يحيى محمد
معلوم أن نصوص العرفاء في ذمّ التأويل كثيرة، كما رأينا، لكن أكثر منها تلك الممارسات التأويلية والاستبطانية التي تهدف إلى إسقاط الرؤية الوجودية على العينة الدينية. فأنماط الفهم الوجودي لهذه العينة متعددة ومتباينة. ولا ينحصر الأمر في ما تقدّمَ من تقابل بين النظريات الثلاث (التمثيل والمشاكلة والمعاينة)، بل ثمة أبعاد أخرى من ممارسات الفهم تهدف إلى استنباط الرؤية الوجودية من النص لأدنى مناسبة. بعبارة ثانية: إنها تسعى إلى إعادة إنتاج هذه الرؤية من خلال النص، والإيحاء بأن ما يُستخرج منه من معانٍ ومضامين؛ إنما هو امتداد طبيعي ومتطابق مع القبليات الوجودية.
فكما توجد قبليات وجودية تُعزى إلى العقلين الفلسفي والذوقي، هناك أيضاً ما يُدعى أنها بعديات وجودية مستنبطة من الفهم الديني. والغرض من هذه البعديات هو إعادة انتاج الرؤية الوجودية على ضوء ما تحمله النصوص الدينية، أو اضفاء الصبغة الوجودية عليها. وهو ما يجعل هذه النصوص بمثابة مرآة تعكس الصور التي تختزنها تلك القبليات؛ لتُنتج نمطاً من الديانة هي تلك التي أطلقنا عليها (الديانة الوجودية)، وهي الديانة التي تتمظهر بهيئة موسوعات تفسيرية يغلب عليها طابع الاستبطان الرمزي والتأويل. وحتى عند اعتمادها على الظاهر، فإن هذا الاعتماد يكون مصبوغاً بلون القبليات الوجودية، أو متشكلاً بحسب ما تعكسه تلك المرآة.
ومثلما يصدق القول إن العرفاء ألبسوا المعطى الديني لباس القبليات الوجودية، فكذا العكس صحيح، أي أنهم ألبسوا الرؤية الوجودية لباس المفاهيم الدينية وعناوينها. فالعمليتان متبادلتان ومنظور إليهما من زاويتين مختلفتين، مما يجعل ان كل ما هو ديني هو وجودي، وكل ما هو وجودي هو ديني. لكن يظل الأساس في التوليد والتحديد عائداً إلى القبليات الوجودية. فبهذه القبليات يتحدد شكل المعطيات الدينية من دون عكس. ففي الأعم الأغلب تتخذ هذه المعطيات دور الظل والتبعية لتلك القبليات.
على ان اعتبار كل ما هو ديني هو وجودي وكذا العكس؛ يمكن ان يستمد مبرره لدى العرفاء من التناظر والتسانخ القائم بين مظاهر الوجود من جهة، وبين اللغة والحروف - ومنها لغة النص الديني وحروفه - من جهة أخرى، فلكل حرف دلالة على كائن وجودي، وكذا كل كلمة مركبة من الحروف لها دلالة على التركيب الوجودي بين الأشياء. وسبق لإبن عربي أن عدّ العالم مشتقاً من كلمة (كن)، تبعاً لقوله تعالى: ﴿إنما أمره إذا أراد شيئاً ان يقول له كن فيكون﴾[1]، وحيث ان هناك ثمانية وعشرين حرفاً فإن العالم بدوره عبارة عن هذا العدد من المراتب لا يزيد ولا ينقص.
بمثل هذا المنطق تعيّن الفهم الوجودي بأنماطه المتعددة. ويمكن ابراز هذه الأنماط تبعاً لآليات فهم النص. فثمة ثلاث آليات للفهم فصلنا الحديث عنها في كتاب (علم الطريقة)، وكلها تعتبر مورداً خصباً للممارسة الوجودية.
فقد اعتاد علماؤنا ان يقسّموا قراءة النص الديني وفهمه إلى قراءة تفسيرية ظاهرية وأخرى تأويلية، كما أضافوا إليهما ما يعتبرونه عائداً إلى النص القطعي الدلالة. وهم لا يميزون من الناحية المنهجية بين القراءات التأويلية التي يمارسها المتكلمون وبين القراءات الباطنية التي يسقطها العرفاء وغيرهم من ذوي النزعات الغنوصية. وعادة ما يقصدون بالقراءة التفسيرية الظاهرية بأنها تتضمن حمل ألفاظ النص على معناها البيّن أو الظاهر، وعلى خلافها القراءة التأويلية، حيث انها تحمل الألفاظ على غير ظاهرها.
وواقع الأمر ان هذا التقسيم لا يفي وطبيعة ما تقوم به آليات القراءة، لوجود الفرق الجوهري بين الممارسات التأويلية كما يزاولها المتكلمون، وتلك التي يسقطها العرفاء والغنوصيون. ويعود السبب في عدم هذا التمييز إلى غياب فكرة جوهرية تتأسس عليها طبيعة آلية القراءة والفهم، وهي الفكرة التي أطلقنا عليها (المجال).
فالمجال يُعبّر عن المعنى المجمل للموضوع الذي يُطرح على بساط البحث ضمن النص اللغوي، أو هو ذلك الظهور في المعنى العام للمحور الذي يتناوله النص. وهذا الظهور العام يتشكل مما نفهمه من الاجمال الكلي لدلالة لألفاظ وسياقها، بحيث تتميز لدينا طبيعة المحور الذي يطرحه النص وان لم نتمكن من قراءته قراءة تفسيرية ولا اشارية، بل يكفينا في ذلك معرفة العنوان العام الذي تدور حوله الأحداث اللغوية للنص، شبيه بما يحدث عند النظر إلى عناوين الكتب والمقالات، إذ توحي لنا - غالبًا - بطبيعة القضايا التي تتضمنها تلك الدراسات، حتى وإن لم نطّلع على تفاصيلها بعد.
وبفكرة المجال يمكن التمييز بين ثلاث آليات مختلفة، وهي التي سميناها الآليات الإستظهارية والتأويلية والاستبطانية.
فالآلية الإستظهارية هي تلك التي يتحقق فعلها وفق العمل بمحورين، أحدهما العمل بالظهور اللفظي للنص تبعاً لما يبديه السياق، والآخر العمل بالظهور المجالي. ويمكن القول إن الأخذ بالظاهر يقتضي الأخذ بالمجال من دون عكس.
وعلى خلاف ذلك تأتي الآلية الاستبطانية، حيث ان شرط العمل بها هو عدم الاحتفاظ بالظهورين اللفظي والمجالي، فهي تستبدل المجال الظاهر بمجال آخر غير منظور، وان التخلي عن المجال الظاهر هو في حد ذاته يفضي إلى التخلي عن الظهور اللفظي. وأبرز من يعمل بهذه الآلية هم الباطنية والعرفاء.
أما الآلية التأويلية فهي تعمل وفق شرط الحفاظ على المجال ولكن من غير الأخذ بظاهر النص. أي انها تتوسط بين الآليتين الأوليتين.
إذاً، نعود إلى ما نحن بصدده من ابراز الأنماط المتعددة للفهم الوجودي وفق الآليات الثلاث الآنفة الذكر، كما يلي:
1ـ الآلية الإستظهارية والفهم الوجودي
قلنا ان هذه الآلية تعمل وفق شرطين هما المجال والظاهر اللفظي. لكن حيث ان العمل بالظاهر يقتضي الأخذ بالمجال، فإن الخاصية الأساسية لهذه الآلية هو العمل بالظاهر فحسب.
وتبعاً للنظام الوجودي ان العمل بظاهر النص لا بد ان يتلون بطيف ما عليه من رؤية. فالنص الواحد يمكن ان يتعدد فيه الظهور، وكل ذلك يعتمد على طبيعة القبليات المعرفية؛ حتى وإن كانت هذه القبليات عائدة إلى نظام واحد كالنظام الوجودي.
فرغم ان النص واحد، ورغم ان العرفاء ينتمون إلى طبقة واحدة، إلا انه لا يمتنع ان يصدر عنهم من الفهم ما هو قائم على تعددية الظهور النصي، ناهيك عن تعددية الظهور الناتجة عن اختلاف النظام المعرفي. فمثلاً قد يكون ظهور النص لدى النظام الوجودي هو غيره عند النظام المعياري؛ تبعاً لاختلاف ما عليه القبليات المعرفية، كالذي فصلنا الحديث عنه في (علم الطريقة).
ويحمل النظام الوجودي ما لا يقل عن شكلين مختلفين من الظهور وتعددية المعنى، وكلاهما نطلق عليه (الإستظهار الوجودي)، وذلك كالآتي:
أ ـ الإستظهار العام
وهو الإستظهار بالمعنى الحرفي المشترك، حيث ان لظاهر لفظ النص معنىً مشتركاً يحمل عدداً من المصاديق تبعاً لمراتبه الوجودية، مثل لفظة النور والقلم والكرسي والميزان وغيرها، فهي غير مقيدة بالاطار الحسي ولا بغيره، وبالتالي فالذي يحدد المعنى الخاص لهذه المفاهيم المشتركة هو الباطن، أو الاعتبارات التي تأتي بحسب القبليات الوجودية. وقد اطلعنا على نصوص بعض العرفاء الدالة على هذا المعنى الموظف في التطابق بين النص ومراتب الوجود.
ب ـ الإستظهار الخاص
وهو الإستظهار بالمعنى الحرفي الخاص، والمقصود به أحد تجليات المعنى المشترك العام الوارد ذكره قبل قليل، ومنه التجلي الحسي، إذ تتعين الحقيقة بهذا التجلي وفق القبليات الوجودية. أو يمكن القول إن هذا الإستظهار - كسابقه - يستهدف الحفاظ على ظاهر النص من غير تأويل، لكنه يلجأ إلى القبليات الوجودية لأجل الفهم الباطني أو التفسير.
والفرق بين الإستظهارين العام والخاص هو ان إستظهار الأول يحصل لدى المفهوم المشترك للفظ، أما استبطانه فيتحقق من خلال أحد تجليات هذا المفهوم وفق القبليات الوجودية. في حين يأتي إستظهار الثاني عبر المفهوم الخاص (غير المشترك)، أما استبطانه فيتم عبر القبليات الوجودية.
ومثلما تعبّر قراءة النص عن اشارة؛ فإنها تزيد عليها بالايضاح والتفسير، كالذي جاء تفصيله في الحلقة الأولى من مشروعنا الحالي.
فالآلية الإستظهارية قد تكون مجرد آلية اشارية تعبر عما يتبادر للذهن من معنى النص، لكن قد يضاف إليها ايضاح الكيفية التفسيرية للإشارة. والعمليتان لا تلازم بينهما من حيث الرد والقبول، فليس كل ما يقبل من حيث الإشارة يقبل من حيث الايضاح والتفسير، انما يعود ذلك إلى تحكم سلطة القبليات، لا سيما القبليات المنظومية العائدة للنُظم الفكرية.
فمثلاً قد يتفق العرفاء مع غيرهم في فهم الإشارة الإستظهارية، لكنهم من حيث الايضاح يلجأون إلى التفسير الوجودي المعهود بما يختلفون فيه عن الغير، بل وبما يبتعدون فيه عن أجواء النص وسياقه، إلى درجة قد لا يستسيغه العقل والوجدان، رغم قيامه على الإشارة الإستظهارية. وهي حالة ما سميناها (الإستظهار الجدلي).
وعموماً ان ما يعنيه الإستظهار الجدلي هو ان تكون الإشارة إستظهارية، أما ايضاحها وتفسيرها فيتقوم بالمباطنة والتأويل البعيدين، وذلك بفعل تحكم القبليات وتوجيهها.
وكثيراً ما يستعين الإستظهار الخاص للعرفاء بالحس؛ ليدلّ به على ما يراد اسقاطه من القبليات الوجودية، كالذي لاحظناه حول فهم الآيات المتعلقة بوحدة الوجود وغيرها. إذ يأتي تأكيد العرفاء على المعنى الحرفي للنص بحسب الإشارة، في حين يستعين الايضاح والتفسير بالحس - عادة - للدلالة على المعنى الوجودي المطلوب. ومن أمثلة هذا النوع من الإستظهار نذكر ما يلي:
جاء ان معنى لفظ (الظاهر) لدى إبن عربي في قوله تعالى: ﴿هو الأول والآخر والظاهر والباطن﴾[2]، يشير إلى العالم الخارجي لا غير[3]. فمن حيث الإشارة لا ينفي إبن عربي بأن لله ظهوراً كالذي تشير إليه الآية، وهو نفس المعنى الخاص المتبادر في أذهاننا، لكن من حيث الايضاح والتفسير فإن الحس لا يمدنا بغير هذا العالم الظاهر، وبالتالي فمن حيث الباطن يكون هذا العالم هو المقصود بظاهر الحق[4].
ويمكن ان يقال الشيء نفسه في قوله تعالى: ﴿ولله المشرق والمغرب فاينما تولوا فثمّ وجه الله ان الله واسع عليم﴾[5]، فمن حيث الإشارة الإستظهارية ان معنى النص واضح الدلالة، أما من حيث الايضاح والتفسير فكما جاء في التفسير المنسوب لإبن عربي؛ هو ان ذات الله متجلية بجميع صفاته، فلله الإشراق على القلوب بالظهور والتجلي فيها بصفة جماله، وذلك عند حالة شهود العبد وفنائه، كما ان له الغروب فيها بالاحتجاب بصورها وذواتها بصفة جلاله، وذلك بعد الفناء. وبالتالي فأي جهة يتوجه إليها العبد فثم وجهه، لم يكن شيء سواه، وان الله واسع بمعنى انه جميع الوجود وشامل لجميع الجهات[6].
وكذا الحال مع حالات الإستظهار لنصوص قرآنية كثيرة كالآيات التالية: ﴿كان الله بكل شيء محيطاً﴾ النساء/ 126.. ﴿وأحاط بما لديهم﴾ الجن/ 28.. ﴿وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله﴾ الزخرف/ 84.. ﴿وهو الله في السماوات وفي الأرض﴾ الانعام/ 3.. ﴿وهو معكم أينما كنتم﴾ الحديد/ 4.. ﴿ونحن أقرب إليه من حبل الوريد﴾ ق/ 16.. ﴿ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون﴾ الواقعة/ 85.. ﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ المجادلة/ 7. فقد تمسّك إبن عربي بظواهر هذه الآيات؛ مؤكداً بأن الله قد وصف نفسه بالقرب من عباده. وهو باعتماده على هذه الظواهر خلص إلى النتيجة التي يكون العبد قريباً من الحق كصفة ملازمة قبال اتصاف الحق بالقرب منه، وان الناس يطلبون ان يكونوا مع الحق أبداً في أي صورة تجلى، وهو لا يزال متجلياً في صور عباده دائماً، فيكون العبد معه حيث تجلى، والله معه أينما كان[7].
كذلك فإن الله يوصف بالغنى عن الفقر بحسب الدلالة الظاهرة من قوله تعالى: ﴿ان الله غني عن العالمين﴾[8]، وكما أكّد إبن عربي بأن الله غني تماماً عن العالمين، لكن من حيث ايضاح الكيفية التفسيرية فالله غني بحسب ما عليه الذات في حضرتها الأحدية، وان النقائص بهذا الاعتبار لا تعود إلى الحق بما هو في ذاته وانما إلى ما دونه بحسب اعتبارات التقييد، أي إلى الروح الأعظم أو العقل الأول أو الحقيقة المتعينة الكلية، إذ كان ولم يكن معه شيء ولا زال كما كان[9].
واذا كان الله غنياً عن العالمين تبعاً لإستظهار الآية الآنفة الذكر، فإنه يوصف أيضاً - حسب رأي إبن عربي - بالفقر والنقائص، لنفس العلة من الاعتماد على ظواهر النصوص الدينية للقرآن والحديث، مثلما جاء في قوله تعالى: ﴿واقرضوا الله قرضاً حسناً﴾[10]، وقوله أيضاً: ﴿وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون﴾[11]، وكذا ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹كنت كنزاً مخفياً فأحببت ان أُعرف فخلقت الخلق لكي أُعرف››، أو ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹جعتُ فلم تطعمني..››، أو غير ذلك من الآيات والأحاديث..
فهذه النصوص وما شاكلها تحمل دلالة على الحاجة والفقر الإلهي، وتفسيرها عند إبن عربي ينبع مما عليه وحدة الوجود؛ وهو ان الله يتجلى بصور الخلق للعباد، فيكون فقره وحاجته من هذه الناحية، فما من صورة إلا وتكون ناقصة وفي حاجة إلى غيرها.
كما هناك إستظهارات أخرى لها علاقة بالأعيان الثابتة، مثل ما جاء في قوله تعالى: ﴿ربنا الذي أعطى كل شيء خلْقه ثم هدى﴾[12]، فالخلق هنا بمعنى الحصة والحد المخصوص أو الاستعداد، أي أعطى كل شيء حصته واستعداده الخاص[13].
كذلك ما جاء في قوله تعالى: ﴿لا تبديل لكلمات الله﴾[14]، إذ لما كانت هذه الكلمات تعبّر عن الأشياء؛ فإنها - لهذا - لا تقبل التبديل مثلما هو ظاهر النص القرآني، ومن حيث الايضاح والتفسير فالمقصود بها حقائقها المعبر عنها بالأعيان الثابتة التي يستحيل تبديلها، إذ لا تظهر الأعيان إلا بصورة ما هي عليه في الثبوت[15].
ومثل ذلك إستظهار الآيات التي تنسب صفات الأعمال إلى أصحابها، كقوله تعالى: فلا تلوموني ولوموا أنفسكم﴾ ابراهيم/ 22.. ﴿وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ النحل/ 18.. ﴿وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون﴾ آل عمران/117.. ﴿وما أنا بظلام للعبيد﴾ ق/ 29، فهي صحيحة من حيث الظاهر، أما من حيث الايضاح والتفسير والباطن فدالة على ما للأعيان من صفات ثابتة هي مصدر تلك الأعمال وما يلحقها من الصفات التي تشير إليها النصوص.
فهذه الآيات تدل من حيث الايضاح والتفسير على ان حقائق أنفسنا المتمثلة بأعياننا الثابتة هي السبب في ما نحن به من ظلم، ومنه يُعلم ان لله الحجة البالغة. فأنفسنا من حيث حقيقتها الأصلية هي منبع الظلم وكل سوء وخير.
وهو معنى قول العرفاء: فلا تحمد إلا نفسك ولا تذم إلا نفسك، وإن كان الحمد لله يأتي من حيث افاضة الوجود على حقائقنا فحسب. ولا شك ان تفسير الآيتين الآنفتي الذكر هو تفسير قائم على الظاهر من دون شك.
وكذا هو الحال في قوله تعالى: ﴿فلو شاء لهديكم أجمعين﴾[16]، فالعرفاء يستظهرون معنى الاشاءة بالاستطاعة، باعتبارها أحد معانيها البارزة، وبالتالي فالآية تدل بحسب هذا الإستظهار على ان هداية الناس لا تخضع لحاكمية الله وقدرته، بل الأمر يعود إلى حقيقة أنفسنا من حيث كونها أعياناً ثابتة، فالمشيئة متعلقة بهذه الأعيان المطلق عليها الفيض الأقدس، خلافاً للإرادة المتعلقة بايجاد الممكنات أو الفيض المقدس[17]. لذا كانت الاشاءة عند العرفاء بمعنى الاستطاعة لا الإرادة، ويصبح معنى الآية هو ان هداية جميع الناس ممتنع، وذلك بسبب عدم الاستطاعة، فلو استطاع الله لهدى الناس جميعاً.
وعلى الشاكلة نفسها ما جاء في تفسير الدعاء المستجاب كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: ﴿ادعوني استجب لكم﴾[18]، حيث يحصل الدعاء بلسان الاستعداد[19]، وفق ما تطلبه الأعيان الثابتة من الظهور والايجاد. والشيء نفسه مع ما جاء في قوله تعالى: ﴿أُجيب دعوة الداع إذا دعانِ﴾[20]، أو ما جاء في الحديث القدسي: ‹‹من أطاعني فقد أطعته ومن عصاني فقد عصيته››.
ومثل ذلك ما جاء في تفسير الآملي لقوله تعالى: ﴿وآتاكم من كل ما سألتموه﴾، حيث دلّت عنده على ما لدى الناس والخلائق من الاستعدادات التي تخصها وما تسأله من افاضة الوجود عليها بحسب ما هي عليه من الاستعداد والقابلية. ومثل هذا الأمر يظهر في قوله تعالى: ﴿قل كل يعمل على شاكلته﴾[21]، فالكل يعمل بحسب ما عليه من الاستعداد والصورة، فكلّ ميسر لما خُلق له، مثلما جاء في الحديث النبوي.
وللآية الأخيرة توجيه آخر كالذي لجأ إليه إبن عربي، حيث عدّ العالم عمله فظهر بصفات الحق، لذا قال هذا العارف: لو قلت في العالم انه حق فقد صدقت، إذ يقول تعالى: ﴿ولكن الله رمى﴾، ولو قلت فيه انه خلق لصدقت أيضاً، إذ يقول تعالى: ﴿اذ رميت﴾، فهو المجهول المعلوم[22].
وشبيه بهذا نجده لدى صدر المتألهين في توجيهه للآية، إذ تعني عنده أن كل شيء يصدر على شاكلة الحق، أو ان كل شيء قد أوجده الله على شاكلته مثلما جاء في الحديث القائل: ‹‹خلق الله آدم على صورته››[23].
ومن الاستظهارات الأخرى ما ورد في تفسير صدر المتألهين لقوله تعالى: ﴿إنك ميت وإنهم ميتون﴾[24]، إذ حمل الموت على الحقيقة من غير حاجة إلى تأويل أو توجيه، بمعنى أن النبي الموجَّه إليه الخطاب، وسائر الناس، هم جميعاً في عداد الأموات. فالإنسان السعيد - بحسب تصوره - له موت وبعث ونشر وحشر إلى الله تعالى في كل وقت من أوقات الحياة الطبيعية، حيث يرتقي من نشأة إلى أخرى، ومن مقام إلى آخر. فالموت عنده ليس فناءً، بل تحوّل وكمال في عالم المقامات والنشآت[25]. غير أن هذا الاستظهار لا يخلو من ضعف، إذ يلوّح بأن المقصود بـ ﴿وانهم ميتون﴾ هم السعداء من الناس فقط، وهو ما لا يشهد له ظاهر النص بوجه.
كذلك إستظهر إبن عربي من قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قُتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾[26]، أن الشهداء ليسوا أمواتاً بل أحياء بين ظهرانينا وإن لم ندركهم بحواسّنا. وهذا الإستظهار في حدّه المذكور؛ مقبول لدى جمهور المسلمين أو غالبيتهم.
وأيضاً إستظهر العرفاء من قوله تعالى: ﴿وإن من شيء إلا يسبّح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم﴾[27]، أن كل شيء – أيًّا كان – له روح ناطقة تسبّح بلسان يناسب مقامه ووجوده[28].
والملاحظ من كل ما سبق ان العرفاء يحرصون على قبول الظهور اللفظي لمعنى النصوص من حيث الإشارة، لكنهم من حيث التفسير يلجأون - بحسب الباطن - إلى مباني القبليات الوجودية ليكشفوا بها عن كيفية ما تتضمنه تلك الإشارة المجملة.