يحيى محمد
لا تخلو قضية التكليف لدى الفهم الوجودي من البعد التكويني، خصوصاً وانها محددة - كغيرها من القضايا – من قبل منطق السنخية وتراتبية الوجود. فالتكليف المشهود في عالمنا الإنساني له أصول في العالم العلوي بنحو ما من أنحاء الكمال. وسبق لإبن رشد ان إعتبر الأجرام السماوية تتحرك إلى مبادئها المفارقة ‹‹على جهة الطاعة لها والمحبة فيها والامتثال لأمرها إياها بالحركة والفهم عنها، وانها انما خُلقت من أجل الحركة››، لذلك ‹‹تكون الأجسام السماوية حية ناطقة تعقل ذواتها وتعقل مبادئها المحركة لها على جهة الأمر لها››، وصحّ عند الفلاسفة ان الآمر بحركة الأجرام السماوية هو مبدأ الوجود الأول، إذ أمر سائر المبادئ ان تأمر سائر الأفلاك بسائر الحركات، وانه بهذا الأمر قامت السماوات والأرض، ومنه نشأ ما على الإنسان من الطاعة والتكليف[1].
ويقارب هذا المعنى ما أشار إليه صدر المتألهين الذي إعتبر صلاة الإنسان هي نتاج تشبّه ما للنفس البشرية بنفوس الأجرام السماوية في تعبدها الدائم من الركوع والسجود والقيام والقعود طلباً للثواب السرمدي وتقرباً إلى المعبود الصمدي[2]، وان حركة الأجرام انما تجري طلباً لعبادة الله وطاعته[3].
وبنظر الغزالي ان الأمر الإلهي يتخذ من حيث الوضع التكويني ظاهرة التكوين والابداع، ومن حيث الوضع الإنساني يتخذ صيغة الأمر والنهي والوعد والوعيد والخبر والاستخبار. وبالتالي هناك أمر تكويني يخص اوضاع الملائكة في سوقها الموجودات إلى كمالاتها، كما هناك أمر تكليفي يخص الأنبياء ويراد به ايصال المكلفين إلى كمالاتهم بقبولهم الثواب. فالملائكة والأنبياء هم عمال الأمر الأعلى في عالمي الخلق والأمر[4].
وعلى هذه الشاكلة ذكر الجنابذي بأن الأوامر التكليفية متسببة عن الأوامر التكوينية وموافقة لها رغم اننا لا ندرك أحياناً طبيعة هذا التوافق، لعدم العلم بالتكوين[5].
كذلك فإن صدر المتألهين إعتبر العبادة على ضربين، إحداهما وجودية والأخرى تكليفية، فأما الأولى فهي محتمة بحسب ما عليه طبيعة الوجود والغاية التي تطلبها كل الكائنات نحو كمالاتها الخاصة، وبالتالي سعيها باتجاه الحق، واليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وقضى ربك إلا تعبدوا إلا اياه﴾[6]. في حين إن العبادة الأخرى تخص الإنسان باعتبارها لا تخلو من التكلّف والتعمل تبعاً للأمر والنهي[7].
وفي تفسيره للقرآن إعتبر التكليف وبعث الرسالات من القوانين العامة التي تقتضيها عملية الايجاد والتكوين، حيث لها فائدة بحسب ما يفرضه القضاء الوجودي في سابق الأزل[8].
وفي جميع الأحوال يقرّ الفلاسفة بأن التكليف في الأرض لم يكن يعرف الوجود لولا وجوده السابق في العالم العلوي السماوي، تبعاً لمنطق السنخية ونظرية الإمكان الأشرف.
ونفس الأمر نجده لدى وجهة النظر العرفانية تبعاً لمنطق الأعيان الثابتة، كالذي أشار إليه إبن عربي، وهو ان مصدر التكليف ينبع من تلك الأعيان، إذ لسان حال كل منّا في هذه الأعيان يطلب التكليف من الحق الذي ليس له إلا افاضة الوجود على هذا الطلب وتلك القابلية، لذلك سُمينا مكلفين[9].
ولدى هذا العارف انه ما من جزء من الإنسان إلا وهو مكلف بحسب ما يليق به من العبادات، فالأجزاء الإنسانية وان كانت مدبرة إلا ان لها تكليفاً يخصها ويناسب ذاتها، وبجمعيتها تقول لله: ‹‹لك نصلي واليك نسعى ونحمد، واياك نعبد››[10].
من جهة ثانية، يرى إبن عربي ان العبادة والحمد بين الحق والخلق متبادلة، كالذي يشير إليه بيته الشعري:
فيحمدني وأحمده ويعبدني فأعبده
وبحسب شرح القيصري: ان الحق يحمدني إذ يظهر في ايجادي على صورته وتجليه لقلبي وتكميل نفسي، وأنا أحمده بلسان الحال باظهار كمالاته وأحكام صفاته في مرآة عيني. أما كونه يعبدني فهو يأتي من حيث خلقي وايجادي واظهاري في مراتب الوجود المختلفة، حيث ان الاظهار والايجاد للشيء من الغيب إلى الشهادة هو نوع من الخدمة والعبادة. وكوني أعبده فإن ما يترتب على عبادته لي باظهاري؛ هو ان أقوم بعبادته، وعبادتي له في الظاهر هي اقامة حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، أما عبادتي له في الباطن فهي قبول تجلياته الذاتية والأسمائية واظهار أحكامها[11]. وكل ذلك يجري تبعاً للأمر المحتوم، حيث لا يمكن للإنسان ان يتخلف عما تقتضيه عينه الثابتة من العبادة والتكليف، أو عما يلزم عن الأسماء الإلهية من المربوبات التي تتبعها.
ومن الناحية الرئيسية تتخذ العبادة في التكليف الوجودي صيغة المعرفة بالعلم والعرفان، لأن المعرفة هي الغاية القصوى من الوجود والايجاد. وعليه نفهم لماذا أصرّ الفلاسفة والعرفاء على إثبات المطابقة والترادف بين العبادة والمعرفة في معنى الغاية التي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾[12]، إذ اُعتبرت المعرفة هي الغاية من وجود العالم[13]، وان التعبد هو عرفان الحق والعلم به وبآياته، كما صرح به صدر المتألهين[14]. وكان إبن عربي ممن التزم بظاهر نص الآية، لكنه لجأ إلى تفسيرها بمعنى المعرفة أحياناً[15].
وذهب القيصري إلى تشخيص العلة الغائية من ايجاد الحادث بعرفان الموجد، حيث العبادة تستلزم معرفة المعبود، مستشهداً على ذلك بما يُنقل عن إبن عباس في تفسيره لتلك الآية بأنها تعني المعرفة[16].
كذلك هو حال إبن رشد الذي ذهب إلى ان الخالق لا يُعبد بعبادة أشرف من معرفة مصنوعاته التي تؤدي إلى معرفة ذاته على الحقيقة، وعلى رأيه ان هذا هو أشرف الأعمال عند الحق وأحظاها لديه[17].
وقبل هؤلاء ذهب إبن سينا إلى ان عبادة الله هي عرفان له، وعلى رأيه انه ليس من التأويل بشيء إذا ما إعتبرنا المعرفة هي الغاية المقصودة في الآية السابقة[18].
فالمعرفة، وبالتحديد معرفة الحق، هي العبادة العظمى والغاية المطلوبة والسعادة القصوى لدى النظامين الفلسفي والعرفاني، أي سواء كانت نتاجاً للعقل والبرهان كما يقول الفلاسفة، أو انها نتاج الكشف والذوق كما يذهب إلى ذلك العرفاء.
مع هذا يمكن القول ان المنظومة الوجودية تعجز عن ان تجد تبريراً منطقياً تفسر به التكليف بوصفه قضية معيارية خارج الشكلية الحتمية من العلاقات الوجودية. وسبق لابن عربي ان شكك بحقيقة التكليف استناداً الى رأيه في وحدة الوجود.
[1] تهافت التهافت، ص184-185.
[2] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج7، ص222.
[3] المصدر السابق، ج6، ص121.
[4] معارج القدس، ص172 و174.
[5] سلطان محمد الجنابذي: بيان السعادة في مقامات العبادة، مقدمة سلطان حسين تابنده الجنابذي، مؤسسة الاعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية، 1408هـ - 1988م، ج2، ص16.
[6] الاسراء/ 23.
[7] تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج3، ص138-139.
[8] تفسير صدر المتألهين، ج4، ص234ـ235. ومفاتيح الغيب، ص167-168.
[9] شرح الفصوص، ص3523. والفصوص والتعليقات عليه، ج1، ص82-83.
[10] كتاب العظمة، ضمن رسائل إبن عربي (1)، ص92.
[11] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص375.
[12] الذاريات/ 56.
[13] تفسير صدر المتألهين، ج6، ص155.
[14] يرى صدر المتألهين ان سرّ الصلاة التي هي عماد الدين، هو العلم بوحدانية الحق ووجوب وجوده وصفاته وإحكام آياته ومعرفة أمره وخلقه وقضائه وقدره وعنايته وحكمته وارادته وقدرته ويده وقلمه ولوحه ورقمه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ورجوع الخلائق إليه ومثول الأرواح بين يديه، مع الاخلاص له في العبودية (تفسير صدر المتألهين، طبعة دار التعارف، ج7، ص223).
[15] كتاب القطب والامامين والمدلجين، ضمن رسائل إبن عربي (1)، ص220.
[16] مطلع خصوص الكلم، ج1، ص196.
[17] تفسير ما بعد الطبيعة، ج1، ص10.
[18] رسالة في ماهية الصلاة، ضمن رسائل إبن سينا في أسرار الحكمة المشرقية، ص34-35.