدة عن الإحتمال، والألفاظ معرضة لذلك من حيث تدخلها الحقيقة والمجاز»[23].

كذلك ذهب فخر الدين الرازي إلى أن الدليل اللفظي لا يفيد القطع واليقين بإطلاق، لكونه يتوقف على عشرة أمور ينبغي التيقن منها، ومن هذه الأمور عدم المعارض العقلي، وعنده أن انتفاء المعارض العقلي أمر مظنون لا معلوم، لإستحالة القطع، إذ يجوز أن يكون في نفس الأمر دليل عقلي يناقض ما دلّ عليه القرآن ولم يخطر ببال المستمع[24].

وفي جميع الأحوال، لا بد من عرض الأدلة السمعية على محك العقل، للتحقق من عدم وقوع التعارض بينهما، وبذلك يتخذ التشريع العقلي مواقف متعددة إزاء مضامين الخطاب الديني، يمكن إجمالها على النحو الآتي:

1ـ التفصيل العقلي لما ينبّه عليه التشريع الديني: فوظيفة الخطاب الديني في هذه الحالة هي التنبيه إلى ما يتضمنه العققل من قضايا، دون التطرق إلى تفصيلها، ومن ذلك التنبيه على طرق الإستدلال على المسألة الإلهية. فالغافل قد لا يلتفت إلى الطريقة الصحيحة للإستدلال العقلي، وبالتالي فهو يحتاج إلى مثل هذا التنبيه ليقوم العقل بدوره من التفصيل العلمي المستقل.

2ـ التأييد العقلي للتشريع الديني: فأحياناً أن العقل يؤيد مضامين الخطاب الديني، ويصبح التشريعان متطابقين. ومن ذلك ما يتعلق بمسائل الحسن والقبح، كالذي يشير إليه منطق الحق الذاتي، فهي واردة في الخطاب الديني على نحو الإمضاء لا التأسيس، بمعنى أن الخطاب يؤكد ما يحكم به العقل، وأن الأخير يؤيد ما ينطق به الأول.

ومن حيث الدقة يرى أتباع منطق الحق الذاتي أن مسائل الحسن والقبح قد تُدرك بالعقل المستقل، سواء على نحو الضرورة، أو على نحو الإستدلال، كما قد تُحجب عنه، لكن في جميع الأحوال يأتي الخطاب الديني إما كاشفاً عنها على نحو التأسيس، أو منبّهاً عليها على نحو الإمضاء والتأكيد.

3ـ عدم الممانعة العقلية للتشريع الديني: فالعقل لا يدرك التفاصيل الدقيقة، لكنه يدرك مجمل الأمور، لذا فالتشريعان غير متنافيين. فمثلاً لا يدرك العقل تفاصيل العبادات كما وردت في الخطاب الديني، لكنه يدرك وجوب اتباع ما تأتي به النبوة عبر الوحي.

وقد ميّز القاضي الهمداني بين الأدلة السمعية والعقلية، معتبراً أن ما لا يثبت بالعقل قد يُعرف عبر القرائن المبثوثة في النصوص، كما هو الحال مع الصلوات الواجبة وشروطها[25]. كما أقرّ أن هناك أفعالاً يكون المرء عندها أقرب إلى فعل الواجبات وتجنب القبائح ولا تعلم بالدليل العقلي، لإختلاف شروط الأفعال والأحوال والظروف المحيطة بالمكلَّفين، فقد يجب على مكلَّف في ظرف وحال ما قد يقبح من الآخر، وكل ذلك يُعلم تفصيله بالشرع لا العقل، كالذي أشرنا اليه في حلقة (نُظم التراث)[26].

4ـ الممانعة العقلية لما ينسب إلى التشريع الديني: كما يتجلى مع نصوص الحديث. فكثيراً ما يلجأ أصحاب الدائرة العقلية إلى الإعتراض على الروايات بدعوى المعارضة مع العقل، كما هو الحال مع أتباع منطق الحق الذاتي.

فمثلاً اعتبر هؤلاء أن الروح والعقل من الأعراض التي لا تقوم بنفسها بل بغيرها، فأنكروا الروايات التي تشير إلى أن خلق الروح كان سابقاً على الجسد، وكذا الروايات التي تشير إلى أن العقل كان مخلوقاً قبل سائر الأجسام[27].

وفي هذا السياق، قال الزمخشري: «إمش في دينك تحت راية السلطان، ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان. فما الأسد المحتجب في عرينه، أعزّ من الرجل المحتج على قرينه. وما العنز الجرباء تحت الشمأَل البليل، أذل من المقلد عند صاحب الدليل»[28].

5ـ الممانعة العقلية للتشريع الديني وممارسة التأويل: كما يحدث عادة مع النص القرآني، وأحياناً مع الحديث. فإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن خاصية التأويل، كما في بعض التعريفات الحديثة، تأتي للإحساس بوجود ثغرة في النص يراد تسديدها بفعل القراءة التي يباشرها القارئ أو المفسر.. فسيتمثل المُسدد للثغرة المفترضة بالتشريع العقلي ضمن النظام المعياري، حيث يعمل على توجيه الدلالة السمعية إلى ما يوافق دلالة العقل عند المعارضة.

ونظراً لأهمية الموقف الأخير فسنسلط عليه الضوء تبعاً لمنطقي الدائرة العقلية، وسنبدأ بالحديث عن التأويل المتعلق بمنطق الحق الذاتي، ثم نردفه بالحديث عن التأويل الخاص بمنطق الملكية، وفق الفقرتين الآتيتين..

الحق الذاتي والتأويل

ليس غرضنا - هنا - استعراض واحصاء كل ما يصدر عن منطق الحق الذاتي من تأويلات، بل هدفنا هو فهم الممارسة التطبيقية لعملية التأويل وعلاقتها بقضايا العقل القبلي، وعلى رأسها تلك التي لها علاقة بالأصل المولّد.

ولهذه الممارسة تطبيقات كثيرة كتلك الجارية حول مسائل العقيدة التي نطق بها الخطاب الديني، سواء في المجال المعياري أو في المجال الوجودي، كالذي سنتعرف عليه خلال الفقرتين التاليتين:

1ـ التأويل في المجال المعياري

من الممارسات التأويلية في المجال المعياري ما جاء حول مسألة القضاء والقدر، حيث غرضها دفع حالات الجبر والإلجاء كما تبدو من النصوص القرآنية. والحاكم في هذا التأويل هو التشريع العقلي الذي ينص على أن الفعل الإلهي مقيد بالعدل تبعاً للأصل المولّد، وأن الجبر والإلجاء هو مما يتنافى مع هذا العدل.

وأبرز النصوص التي طالتها يد التأويل حول هذا الموضوع ما يتعلق بالهداية والضلال، ومن ذلك ما ذكره الشريف المرتضى حول معنى الآية القرآنية: ﴿إنّك لا تهدي من أحببت ولكنّ اللّه يهدي من يشاء﴾ (القصص/ 56)، فاعتبر معناها هو أنك لا تنجي من العذاب من أحببت.

ثم قال: «فإن قيل: فلم زعمتم أن هذا هو تأويل الآية؟ قيل له: لما كان الله قد هداهم؛ بأن دلهم على الإيمان، علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب، وقد بيّن الله تعالى أن الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به، فقال ﴿إن يتّبعون إلا الظنّ وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربّهم الهدى﴾ (النجم/ 23) يعني الدلالة والبيان. فإن قيل له: إنما أراد به ليس عليك نجاتهم، ما عليك إلا البلاغ ولكن الله ينجي من شاء. فإن قيل: فلِمَ قلتم هذا؟ قيل له: لما أخبر الله تعالى أن النبي (ص) قد هدى الكافر فقال: ﴿وإنّك لتهدي إلى صراط مستقيم﴾ (الشورى/ 52)، وإنما يريد أنك تدل، فلما كان قد دلّ المؤمن والكافر كان قد هدى الكافر والمؤمن، فعلمنا أنه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة. فقس على ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من أمثال هذه الآية»[29].

بهذا التحديد قام المرتضى بتقسيم الهدى إلى نوعين؛ أحدهما بمعنى الدليل والبيان، والآخر بمعنى الثواب والنجاة، ودلّل على كل منهما ببعض الشواهد القرآنية، فعلى النوع الأول قوله تعالى: ﴿وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى﴾ (فصلت/ 17)، وقوله: ﴿وما منع النّاس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى﴾ (الإسراء/ 94)، وقوله: ﴿انا هديناه السبيل أما شاكراً وإما كفوراً﴾ (الإنسان/ 3). وعلى النوع الثاني قوله تعالى: ﴿والذين قتلوا في سبيل الله فلن يُضِلّ أعمالهم، سيهديهم ويصلح بالهم﴾ (محمد/ 4ـ5)، وقوله: ﴿يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السّلام﴾ (المائدة/16)، وقوله: ﴿ان الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم تجري من تحتهم الانهار في جنات النعيم﴾ (يونس/9)[30].

بيد أن هناك نوعاً آخر للهداية تُفسر به الآيات التي أوّلها الشريف المرتضى إلى معنى النجاة والثواب[31]، حيث ظواهرها يشير إلى معنى (الإلجاء) الخاص بدفع السلوك البشري باتجاه معين من غير شعور، كإن يخلق الله الدواعي للفعل باتجاه معين دون غيره. ويحظى هذا المعنى، الذي تدل عليه الكثير من الآيات، بتأييد من الواقع.

وينطبق الحال السابق على مسألة (الضلال) والتي حصرها المرتضى بالمعنى المحدد للعقاب والهلاك كجزاء على الكفر، ومن ذلك ما استدل به في قوله تعالى: ﴿إن المجرمين في ضلال وسعير﴾ (القمر/ 47)، أي أن المجرمين في هلاك وسعير، مع أن هناك الكثير من الآيات التي تتحدث عن إضلاله تعالى للكافرين بما تدل عليه من (الإلجاء)، وذلك على شاكلة ما يجري مع الهداية، فالإلجاء لا مفر منه سواء بالهداية أو الضلال، كما يدل عليه قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً﴾ (الكهف/ 17)، وقوله: ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ (البقرة/ 26)، ويؤيده الواقع بما يحمل من سنن إنسانية، كما سنشير إليه فيما بعد.

وعلى هذه الشاكلة جاء عن القاضي عبد الجبار الهمداني تأويله للكثير من الآيات بهذا الصدد، ومن ذلك تفسيره لقوله تعالى: ﴿فمن يرد اللّه أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقاً حرجاً﴾ (الأنعام/ 125)، حيث اعتبر أن المراد بالهدى في تلك الآية هو زيادة الهدى لكي ينشرح صدره للإسلام والإيمان. كما اعتبر أن المراد من الإضلال في الآية هو الإضلال عن تلك الزيادة لعلمه تعالى بأنه لا ينتفع بها، فيجعل صدره ضيقاً حرجاً، فتضطرب عليه إعتقاداته الفاسدة إذا فكّر فيها.

وقد عدّ تفسيره هذا دليلاً على أنه تعالى «يفعل بالمؤمن ما يكون أقرب إلى ثباته على الإيمان من شرح الصدر بزيادات الأدلة، ويفعل بالكافر ما يكون أقرب إلى أن يقلع عن الكفر من ضيق الصدر»[32]. مع أن هذا التفسير جاء على عكس ظاهر الآية، إذ تدل على كون انشراح الصدر هو سبب الهداية لا العكس، وكذا أن انقباض الصدر وضيقه هو سبب الضلال.

كما قام الهمداني بتأويل قوله تعالى: ﴿فريقاً هدى وفريقاً حق عليهم الضلالة﴾ (الأعراف/ 30)، فعلى رأيه أنه إذا كان الله تعالى قد هدى الجميع؛ فما معنى إضلاله للبعض كما نطقت به الآية السابقة؟ لهذا ذكر أن المراد بها هو الجزاء في الآخرة، فيكون الهدى بمعنى الثواب، والضلالة بمعنى العقاب[33].

وعلى هذه الشاكلة فسّر قوله تعالى: ﴿من يهد الله فهو المهتدي ومن يضلل فأولئك هم الخاسرون﴾ (الأعراف/ 178)، فاعتبر بأن المراد هو من يهد الله إلى الجنة والثواب فهو المهتدي في الدنيا، ومن يضلل عن الثواب إلى العقاب فهم الخاسرون في الدنيا. وكذا الأمر في تفسير قوله تعالى: ﴿من يضلل اللّه فلا هادي له﴾ (الأعراف/ 186)، أي من يضلله عن الثواب في الآخرة فلا هادي له اليه[34].

كما جاء في تأويله لقوله تعالى: ﴿وأن اللّه يهدي من يريد﴾ (الحج/ 16) بأن المراد هو أن الله يكلّف من يريد، باعتبار أن بعض الناس لا يبلغون حد التكليف، واحتمل في الآية مراداً آخر هو الهداية إلى الثواب الخاص بالمطيعين دون غيرهم[35]. ومنها ما ذكره في تفسير قوله تعالى: ﴿أتريدون أن تهدوا من أضلّ اللّه﴾ (النساء/ 88)، فقال بأن المراد بذلك هو من أضله الله تعالى عن الجنة، إذ لا يصح أن يهديه إليها وقد حكم عليه بالعقاب[36]. وكذا بالنسبة لتفسيره للآية: ﴿يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً﴾ (البقرة/ 26)، حيث أوّلها إلى معنى الثواب والعقاب[37].

كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ (البقرة/7)، بأن للعلماء جوابين ممكنين: الأول استبعد فيه أن يكون الله تعالى هو من منعهم عن الإيمان والهداية، وإلا لما ذمهم، وعليه فإن معنى الغشاوة على السمع والبصر هو من باب التشبيه، إذ رغم إزاحة كل العلل المانعة عن الإيمان فإنهم مع ذلك لم يؤمنوا وكأن عليهم غشاوة.

ثم ذكر استدراكاً لهذا الجواب، وهو أنه حتى لو ثبتت الغشاوة حقيقة لما جاز أن تكون مؤثرة على واقع كونهم عقلاء مكلفين. أما الجواب الثاني للآية فيتضمن بأن الختم علامة يفعلها الله تعالى في قلوبهم كي تعرف الملائكة كفرهم فيكونوا محل ذم لها[38]. وهو جواب بعيد عن ظاهر معنى الآية.

وعلى هذه الشاكلة اعتبر أن المراد في قوله تعالى: ﴿في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً﴾ (البقرة/ 10)، هو أن في قلوبهم غماً أو حسداً على ما يخص الله تعالى به رسوله وأصحابه، فقد كانوا يغتاظون ويعظم غمّهم، لذا فمعنى قوله ﴿فزادهم الله مرضاً﴾: أي زادهم غمّاً بما يفعله الله بالرسول ويجدده له من المنزلة حالاً بعد حال. وقد أنكر أن يكون معنى المرض الكفر والنفاق بإعتباره يفضي إلى نفي العدل عن الله[39].

كذلك اعتبر المراد في قوله تعالى: ﴿ويمدّهم في طغيانهم يعمهون﴾ (البقرة/15)، هو أن يمدّهم الله في جزاء طغيانهم، لا أن يمدّهم في نفس طغيانهم، كما احتمل أن يكون ذلك عاقبة أمرهم، فمعنى يمدّهم أي يبقيهم على حالهم[40]. وهناك تأويل آخر ذكره في (متشابه القرآن) وهو أن معنى يمدّهم؛ هو إمداده لهم في العمر نعمة منه عليهم كي يستدركوا ما فاتهم فيتوبوا، وهم مع ذلك يعمهون في طغيانهم ولا يزدادون إلا شراً، فالذي ينسب إلى الله تعالى هو المدّ في العمر، أما الطغيان والعمه فيضاف إليهم[41].

وأيضاً أنه اعتبر المراد في قوله تعالى: ﴿ان الذين لا يؤمنون بالآخرة زينّا لهم أعمالهم﴾ (النمل/ 4)، هو تزيين ما ينبغي أن يعملوه وما يجب عليهم السعي فيه[42].

ومن ذلك أيضاً أنه اعتبر قوله تعالى على لسان ابليس: ﴿قال فبما أغويتني﴾ (الأعراف/ 16) أن المراد منه هو بما أحرمتني من الثواب وخيبتني منه، لا أن المراد به الضلال، بل الحرمان[43].

وكذا بالنسبة إلى تفسيره لقوله تعالى على لسان نوح: ﴿ولا ينفعكم نصحي إنْ اردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم﴾ (هود/ 34)، فاعتبر أن ما أراده نوح (ع) هو أن نصحه لا ينفع مادام الله أراد حرمان قومه عن الفوز بالثواب وإنزال العقاب[44].

كذلك تفسيره لقوله تعالى: ﴿ولا يحسبن الذين كفروا إنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا اثماً﴾ (آل عمران/ 178)، وهو أن اللام في ﴿ليزدادوا﴾ للعاقبة لا للتعليل[45]، مع أن الظاهر هو العكس.

وأيضاً تفسيره لقوله تعالى: ﴿ومن يعشُ عن ذكر الرحمن نقيض له شيطاناً فهو له قرين﴾ (الزخرف/ 36)، حيث اعتبر المراد به هو أن من يعشُ عن ذكر الرحمن في الدنيا فإن الله يقيض له شيطاناً في الآخرة فيصبح قرينه، ثم استدرك في هذا التأويل وذكر أن بدونه يمكن تفسير النص طبقاً للتخلية بين الكافرين والشياطين، مثلما جاء في تفسير قوله تعالى: ﴿ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزاً﴾ (مريم/83)، إذ بسبب كفرهم خلى بينهم وبين الشياطين[46].

ومثل ذلك ما ذكره الشريف الرضي في (حقائق التأويل)، حيث فعل الشيء الذي فعله شقيقه الشريف المرتضى من تأويل الآيات الخاصة بالهداية والإضلال، ومن قبله الهمداني، فقام بتأويل بعض آيات الإزاغة، مثل قوله تعالى: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾ (الصف/ 5)، فاعتبر أن الإزاغة الثانية هي على سبيل العقوبة في الآخرة، وهو أن الله أزاغ قلوبهم عن طريق الجنة والثواب، تبعاً للازاغة الأولى منهم في الدنيا، وبالتالي كانت الإزاغة في الدنيا قبيحة، وفي الآخرة حسنة[47].

مع هذا فقد نقل الشريف الرضي رأياً يعود إلى بعض التابعين لذات المنطق؛ لا ينكر فيه الإزاغة في الدنيا، لكنه يفسرها تبعاً لتخلية الله تعالى بين العبد ولطفه، كعقوبة تأتي بعد المعصية والإنحراف.

وبحسب ما جاء في هذا الرأي هو أن إضلال الله وإزاغته ليسا كإضلال إبليس وإزاغته، لأن الله تعالى قد ذم ذلك وبرئ منه، فعلمنا أنه تعالى لا يضل عن الحق وهو يدعو إليه، ولا يمنع منه وهو يأمر به. لذا لم يثبت أن الله ابتدأ قوماً بالإزاغة، بل قال: ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم﴾، فأخبر الله بأنه فعل ذلك بهم عقوبة على زيغهم وجزاء على فعلهم، فمنعهم الألطاف والفوائد التي يؤتيها سبحانه كل من آمن به، ووقف عند حده، وخلّاهم وإختيارهم، وأخلاهم من زيادة الهدى التي ذكرها في كتابه، فقال: ﴿والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم﴾ (محمد/ 17) فأضاف سبحانه الفعل في الإزاغة إلى نفسه، على اتساع مناهج اللغة في أضافة الفعل إلى الآمر، وإن وقع مخالفاً لأمره، فسُمي من كان سبب الضلال مضلاً، وإن لم يكن منه دعاء إلى الضلال ولا إلى ضده، مثلما قال سبحانه: ﴿وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمناً واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام، رب إنهن أضللن كثيراً من الناس﴾ (البقرة/ 126)، فأضاف تعالى ضلال القوم إلى الأصنام، إذ جعلوها سبباً لضلالتهم، وهي جماد لا يكون منها صرف عن طاعة ولا دعاء إلى معصية. ومثل ذلك ما يقال: إن الرجل يشغف بالمرأة، فإذا عظم وجْده بها وقلقه من أجلها، قال لها: قد أسهرتِ ليلي، وأمرضتِ قلبي، وكدرتِ صفاء عيشي، ولعلها لم تعلم بشيء من أمره، ولم تشعر بأوقات قلقه وسهره، ولكنه لما اعتقد أنها سبب لذلك - وإن لم تفعله - جاز أن ينسب إليها فعله. وأشدّ تأكيداً من ذلك أنها لو شعرت بما يقاسيه فيها ويعانيه من حبها، فزجرته عن نفسها وخوفته عواقب الإشتغال بها، فكان ذلك سبباً في تضاعف شغفه، فانحلت قوى أمره واسترخى وتر صبره وطال بها سهر ليله وتشاغل عن مصالح نفسه، كان جائزاً أن ينسب ذلك إليها، فيقول: إنها أسهرت ليلي وأطالت فكري، واقتطعتني عن مصالحي، وذهبت بي عن مراشدي، وهي لم تعظه إلا ليتعظ، ولم تزجره إلا ليزدجر. وكذا ما يتعلق في آية (الإزاغة)، وهو أن الله ليس هو المباشر في الإزاغة، بل قد يكون ذلك بفعل الإحالة بينهم وبينه دون أن يقدّم لهم الألطاف الهادية بسبب انحرافهم[48].

وهو تفسير جاء على شاكلة ما سبق إليه القاضي الهمداني لبعض الآيات التي مرّت معنا. وإن كان ذلك لا يفسر لنا معنى الإلجاء الذي تؤكده النصوص الدينية بما يخالف ما ذهب إليه هذا الإتجاه.

ومن التأويلات الأخرى ما أورده الأديب محمود بن عمر الزمخشري، حيث فسّر قوله تعالى: ﴿ومن يُرِد اللهُ فتنته فلن تملك له من الله شيئاً أولئك الذين لم يُرِد الله أن يطهّر قلوبهم، لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم﴾ (المائدة/ 41)، بمعنى أن الله تركه مفتوناً ومخذولاً، بأنْ لا يمنحه وأمثاله من ألطافه ما يطهّر به قلوبهم[49].

كذلك تأويله لقوله تعالى: ﴿ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم﴾ (البقرة/ 7)، حيث صرح بأنه لا ختم ولا تغشية على الحقيقة، وإنما هو من باب المجاز تبعاً للإستعارة أو التمثيل.

وهو بذلك ينفي أن يكون الختم والتغشية من قبل الله تعالى، باعتبار أن ذلك يخالف منطق الحق في عدالة الله وحسن صنيعه، واعتبر أنه يجوز أن يستعار الإسناد في نفسه من غير الله لله؛ فيكون الختم مسنداً إلى اسم الله على سبيل المجاز، كإن يكون الشيطان أو الكافر هو الخاتم في الحقيقة، إلا أن الله لما كان هو الذي مكّنه فقد أسند إليه الختم. كما احتمل أن ذلك جاء لأن هؤلاء الكفار أصبحوا بلا طريق للإيمان طوعاً وإختياراً إلا بالقسر والإلجاء، لكن لو حصل هذا لانتقض غرض التكليف، لذا عبّر عنه بالختم. وهناك وجوه محتملة أخرى طرحها الزمخشري كلها تصب في نفي أن يكون الختم والتغشية راجعيْن إلى الله بالذات[50].

***

ويلاحظ في التأويلات السابقة أنها تتفادى الوقوع في مستنقع الجبر الذي يحيله أصحاب منطق الحق الذاتي سمعاً وعقلاً، بتبرير أنه يتنافى مع العدل والأصل المولّد. أما من حيث التحقيق، فالواقع يشهد على صور الإلجاء ضمن ما يعرف بالسنن الإجتماعية والكونية، ومن أبرزها سنن التطبع والعادة وما يترتب عليها من نتائج تتعلق بالتأثير على قوة ميل الإرادة عند الممارسة المتكررة. فمن حيث هذه القوة، أن من فعل شيئاً لمرات معدودة ليس كمن اعتاد عليه. وأبلغ ما تظهر به صورة الإلجاء هي عند الحد الذي يُعرف بالعادة والتطبع. فالذي يعتاد على ممارسة شيء يكون كالمجبر عليه، وكلما زاد الفعل كلما زاد الإعتياد والأُلفة، الأمر الذي يؤثر على فعل الإرادة وقوتها[51].

ولا يتوقف الحال عند هذا الحد، بل يحدث نوع آخر من الإلجاء يتصف بكونه من سنخ الشيء المعتاد عليه.

وبعبارة أخرى، يحصل فيما نحن بصدده تطوران من الإلجاء؛ حيث تبدأ الممارسة بالتطور الكمي للفعل الذي يترتب عليه الإعتياد والتطبع، ومن ثم تفضي العملية إلى تطور كيفي، حيث يبدأ بممارسة أفعال أخرى تتسق مع تلك التي تم الإعتياد عليها، وهي بدورها قابلة للتحول إلى العادة والتطبع بفعل التكرار. وكل ذلك يتضمن الإلجاء.

وعليه فالإنسان محكوم بقدرين: إرادته من جهة، والسنن الكونية والإجتماعية من جهة ثانية. الأمر الذي غفل عنه أصحاب المنطق السابق، حيث بهذين القدرين يمكن تفسير ما تشير إليه النصوص القرآنية التي مرت معنا دون حاجة للتأويل. وهي حقيقة لا تتنافى مع العدل الإلهي، حيث إن الإلجاء المشار إليه في النصوص؛ كالمد في الطغيان، وزيادة الكفر ومرض النفاق في القلوب، وجعل الغشاوة، وتسليط الشياطين على الكافرين.. الخ، كل ذلك جاء عقوبة لسوء الفعل والإختيار دون إلغاء الإرادة كلياً. فهو عبارة عن جزاء مرتب وفق ذات السنن الكونية في ضغطها على الإرادة وميولها.

ولا يتنافى ذلك مع حكم الآخرة الذي لسنا معنيين به على نحو التفصيل؛ لجهلنا بخصوصيات الحساب والتقدير وفق العدل والإحسان.

والشيء نفسه يقال حول الإلجاء المتعلق بالهداية، حيث كلا الحالين (الهداية والضلال) يخضعان للأسباب والمسبَّبات، والآيات القرآنية تشير إلى هذا المعنى وتضع المسؤولية على عاتق الإنسان وخياراته، إذ تترتب عليها النتائج الخاصة بالهداية والضلال، ومن ذلك النصوص التالية:

﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بايمانهم﴾ (يونس/ 9).. ﴿الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب﴾ (الشورى/ 13).. ﴿يُضل به كثيراً ويهدي به كثيراً وما يُضل به إلا الفاسقين، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون﴾ (البقرة/ 26ـ27).. ﴿إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل﴾ (النحل/ 37).. ﴿أفرأيت من اتّخذ إلهه هواه وأضلّه اللّه على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهديه من بعد اللّه أفلا تذكّرون﴾ (الجاثية/ 23).. ﴿يثبّت اللّه الّذين آمنوا بالقول الثّابت في الحياة الدّنيا وفي الآخرة ويضلّ اللّه الظّالمين ويفعل اللّه ما يشاء﴾ (إبراهيم/ 27).. ﴿فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين﴾ (الصف/ 5).. ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ (المطففين/ 14).. ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ (التوبة/ 67).. الخ.

فبحسب هذه النصوص أن سبب الهداية والضلال مناط بخيار الإنسان، وهو أمر لا ينقطع من حيث المد والزيادة ﴿ويزيد الله الذين اهتدوا هدى﴾ (مريم/ 76)، فالهداية تجر الهداية، والضلال يجر الضلال، وهكذا بلا حدود. ومنه يتبين فشل الممارسة التأويلية التي أبداها أصحاب منطق الحق الذاتي، سواء عوّلنا في ذلك على كثرة النصوص القرآنية التي تبدي المعاني الخاصة بالالجاء، أو عوّلنا على ما يظهره الواقع الخارجي من الحقائق والسنن الكونية.

مع هذا نشير إلى ما حكي عن بعض أتباع هذا المنطق من أنه اعترف بصور الإلجاء التي جاء ذكرها في القرآن؛ مثل الختم والطبع والغشاوة والإزاغة والإضلال وغيرها، إذ ذهب الشيخ عبد الواحد بن زيد البصري (المتوفى سنة 150هـ أو 177هـ) وإبن أخته بكر، إلى إعتبارها توابع وعقوبات من الله لأصحاب الجرائم، كالذي تدل عليه ظواهر النصوص[52].

2ـ التأويل في المجال الوجودي

اما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، فأبرزها تلك المتعلقة بقضايا الصفات الإلهية. ومن ذلك تأويل الشيخ المفيد لسمع الله وبصره، وهو أنه عالم بالمسموعات وعالم بالمبصرات[53]. وكذا تأويل الشيخ الطوسي لمسألة حب الله، وهو أنه يأتي بمعنى الإرادة فحسب، كما في قوله تعالى: ﴿إنّ اللّه لا يحبّ المعتدين﴾ (البقرة/ 190)، أي أنه لا يريد ثوابهم ولا مدحهم[54].

وجاء عن أصحاب هذا المنطق تأويلهم لآيات الرؤية، كما في قوله تعالى: ﴿وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة﴾ (القيامة/ 22ـ23)، حيث تعني عندهم بأن وجوه المؤمنين منتظرة ثواب ربها ونعيمه، أو بمعنى أن المؤمنين ينظرون إلى هذا الثواب، ولدى البعض لا مانع من المعنيين معاً، حيث لا تنافي بينهما[55].

ومن ذلك أيضاً ما قام به الزمخشري من تأويل آية الكرسي: ﴿وسع كرسيه السماوات والأرض﴾ (البقرة/ 255)، معتبراً أن مفاد الآية هو غير هذا الظاهر، بل هناك وجوه للمعنى، منها: إنها جاءت لتصوير عظمة الله وتخيلها «ولا كرسي ثمة ولا قعود ولا قاعد». إذ أنها وردت بمثل ما جاء في قوله تعالى: ﴿وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه﴾ (الزمر/ 67)، حيث لا توجد قبضة وطي ويمين «وإنما هو تخييل لعظمة شأنه وتمثيل حسي» بدلالة صدر الآية ﴿وما قدروا الله حق قدره﴾.

وثمة وجه آخر لمعنى الكرسي، وهو العلم، فسُمي العلم كرسياً تسمية بمكانه الذي هو كرسي العالِم. كما هناك وجه ثالث، وهو أن الكرسي بمعنى الملك، باعتبار أن الله مالك كل شيء[56].

كما قام الزمخشري بتأويل آية الأمانة: ﴿إنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبيْنَ أن يحملنها وأشفقْنَ منها وحملها الإنسان، إنه كان ظلوماً جهولاً﴾ (الأحزاب/ 72)، معتبراً أن عرضها على الجماد من السماوات والأرض والجبال وعدم حملها واشفاقها منها إنما جاء مجازاً لا حقيقة[57].

ومثل ذلك تأويله لخشوع الجبل وتصدّعه في قوله تعالى: ﴿لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله﴾ (الحشر/ 21)، حيث اعتبر ذلك من التمثيل والتخييل، كالذي جاء في عرض الأمانة، بدلالة خاتمة الآية ﴿وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون﴾، حيث الغرض منها توبيخ الإنسان على قسوة قلبه وقلة خشوعه عند تلاوة القرآن وتدبر قوارعه وزواجره.

وعلى هذه الشاكلة تأويله لقوله تعالى: ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعاً أو كرهاً قالتا أتينا طائعين﴾ (فصلت/ 11)، حيث عد ذلك من المجاز والتمثيل، وإنما الغرض هو تصوير أثر قدرته في الأشياء بلا قول ولا جواب[58].

وجاء في تأويله لآية الميثاق الذي أخذه الله على عباده في سابق الزمان: ﴿وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنّا عن هذا غافلين﴾ (الأعراف/ 172)، فاعتبر ذلك من التمثيل والتخييل والتصوير، والمعنى عنده هو أن الله نصب لهم الأدلة على ربوبيته ووحدانيته وشهدت بها عقولهم وبصائرهم التي ركّبها فيهم لتميّز بين الهدى والضلالة، فكأنه أشهدهم على أنفسهم بما جاء في الآية، ومثل ذلك إقرارهم، وكل هذا من التمثيل[59].

***

نستخلص مما سبق النقاط الثلاث التالية:

1ـ يتضح من الممارسات التأويلية السابقة أن للعقل استقلالية في التشريع والأحكام، وهو بذلك لا ينافس تشريع الخطاب الديني فحسب، بل يكون حاكماً عليه. إذ غرض ممارسات التأويل هو تسديد الثغرة الخاصة بعدم انسجام ما يبدو من نص الخطاب مع قبليات العقل وتشريعه، لذلك كان تسديد هذه الثغرة مستمداً من مفردات هذا العقل وتصوراته الأولية ضمن اطار منطق الحق الذاتي.

إذ استند هذا المنطق في تبريره للثغرة الانفة الذكر إلى المفاهيم المترتبة على أصله المولّد، ومن ذلك مفهوم الحكمة، حيث إن أفعال الله لا تخلو من الحكمة، ومن بين ذلك ما يتعلق بجعل الخطاب الديني بعضه متشابهاً.

وكان من الأصول التي اعتمدها هذا المنطق هو رد المتشابه من النصوص الدينية إلى المحكم منها. فمن الوجوه التي ذكرت في علة وجود المتشابه في القرآن، هو أن الله أراد تكليفنا بإزالة التشابه عبر النظر في النص والاجتهاد في معرفة معناه كي لا يكون هناك جهل وتقليد، وبالتالي كان لا بد من التشريع العقلي وإعتباره حاكماً على نص الخطاب[60].

2ـ كما يلاحظ أن الممارسات التأويلية في المجال المعياري تعتمد على ما للعقل من تشريع مستمد من الأصل المولّد لمنطق الحق الذاتي.

فكما عرفنا أن الغرض من تأويل نصوص مسألة القضاء والقدر هو إبعاد الشبهة المتعلقة بالجبر والإلجاء والتي لا تتسق مع مبدأ العدل الإلهي المنتزع عن بداهة الحق الذاتي.

أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، كما هو الحال مع نصوص الصفات الإلهية، فيلاحظ أنها لا تتعلق بالأصل المولّد للحق الذاتي مباشرة، لكنها تعزز من اعتبارات هذا الأصل، طالما أن لها علاقة بالعدل الإلهي. حيث حرص هذا المنطق على أن تتصف الذات الإلهية بكامل التجريد عن المشابهة مع المخلوقات وصفاتها الجسمية، وذلك كي لا تكون محكومة باعتبارات النقص الذي تتصف به هذه المخلوقات وطبائعها، سواء فيما يتعلق بـ «النقص الوجودي» كحالات التركيب والتغير في الذات، أو ما يتعلق بـ «النقص المعياري» كحالات الظلم وغياب الحكمة؛ لإعتبارات الشهوة والغضب وما إليها من النقائص الأخرى التي هي من طبائع المخلوقات.

فهذا هو التوحيد في أقصى درجاته من التجريد، كما يتصوره منطق الحق الذاتي، وبالتالي كان لا بد من تأويل الآيات التي تتنافى معه، كتلك التي تتعلق بالقضايا الوجودية للصفات الإلهية، لا فقط لاعتبارات التعالي عن الجسمية والمادة، بل كذلك للتعالي عن طبائع المخلوقات الباعثة على الظلم أو الفعل القبيح. الأمر الذي تتوثق به الصلة بين الاعتبارين الوجودي والمعياري.

3ـ تتصف الممارسة العقلية للتأويل، سواء لدى منطق الحق الذاتي أو حق الملكية، بأنها لا تفيد إثبات شيء من التفسير بقدر ما تفيد نفي ظاهر النص. إذ أنها لا تهدف من الممارسة التأويلية أكثر من عدم معارضة النص لقبلياتها المعرفية، وبالتالي فإنها لا تمانع من طرح وجوه ممكنة للتفسير دون الاقتصار على وجه معين بالخصوص، خلافاً لمسلك النظام الوجودي الذي يستهدف باستظهاره وتأويله واستبطانه إثبات المعنى التفسيري؛ كما هو منعكس عن قبلياته المعرفية الوجودية، وعلى رأسها الأصل المولّد كما يتمثل في (السنخية).

حق الملكية والتأويل

لا يختلف منطق حق الملكية عن نظيره السابق في أن له اعتبارات عقلية تنافس ما عليه سلطة التشريع لدى الخطاب الديني. لكن هذه الاعتبارات حددت مجال العقل خارج دائرة التكليف والواجبات الملقاة على عاتق المكلَّف.

وقد يُستشف من هذه الازدواجية وجود نوع من التناقض وعدم الإتساق. فمن جهة، أن هذا المنطق وضع ثقته بالخطاب في كل ما يتعلق بالتكليف، وهو إعتراف ضمني ببيانية الخطاب وقطعيته، وهذا ما رام إليه الأشعري في تأسيس مذهبه الجديد، معتبراً طريقته على شاكلة السلف، إلى الحد الذي تعبّد فيه بجميع ما نطق به الخطاب الديني من أسماء توقيفية ومن صفات لا يستسيغ ظاهرها العقل. أما من جهة ثانية، فهي أن هذا المنطق قد تعامل مع القضايا الأخرى للخطاب الديني معاملة قائمة على الظن والتشابه. وبذلك أصبح التعامل مزدوجاً. فتارة يضع المنطق المذكور ثقته في العقل دون الخطاب، وأخرى يجعلها في الأخير دون الأول. مما يعني الوقوع في شرك التذبذب والتناقض.

وبتعبير آخر، إذا كان هذا المنطق يعترف بأن الخطاب الديني هو مصدر التشريع، وأن العقل العملي لا يملك هذه الصلاحية، فكيف أجاز للعقل النظري ممارسة دوره في التشريع دون إذن ذلك الخطاب؟ بل كيف جعل منه حاكماً على هذا الأخير؟ فهذا التناقض هو على خلاف الإتساق الذي حظي به منطق الحق الذاتي في علاقته مع الخطاب.

ويمكن القول إن التطورات التي حصلت داخل المذهب الأشعري جعلته يضيق ببيان الخطاب الديني مع تقدم الزمن باضطراد، حيث أخذ الدليل العقلي يحل محل الدليل اللفظي. ولم يكن هذا الحال جارياً داخل المذهب الاعتزالي، إذ ظل موقفه ثابتاً إزاء ترجيح الدلالة العقلية على اللفظية عند التعارض. وأما ما جرى على المذهب الأشعري فهو أنه نشأ لغرض الدفاع عن الخطاب الديني قبال التشريع العقلي، لكن تطورات المذهب أفضت إلى قلب المعادلة رأساً على عقب، إذ أصبح الهدف هو الدفاع عن منطق العقل قبال الخطاب الديني.

وبذلك وقف المذهب الأشعري على ذات الخشبة التي وقف عليها عدوه التقليدي المعتزلي، وأصبح كلا الإتجاهين يدافعان عن العقل قبال النص، مع فارق التناقض الذي أصاب الأول خلافاً لما عليه غريمه الآخر. كذلك مع لحاظ جانب الإختلاف في المعاملة التي كان يبديها المذهب الأشعري للنصوص المتعلقة بالمجال المعياري مقارنة بتلك المناطة بالمجال الوجودي. فهناك ثبات في الرؤية التي عبّر عنها المذهب اتجاه المجال الأول (المعياري)، حيث ظل الموقف العام معبّراً عن ممارسة التأويل لكل ما لا يتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية، خلافاً لما حصل من تباين في الرؤية إزاء التعامل مع المجال الثاني (الوجودي)، إذ نجد إختلافاً واضحاً في الرؤية والتطور. وكل ذلك كان له مضاعفاته على الأزمة التي لاحت المذهب وأصله المولّد.

أما حول ممارسات هذا الإتجاه التأويلية، فسنستعرض جملة منها ضمن المجالين المعياري والوجودي، كما يلي:

أولاً:

لنبدأ بذكر شواهد من الممارسات التأويلية ضمن المجال المعياري، كتلك التي قام بها الباقلاني، كما في تأويله لقوله تعالى: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا وسعها﴾ (البقرة/ 286)، ومثله قوله: ﴿لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها﴾ (الطلاق/ 7)، إذ ذكر بأن المراد من ذلك هو أن الله تعالى لم يكلّف أحداً بنفقة الزوجة إلا بما تمكّن من المال الذي في حوزته دون ما لا يتملك، واعتبر أن الآيتين لا تريدان إثبات الإستطاعة قبل الفعل[61]. وهو تأويل جاء ليتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية في نفي تلك الإستطاعة.

كذلك قام بتأويل قوله تعالى: ﴿فوكزه موسى فقضى عليه، قال هذا من عمل الشيطان﴾ (القصص/ 15)، حيث نفى أن يكون ذلك العمل من فعل الشيطان كما هو نص الآية، واعتبره من فعل الله وعمله، لكنه مع هذا استدرك فاعتبر الواجب الذي يلزم على العبد الذي يقع في الذنب؛ هو أن يعزو ذلك إلى نفسه ووسوسة الشيطان، ولا يجوز أن ينسبه إلى فعل الله، حتى لا يكون احتجاجاً عليه تعالى[62].

ويعود مصدر هذا التأويل إلى ما تمسك به أصحاب هذا المنطق من رد جميع الأفعال والأعمال إلى الله دون سواه، حيث أنه الفاعل الوحيد في الوجود.

غير أن هذه الطريقة تجعل ما ينسبه الله إلينا من أفعال وأعمال يوحي بالوهم والخداع، مما يؤدي إلى الوقوع في التناقض. فهي من جهة تتسق مع البداهة الأولية لحق الملكية، لكنها من جهة أخرى تصطدم مع ما يقرره هذا المنطق من ضرورة صدق الكلام الإلهي، الذي يتوقف عليه إثبات المسألة الدينية.

كما اعتبر الباقلاني أن معنى قوله تعالى: ﴿والله لا يحب الفساد﴾ (البقرة/ 205)، هو أن الله تعالى لا يحب كون الفساد ديناً وصلاحاً، أو لا يحبه من أهل الصلاح؛ وإن أحبّ أن يكون قبيحاً من أهل الفساد. وكذا الحال مع تأويله لآية: ﴿ولا يرضى لعباده الكفر﴾ (الزمر/ 7)، حيث اعتبر معنى الآية هو أن الله لا يرضى بالكفر ديناً وشريعة لعباده، أو هو لا يرضاه للمؤمنين من عباده دون الكافرين[63]، وقد كرر الجويني المعنى الأخير في (لمع الأدلة) [64].

ويستمد تبرير هذه التأويلات من سلطة الأصل المولّد لحق الملكية، حيث يفعل الله ما يشاء ويريد، ولا حسن ولا قبح إلا ما حسّنه الله وقبّحه. فالكفر والفساد مذمومان؛ لا لأن حقيقتهما الذاتية هي كذلك كما يقول أصحاب منطق الحق الذاتي، بل لأن الله ذمهما ولم يجعلهما ديناً وشريعة، ولو أن الله جعلهما كذلك لكانا ممدوحين مقبولين كدين يدين الله بهما عباده.

وعلى هذه الشاكلة تم تأويل الآيات الخاصة بالغرض والحكمة الإلهيين، كما اعتبرت اللامات المتعلقة بذلك لامات عاقبة لا لامات تعليل، مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون﴾ (الذاريات /56).

ثانياً:

أما الممارسات التأويلية في المجال الوجودي، فالملاحظ أنها شهدت نوعاً من الإختلاف والتطور لدى أصحاب هذا المنطق. صحيح أنهم اتفقوا في المجال الطبيعي على ممارسة التأويل فيما يخص القضايا التي لا تتسق مع الأصل المولّد الذي اعتمدوه، ومن ذلك أنهم قاموا بتأويل الآيات التي وردت فيها الباءات التي تربط بين الأسباب ومسبَّباتها، معتبرين أنها دالة على المصاحبة لا السببية، تعويلاً على مقولتهم (لا فاعل في الوجود إلا الله)، وهي المقولة التي تتسق مع بداهة حق الملكية.. لكن الحال في المجال الوجودي - غير المرتبط بالبداهة الأولية - مختلف.

فرغم اتفاق أتباع هذا المنطق على ضرورة ممارسة التأويل لكل ما يخالف أحكام العقل القبلية، لكننا نجد خطين متمايزين لهم: يتمثل أحدهما بالمتقدمين الذين تأثروا بالإتجاه السلفي، كما هو الحال مع الشيخين الأشعري والباقلاني. ويعود الآخر إلى المتأخرين الذين تاثروا بالتيارات العقلية، كما يظهر عند الجويني وإبن فورك والرازي وغيرهم.

وقد اختلف الفريقان حول الكثير من القضايا التي لها علاقة بفهم الخطاب، وأبرزها تلك المتعلقة بالأوصاف والأسماء الإلهية، كما هي مذكورة في القرآن والحديث، من قبيل أن لله عينين ووجهاً ويدين وأصابع وإستواءاً على العرش وما إلى ذلك.

فبينما أجرى الفريق الأول تلك الأوصاف على حالها مانعاً بذلك التأويل، اضطر الفريق الثاني إلى تأويلها تماشياً مع نزعته العقلية. وهذا الإختلاف بينهما ليس إختلافاً حول إثبات التجسيم ونفيه، فالفريق الأول صريح في منعه[65]. بل إن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يجد له مساغاً لدى عموم أصحاب هذا المنطق، فهم يمنعون إطلاق الأسماء عليه وعلى صفاته ما لم يرد في ذلك نص من الكتاب أو السنة[66]، فالأسماء عندهم توقيفية لا تُطلق إلا بإذن شرعي، وكما قال إمام الحرمين الجويني: إن إطلاق الألفاظ في الذات والصفات موقوف على إطلاق النص الشرعي[67].

لذا أدرك المتقدمون أن فهم تلك الأوصاف لا يكون صحيحاً ما لم يتم إجراء الوصف على حاله من غير جسمية.

فقد اعتقد الأشعري بأن اليد هي صفة لله تعالى غير القدرة، كما أن الوجه صفة له غير الوجود، واعتبر الإستواء صفة أخرى غير الاستيلاء، وهكذا مع البقية[68]. كما صرح الباقلاني بأن الوجه والعينين واليدين هي من صفات الله الذاتية، لكنها ليست من الجوارح ولا تعطي مدلولاً جسمياً[69].

فمثلاً بالنسبة للآية: ﴿ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديّ﴾ (ص/ 75) منع الباقلاني ومن قبله الأشعري تأويل اليدين بمعنى القدرة أو النعمة، واستدل على ذلك بأنه لو كان المعنى هو القدرة لكان لله تعالى قدرتان، ولو كان بمعنى النعمة لكانت له نعمتان في خلقه لآدم، مع أن نِعم الله على آدم وغيره لا تحصى. كما أنه لا يجوز أن يقول القائل مثلاً: «رفعت الشي بيدي» أو «وضعته بيدي» أو «توليته بيدي» وهو يعني بذلك نعمته[70].

ولا شك أن هذا الفهم لا يتسق والمرونة التي عُرفت بها لغة العرب في إستخدام المجاز والتشبيه لتقريب المعنى. وليست اليد وأن ثُنيت بعيدة في إستخدامها عن معنى القدرة أو النعمة. ويؤيد ذلك ما جاء في بعض الآيات التي استشهد بها الباقلاني للدلالة على رأيه، وهي قوله تعالى: ﴿وقالت اليهود يد الله مغلولة.. بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء﴾ (المائدة/ 64)، فواضح أن معنى الغل والبسط في اليد أو اليدين هو ما يتعلق برزق الله وإنعامه، وأنه لا يوجد معنى آخر يدل على اليدين غير تلك الدلالة المستنبطة من سياق النص. وكذا يقال عن معنى الوجه في قوله تعالى: ﴿ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام﴾ (الرحمن/ 27)، حيث ليس له من معنى راجح سوى الذات الإلهية.

مع هذا فهناك مشكلة تخص مسألة الإستواء كما في قوله تعالى: ﴿ثم استوى على العرش﴾ (يونس/ 3)، إذ منع الباقلاني أن يكون معنى الإستواء هو الاستيلاء الذي يعني القدرة والقهر، ورأى أن الله تعالى لم يزل قادراً قاهراً عزيزاً مقتدراً، وفي قوله ﴿ثم استوى...﴾ دلالة على استفتاح هذا الوصف بعد أن لم يكن. ومع ذلك فإن الباقلاني يرى أن الله على عرشه لا بالمعنى الجسمي من الملاصقة والمجاورة[71]، حيث الكيف مجهول، كالذي اشتهر عن الإمام مالك حين سُئل عنه فقال: «الإستواء معقول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة»[72].

والحاصل في جواب الباقلاني هو أن يكون الإستواء معقولاً والكيف غير معقول، وهو موقف احترازي يرمي إلى تنزيه الجانب الإلهي عن إشكالَي المكان والجسمية، وإن كان لا يقدم تصوراً بديلاً يُعوَّل عليه في دفع هذا المحذور.

وسبق للأشعري أن أكّد على تلك الصفة من الإستواء، وأنه ذو جهة فوق السماوات السبع، فذكر: «إن قال قائل: ما تقولون في الإستواء؟ قيل له نقول: إن الله عز وجل مستو على عرشه كما قال: ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ (طه/ 5) و﴿اليه يصعد الكلم الطيب﴾ (فاطر/ 10) وقال: ﴿بل رفعه الله اليه﴾ (النساء/ 158) وقال: ﴿يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج اليه﴾ (السجدة/ 5) وقال حكاية عن فرعون: ﴿يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي أبلغ الأسباب، أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى، وإني لأظنه كاذباً﴾ (غافر/ 63)، حيث كذّب موسى في قوله أن الله عز وجل فوق السماوات، وقال عز وجل: ﴿أأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض﴾ (الملك/ 16)، فالسماوات فوقها العرش، فلما كان العرش فوق السماوات قال: ﴿أأمنتم من في السماء﴾ لأنه مستو على العرش الذي فوق السماوات، وكل علو فهو سماء، فالعرش أعلى السماوات وليس إذا قال ﴿أأمنتم من في السماء﴾ يعني جميع السماوات، وإنما أراد العرش الذي هو أعلى السماوات»[73].

كما ذكر بعض الأحاديث الدالة على كون الله على العرش، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا، وروى عن أبي هريرة بأن النبي قال: «إذا بقي ثلث الليل ينزل الله تبارك وتعالى فيقول: من ذا الذي يدعوني فاستجيب له، من ذا الذي يستكشف الضر فأكشفه عنه، من ذا الذي يسترزقني فأرزقه؟ حتى ينفجر الفجر»[74].

وثمة آيات أخرى وظّفها الأشعري حول المكان الإلهي وجهته فوق العرش، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿يخافون ربهم من فوقهم﴾ (النحل/ 50).. ﴿تعرج الملائكة والروح اليه﴾ (المعارج/ 4).. ﴿ثم استوى إلى السماء وهي دخان﴾ (فصلت/ 11).. ﴿ثم استوى على العرش الرحمن فاسأل به خبيراً﴾ (الفرقان/ 59).. ﴿إني متوفيك ورافعك الي﴾ (آل عمران/ 55)... الخ[75].

مع أن هناك آيات أخرى ينص بعضها على أن الله محيط بكل شيء، وأنه أقرب الأشياء إلينا، وأنه في الأرض مثلما في السماء، وأنه ظاهر الأشياء وباطنها. وبالتالي فإن التعويل على ظواهر تلك النصوص يعني تأويلاً للأوصاف الأخيرة، والعكس صحيح أيضاً.

وفي القبال مارس الأشاعرة المتقدمون التأويل بحق الآيات التي تتحدث عن بعض الصفات الإلهية، ومن ذلك صفة الكلام وصفة الحب والرضا والبغض والغضب والولاية والعداوة وما إليها. فقد حدد الباقلاني صفة غضب الله ورضاه بمعنى إرادته الذاتية في العقاب والثواب. والتبرير الذي لجأ إليه هو أن من المحال وصف الله تعالى بالغضب الذي يعني نفور الطبع وتغيره، وكذا بالرضا الذي يعني سكون الطبع بعد تغيره. لهذا اعتبر أن الغضب والرضا، وكذا الحب والبغض، والولاية والعداوة؛ كلها بمعنى واحد هو إرادة النفع والإضرار لا غير[76].

ومع أن عقولنا تستبعد حقاً أن يكون معنى الغضب والرضا هو بمثل ما عندنا من صفة وغريزة، إلا أن هذا لا يبرر تفسير معناهما على نحو الإرادة فحسب، بل هما من أمور الغيب التي يستحيل معرفة معناهما على نحو التشخيص والتفصيل[77].

أما صفة الكلام فقد علمنا أن هذا المنطق يوليها وظيفة جوهرية لتأسيس الخطاب الديني من الخارج، لذلك تم تأويل النصوص التي تخصها إتساقاً مع الأصل المولّد. ومن ذلك ما قام به الأشعري وأتباعه من تأويل الآية: ﴿ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون﴾ (الأنبياء/ 2)، حيث فسّرها بأن «الذكر الذي عناه الله عز وجل ليس القرآن، بل هو كلام الرسول (ص) ووعظه إياهم، وقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿وذكّر فإن الذكرى تنفع المؤمنين﴾ (الذاريات/ 59)، وقال:﴿قد أنزل الله اليكم ذِكراً، رسولاً يتلوا عليكم آيات الله مبينات..﴾ (الطلاق/10ـ11)، فسمى الرسول ذِكراً والرسول محدث، وأيضاً فإن الله عز وجل قال: ﴿ما يأتيهم من ذِكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون﴾ يخبر أنهم لا يأتيهم ذِكر محدث إلا استمعوه وهم يلعبون، ولم يقل: لا يأتيهم ذِكر إلا كان محدثاً، وإذا لم يقل هذا لم يوجب أن يكون القرآن محدثاً»[78].

مع أن الذِكر في الآية منسوب إلى الله صراحة وليس إلى الرسول، وقد وصفه بأنه محدث كما هو واضح.

كذلك قام الأشعري بتأويل الآية: ﴿إنّما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون﴾ (النحل/ 40)، فظاهرها يؤيد فكرة حدوث القول الإلهي، وهو ما لم يتقبله الأشعري، ورأى فيه إستحالة عقلية لإعتقاده بقِدم كلام الله وكونه أحد صفاته الذاتية. بل إنه استدل عقلاً من الآية ذاتها على إستحالة حدوث كلام الله، وذكر بأنه لو كان القرآن - وهو كلام الله - مخلوقاً لكان الله تعالى قائلاً له (كن)، وهذا الأخير لما كان مخلوقاً أيضاً بإعتباره قولاً فهو يحتاج إلى قول (كن) آخر، وهكذا إلى ما لا نهاية له من الأقوال وهو مستحيل[79].

ومع أن سياق الآية السابقة ليس بصدد المعنى اللفظي واللساني للقول والكلام بقدر ما له من المعنى الكوني[80]، إلا أنه حتى مع التسليم بكون الآية تنص على المعنى اللساني للقول، وهو أنه ما من شيء يخلقه الله إلا ويقول له باللسان الحرفي (كن)، فإن ذلك لا يدل على قِدم الكلام، وإلا كانت الآية متناقضة والأشياء قديمة غير حادثة. فالآية صريحة على حدوث القول؛ فكيف يستدل من خلالها على نقيض ذلك؟ ذلك أن خلق الأشياء مناط بالقول، فلو كان القول قديماً لا حادثاً لكان خلق الشيء قديماً مثله، وكذا فإن إرادة الشيء في الآية؛ لو كانت إرادة قديمة، لكان الشيء المراد قديماً مثلها، وهو ما لا يقره أغلب أتباع النظام المعياري، ومنهم أصحاب هذا المنطق.

بل إن التسلسل الذي تحدّث عنه الأشعري في إثبات قِدم الكلام الإلهي لا يستقيم إلا عندما نعمم لفظة (شيء) في الآية على القول والكلام ذاته، لكن إذا عرفنا أن الآية قد ذكرت هذه اللفظة بتمايز عن لفظة القول؛ علمنا أنه لا يصح تعميم الأولى على الثانية.

وبعبارة أخرى، يدل النص على أن الشيء لا يُخلق ما لم يكن ذلك مسبوقاً بقول (كن) - فضلاً عن الإرادة - مما يعني أن من غير الممكن أن يكون القول خاضعاً لمسمى الشيء، وإلا حصل التناقض، حيث يكون المعنى هو أن الشيء لا يُخلق إلا عندما يكون مسبوقاً بالشيء، وهو تناقض. لذا فبحسب تمييز الآية هو أن القول غير الشيء، وأنه إذا اعتبرنا القول حادثاً، واعتبرنا الشيء حادثاً مثله، فالملاحظ أن بينهما تمايزاً، وهو أن خلق الشيء يتوقف على عاملين بحسب الآية، هما قول الله وإرادته، في حين إن القول لا يعتمد إلا على عامل واحد هو إرادة الله. ويمكن تصوير هذه العملية بأن خلق الشيء يتوقف على حدوث قول الله مباشرة، وأن هذا القول يتوقف بدوره على الإرادة.

كذلك هناك إختلاف بين الشيء والقول في الآية، فالقول منسوب إلى الله، حاله في هذا حال الإرادة، في حين إن الشيء أجنبي غير منسوب إليه، وربما لهذا الإختلاف جاءت بعض الروايات عن الإمام الصادق تشير إلى أن كلام الله محدث لا مخلوق، مثل الرواية القائلة: «إن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق وغير أزلي مع الله تعالى.. كان الله عزّ وجل ولا شيء غير الله معروف ولا مجهول، كان عزّ وجل ولا متكلم ولا مريد ولا متحرك ولا فاعل.. فجميع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه..» [81].

***

أما المتأخرون من أصحاب هذا المنطق فقد مارسوا عملية التأويل بطريقة موسعة، ومن ذلك تأويلهم للنصوص المتعلقة بالصفات الإلهية، والتي منع تأويلها المتقدمون.

وسبق للغزالي أن وصف الأشاعرة بقوله: «ذهبت طائفة إلى الإقتصاد، وفتحوا باب التأويل في كل ما يتعلق بصفات الله سبحانه، وتركوا ما بالآخرة على ظاهرها، ومنعوا التأويل فيه، وهم الأشعرية»[82].

ويبدو أنه قصد بالأشعرية - هنا - المتأخرين منهم دون المتقدمين الذين أبقوا النصوص الخاصة بالصفات على حالها دون تأويل. أما المتأخرون من أمثال الجويني وإبن فورك (المتوفى سنة 460هـ) فقد ذهبوا إلى تأويل تلك النصوص.

فمثلاً جوّز الجويني في (الإرشاد) تأويل آية الإستواء على العرش بمعنى القهر والغلبة، واعتبر ذلك سائغاً في اللغة. كما لم يستبعد معنى كون الإله قصد إلى أمر العرش، مثلما هو تأويل سفيان الثوري[83]. وقال بهذا الصدد: «فإنا نعلم أن الإستواء إذا لم يكن تمكناً بالذات وتخصصاً ببعض الجهات فلا بد أن يرجع إما إلى معنى القهر، وإما إلى معنى علو العظمة، وإما إلى فعل من أفعال الله عز وجل، ولا مزيد على هذه الأقسام»[84].

كما أنه نفى الجهات عن الله وقال: «ومن ينتمي إلى الحق من الأئمة ومخلصي الأمة يعترف بتقدس الرب عن الجهات والمقابلات»[85]، بل وعقد فصلاً في كتابه (الشامل في أصول الدين) هاجم فيه الذين عولوا على ظواهر الآيات والأحاديث الخاصة بصفات الله، وسمى هذا الفصل: (في ذكر تأويل جمل من ظواهر الكتاب والسنة).

وعموماً ذهب الأشاعرة المتأخرون إلى الإعتراف بضرورة تأويل كل ما يُشعر بالجهة والتجسيم لاستحالتها على الله[86]، ومن ذلك ما صرح به الغزالي من أن الأشاعرة تنفي الجهة والجسمية[87]، وهو موقف يختلف عما كان عليه الأشعري والباقلاني القائلان بالجهة وسائر الصفات الأخرى. كما ذهب صاحب (مرهم العلل المعضلة) إلى عدم القطع بتعيين التأويل في أحاديث الصفات، حيث نفى كل ما يدل على الجسمية والتغير والنقص، لكنه لم يقطع بالمراد[88].

وعلى ما ذكره ابن فورك من أن تأويل قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ (الأنعام/ 3) بأن معناه لدى أصحابه من الأشاعرة هو «أن الله جل ذكره يعلم سركم وجهركم الواقعين في محل السماوات والأرض.. ولا يصح الوقوف على معنى قوله تعالى: ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ دون أن يوصل بقوله تعالى: ﴿يعلم سركم وجهركم﴾»[89].

كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿وجاء ربك والملك صفاً صفاً﴾ (الفجر/ 22) بأن من الأشاعرة من قال إن معناه هو جاء ربك بالملك صفاً، وزعم أن الواو ههنا بمعنى الباء، ومنهم من قال إنه بمعنى جاء أمر ربك[90].

كما ذكر في تفسير قوله تعالى: ﴿هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة﴾ (البقرة/ 210)، هو أن معناه بحسب ما قاله بعض أهل التفسير: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله بالعذاب في ظلل من الغمام، وهو أمر سائغ في اللغة حيث يعبر عن الشيء بفعله إذا وقع عن أمره وتدبيره.. وقال بعضهم إن قوله: ﴿في ظلل من الغمام﴾ يراد به بظلل من الغمام وأن (في) جاءت بمعنى الباء. وقد روي ذلك في التفسير عن ابن عباس.. وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد في تفسير تلك الآية أنه قال بأنها السحاب التي يأتي بها الله يوم القيامة.. وروى أبو صالح عن ابن عباس أيضاً أنه قال يأتيهم بوعده ووعيده وأن الله يكشف لهم عن أمور كانت مستورة عنهم، ومثل ذلك روي عن الحسن[91].

كما قال ابن فورك بصدد تأويل الآيات الخاصة بتحديد المكان: «فأما قرب المكان فلا يليق بوصف الله تعالى، وعلى ذلك يتأول جميع ما في القرآن، مثل قوله تعالى: ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ (ق/ 16) وقوله: ﴿نحن أقرب إليه منكم﴾ (الواقعة/ 85) وقوله: ﴿فكان قاب قوسين أو أدنى﴾ (النجم/ 8ـ9) وقوله: ﴿واسجد واقترب﴾ (العلق/19).. فجميع ذلك لا يخلو من أن يكون قرباً بالطاعة من العبد أو قرباً بالكرامة وإظهار الرحمة من الله»[92].

كذلك قام ابن فورك بتأويل الكثير من الأحاديث التي يبدو أنها تدل بحسب الظاهر على التشبيه والتجسيم، إذ وضع العديد من التأويلات الممكنة المحتملة على طريقة المتأخرين؛ مخالفاً في ذلك ما اشتهر لدى السلف، ومن هذه الأحاديث نذكر ما يلي:

خلق الله آدم على صورته، وخلق آدم في قبضة قبضها الله، والحجر الاسود يمين الله، وأن الله استلقى ووضع احدى رجليه على الأخرى، وقال الله لداود مر بين يدي، وضحك الرب لقنوط عباده، وإن الله خلق الملائكة من شعر ذراعيه، وإن هناك من سئلت أين الله فأشارت إلى السماء فاعتبرها النبي مؤمنة، وإن لله صفة العجب (قد عجب ربكم..)، وكذا صفة الغيرة (إن الله أغير من سعد)، وهناك حديث النزول، وحديث الرؤية حيث «ترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته»، وإن الله يطوي المظالم فيجعلها تحت قدمه، وإن الله يجعل ذلك في كفه، وإن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، وإن لله ساعداً أشد من ساعدك، وإن الله يستحي.. وإنه دخلت على ربي فإذا هو شاب جعد.. وإنه يكشف عن ساق، وإني رأيت ربي جعداً قططاً، وإنه في صورة شاب أمرد، وإن الله في السماء، وإن له وجهاً، وله عينان، وله يد وكف وقبضة ويمين وساق وقدم ورجل يمنى ورجل أخرى..

***

نستخلص مما سبق عدداً من الملاحظات النقدية كالتالي:

1ـ لقد اضطر هذا المنطق، عند تأسيسه للخطاب الديني من الخارج، إلى تحويل بعض القضايا المعيارية إلى قضايا وجودية حتمية، وبالتحديد أنه اعتبر قضية صدق الكلام الإلهي من الصفات الذاتية الثابتة، كالذي دعا إليه النظام الوجودي.

2ـ إن جعل الكلام الإلهي صفة ذاتية وقديمة للمكلِّف؛ يعني أن الأمر والنهي، الذين يعدان جوهر العملية التشريعية، قديمان بالضرورة قِدم الكلام النفساني ذاته. فالتكليف محدد أوصافه وأركانه أزلاً، وهو أمر محتم لا مفر منه أبداً. وهنا نعود إلى الإشكالية التي تقرّب هذا الإتجاه من منطق النظام الوجودي.

3ـ لقد أسفر هذا الاتجاه عن تناقض صريح، إذ يفضي من جهة إلى اعتبار الخطاب بيِّناً يُستدل به على التشريع وفق ما يقرّه المالك الحقيقي. لكنه من جهة أخرى يصطدم بما يتضمنه هذا الخطاب من قضايا لا تنسجم مع الأصل المولّد، مما اضطره إلى ممارسة التأويل. وقد سعى المتأخرون من أنصار هذا الاتجاه إلى تبرير هذه الممارسة والتنظير لها، حتى بلغ الأمر ببعضهم - كالفخر الرازي - أن أضفى على نص الخطاب سمة التشابه وغياب البيان، وهو ما يفضي إلى الإخلال بمعرفة قرارات المالك الحقيقي المتعلقة بالتشريع والتكليف.

4ـ ثمة مشكلة أخرى تواجه هذا الاتجاه في تعامله المجزّء مع الخطاب، فهو يعتبر بعضه بيناً، والبعض الآخر متشابهاً. مما يعني أن الكلام الإلهي القديم يتصف ذاتاً بهذا التجزّء من البيان والتشابه دون أن يتخذ سمة موحدة من الإتساق. وتظل المشكلة قائمة حول معرفة مضامين القسم المتشابه، إذ ما الذي يؤكد لنا صحة ما تستكشفه عقولنا لمعاني هذا القسم، لا سيما ونحن غير مطلعين على هذا السبق التوقيفي للكلام القديم؟ كذلك ما الذي يجيز لنا فحص الخطاب المتشابه والكشف عن مضامينه بطرق التأويل العقلية، إذا كان ذلك يتوقف فقط على إذن المالك المطلق، وأنه لا سبيل لمعرفة هذا الإذن عن طريق العقل؟!


[1] التمهيد للباقلاني، ص22ـ23. وشرح الأصول الخمسة، ص94. والنكت الإعتقادية، ص5ـ6.

[2] يلاحظ بهذا الصدد أن العلم الحديث يخالف كلا النظريتين الفلسفية والكلامية حول إنقسام الجزء، كالذي تحدثنا عنه في بعض الدراسات (انظر: نقد العقل العربي في الميزان، طبعة دار أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الثانية، 2008م، الفصل الخامس).

[3] ابن رشد: مناهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق وتقديم محمود قاسم، مكتبة الانجلو المصرية، الطبعة الثانية، ص140.

[4] اللمع للأشعري، ص20ـ21. والتمهيد، ص25.

[5] لاحظ هذه الشبهة في: صدر المتألهين الشيرازي: الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة، مع تعليقات ملا هادي السبزواري ومحمد حسين الطباطبائي، دار احياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1981م، ج6، ص58ـ60، وج1، ص132.

[6] انظر حول ذلك: الإستقراء والمنطق الذاتي، ص212ـ214. كما انظر مقالنا: وجود الله أعرف من كل معروف، موقع فهم الدين، 2014م: http://fahmaldin.net/index.php?id=2244

[7] لاحظ التفصيل حول مبدأ البساطة كتابنا: منهج العلم والفهم الديني، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2014م. كما لاحظ كتابنا: القطيعة بين المثقف والفقيه، دار ابكالو، بغداد، الطبعة الرابعة، 2022م. وانظر بهذا الصدد أيضاً:   Hemple, Philosophy of Natural Science, 1996, current printing 1987, USA, p.41.

[8] شرح الأصول الخمسة، ص226 و355.

[9] فوائد الأصول، ج3، ص59.

[10]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص22.

[11]      البحر المحيط، فقرة 81.

[12]      تمهيد الأصول، ص313. كما لاحظ على هذه الشاكلة: النكت الإعتقادية، ص26.

[13]      كشف المراد، ص375.

[14]      نظرية التكليف، ص94ـ95. وشرح الأصول الخمسة، ص564.

[15]      نظرية التكليف، ص95ـ96.

[16]      ارشاد الطالبين إلى نهج المسترشدين، ص297ـ298.

[17]      الإقتصاد في الإعتقاد، ص184.

[18]      اللمع للأشعري، ص90 و118. والتمهيد، ص343. ومحصل أفكار المتقدمين والمتأخرين. وتلخيص المحصل، ص267.

[19]      مرهم العلل المعضلة، ص291ـ292.

[20]      مرهم العلل المعضلة، ص154.

[21]      الإرشاد، ص356.

[22]      الإقتصاد في الإعتقاد للطوسي، ص162.

[23]      المجموع المحيط بالتكليف، ج1، ص419.

[24]      أصول الدين، ص25. والمحصل، ص71.

[25]      القاضي عبد الجبار الهمداني: متشابه القرآن، تحقيق عدنان محمد زرزور، ص35 و38.

[26]      المغني في أبواب التوحيد والعدل، ج15، ص27.

[27]      صون المنطق والكلام، ص174ـ175.

[28]      الزمخشري: أطواق الذهب في المواعظ والخطب، المقالة السابعة والثلاثون، مكتبة الوراق الإلكترونية، عن موقع الموسوعة الشاملة الإلكتروني.

[29]      رسائل الشريف المرتضى، ج2، ص228ـ229.

[30]      المصدر السابق، ج2، ص224ـ225.

[31]      يضاف إلى وجود نوع آخر للهداية لا يتعلق بالتكليف، إنما يراد به الغريزة والفطرة التي تسهل للحيوان تحقيق اغراضه ومعاشه، كالذي يشير إليه قوله تعالى: ﴿الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾ (الأعلى/2ـ3).

[32]      عبد الجبار الهمداني: تنزيه القرآن عن المطاعن، دار النهضة الحديثة، بيروت، ص137.

[33]      المصدر السابق، ص146.

[34]      العبارة المذكورة في كتاب (تنزيه القرآن عن المطاعن، ص153) هي: «من يضلله عن الثواب في الآخرة ولا هادي له اليه». وكما يبدو أن الصحيح هو ابدال الواو بالفاء، حيث إن الآية المراد تفسيرها صريحة في تأكيد الشرط وجوابه، ولعل الخطأ يعود إلى الناسخ أو الطابع.

[35]      تنزيه القرآن عن المطاعن، ص271.

[36]      المصدر السابق، ص103.

[37]      المصدر نفسه، ص19ـ20.

[38]      المصدر نفسه، ص14.

[39]      المصدر نفسه، ص15.

[40]      المصدر نفسه، ص16.

[41]      متشابه القرآن، ج1، ص57.

[42]      تنزيه القرآن، ص301.

[43]      المصدر السابق، ص144.

[44]      المصدر نفسه، ص183.

[45]      المصدر نفسه، ص83.

[46]      المصدر نفسه، ص379، وص112.

[47]      الشريف الرضي: حقائق التأويل في متشابه التنزيل، شرحه محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر، عن مكتبة يعسوب الدين الإلكترونية، ج5، ص23ـ25.

[48]      حقائق التأويل في متشابه التنزيل، ص26ـ29.

[49]      جار الله محمود بن عمر الزمخشري: الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل، مكتب الإعلام الإسلامي في الحوزة العلمية، قم، الطبعة الأولى، 1414هـ، ج1، ص634.

[50]      الكشاف، ج1، ص48 وما بعدها.

[51]      يلاحظ بهذا الصدد مقالنا: القضاء والتطبع، مجلة الغدير، لبنان، عدد (5)، 1981م، ص28ـ33.

[52]      شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، ص88.

[53]      النكت الإعتقادية، ص15.

[54]      التبيان في تفسير القرآن، ج2، ص144.

[55]      الفضل بن الحسن الطبرسي: مجمع البيان في تفسير القرآن، مؤسسة الاعلمي، بيروت، الطبعة الأولى، 1415هـ ـ1995م، ص198 و200.

[56]      الكشاف، ج1، ص301.

[57]      المصدر السابق، ج3، ص564.

[58]      نفس المصدر، ج4، ص509 و189.

[59]      نفس المصدر، ج2، ص176.

[60]      شرح الأصول الخمسة، ص599ـ600.

[61]      التمهيد، ص251ـ252.

[62]      المصدر السابق، ص284.

[63]      نفس المصدر، ص284.

[64]      لمع الأدلة في قواعد أهل السنة، ص99ـ100.

[65]      لاحظ: اللمع للأشعري، ص23. والتمهيد، ص264.

[66]      اللمع، ص24.

[67]      الجويني: الشامل في أصول الدين، تحقيق علي سامي النشار وفيصل بدير عون وسهير محمد مختار، ص350. وشرح المواقف، ج3، ص168.

[68]      تلخيص المحصل، ص313.

[69]      التمهيد، ص259ـ260 و262.

[70]      المصدر السابق، ص258ـ259. والابانة عن أصول الديانة، ص79ـ82.

[71]      التمهيد، ص262 و264.

[72]      الشامل، ص551. وقواعد العقائد، ص59. وسير أعلام النبلاء، ج8، فقرة 100ـ101.

[73]      الإبانة، ص69ـ70.

[74]      المصدر السابق، ص72.

[75]      نفس المصدر، ص73ـ74.

[76]      التمهيد، ص27ـ28 و262.

[77]      جاء عن الإمام علي قوله بهذا الصدد: «يحب ويرضى من غير رقة، ويبغض ويغضب من غير مشقة» (نهج البلاغة، ص274).

[78]      الإبانة، ص65ـ66.

[79]      اللمع، ص33ـ34. والابانة، ص42 و52.

[80]      ورد بهذا الصدد عن الإمام علي ما هو قريب عن التفكير الاعتزالي، إذ قال في معنى الآية: «يقول لمن أراد كونه: ﴿كن فيكون﴾، لا بصوت يقرع ولا إبتداء يسمع، وإنما كلامه سبحانه فعل منه انشأه ومثّله، لم يكن من قبل ذلك كائناً، ولو كان قديماً لكان إلهاً ثانياً» (نهج البلاغة، ص274). وكان الزمخشري يقول في هذه الآية: «هذا مجاز من الكلام وتمثيل ولا قول ثم» (الكشاف، ج1، ص181).

[81]      الصدوق: التوحيد، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية في قم، ص227. وإن كان في حديث آخر بيّنت الرواية أن علة عدم وصف كلام الله أو القرآن بالمخلوق؛ هي لأنه يعني المكذوب (المصدر، ص225). لكن القاضي الهمداني أكّد على صحة لفظ المخلوق، وردّ على الفرض الذي اعتبر هذا اللفظ بمعنى الكذب والمكذوب، فصوّر الخلق بمعنى التقدير، والمخلوق هو الفعل المقدر بالغرض والداعي المطابق له على وجه لا يزيد عليه ولا ينقص عنه (شرح الأصول الخمسة، ص546).

[82]      الغزالي: قواعد العقائد، ص59. واحياء علوم الدين.

[83]      مرهم العلل المعضلة، ص245.

[84]      الشامل في أصول الدين، ص551.

[85]      المصدر السابق، ص551.

[86]      مرهم العلل المعضلة، ص234.

[87]      روضة الطالبين من فرائد اللالي، ص175.

[88]      مرهم العلل المعضلة، ص252.

[89]      ابن فورك: مشكل الحديث وبيانه، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد الدكن، الطبعة الأولى، 1367هـ، ج1، ص50.

[90]      مشكل الحديث وبيانه، ج1، ص63.

[91]      المصدر السابق، ج1، ص63ـ64.

[92]      نفس المصدر، ج1، ص70.

comments powered by Disqus