-
ع
+

شروط التقليد الفقهي ونقدها

يحيى محمد 

لم يقتصر الفقهاء على الإستدلال بجواز التقليد، كما هو معلوم، بل أضافوا إلى ذلك شروطاً تصحح هذه العملية وتجعلها سائغة مجازة أو مبرئة للذمة. ويمكن تقسيم هذه الشروط إلى نوعين، حيث أن بعضها يتعلق بالمفتي أو المرجع، اما الآخر فيتعلق بالمقلّد. وقد بحث المتأخرون تلك الشروط وحاولوا أن يستدلوا على لزومها بمختلف أنواع الأدلة كما سنرى..

    أولاً: الشروط الخاصة بالمرجع ومناقشتها

تتوقف صحة التقليد لدى العلماء على عدة شروط لا بد أن تتوفر في المفتي أو المرجع، بعضها متفق عليه والبعض الآخر مختلف حوله، أهمها: شرط الإسلام والإيمان والعدالة والعقل والبلوغ والحياة والأعلمية والرجولة. ومن الناحية النقدية سنكتفي ببحث الشروط الثلاثة الأخيرة وذلك حسب الفقرات التالية..

أ ـ المرجعية وشرط الحياة

ذهب أغلب رجال أهل السنة المتأخرين إلى جواز تقليد الميت فضلاً عن الحي، بل وإحتج بعض بإنعقاد الإجماع في زمنه على جواز العمل بفتاوى الموتى. بينما حكى الغزالي في (المنخول) إجماع أهل الأصول على المنع من تقليد الأموات. وكذا ما صرح به ابن ناجي. كما ذهب الفخر الرازي في (المحصول) إلى المنع من تقليدهم[1]. لكن الكثير من الذين أجازوه انما فعلوا ذلك للضرورة حيث فقدان المجتهد الحي. فقد قال جماعة من فقهاء القرن السابع الهجري بانه انعقد الاجماع في زماننا على تقليد الميت اذ لا مجتهد فيه، ولو بقي مجتهد واحد في هذا الزمان لكان قوله حجة، ومن هؤلاء الفخر الرازي والرافعي والنووي[2]. وسبق لإبن حزم أن ذكر أنه لا يعلم من قال بوجوب تقليد الحي دون الميت قبل الباقلاني[3]، مما يُحتمل أن يكون هذا الأشعري هو أول من صرح بذلك.

أما الإتجاه الشيعي فهو على العكس من الإتجاه السني من حيث النتيجة، إذ ذهب الغالبية إلى وجوب تقليد الحي إبتداءاً، ونُقل عن البعض منهم القول بجواز تقليد الميت، وهو المنسوب إلى المحقق القمي، كما ذهب التوني إلى جواز ذلك فيما لو كان المجتهد ممن لا يفتي إلا بمنطوقات الأدلة ومدلولاتها الصريحة أو الظاهرة كالصدوقين[4]. كذلك نُقل عن الأردبيلي والعلامة الحلي القول بالجواز عند فقد المجتهد الحي مطلقاً أو في ذلك الزمان[5]، وهو ما ذهب إليه الخوئي أيضاً[6].

وبنظر البجنوردي والخوئي إنه لم يقل بجواز تقليد الميت (الإبتدائي) على إطلاقه سوى الإخبارية والمحقق القمي، ومع ذلك فقد لعتبرا خلافهما لعلماء المذهب لا يمنع من دعوى الإجماع أو التسالم على عدم مشروعية مثل هذا التقليد. ذلك لأن ما ذهب إليه القمي من تجويز تقليد الميت إنما جاء جرياً مع نزعته الخاصة في إنسداد باب العلم والظن المعتبر، حيث تعويله على مطلق الظن، وبالتالي فإنه يجعل للمكلفين رخصة للأخذ بأي ظن كان من غير فرق بين الظن الحاصل من فتاوى العلماء الأحياء أم الموتى، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه يشترط الرجوع إلى الأكثر ظناً حتى لو كان ميتاً إنسجاماً مع دليل الإنسداد. أما قول الإخبارية بجواز تقليد الميت فهو أيضاً يتناسب مع نزعتهم الذاهبة إلى عدم جواز التقليد كلياً[7].

مع أن العبارة الأخيرة عن الإخبارية تبدو متناقضة، وكان الأولى أن يقال أنهم لا يقولون بالتقليد وإنما بالإتباع من حيث الرجوع إلى رواة الحديث لا المجتهدين[8]، إذا ما إستثنينا البعض منهم ممن قال بجواز التقليد كضرورة دينية، كما هو الحال مع الفيض الكاشاني[9].

وبخصوص زعم الخوئي والبجنوردي والأصفهاني وغيرهم ممن قالوا بوجود التسالم أو الإجماع على عدم جواز تقليد الميت؛ فإنه يتنافى مع ما جاء بأن الناس أصبحوا يقلّدون الشيخ الطوسي مدة طويلة بعد وفاته؛ قد تقارب القرن من الزمان، وذلك لكثرة إعتقادهم وحسن ظنهم به. فعلى ما نُقل إنه لم يظهر آنذاك مفتٍ على وجه الحقيقة حتى مجيء إبن إدريس الحلي الذي إعترض عليه وعلى آرائه بشدة. لذلك روي عن الحمصي وهو ممن عاصر تلك الفترة قوله: «لم يبق للإمامية مفت على التحقيق بل كلهم حاك»[10]. وقيل إن العلماء بعد الشيخ الطوسي عدّوا أحاديثه أصلاً مسلماً واعتبروا التأليف في قبالها وإصدار الفتوى مع وجودها تجاسراً على الشيخ وإهانة له، حتى مجيء إبن إدريس الذي كان يسميهم بالمقلّدة، وهو أول من خالف بعض آرائه وفتاويه وفتح باب الرد على نظرياته. ومع ذلك بقي الفقهاء على موقفهم التقليدي، حتى أن المحقق الحلي وإبن أُخته العلامة الحلي ومن عاصرهما لا يتخطون رأيه. وجاء بهذا الصدد ما قاله الشيخ أسد الله الدزفولي التستري في (المقابس): «حتى أن كثيراً ما يذكر مثل المحقق والعلامة أو غيرهما فتاويه من دون نسبتها إليه، ثم يذكرون ما يقتضي التردد فيها فيتوهم التنافي بين الكلامين»[11].

هكذا كان الفقهاء بسيرتهم الفعلية لا يمنعون من تقليد الميت، سواء بالنسبة لهم أم لغيرهم من عوام الناس. أما ما إعترض عليه الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) من أن متابعة الفقهاء للشيخ الطوسي «لم يكن عن تقليد بل عن إجتهاد، ومع التنزل لا بد من فرض عدم كونهم مجتهدين عند أنفسهم»[12].. فهو مردود لكونه يسلم بما نُقل من أن الفقهاء آنذاك إنما عولوا على الطوسي لحسن ظنهم به. مما يعني أنهم كانوا بمستوى الإجتهاد، لكنهم لم يمانعوا من تقليد الميت، إذ رأوا في الطوسي الأعلمية التامة التي تفوق العلم عندهم بمراتب فقلدوه، كالذي حصل مع أغلب فقهاء الإتجاه السني.

وممن ذهب إلى جواز تقليد الميت - في الوقت الحاضر  - المرحوم الشيخ محمد العاملي الكاظمي، معتبراً ان «الأدلة القاطعة من الكتاب والسنة قائمة على جواز الرجوع الى الأموات كجواز الرجوع للأحياء...»[13]. ومثله ما ذهب إليه السيد محمد حسين فضل الله[14]. وكذا هو الحال مع السيد محمد الشيرازي الذي إعتبر الأدلة العلمية تثبته، لكنه إستدرك في مقام العمل فعوّل على الاحتياط باعتباره «طريق النجاة»[15]. كما مال الى الجواز المرحوم السيد عبد الأعلى الموسوي السبزواري[16]. وسبق أن ذهب الفقيه الداربندي (المتوفى سنة 1285هـ) إلى جواز ذلك؛ على ما حكاه عنه بعض محشّي كتاب (القوانين)[17]. يضاف إلى ما نقله الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) عن بعض معاصريه القول بالجواز، وإن كان ذلك طبقاً لقاعدة إنسداد باب العلم والعلمي مثلما هو الحال عند المحقق القمي[18].

أدلة منع تقليد الميت

أما بالنسبة للمانعين من تقليد الميت فقد إستدلوا بعدة أدلة، منها ما نُقل عن جماعة من دعوى الإجماع، وقد صرح به ظاهراً عدد من الفقهاء؛ كالنجفي صاحب (جواهرالكلام) والبجنوردي صاحب (منتهى الأصول) والأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) وغيرهم[19].

ونُقد هذا الاجماع إذ على تقدير تحققه فإنه ليس إجماعاً تعبدياً قابلاً لإستكشاف قول المعصوم، لإحتمال أن يستند ذلك إلى أصالة الإشتغال أو الإحتياط، أو إلى الإعتماد على بعض الأدلة الإجتهادية، أو غير ذلك مما لا يعد من الإجماع التعبدي[20]. بل إن هذه المسألة معنونة لدى المتأخرين فكيف يُدّعى عليها الإجماع؟!

وسبق لأحد معاصري الشيخ الأصفهاني أن ذهب إلى نقض الإجماع المدعى بكون المسألة المطروحة حادثة دون أن تكون متداولة لدى المتقدمين من أصحاب الأئمة. وقد رد عليه الأصفهاني بقوله: «كثير من المسائل الأصولية مشتركة الحاجة بيننا وبين الموجودين في زمن الأئمة كحجية الكتاب وخبر الواحد والإستصحاب وأصل البراءة وغير ذلك، فاستبعاده إنعقاد الإجماع على المسائل الأصولية بقول مطلق مقطوع الفساد، لأن الحاجة إلى العمل بالأحكام تمس إلى البحث عن الطرق المقررة إليها لتعذر معرفتها بطريق القطع غالباً، وهذا أمر مشترك بيننا وبين أكثر أهل تلك الأعصار، لا سيما عند إشتداد أمر التقية وتعذر الوصول الى الإمام كما كان يتفق في حقهم غالباً»[21].

والواقع هو أن أصل التقليد لم يكن متداولاً في عصر الأئمة، فما جرى في زمانهم هو الإتباع، والفارق بينهما واضح. أما المسائل الأصولية فبعضها قد يتفق العمل بها على الجملة لدى جميع الأعصار باعتبارها عقلية أو جبلّية أو أنها مما لا غنى عنها في الكشف عن الأحكام بالإطمئنان مع العلم بعدم ممانعة الشارع لذلك، مثلما يلاحظ في حجية الظواهر وأخبار الآحاد حين تكون باعثة على الإطمئنان، وهي ذاتها يمكن إستنتاجها من نصوص الأئمة في شتى المجالات، وكذلك سيرة المتشرعة آنذاك. أما بخصوص مسألة تقليد الميت فالأمر مختلف، إذ القول بعدم جواز تقليده لا يبتني على العقل أو الفطرة أو المرتكز العقلائي حتى يظن أنه مما أمضاه الشارع، ولا أنه يخدش في أصالة الطريق والكشف عن الأحكام. لذلك نقول كيف يمكن أن نستكشف الإجماع على مثل هذا القول؟!

كما استدل المانعون على عدم جواز تقليد الميت بآية الإنذار في قوله تعالى: ((ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم))، إذ الآية ظاهرة في إرادة إنذار المنذر الحي، إذ لا معنى لإنذار الميت. وكذا آية السؤال في قوله تعالى: ((فاسألوا أهل الذكر))، اذ الميت لا يطلق عليه أنه داخل في أهل الذكر بالفعل[22].

ومن الواضح أن الآيتين لا تدلان على أصل التقليد. يضاف إلى أنهما وإن كانا بصدد إرادة الحي، خاصة آية الإنذار، لكن لا يفاد منهما النهي عن الرجوع إلى الميت، كما لا يفاد منهما العكس.

كذلك استدل المانعون ببعض الأخبار، والتي منها قول الإمام: «فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه حافظاً لدينه مخالفاً لهواه مطيعاً لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم»، حيث أن الميت غير متصف بشيء مما ذُكر في الحديث، إذ إن لفظة (كان) ظاهرة في الإتصاف بالأوصاف المذكورة بالفعل لا الإتصاف بها في الأزمنة السابقة[23]. لكن هذه الرواية ضعيفة السند. وهي فضلاً عن ذلك ظاهرة الدلالة على الأمر بالرجوع إلى الفقهاء الأحياء، لكنها ليست بصدد النهي عن الرجوع إلى الأموات منهم؛ لا ظاهراً ولا دلالة.

رأي الخوئي في الموضوع

حول موقف السيد الخوئي نشير إلى أنه رغم نقده لجميع الأدلة الشرعية التي قُدمت لإثبات المنع من التقليد الإبتدائي للميت كما مرت معنا؛ إلا أنه لجأ إلى دليل آخر يختلف عما سبق. فحيث انه يرى وجوب تقليد الأعلم، وعلى فرض أن تقليد الميت جائز، وكان هناك من الأموات أعلم من الكل بمن فيهم الأحياء؛ فإن الأمر على ذلك سيفضي إلى أن يكون التقليد منحصراً بشخص واحد في جميع الأعصار، وهذا برأيه مما لا يمكن الإلتزام به؛ لأنه خلاف الضرورة من مذهب الشيعة في عدم حصر المرجعية بشخص معين، وإلا أصبح الأئمة ثلاثة عشر[24]. نعم إنه يستثني من ذلك فيما لو لم يتمكن المكلف من تقليد المجتهد الحي، اذ في هذه الحالة يجب عليه أن يراجع أعلم الأموات من دون محذور، باعتبار أن الأمر طارئ لا يثبت ولا يدوم[25].

مع ذلك يلاحظ أن الدليل الآنف الذكر مردود للأسباب التالية:

 1ـ إن هذا الدليل يتوقف على إثبات وجوب الأعلم، وسنرى أن ذلك لم يثبت، بل العكس هو الصحيح.

 2ـ إنه على فرض التسليم بوجوب تقليد الأعلم؛ فمع ذلك لا تترتب عليه النتيجة من حصر المرجعية بشخص أو أشخاص معينين، إلا إذا أُدعي أن الإتفاق جار على أعلمية بعض العلماء الموتى مقارنة بغيرهم وأن الزمان لا يجود بمن يمكن أن يكون أعلم منهم، وهذا ما لا أظن أن يقول به قائل. فعلى الأقل هناك مسائل لم تُبحث لدى القدماء بمثل ما بُحثت لدى المتأخرين والمعاصرين عمقاً وتفصيلاً. وبالتالي فسيظل إعتبار الأعلمية قابلاً للبحث والمقارنة في كل عصر، كما يظل مدار الخلاف فيها وارداً  كما يرد بين الأحياء أنفسهم.

 3ـ بل حتى مع ترتب النتيجة بإنحصار التقليد بشخص من الموتى؛ فليس في ذلك محذور، ولا يُعد مخالفاً للضرورة المذهبية؛ إن كان يُعنى بها ضرورة دينية لا يجوز مخالفتها. كما أن ذلك ليس من قبيل التعويل على إمام جديد ثالث عشر. فمن الواضح أن هذا الشخص وإن كان مرجعاً للناس؛ إلا أنه يُرجع إليه من حيث كونه وسيلة للكشف عن أحكام الأئمة، وبالتالي فهو ليس بمقامهم، بدليل أن أصحاب الأئمة العدول محدودون، ومع هذا لا يقال أن التعويل عليهم يعني إضافة أئمة آخرين إلى المعصومين، بل لو ثبت أن العدالة والوثوق لم تثبت إلا لواحد منهم؛ كأن يكون زرارة بن أعين أو يونس بن عبد الرحمن أو غيرهما؛ فسوف لا يُعقل أن يدعى عدم جواز التعويل عليه بحجة الحصر وإنه بذلك يفضي إلى أن يصبح الأئمة ثلاثة عشر... فأيّ دليل هذا؟!

وواقع الحال ان رأي الخوئي قد يصدق من وجوه فيما لو كان تقليد الميت شاملاً للمجتهد العالم فضلاً عن العامي. اذ في هذه الحالة لا يتوفر الحد الكافي من الدواعي للإجتهاد واصلاح الرأي، وبه يمكن ان يُستدل على ضرورة عدم تقليد العالم للميت. وسبق لابراهيم القطيفي (المتوفى في أواسط القرن العاشر الهجري)  أن اعتبر بأن السر الظاهر في عدم جواز تقليد الميت هو لوجوب «مراعاة الكتاب والسنة والنظر فيهما وعدم اهمالهما؛ لأن غير المعصوم جائز - عليه - الخطأ. فقد يظفر من تأخر، وإن كان بحيث لا يصل في مراتب العلم والفهم الى من تقدم، من اصلاح فاسد من الأدلة والعثور على جمع مما لم يعثر عليه السابق وغير ذلك، ولو كان قول المجتهد مما يعتمد عليه مطلقاً لم تتوفر الدواعي الى معاودة النظر في كتاب الله تعالى وسنة نبيه، وذلك من أعظم المفاسد الدينية»[26].

لكن كما يلاحظ أن ما أفاده هذا الشيخ لا يدل على ما رمى اليه من منع تقليد الميت باطلاق، وإنما يدل على منعه بخصوص من له القدرة على الفهم والإجتهاد.

هكذا يتضح أنه لا يوجد دليل صحيح يمنع من تقليد الميت.

أدلة جواز تقليد الميت

أما المجوزون لتقليد الميت فقد إستدلوا بعدة أدلة، منها: دعوى إطلاق أدلة الآيات والأخبار في حجية فتوى الفقيه من غير تقييد بحال الحياة، كما في آية الإنذار والسؤال وأخبار الرجوع إلى رواة الحديث.

وقد نوقش هذا الدليل بمنع الإطلاق من حيث أن الآيتين الآنفتي الذكر لهما دلالة ظاهرة على الحي، وكذا يمكن القول بما جاء في الأخبار[27].

كما استدلوا بدليل السيرة العقلائية، حيث أن البناء العقلائي في مختلف العلوم والمهن يجعل الناس يرجعون إلى المختصين من دون فرق بين حي وميت، وربما يرجعون إلى الأعلم الميت ويفضلونه على غيره ولو كان حياً.

وقد أُعترض على هذا الدليل بأن السيرة العقلائية إنما تصدق في هذا المقام - فقط - حينما لا يعلم العامي الخلاف بين العلماء بمن فيهم الأموات، أما مع العلم بذلك فإنها لا تصدق، وبالتالي فالسيرة غير شاملة للمتعارضين[28].

لكن يُرد على هذا الإعتراض بكون السيرة العقلائية تشهد بشمولها المتعارضين، أو العلم بالخلاف، فلو أن الناس علموا بالخلاف بين آراء الأطباء، الأحياء منهم والأموات، لما منعهم ذلك من إتباع البعض بغض النظر عن كونه حياً أو ميتاً، خاصة حين يُظن أنه أعلم؛ فإنه يرجح على غيره حتى لو كان الأول ميتاً والآخر حياً. ومع ذلك فالسيرة العقلائية لا تخلو من إشكال سنفصّله فيما بعد، وخلاصته هو أن التعويل عليها يعني العمل بالقياس، من حيث التعدي مما هو في القضايا الدنيوية إلى ما هو في القضايا الدينية، مع أن بينهما فارقاً لا يصح الإغفال عنه.

وقد يقال في الدليل على جواز تقليد الميت هو أنه لما كان الأصل هو جواز الأخذ بقول المجتهد الجامع للشرائط، فمع موته يظل هذا الأصل سارياً؛ ما لم يعلم بالدليل عكسه، وليس ذلك من قبيل الإستصحاب بالشك ببقاء الحكم وعدمه مع طروء حالة الموت حتى يقال إنه لا يصح باعتباره من الإستصحابات الحكمية، إذ الموت هنا ليس من العوامل والقضايا المشككة في بقاء الحجية.

كما قد يقال أن طروء الموت ليس له تأثير على تحقق الأقربية لواقع الحكم الإلهي، فمن هذه الناحية ليس هناك فرق بين الميت والحي، وحيث أن غرض الشارع هو معرفة الأحكام الشرعية ومن ثم تطبيقها، ولم يكن للموت دخالة تمنع ذلك؛ لذا فإن إتباع الميت هو كإتباع الحي، خاصة حينما يكون الميت هو الأعلم. أرأيت لو أن بعض فتاوى أصحاب الأئمة الموثوقين وصلتنا، ولنفرض أنهم مجتهدون كما يدعيه الكثير من أصحاب الإتجاه الشيعي، فهل يُعقل تحريم إتباعهم على العامي بحجة أنهم موتى، ويُلزم بإتباع المجتهد الحي؟!

أخيراً، استدل المرحوم السبزواري على جواز تقليد الميت، إذ إعتبر أن «مقتضى الأصول الموضوعية من أصالة حجية الرأي في حد نفسه، وصحة الإعتذار به، وأصالة بقاء الوظيفة الظاهرية التي إستفادها من الأدلة، وأصالة بقاء حكمة الإعتبار من غلبة الإصابة أو تسهيل الأمر على الأنام؛ صحة تقليد الميت إبتداءاً. مضافاً إلى الإطلاقات والعمومات.. وتقتضيه السيرة (العقلائية) في الجملة أيضاً»[29].

تقليد الميت والمفهوم السلفي للإجتهاد

بداية ينبغي أن نعرف بأن التقليد ليس عليه دليل شرعي، وبالتالي فهو للضرورة والإضطرار، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للحي أم الميت؛ ما لم تتدخل ضرورات ومصالح عصرية كموانع خارجية تمنع الرجوع إلى الميت وترك الحي.

وربما يكون أصل الدعوة الى عدم جواز تقليد الميت؛ مستنداً الى المفهوم السلفي الأول للإجتهاد والمتعلق بالقضايا التي لا نص فيها، خاصة مبادئ المصلحة والاستحسان والعرف باعتبارها مصادر تشريعية تعترف بإعطاء الأولوية لحق الواقع ضمن حدود، بل وحتى القياس أحياناً. فاذا كان الإجتهاد هو بهذا المعنى العالق بالقضايا المستجدة من الواقع والتي لا نص فيها، وكان المقلد يتبع المجتهد في فتاويه؛ فان من الطبيعي حينئذ ان يعول المقلد على فتوى الحي دون الميت، لا باعتبار ما للحي من خصوصيات، وانما باعتبار التجدد في الحوادث، وأن للزمان والمكان تأثيراً على تغير الاحكام أو الفتاوى.

وحقيقة إنه ليس هناك غير هذا الاعتبار يستفاد منه في منع تقليد الميت. ذلك ان الفهم الآخر للإجتهاد لا يتسق تماماً مع هذه المقالة. وهو الفهم الذي ساد لدى المتأخرين من السنة والذي يعترف بشمولية الإجتهاد حتى للقضايا التي ورد بشأنها النص، أو ذلك الذي يقتصر على قضايا النص، كما هو الحال لدى الامامية.. فسواء بهذا المعنى الخاص للإجتهاد كما تعول عليه الإمامية، أو بذلك المعنى الشمولي كما لدى متأخري السنة، لا نجد اي تبرير متسق يحجب عن تقليد الميت، طالما ظل الأمر محصوراً بفهم النص ومعزولاً عن تأثير اي تجدد يحدث في الواقع، كما عليه الممارسة الإجتهادية بصورتها التقليدية عادة.

وهذا يعني انه قد يكون لأصل الدعوة في منع تقليد الميت أساس يجد تبريره من الناحية الوظيفية. لكن إشكالنا هو في استصحاب هذه الدعوة بعد أن تُركت وظيفتها وتغيرت شروطها.

فكان الأحرى بالاتجاه الشيعي ان لا يذهب الى المنع من تقليد الميت، وذلك لرفضه الإجتهاد بمفهومه السلفي الأول. فرفضه هذا وتعويله على الإجتهاد بحسب مفهوم المتأخرين لا يتسق مع مقالة منع من تقليد الميت، طالما ان القضية لم يرد فيها نص.

وبعبارة اخرى، انه لا فارق بين الحي والميت إلا من حيث ما هو عائد الى الإجتهاد بمفهومه السلفي الأول، وهو مرفوض لدى الاتجاه الشيعي؛ فكيف تسنى له قبول نتائجه؟!

أما لو ابتعدنا عن الطريقة التقليدية كما خطتها أيدي الفقهاء، وهي طريقة لا تجعل للواقع دوراً مهماً في العملية الإجتهادية، وأردنا ان نتصور - طبق ما سبق - التمييز بين ما يجوز فيه الرجوع الى الميت وما لا يجوز؛ فسنرى ان دائرة الجواز تتحدد بجميع الأحكام التي لا تخضع الى تأثير الواقع، كالعبادات مثلاً. أما دائرة المنع فهي على العكس تتضمن القضايا المرنة والمتحركة التي تتأثر بالواقع، ومنها القضايا التي لا نص فيها، مما يتسق مع المدلول السلفي للإجتهاد. لكن يضاف اليها تلك التي ورد فيها النص، ومع هذا لم يمنع ذلك من ان تكون موضع أحكام مختلفة لتغيرات الواقع وتحولاته؛ وإن بقيت في مظهرها كما هي. وهو أمر يتجاوز حدود الطريقة التقليدية، كالذي فصلناه في عدد من البحوث المستقلة.

ب ـ المرجعية وشرط الأعلمية

إختلف الأصوليون من أهل السنة حول وجوب تقليد الأعلم، وكانت مطارحاتهم في هذا الموضوع عن الأعلمية لا تتعدى أحياناً حدود البلد الواحد، وإن كانت أحياناً أُخرى يقصد منها الشمول والإطلاق[30]. فبعضهم قال بالوجوب وألزم العامي الإجتهاد في أعيان المفتين من الأورع والأدين والأعلم. ونُقل أن هذا هو مذهب أحمد بن حنبل وإبن سريج والقفال من أصحاب الشافعي وجماعة أُخرى من الفقهاء والأُصوليين؛ الذين إعتبروا أقوال المفتين في حق العامي تنزل منزلة الدليلين المتعارضين في حق المجتهد، فكما يجب على المجتهد الترجيح بين الدليلين فإنه يجب على العامي الترجيح بين المفتين. وأيضاً لأن طريق معرفة هذه الأحكام إنما هو الظن، والظن في تقليد الأعلم والأدين أقوى، فكأن المصير إليه أولى[31].

وفي القبال ذهب القاضي أبو بكر وابن حاجب وأكثر الحنابلة وجماعة من الأصوليين والفقهاء إلى التخيير والسؤال لمن شاء من العلماء؛ سواء تساووا أم تفاضلوا. وقيل إن هذا الإتجاه هو ما ذهب إليه أكثر علماء السنة[32]. وكانت حجتهم الرئيسية في ذلك هي سيرة الصحابة من حيث أن فيهم الفاضل والمفضول، ومع ذلك فقد كان الناس يتبعون ما حلى لهم منهم دون نكير، إذ لم يُنقل عن أحد من الصحابة والسلف تكليف العوام بالإجتهاد في أعيان المجتهدين، ولا أنكروا منهم إتباع المفضول والإستفتاء منه مع وجود الأفضل[33]. وقد إختار الآمدي هذا الرأي معتبراً أن العامي ليس بوسعه معرفة الأعلم دون معرفة مآخذ المجتهدين ووجه الترجيح فيه، الأمر الذي يخرجه عن العامية ويمنعه من جواز الإستفتاء، فكل ما بوسعه أن يعلم هو أنهم جميعاً من أهل الإجتهاد والإختصاص[34].

***

أما في الساحة الشيعية فإن فكرة الأعلمية تُعد من القضايا المركزية لدى تفكير المتأخرين والمعاصرين، وذلك لما لها من علاقة بالمرجعية ونيابة الإمام الغائب.

فقد ذهب أغلب علماء الشيعة المتأخرين إلى وجوب تقليد الأعلم، وخالفهم في ذلك عدد من العلماء قالوا بعدم الوجوب، كما هو منسوب إلى جمع ممن تأخر عن الشيخ زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني، وحكاه إبنه الشيخ حسن عن بعض الناس[35]. كما ذهب بعض ممن تأخر عنهم إلى هذا الإتجاه، ومنهم الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية)[36]، والنجفي صاحب (جواهر الكلام)[37]، والنراقي صاحب (مستند الشيعة)([38])، وجماعة من المعاصرين. كما نُقل أن هذا الرأي قد قال به المحقق ومال إليه الأردبيلي بحسب الظاهر[39]. لكن إن كان المقصود بالمحقق هو المحقق الأول (نجم الدين الحلي)؛ فالحقيقة أن ما نُسب إليه يخالف ما جاء عنه في كتاب (معارج الأصول)، إذ قال بوجوب تقليد الأعلم عند الإختلاف[40]. وممن ذهب الى هذا الاتجاه من عدم وجوب تقليد الأعلم كل من الشيخ محمد رضا آل ياسين في حاشيته على كتاب (العروة الوثقى) والميرزا محمد التنباكي في رسالة (التقليد)[41].

وذكر الفيروز آبادي صاحب (عناية الأصول) إن القول بجواز تقليد المفضول قد ذهب إليه جملة من متأخري أصحابنا «حتى صار في هذا الزمان قولاً معتداً به»[42].

مفهوم الأعلمية والخلاف حوله

لم يُعالج مفهوم الأعلمية ويحدد ضابطه لدى الشيعة إلا منذ فترة قريبة؛ ربما لا تزيد على قرنين من الزمان. فقد إختلف الفقهاء حول هذا الضابط، إذ ذكر بعضهم في (المهذب) بأن الأعلمية هي من الموضوعات العرفية، لذلك فإن محتملات معانيها عبارة عن أربعة: فإما إن معنى الأعلم هو أن يكون أكثر علماً من غيره، أو أن يكون أكثر إستحضاراً للفروع الفقهية ومسائلها، أو يكون أقرب إصابة إلى الواقع، أو أنه أجود فهماً وأحسن تعييناً للوظائف الشرعية[43].

بينما ذهب الشيخ أحمد النراقي، إستناداً لبعض الروايات، إلى أن المراد بالأعلمية هو الأعلمية في الأحاديث وفي دين الله. فتارة تكون الأعلمية في الأحاديث بأكثرية الإحاطة بها والإطلاع عليها، وأُخرى بالأفهمية والأدقية وأكثرية الطور فيها، وثالثها بزيادة المهارة في إستخراج الفروع منها وردّ جزئياتها إلى كلياتها، ورابعها بزيادة المعرفة بصحيحها وسقيمها وأحوال رجالها وفهم وجوه الخلل فيها، وخامسها بأكثرية الإطلاع على ما يتوقف فهم الأخبار عليها من علم اللغة والنحو وغير ذلك، وسادسها باستقامة السليقة ووقادة الذهن وحسن الفهم فيها، وسابعها بأكثرية الإطلاع على أقوال الفقهاء التي هي كالقرائن في فهم الأخبار ومواقع الإجماعات وأقوال العامة ـ أهل السنة - التي هي من المرجحات عند التعارض، كذلك فهم القرآن. فالأعلم الذي يجب تقديمه بلا أدنى شك هو الأعلم بجميع تلك المراتب أو في بعضها مع التساوي في الباقي، وإلا فإنه يشكل الحكم بالتقديم، ومن ذلك يظهر ندرة ما يحكم فيه بوجوب التقديم البتة[44].

وعند الأصفهاني صاحب (الفصول الغروية) أن مما يدخل ضمن مفهوم الأعلمية هو أن يكون المجتهد أقوى من غيره في معرفة مضامين العلوم التي يتوقف عليها الإجتهاد، كالعربية والأُصول والرجال، مضافاً إلى أن تكون له إعتبارات قوة الحفظ، أو الذكاء، أو كثرة التأمل، أو كثرة الإطلاع، أو سعة الباع في الفكر والتصرف، أو إعتدال السليقة، أو زيادة التحقيق، أو التدقيق، أو أقدمية الإشتغال ومزيد الإستيناس. لكنه إستدرك بأن من الممكن أن يتحقق التعارض بين هذه الوجوه، لهذا فهو يرى أن إعطاء ضابط للأمر يعد متعذراً على الظاهر[45].

ولدى اليزدي صاحب (العروة الوثقى) أن المراد بالأعلم هو أن يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر إطلاعاً لنظائرها وللأحاديث، وكذلك أجود فهماً لهذه الأحاديث، وبالتالي فالحاصل هو أن يكون أجود إستنباطاً من غيره[46].

 ولدى الفيروز آبادي صاحب (عناية الأصول) أن الأعلم هو من له ملكة أقوى وسلطة أشد في الإستنباط[47]. ومثل هذا ما ذكره محمد تقي الحكيم، حيث أن الأعلم بنظره هو أن يكون المجتهد أقوى ملكة من غيره في مجالات الإستنباط، لا الأوصلية إلى الواقع لعدم إمكان إحرازها في الغالب[48].

ولدى محمد الجواد العاملي صاحب (مفتاح الكرامة) أن الفاضل هو من يتبع المآخذ ويصيب في الفكر، لكن الأفضل هو من له هاتان الخصلتان إلا أن خطأه أقل[49].

أما الخوئي فإنه يعتمد في تحديد الأعلم على بناء العقلاء والعقل. فهو ينفي أن يكون معناه مستمداً من شدة الإقتدار في معرفة القواعد والكبريات أو المبادئ التي تُستنتج بها الأحكام؛ كما إذا كان المجتهد في المطالب الأصولية أقوى من غيره، كذلك ينفي أن يكون المراد به أكثرية الإحاطة بالفروع والتضلع في الكلمات والأقوال، بل المراد بالأعلم عنده هو أن يكون المجتهد أشد مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها وأقوى إستنباطاً وأمتن إستنتاجاً للأحكام عن مبادئها وأدلتها، وهو ما يتوقف على علمه بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقه على صغرياتها، فلا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر. فمثل ذلك كمثل الطبيب الأعلم في نظر العقلاء، حيث أنه أعرف بتطبيق الكبريات الطبية على مصاديقها[50].

وشبيه بذلك ما لدى صاحب (التهذيب)، حيث أن الأعلم عنده هو من كان أجود فهماً في تطبيق الفروع على مداركها وأجود إستنباطاً للوظائف الشرعية[51].

وأخيراً - وبسبب التحول السياسي عند الشيعة - فإن هناك من يرى أن من ضمن ما يدخل في ملاك الأعلمية هو أن يكون للمجتهد معرفة بأوضاع زمانه بالمقدار الذي له مدخلية في تشخيص موضوعات الأحكام الشرعية، كما هو رأي الولي الفقيه السيد علي خامنئي. وقبله كان الإمام الخميني يرى أن من الواجب على المرجع أن يكون عالماً بالأُمور السياسية والعسكرية والإجتماعية والقيادية كافة[52]. فربما يكون ذلك داخلاً ضمن عنوان الأعلمية. وهو أمر له مساس بتأثير الواقع والحاجات الزمنية على الفهم الفقهي وتطويره. بل تبعاً لهذا التأثير لم يكتفِ بعض الفقهاء الجدد من التأكيد على شرطية معرفة الأُمور السياسية والإجتماعية والإقتصادية داخل النظام الإسلامي؛ إنما ذهب إلى أكثر من ذلك فاعتبر أن من لم يحرز مثل هذه الأُمور فليس بمجتهد بالمرة، وذلك باعتبار أن الفقه الشيعي حديث العهد بها، وهي تشكل ما يقارب (95%) من مجموع الأحكام الكلية.

فكما يقول الشيخ الجناتي: إن «مفهوم الأعلمية اليوم - حيث هناك نظام إسلامي قائم - هو غير مفهوم الأعلمية في السابق، ولأن الأعلم في السابق هو الذي يكون أعلم المجتهدين الآخرين في إطار مسائل الرسالة العملية والتي تشمل نوعاً ما على المسائل الفردية والعبادية وهي تشكل (5%) فقط من مجموع الأحكام، أما اليوم فالمجتهد الأعلم هو أعلم من سائر المجتهدين في جميع المسائل التي يحتاجها الفرد؛ سياسية، عبادية، إقتصادية، إجتماعية، بالإضافة إلى مسائل العلاقات الدولية والمسائل الحكومية. لهذا يجب أن تحرز هذه الأُمور في الشخص الذي يطرح باعتباره الأعلم، وبدونها لا يمكن أن نعتبره الأعلم. بل يمكن أن لا نعتبره مجتهداً؛ لأن أدلة الفروع الموجودة في الرسائل العملية واضحة ولا تحتاج إلى بذل الوسع والإجتهاد... إن الفقيه الذي لا يلم بالمسائل التي يواجهها النظام الإسلامي والتي تشكل (95%) من مجموع الأحكام، ويكتفي بالمسائل والأحكام الفردية والعبادية في حدود الرسالة العملية ـ التي تكررت مئات المرات ـ فقط؛ لا يمكن أن يكون مجتهداً مطلقاً»[53].

أدلة جواز تقليد المفضول

من أهم الأدلة التي قدمها المجوزون لإثبات عدم وجوب تقليد الأعلم ما يلي:

 1 ـ دليل إطلاق الأدلة

إستدل المجوزون لتقليد المفضول ببعض الآيات والأخبار التي تأمر بإرجاع الناس إلى الفقهاء من دون تخصيص للأعلمية ولا التقييد بها، كآية الانذار: ((فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون))، وكرواية أحمد بن حاتم بن ماهويه الذي كتب هو وأخوه إلى الإمام أبي الحسن الثالث يسألانه عمن يأخذان دينهما، فكتب الإمام يجيبهما بالقول: «فهمت ما ذكرتما فاصمدا في دينكما على كل مسن في حبنا وكل كثير القدم في أمرنا فإنهما كافوكما إن شاء الله تعالى»[54]، وكمشهورة أبي خديجة: «إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً»[55]، كذلك المقبولة والتوقيع وغيرها من الروايات.. كما أن الأئمة أرجعوا الناس الى أشخاص معينين من الأصحاب دون تمييز لهم من جهة الأعلمية؛ كيونس بن عبد الرحمن ومحمد بن مسلم وزرارة بن أعين وزكريا بن آدم وغيرهم. بل نُقل عن الرسول (ص) إنه كان يولي بعض أصحابه القضاء مع حضور الإمام علي الذي هو أقضاهم، حتى قال محمد بن مكي العاملي صاحب كتاب (الدروس الشرعية): «لو حضر الإمام في بقعة وتحوكم إليه فله رد الحكم إلى غيره إجماعاً»[56]. لذلك إعتبر النجفي صاحب (جواهر الكلام) أن أصل تأهل المفضول وكونه منصوباً يجري على قبضه وولايته مجرى قبض الأفضل؛ هو من القطعيات التي لا ينبغي الوسوسة فيها[57].

ويعتبر هذا الدليل عمدة أدلة المجوزين، لكن نوقش بأنه يصدق في الرد على القائلين بعدم جواز تقليد المفضول مطلقاً. إذ إستدرك جماعة من العلماء وقالوا إن الإطلاق في أدلة الكتاب والسنة مقيد بعدم العلم بالخلاف بين العالم والأعلم، وبالتالي فإن علم العامي بالخلاف بينهما لا يشمله ذلك الإطلاق[58]. أو على حد قول البعض إن تلك الأدلة إنما كانت بصدد بيان أصل جواز الأخذ بقول العالم، لا في كل حال، إذ إنها لم تتعرض الى حالة ما إذا كانت هناك معارضة في الفتوى بين العالم والأعلم أم لا[59].

لذا فبحسب هذه المناقشة وعلى رأي السيد الخوئي يكون الإمام قد أرجع الناس إلى أصحابه لعدم علمه بمخالفتهم له فيما يفتون به. إذ لا يُحتمل أن يُرجع الناس إليهم مع العلم بهذه المخالفة[60]. مما يعني أن الإمام لا يعول بالرجوع إلى الموثوقين جميعاً فيما لو علم أنهم يختلفون فيما بينهم، فهذا الإختلاف يقتضي في حد ذاته الإختلاف معه، لأن الحق لا يكون في الأمرين المتضادين. مع أن الخوئي في محل آخر سلّم بأن الخلاف بين أصحاب الأئمة كثير، بل هو الأمر الغالب، ومع ذلك فهو يعتبرهم - جميعاً - حجة ما دام الناس لا يعلمون الخلاف فيما بينهم[61].

لكن الإشكال ما زال قائماً، إذ ليس من المعقول أن لا يعلم الإمام بالخلاف بين أصحابه عند ارجاعه الناس إليهم. كما إن العادة قاضية بأن كثرة الخلاف تجعل الناس يدركون ذلك، مع أنه لم ينقل أن هؤلاء كانوا آنذاك مبتلين بمشكلة الأعلمية والترجيح بين الفاضل والمفضول، خاصة وقد ورد في بعض الأخبار أن من الناس من كان يرجع إلى الإمام ليستوضح أمر الخلاف بين الأصحاب، وكان الإمام على علم بذلك، أو أنه أراد أن يكون بينهم الخلاف لأغراض التقية، ولم يرد أيّ ذكر يتعلق بالأعلمية، مما يعني أن الظاهر عدم وجوب التقييد بها مطلقاً.

وبهذا يمكن دفع الشبهة التي طرحها السيد الخوئي، إذ إعتبر الإطلاق في أدلة الكتاب والسنة لا يشمل المتعارضين كي لا يستلزم الجمع بين المتنافيين إذا ما أُخذا معاً، اذ الأخذ بأحدهما المعين دون الآخر هو ترجيح بلا مرجح، كما أن التخيير فيما بينهما لا دليل عليه، وبالتالي فمقتضى القاعدة هو التساقط في كل دليلين متعارضين[62]. لكن الظاهر من دليل الإطلاق هو التخيير، فمن جهة إن عدم وجود المقيد لهذا الإطلاق يُبقي الإطلاق على حاله، وإعتبار القيد في الإطلاق ببعض الحالات والصور يحتاج إلى دليل، وهو منفي في مقام الإستدلال بالشرع كما سيتوضح لنا أكثر. كذلك فإن مقتضى التسليم بكثرة الخلاف بين أصحاب الأئمة يفضي كما عرفنا إلى حصول العلم بالخلاف وبالتالي قبول إتباع المفضول مع وجود الفاضل، أي عدم وجوب إتباع الأعلم.

2 ـ دليل سيرة المتشرعة

قال المجوزون لتقليد المفضول انه جرت السيرة على رجوع المتشرعة في المسائل التي يبتلون فيها إلى أيّ عالم دون فحص وتمييز يخص الأعلمية، مما يعني عدم وجوب إتباع الأعلم. بل أصبح من المعلوم أن الصحابة كانوا يفتون الناس رغم إختلافهم بالفضيلة من دون نكير، فيكون هذا إجماعاً منهم، كما أشار إلى ذلك زين الدين العاملي صاحب (مسالك الأفهام)[63].

لكن واجه هذا الدليل نقداً لا يختلف عن نقد دليل الإطلاق، حيث أن سيرة المتشرعة تصدق فيما لو لم يُعلم بحالة الخلاف بين العالم والأعلم، أما مع العلم بها فلا دليل من السيرة على ذلك[64]. وأكثر من هذا إدعى السيد الخوئي أن السيرة جارية على الأعلم عند العلم بحالة الخلاف، لكنه لم يأتِ بشاهد على دعواه، بل قفز فجأة ليقرر أن إعتبار ذلك لا يختلف عما يجري ضمن السيرة العقلائية، كالرجوع إلى الطبيب الأعلم في أخذ العلاج عند العلم بالإختلاف بينه وبين طبيب آخر أقلّ علماً منه[65].

والحقيقة إن كثرة الخلاف الذي حصل لدى المتشرعة، سواء لدى صحابة النبي (ص) أو التابعين أو أصحاب الأئمة؛ كل ذلك يجعل من دليل السيرة شاملاً للعلم بالخلاف، حيث من المستبعد أن تكون تلك الكثرة في الخلاف حاصلة دون علم الناس آنذاك، مع أنه لم ينقل عنهم أنهم إبتلوا بمشكل الأعلمية، بل كان من الواجب أن ينبه على ذلك نفس المتشرعة كي لا يضل الناس بهم. لكن حيث أن هذا لم يرد أبداً، بل الوارد هو أن المتشرعة أمضوا على سيرة إتباع الناس لهم من دون نكير مع علمهم بذلك، فدلّ هذا الأمر بما لا يقبل الشك على أن دليل السيرة شامل لحالة العلم بالخلاف.

ولا غرابة في هذا الأمر، فربما كان جواز إتباع المفضول مع وجود الأفضل للمسامحة والتيسير، أو باعتبار أن زيادة الفضل مبالغة في الإختيار دون اعتبارها شرطاً في الإتباع أو التقليد، وهو الأقرب، باعتبار أن المفضول لا يختلف عن الأفضل من جهة الإختصاص وكونه عالماً يستحق الإتباع.

 3 ـ دليل السيرة العقلائية

ومفاد هذا الدليل هو الرجرع إلى غير الأعلم في جميع الحرف والصنايع، كمراجعة الناس للأطباء والمهندسين وغيرهم من أرباب العلوم والفنون، وحيث لم يرد ردع عن هذا الرجوع في الشريعة، فإنه يستكشف إمضاء الشرع له. لكن القائلين بقيد العلم بالخلاف إعتبروا هذه السيرة جارية في حالة عدم العلم بالخلاف، أما مع العلم بالخلاف فالأمر معكوس، حيث يكون الرجوع للأعلم[66].

وهناك من فصّل في الأمر معتبراً أن الرجوع للأعلم من أهل الخبرة يحصل فيما لو كانت القضايا مهمة، أما لو لم تكن مهمة فربما يمكن الرجوع إلى أيّ منهم دون شرط الأعلمية. لكنه اعتبر المسائل الدينية كلها مهمة بنظر الشارع، لهذا كان من الواجب عنده التعويل على الأعلم[67].

وسنؤجل مناقشة هذا الدليل، وكل ما يمكن قوله - هنا - هو أن صدق الدليل الشرعي؛ سواء من حيث الأدلة في الإطلاق، أو من حيث سيرة المتشرعة، يعد متقدماً على دليل السيرة العقلائية، وبالتالي فهذا الدليل لا يزاحم الدليل الشرعي ولا يرجح عليه؛ على فرض معارضته له.

 4 ـ دليل العسر والحرج

سبق أنْ تبين لنا الاختلاف في تحديد ضابط الأعلمية، وهذا الإختلاف لا يدع مجالاً للعامي معرفة من هو الأعلم، اذ تصبح الأعلمية أمراً نسبياً، وبالتالي ليس بإمكانه أن يقلّد في مثل هذه القضية، إلا أن يجتهد بنفسه في هذا الحد كسائر المجتهدين، وهو خلاف ما يُلاحظ عند عامة الناس من قصور. ولو أخذنا بالرأي الذي يرى الأعلمية قد تختلف من مسألة إلى أُخرى، ومن ثم يكون الفقيه أعلم من غيره في بعض المسائل دون بعض آخر، كما هو رأي السيد الخوئي؛ فإن ذلك سوف يضاعف من العسر في معرفة الأعلم من الفقهاء، فيظل المقلّد متردداً في المسائل بين تقليد هذا أو ذاك في أيّ مسألة أو موضوع معين. يضاف إلى أنه حتى مع معلومية الضابط، وبغض النظر عن نسبية الأعلمية تبعاً لإختلاف المسائل والموضوعات من هنا وهناك، فثمة مشكلة أُخرى تتحدد في تشخيص الأعلم بين العلماء، خصوصاً وأهل الخبرة كثيراً ما يختلفون فيما بينهم حول ذلك، ومن ثم لا ينفع الشياع الذي كثيراً ما يتأثر بعوامل أُخرى سياسية ودعائية تفسد عملية تشخيص الأعلم، كما هو بيّن للعيان في أيامنا هذه.

لذلك ليس من الصحيح ما يذكره الفقهاء، ومنهم السيد الخوئي، من أن قضية تقليد الأعلم هي مثل سائر العلوم الأُخرى تثبت بالعلم الوجداني والشياع المفيد لهذا العلم وبالبينة، وبالتالي ليس هناك من حرج[68]. مع أن جميع ما ذكره يُعد من موارد إختلاف المقلّدين ومن موضع إبتلائهم، خاصة في أيامنا الحاضرة.

نعم قد يقال، كما قال الآخوند الخراساني، بأن تشخيص الأعلمية ليس بأشكل من تشخيص أصل الإجتهاد[69]. لكن موقف العامي من الإجتهاد لا بد أن يستند إلى منطق مغاير هو منطق النظر، وكذا الحال في قضية الأعلمية. ولا ينفع ما ذكره هذا الأصولي من أن قضية نفي العسر هو الإقتصار على موضع العسر فيجب تشخيص الأعلمية أو أصل الإجتهاد فيما لا يلزم عنه عسر[70]، وذلك لأنّا علمنا بأن الحرج يعم كافة المقلّدين من جوانب متعددة، وليس هناك مخرج إلا بالإجتهاد أو إتباع طريقة النظر كحل معقول ومشروع.

أدلة وجوب تقليد الأعلم

أما الأدلة التي قُدمت لإثبات وجوب تقليد الأعلم فهي كالآتي:

 1 ـ دليل الإجماع

حكي الإجماع عن الشريف المرتضى في ظاهر (الذريعة) والمحقق الثاني؛ على وجوب الترافع إبتداءاً إلى الأفضل وتقليده[71].

ويعد هذا الإجماع من الإجماع المدعى الذي لا يفيد علماً. وقد يكون الإجماع الذي إدعاه المرتضى مبنياً على مسألة الإمامة العظمى كما أشار إلى ذلك النجفي صاحب (جواهر الكلام)، وهو في غير ما نحن بصدده من بحث.

 2 ـ دليل الأخبار

من الأخبار التي استدل بها العلماء على وجوب تقليد الأعلم مقبولة عمر بن حنظلة كما سبق عرضها، اذ تدل على ترجيح الأفقه. لكن المقبولة ضعيفة. يضاف إلى أنها أجنبية عن المقام حيث وردت بخصوص القضاء؛ فاعتبارها تنطبق على التقليد يعني تجاوزاً لذلك الخصوص، مع أن مسائل القضاء وفض المنازعات تحتاج إلى البتّ في الحكم من دون تخيير وإلا ترتبت المفاسد، وهو خلاف ما يحصل في التقليد عادة. أيضاً ورد في المقبولة ترجيح العدالة والأصدقية، حيث قال الإمام: «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث»، وهما من الأُمور التي لم تؤخذ بنظر الإعتبار لدى القائلين بوجوب الأعلم، فالتعويل على المقبولة في المقام إن صحّ فإنه لا يتحقق بشطرها وأخذ بعض مضامينها دون البعض الآخر.

كذلك فإنه على رأي السيد الخوئي أن القائلين بالأعلمية إنما يستندون الى الأعلم مطلقاً وليس إلى الأعلم النسبي كما هو مفاد ما جاء في المقبولة[72]. وإن كان قد يجاب على ذلك من حيث أن هناك وحدة مناط متحققة بين الأمرين. فلو أن التعويل على الأفقه في المقبولة هو لأن حكمه يقتضي الأقربية إلى واقع الحكم الإلهي؛ فإن هذا الشأن من الأقربية يبقى كما هو، سواء كان الإختلاف بين إثنين مثلما ورد في المقبولة أو أنه بين جمع كبير، ولا فرق بين الأمرين ولا خصوصية تتعلق بأحدهما دون الآخر.

أخيراً فإن التعويل على المقبولة قد يستنتج منه عدم وجوب تقليد الأعلم لوجود الإطلاق فيها قبل فرض حصول الخلاف والعلم به، حيث جاء في النص قول الإمام: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا..»، إذ لم يقل: (ينظران إلى الأفضل منكم). وهو صحيح.. لكن عند العلم بالخلاف فالأمر مغاير، حيث يكون الأفقه هو المرجح في الأخذ والتعويل دون المفضول، كما أشارت اليه المقبولة فيما بعد.

وينطبق أغلب ما ذكرناه بخصوص المقبولة على ما جاء في بعض الروايات التي وردت - هي الأُخرى - بخصوص القضاء والحكم لا الفتوى، كما في رواية داود بن الحصين: «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما فينفذ حكمه»[73]، ورواية موسى بن أكيل عن الإمام الصادق، حين سُئل عن رجل يكون بينه وبين أخ له منازعة في حق، فيتفقان على رجلين يكونان بينهما، فحكما فإختلفا فيما حكما، قال الإمام: وكيف يختلفان؟ قال: حكم كل واحد منهما للذي إختاره الخصمان، حينها قال الإمام: ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيُمضى حكمه[74]. كذلك قول الإمام علي في عهده للأشتر: «ثم إختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك». ذلك أن جميع هذه الروايات أجنبية عن مقام الفتوى والتقليد، وبعضها ضعيف من حيث السند.

فالرواية الثانية فيها ذبيان بن حكيم وهو غير موثق. أما الرواية الثالثة فهي غير ثابتة السند، يضاف إلى أنه وردت لفظة (الأفضل) في الرواية وهي تعني ما هو أعم من الأعلم، فلا وجه للتخصيص والإعتماد بها في المقام، كذلك وردت الأفضلية - هنا - بالمعنى النسبي لا المطلق[75]، وإن كان قد يجاب على هذا بمثل ما أجبنا عليه عند مناقشتنا للمقبولة. أما الرواية الأُولى فقد عُدّت معتبرة لكنها قاصرة الدلالة[76].

كما جاء في كتاب (الإختصاص) للشيخ المفيد عن الرسول (ص) قوله: من تعلّم علماً ليماري به السفهاء أو ليباهي به العلماء أو يصرف به الناس إلى نفسه فيقول أنا رئيسكم؛ فليتبوأ مقعده من النار، إن الرئاسة لا تصلح إلا لأهلها، فمن دعى الناس إلى نفسه وفيهم من هو أعلم منه لم ينظر الله إليه إلى يوم القيامة[77]. وهي رواية مرسلة لا يعول عليها، فضلاً عن أن موردها الرئاسة وليس الفتوى، فلا مجال للتعدي والقياس.

كذلك جاء عن الإمام الجواد أنه قال مخاطباً عمّه: «يا عم إنه عظيم عند الله أن تقف غداً بين يديه فيقول لك: لِمَ تفتي عبادي بما لم تعلم وفي الأُمة من هو أعلم منك». وقد عُدت هذه الرواية دالة على إعتبار الأعلمية المطلقة لكنها هي الأُخرى ضعيفة  لإرسالها[78].

تلك هي جملة من الروايات الضعيفة والأجنبية عن المقام. لكن رغم ذلك فقد ذكر النجفي أنها كانت معتمد الأصحاب الذين ذهبوا إلى الإعتقاد بوجوب تقليد الأعلم؛ باعتبارها نصوصاً ترجيحية[79].

3 ـ دليل العقل

ومفاد هذا الدليل هو أن فتوى الأعلم أقرب إلى واقع الحكم الإلهي. فبرأي البعض أن سبب قياس الفقهاء لمسألة التقليد في الأعلم بالقضاء يعود الى الكشف عن الملاك في الترجيح وأنه الأقرب إلى واقع الحكم الإلهي في المقيس عليه. فلولا هذا الإعتبار ما تم لهم ما أوجبوه في الأخذ بقول الأعلم. إذ بنوا ذلك على إلغاء الخصوصية ونفي التعبدية وكون الملاك ينحصر في أقوائية الظن والأقربية إلى واقع الحكم الإلهي[80]. حتى صرحوا بأن «الظن بقول الأعلم أقوى، وإتباع الأقوى أولى، ولأن أقوال المفتين بالنسبة الى المقلّد كالأدلة، فكما يجب العمل بالدليل الراجح يجب تقليد الأعلم، كما هو واضح من رواية عمر بن حنظلة وغيرها من الروايات الصريحة في ذلك»[81].

وخلاصة الدليل السابق هو أن فتوى الفقيه لما كانت تعتبر طريقاً إلى الأحكام الإلهية، وحيث أن فتوى الأعلم أقرب إلى واقع الحكم الإلهي من فتوى غيره لسعة إحاطته وإطلاعه ودقة نظره وقوة تمكنه من الإستنباط بالقياس إلى غيره؛ لذا يتعين على المقلد الأخذ بفتواه دون هذا الغير.

وكجواب على هذا الدليل هو أن الترجيح بالأقربية لا يقتضي تعين الوجوب بها. فكون الأقرب مفضلاً ومرجحاً على غيره لا يعني وجوب تعينه بالضرورة حسب هذا الإعتبار، وإلا لوجب على المجتهد أن يرجع إلى من هو أعلم منه عند الخلاف، مع أنه لا يسوغ له ذلك. وعليه إعتبر السيد الخوئي أنه «لم يقم أيّ دليل على أن الملاك في التقليد ووجوبه هو الأقربية إلى الواقع، إذ العناوين المأخوذة في لسان الأدلة، كعنوان العالم والفقيه وغيرها، صادقة على كل من الأعلم وغير الأعلم وهما في ذلك سواء لا يختلفان، وهذا يكفي في الحكم بجواز تقليدهما»[82]. فبرأيه ان مفهوم الأقربية لا يتجاوز المعنى الخاص بالأقربية الطبعية والإقتضائية، وهي تعني أن الأعلم من شأنه أن تكون فتواه أقرب إلى واقع الحكم الإلهي من فتوى غيره من المجتهدين، وإلا فالأعلم وغيره يمتلكان نفس الحجية بلا فرق[83].

وقد يقال إنه إذا كان العمل بفتوى الأعلم ينبني على الإحتياط باعتباره أقرب إلى واقع الحكم الشرعي، وبغض النظر عما ورد من الأدلة الشرعية، فإن مصلحة التسهيل يمكن أن تتدخل في جواز العمل بفتوى المفضول.

على أن كثيراً ما تكون فتوى المفضول موافقة لفتوى الأفضل من الأموات، وبالتالي لا يصح القول أن فتوى الأعلم هي أقرب إلى واقع الحكم الإلهي فعلاً، خاصة وقد تتدخل أُمور فنية وطرق إجتهادية أُخرى ربما لا يستسيغها الأعلم، بينما يعمل بها من هو دونه، فتكون فتواه أقرب، من قبيل أن يستعين المفضول بـ "الواقع" كعنصر من عناصر المساعدة على تحديد الحكم الشرعي، فإنه بهذه الممارسة قد تكون فتواه أقرب إلى حقيقة الحكم الإلهي مع أنه أقل عمقاً وعلماً من الأعلم[84].

4 ـ دليل السيرة العقلائية

وهذا الدليل عبارة عن الرجوع إلى الأعلم عند العلم بالخلاف في جميع الحرف والعلوم، وحيث لم يردع الشرع عن هذه السيرة، لذا يمكن إستكشاف امضاءه لها. وبذلك يُعلم سقوط فتوى غير الأعلم عن الحجية حين المعارضة.

ويعتبر هذا الدليل من أقوى ما إستند إليه دعاة تقليد الأعلم، بل ذهب البعض إلى إعتبار جميع الأدلة غير ناهضة على المطلوب باستثناء هذا الدليل لوضوح صدقه وخلوه عن المعارضة، مثلما هو الحال مع السيد الخوئي[85].

كما إعتبر البعض أن إستدلال المشهور بالسيرة العقلائية على وجوب الرجوع للأعلم إنما لملاك الأقربية لواقع الحكم الإلهي؛ رغم إطلاقات أدلة التقليد التي لم تكن خافية عليهم، ورغم ظهور نص رواية «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا» والتي هي دالة في صحة الرجوع إلى مطلق راوي الحديث وكون التقييد بالأعلم خلاف المنساق منها ومن أشباهها من أدلة التقليد، فما ذلك إلا دليل واضح على أن بناءهم في الأمارات إنما هو على الطريقية المحضة، وأن ما أُحرز أقربيته للواقع هو اللازم إتباعه. ولولا شدة إرتكاز الطريقية في أذهانهم وبنائهم عليها لما رفعوا اليد عن ظهور الأدلة في جواز الرجوع إلى غير الأعلم.. أو لما لجأوا إلى نفي كون هذه المطلقات في مقام البيان من هذه الجهة مع وضوح ظهورها عرفاً في البيان ومع كون بعضها عمومات لا مطلقات[86].

مع هذا يمكن مناقشة الدليل العقلائي من عدة زوايا كالتالي:

 1ـ إنه دليل غير ناهض طالما هناك أدلة معارضة مستمدة من الشرع.

 2ـ إنه يتضمن القياس، اذ ليس بالضرورة أن يكون حال ما يتعلق بالشريعة أو الدين كحال سائر العلوم والحرف والمهن المادية. فعلى فرض أن السيرة العقلائية تستقبح من يراجع المفضول في الحرف والمهن مع وجود الأفضل وأن ذلك مما أمضاه الشارع؛ فإنه - حتى مع التسليم بهذا الفرض - لا يدل على أن الشارع يمضي مثل ذلك فيما يخص قضايا الدين؛ إلا إذا قلنا بالقياس والتعدي من هذا الباب إلى ذاك، مع أن هناك فارقاً جوهرياً بين البابين، بحيث لا يستبعد أن نجد مسامحة في أحدهما ما لا نجده في الآخر. فمثلاً قد تتعدد الوسائل في المهن لتحقيق المطلوب، والبناء العقلائي لا يستقبح ذلك، بينما يختلف الحال في قضايا العبادة من الدين من حيث هي توقيفية، فلا يجوز مثلاً تبديل الصلاة بعبادة أُخرى بحجة أنها أشد تأثيراً في التقرب الى الله تعالى. لذلك فما يستقبحه العقلاء من الرجوع إلى المفضول مع وجود الفاضل في الحرف والمهن؛ قد لا يكون مستقبحاً في القضايا الدينية لدى الشارع المقدس.

وكما يقول راضي النجفي صاحب (تحليل العروة): «إن الإرتكاز في أمر الدين والشرائع غير الإرتكاز في سائره، ولذا لا يجوز أخذ الدين عن مطلق من عرف الدين، بل لا بد من الإيمان وغيره من الوثاقة، فالإرتكاز الصرف لا يكفي في تحصيل الإطمئنان في العمل به كما لا يخفى على المتأمل المتعمق»[87].

وتظل القاعدة العامة هي ان البناء العقلائي لا يصح اتخاذه دليلاً ما لم يستكشف منه القطع في موافقته للشرع وامضائه، مثلما أشار الى ذلك الشيخ المظفر[88].

 3ـ إن إعتبار القضايا الدينية خطيرة - الأمر الذي يستدعي الرجوع إلى الأعلم – لا يخلو من مبالغة، ذلك لأنا نعلم بأن الشارع يسمح بالإلتزام بقاعدة عدم العسر والحرج فيما لو أدت ممارسة تلك القضايا إلى أضرار معينة حتى لو لم تكن خطيرة، فهذا التيسير يتنافى مع إدعاء الخطورة في الأحكام على وجه الشمول والإطلاق، لذلك يختلف الحال مع ما يحصل بالنسبة إلى البناء العقلائي في القضايا الخطيرة، وبالتالي هناك فرق بين هذا البناء وبين سلوك الشرع نظراً لتفاوت قيمة القضايا لديهما. بدليل أن الأصوليين يقرّون أن المخالفة القطعية لواقع الحكم الإلهي لا تدل أحياناً على الحرمة؛ كما لو غيّر المجتهد رأيه أو عدل المقلّد إلى الأخذ برأي مرجع آخر لعذر ما[89]، بل بنظر البعض أن الإقدام على ما يحتمل أن تكون منه مخالفة ذلك الواقع قد يحسن، بل وقد يكون لأجل مصلحة تزيد على مصلحة إدراك الواقع الآنف الذكر، وبالتالي تتحول المفسدة الناتجة من المخالفة إلى المحبوبية أو الوجوب بفعل المصلحة الراجحة «فلا يصح إطلاق الحرام على ما فيه المفسدة المعارضة بالمصلحة الراجحة عليه»[90].

 4ـ قد يقال أن البناء العقلائي لا يخدم المدعى أحياناً، فربما أن الناس يقدمون إلى المفضول في القضايا الهامة ولا يستقبحون ذلك رغم العلم بالخلاف مع الأفضل، وذلك إذا ما كان علم المفضول يقترب من علم الأفضل، اذ كلاهما من أهل الإختصاص ولهما القدرة التامة على ممارسة ما يعالجانه رغم التفاوت المحدود الذي إفترضناه. ففي مثل هذه الحالة لا يظن أن البناء العقلائي يستقبح متابعة المفضول وترك الأفضل مع العلم بالخلاف بينهما.

 5ـ جاء الاهتمام بتوظيف الدليل العقلائي، لدى المتأخرين بعد الشيخ الانصاري، كتعويض لما أدركه هؤلاء من عدم حصول الأدلة المعتبرة على المسلمات التي كانت مقبولة لدى القدماء الأوائل. فكما أوضح المفكر الصدر أن عملية التدرج التي انتهى إليها الفقهاء مرحلة بعد أخرى قد أفضت بهم حديثاً الى توظيف الدليل العقلائي للحفاظ على المسلمات التي خلّفها المتشرعة من الأسلاف.

ففي البداية لم يجد الفقهاء المتأخرون الأدلة الصناعية على جملة من القضايا الفقهية التي التزم بها القدماء الأوائل، لكنهم مع هذا لم يتجرأوا على الاعتراض عليها، بل عدوها من المسلمات التي لا غنى عنها، فهي مقبولة باعتبارها موروثة عن الاسلاف، فالقناعة لديهم انها لم تصدر عن الأوائل إلا وعليها ما يكفي من الدليل الشرعي وإن لم يُعرف هذا الدليل. لكن لأجل تسديد هذه الثغرة من الجهل بنوع الأدلة المعتمدة؛ قام عدد من العلماء بايجاد الغطاء الأصولي الذي يحفظ لتلك المسلمات مكانتها وضرورتها، وذلك عبر إنشاء عدد من القواعد الأصولية غرضها  الحفاظ عليها، وهي كل من: حجية الشهرة، والاجماع المنقول، وانجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب، ووهن الخبر الصحيح باعراضهم عنه. كما قاموا بتعميم «قاعدة انجبار السند بعمل الفقهاء لتشمل انجبار الدلالة بفهمهم»، كالذي تشير اليه بعض كلمات الشيخ الانصاري الذي لم يعمل باطلاق أخبار القرعة، وكما قال: «إننا نعمل بهذه الأخبار في كل مورد عمل به الأصحاب، ولا نعمل بها في كل مورد لم يعملوا بها».

ولم يتوقف الحال عند هذا الحد، بل تطور الى صورة أخرى لاحت الاعتراض على تلك القواعد التي تم تأسيسها وتوظيفها لأجل المحافظة على المسلمات. فالشيخ الانصاري الذي رأيناه قبل قليل يعمل بفحوى تلك القواعد على صعيد الفقه؛ لم يشأ الاقرار بها على صعيد الأصول[91]. وربما يكون هو أول من قام بنقدها والاعتراض عليها مبدئياً. وكذا فعل من تلاه من الأصوليين، حيث تم طرح كل من حجية الشهرة والاجماع المنقول، وناقشوا بخصوص قاعدة انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب.

ثم تطور الأمر فقام الفقهاء المعاصرون برفض التعويل على تلك القواعد في المسائل الفقهية. ويظهر هذا الأثر بارزاً لدى السيد الخوئي. اذ كان اعتراض الشيخ الانصاري ومن تبعه لا يتعدى الطرح الأصولي، أما مبانيهم الفقهية فلم تتأثر بذلك، ولم يحدث أي رد فعل عما أسسوه على الصعيد الأصولي. اذ ظلّت هذه المباني محافظة على تلك القواعد، وهو أمر لا تفسره غير الاعتبارات النفسية. أما لدى الفقهاء المعاصرين فقد كانوا على اتساق من حيث هدمهم لتلك القواعد، لا فقط بحدود المباني الأصولية، وانما كذلك بما انعكس عليها من المباني الفقهية، لكنهم وكتعويض لهذا الهدم احتاجوا الى بناء جديد يؤمّن لهم الحفاظ على المسلمات التي خلفها السلف. الأمر الذي جعلهم يجدون في السيرة العقلائية ضالتهم المنشودة. فأصبح هذا الدليل في العصر الحالي رائجاً بما لم يسبق له مثيل من قبل، ويظهر ذلك جلياً لدى السيد الخوئي. فقد أخذ توظيف السيرة العقلائية يتسع «كلما تقلصت الأدلة التي كان يعول عليها سابقاً لاثبات المسلمات والمرتكزات الفقهية؛ من أمثال الاجماع المنقول والشهرة وإعراض المشهور عن خبر صحيح أو عملهم بخبر ضعيف ونحو ذلك، فانه قد عوّض بالسيرة عن مثل هذه الأدلة في كثير من المسائل التي يتحرج فيها الفقيه الخروج عن فتاوى القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهية المشهورة»[92].

وبهذا يتضح ان منشأ استخدام هذا الدليل وكذا سائر القواعد الأصولية التي مرت معنا لا يخرج عن الاعتبارات النفسية التي انتابت أذهان المتأخرين والمعاصرين كما كشف عنها المفكر الصدر.

5 ـ دليل الأصل العملي

وتقرير هذا الدليل هو أنه لو كان هناك علم إجمالي منجز بوجود الحجية في الفتوى إجمالاً مع حصول شك دائر بين الحجية التعينية والتخيرية؛ ففي هذه الحالة يقتضي العقل الأخذ بما يحتمل تعينه، وذلك فيما لو إستند إحتمال التعين إلى أقوائية الملاك في أحدهما، كما في الأعلمية، حيث أن الملاك هو العلم والفقاهة، والأصل يقتضي التعيين؛ باعتبار أن العقل يستقل بلزوم الأخذ بما يحتمل تعينه؛ للعلم بأنه معذر على كل حال، بينما معذرية الآخر غير محرزة. لذلك فالأمر مأخوذ على سبيل الإحتياط، لأن المصلحة في إتباع فتوى الأعلم إما مساوية لفتوى غيره أو تزيد عليها، وبالتالي يتعين العمل على طبق  فتوى الأعلم. في حين لمّا كان العمل بفتوى الغير مشكوكاً به؛ لذا تنطبق عليه القاعدة الأصولية القائلة: (الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها)[93].

ويعتمد الإحتياط الواجب في هذا الدليل على استقلال العقل بقاعدة لزوم دفع الضرر المحتمل بمعنى العقاب[94]. ويمكن مناقشة هذه القاعدة باعتبارها تتعارض مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وذلك فيما لو إفترضنا أن البيان الناقص والمجمل هما كعدم البيان إذا ما كانا صادرين عمن بقدرته إيصال البيان المفصّل دون تكلّف. وقد يجاب على ذلك أن بعث البيان المجمل لا يخلو من حكمة وفوائد تقتضيها حركة الإجتهاد وتطوره[95]. لكن هذا الجواب غير تام، باعتبار أن حركة الإجتهاد لا تستلزم الوجوب والتحريم.

مع هذا وبغض النظر عن ذلك فإن صحة الأصل والتعويل على الإحتياط إنما يتم فيما لو لم يكن هناك دليل في القبال، أما مع وجود الدليل فالأصل العملي لا يعارضه.

يضاف إلى أنه يمكن أن يجاب باعتبار آخر من منطق تعبدي، وذلك إستناداً إلى قاعدة (الشك في الحجية يساوق القطع بعدمها) ذاتها، اذ أن تقليد الأعلم وإن كان معذراً على أيّ حال لكن يشك في وجوبه، والشك في هذا الوجوب يساوق القطع بعدمه، مما يعني جواز تقليد المفضول. ولا يصح أن يقال الشيء نفسه بخصوص تقليد الآخر، لأن الأصل هو جواز الرجوع إلى العالم والخبير وأن فتواه حجة بغض النظر عن الأعلمية، لكن ورود الأعلمية جعلَ الشك يتعلق بوجوب إتباع الأعلم.

فكما هو واضح، لسنا - هنا - بصدد الرجوع إلى حكم العقل المبني على الطريقية وأقوائية الملاك حتى يقال أن حكمه هو لزوم الإحتياط، بل نحن إزاء شك وتردد يستند إلى جهة تعبدية. ذلك أن إتباع العالم بغض النظر عما إذا كان فاضلاً أو مفضولاً قد جاء على لسان الشرع، وهو أصل، أما إتباع الأعلم فوجوبه أمر زائد مشكوك به، الأمر الذي يجعل من الحكم قائماً على البراءة لا الإحتياط. فسواء بهذا الإعتبار، أو بإعتبار الحكم العقلي المستند إلى الطريقية، تصدق القاعدة الأصولية الآنفة الذكر.

لكن يرد بهذا الصدد السؤال التالي: أيهما يرجح على الآخر عند الشك والدوران، فهل الأصل التعويل على الطريقية وترجيحها على التعبدية، أم العكس هو الصحيح؟ فمن المعلوم أن هناك خلافاً بين الأصوليين؛ حيث بعضهم رجح الأُولى، بينما ذهب البعض الآخر إلى إعتبار الثانية هي الأصل. ونرى أن ذلك لا يخلو من تفصيل، إذ لو كانت الحيثية التعبدية تمتلك ظناً قوياً معتبراً فإنها تكون مرجحة على منافستها، كما هو الحال في مسألتنا المطروحة. وعلى العكس فيما لو لم تمتلك الظن القوي، كما هو الحال - مثلاً - فيما جاء من المرجحات المنصوصة للأخبار؛ كالوثوق والشهرة وموافقة الكتاب والسنة ومخالفة العامة. فقد قيل إنه لا بد من التوقف على ما هو منصوص في الترجيح بين الأخبار، كما ذهب إلى ذلك الإخباريون وبعض الأصوليين مثل الآخوند الخراساني صاحب (كفاية الأصول)[96]. وقيل في القبال إنه يجوز التعدي إلى غير تلك المرجحات حسب منهج الطريقية في الكشف عن كل ما يوجب الأقربية إلى واقع الحكم الإلهي، وهو المنسوب إلى جمهور الأصوليين[97]. وهذا هو المرجح على الحيثية التعبدية؛ بإعتبار أن إحتمال صدق هذه الأخيرة ليس قوياً، إذ ليس في أخبار الترجيح ما ظاهره الحصر، ولا من المتصور أن تكون هناك علة وحكمة وراء هذا الفرض ليقتضي البناء على التعبدية. في حين إن العلة بحسب منطق الطريقية معلومة وواضحة وليس من المتوقع أن يعارضها الشرع؛ مادامت الحكمة من ذلك هو الكشف عن الحكم الحقيقي، وهو أمر لا يتوقف على التعبدية بإعتباره أمراً عقلياً يحمل ملاكه بذاته، بل يلاحظ أن أخبار الترجيح ذاتها تشير إلى تلك الحكمة بشكل أو بآخر، مما يعني أنها وردت للتقرير لا للتأسيس[98].

ج ـ المرجعية وشرط الرجولة

إستدل الفقهاء ببعض الأدلة التي تفيد عدم جواز الرجوع إلى المرأة في التقليد، وكذا مثله في القضاء والزعامة العامة. فمن ذلك إعتماد الفقهاء على مشهورة أبي خديجة الذي نقل عن الإمام الصادق قوله: «إياكم.. أن تحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفساق، إجعلوا بينكم رجلاً قد عرف حلالنا وحرامنا فإني قد جعلته عليكم قاضياً، وإياكم أن يخاصم بعضكم بعضاً إلى السلطان الجائر»، فهي دالة على أخذ الرجولة في باب القضاء، وحيث أن منصب الفتوى ليس بأقل مستوى من القضاء، فهو إن لم يكن أرقى منه فإنه في مستواه، إذ القضاء حكم بين إثنين أو جماعة رفعاً للتخاصم، بينما الفتوى حكم كلي يبتلي به عامة المسلمين، لذا فالرجولة معتبرة في باب الفتوى بالأولوية.

ولوحظ على هذه الرواية أنه لا دلالة لها على أخذ عنوان الرجولة شرطاً في القضاء لمجرد ذكر «إجعلوا بينكم رجلاً». فالرواية - كما هو واضح - بصدد وضع حكم في قبال ما يحاكم به الآخرون إلى أهل الجور، ولما كان المتعارف في القضاء هو جنس الرجولة؛ لذا فإن أخذ هذا العنوان إنما من باب الغلبة لا التعبد، خاصة وأن الرواية ليست بصدد تحديد الجنس في الحكم، ولا هناك ما يدل على قصد التعيين.

يضاف إلى أن الرواية وردت حول القضاء، فالتعدي إلى باب الفتوى هو من القياس المفتقر إلى إتحاد المناط. واذا كان لبعض المتأخرين من الاتجاه الشيعي توظيفاً للقياس بتمديد الحكم في شرط الذكورة من موضوع القضاء الى موضوع الفتوى؛ فان الحال لدى البعض في الاتجاه السني ينعكس، حيث القياس من الفتوى الى القضاء، وان النتيجة فيه منعكسة كذلك، أي أنها ليست لصالح الشرطية وانما لصالح نفيها. فقد ذهب الامام الطبري الى ان الذكورة ليست شرطاً في القضاء، لأن هذا الأخير هو كالافتاء لا يشترط فيه الذكورة[99].

كما إستدل الفقهاء بمقبولة عمر بن حنظلة، إذ ورد فيها: «ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا..»، وهي ضعيفة السند، كما لا دلالة لها على المقصود بمثل ما سبق حول رواية أبي خديجة.

ومثل ذلك يمكن أن يُستدل بما جاء عن النبي (ص) قوله: «لا يفلح قوم وليتهم إمرأة»، وفي حديث آخر: «لا تتولى المرأة القضاء»، وأيضاً ما جاء في وصيته لعلي بقوله: «يا علي ليس على المرأة جمعة... ولا تولي القضاء»، وكذا ما جاء في كتاب (الإختصاص) لرواية مرسلة عن إبن عباس عن النبي (ص) أنه قال: «خُلقت حواء من آدم، ولو أن آدم خُلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء ولم يكن بيد الرجال»، وحين سُئل النبي هل أنها خُلقت من كلّه أو من بعضه؟ فإنه أجاب: «بل من بعضه، ولو خلقت حواء من كلّه لجاز القضاء في النساء كما يجوز في الرجال»، وما جاء في (نهج البلاغة) أن الإمام علي قال: «النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول»، وكذا انه قال: «إياك ومشاورة النساء فإن رأيهن إلى أفن..»[100].

والملاحظ أن جميع هذه الروايات بغض النظر عن سندها لا تتعلق بالفتوى، إذ إنها جاءت بخصوص الولاية والقضاء، وبعضها لا دلالة لها على حرمة التولي.

وعلى العموم ذهب أغلب الفقهاء في الوسط الشيعي الى المنع من تقليد المرأة، طبقاً للاعتبارات السابقة. لكن عدداً قليلاً منهم، كبعض المعاصرين، ذهبوا إلى جواز تقليدها وعدم إعتبار الذكورة شرطاً في التقليد. فكما ذكر المرحوم السيد محسن الحكيم أن إعتبار الرجولة «ليس عليه دليل ظاهر غير دعوى إنصراف إطلاقات الأدلة إلى الرجل وإختصاص بعضها به. لكن لو سُلم فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء. وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأُنثى والخنثى»[101]. كما صرح السيد الشيرازي بأن في إشراط الذكورة خلافاً، إذ إستدل من قال بجواز تقليد الأُنثى والخنثى بالإطلاقات والعمومات وعموم بناء العقلاء من غير رادع[102]. كما أن الفيروز آبادي صاحب (عناية الأصول) صرح بعدم وجود ما يدل على إعتبار الذكورة - فضلاً عن طهارة المولد والبلوغ - في المرجعية، لكنه مع ذلك أخذ بالإحتياط بدعوى تسالم الأصحاب عليها[103]. وفي الوقت الحاضر ذهب السيد محمد حسين فضل الله إلى جواز تقليد المرأة[104]. كما ذهب الشيخ محمد مهدي شمس الدين إلى مثل ذلك، معطياً للمرأة الأهلية التامة لتولي رئاسة الدولة والسلطة السياسية وكل ما يصلح له الرجل[105].

وتجدر الاشارة الى أن هناك خلافاً في الوسط السني حول شرط الذكورة في القضاء، وإن أجمع العلماء - تقريباً - على هذا الشرط في الامامة الكبرى. فقد ذكر ابن رشد الحفيد بأن الفقهاء «اختلفوا في اشتراط الذكورة، فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم. وقال أبو حنيفة: يجوز ان تكون المرأة قاضياً في الأموال. وقال الطبري: يجوز ان تكون المرأة حاكماً على الاطلاق في كل شيء.. فمن ردّ قضاء المرأة شبّهه بقضاء الإمامة الكبرى، وقاسها ايضاً على العبد لنقصان حريتها، ومن اجاز حكمها في الأموال فتشبيهاً بجواز شهادتها في الأموال. ومن رأى حكمها نافذاً في كل شيء قال: ان الأصل هو ان كل من يأتي منه الفصل بين الناس فحكمه جائز إلا ما خصصه الاجماع من الإمامة الكبرى»[106]. أما الجمهور فقد تمسكوا بشرط الذكورة تعويلاً على الحديث النبوي كما رواه البخاري في صحيحه: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم إمرأة». وأيضاً «فإن القاضي يحتاج الى مخالطة الرجال من الفقهاء والشهود والخصوم، والمرأة في الأصل ممنوعة من المخالطة التي لا ضرورة لها». وقد اعتبر ابن حزم الحديث المذكور دالاً على الخلافة لا القضاء، وروي ان عمر بن الخطاب ولى الشفاء - وهي إمرأة من قومه – السوق[107].

رأي الخوئي في الموضوع

بحسب رأي السيد الخوئي أن مقتضى إطلاق الأدلة الشرعية والسيرة العقلائية عدم الفرق بين النساء والرجال. لكن مع هذا اعتبر الرجولة شرطاً في المرجع دون أن يسوّغ تقليد المرأة، وذلك إستناداً إلى ما أطلق عليه (مذاق الشارع) لأن الوظيفة المرغوبة للنساء هي التحجب والتستر وتصدي الأُمور البيتية دون التدخل فيما ينافي تلك الأُمور، في حين «أن التصدي للإفتاء ـ بحسب العادة ـ جعل للنفس في معرض الرجوع والسؤال لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً؛ كيف ولم يرضَ بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة، فما ظنك بكونها قائمة بأُمورهم ومديرة لشئون المجتمع ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين». وهو قد إعتبر ذلك مرتكزاً قطعياً في أذهان المتشرعة يقيّد إطلاق الأدلة الشرعية ويردع عن السيرة العقلائية الجارية في رجوع الجاهل إلى المختص؛ رجلاً كان أم إمرأة[108].

لكن من الواضح أن ما أفاده الخوئي ليس صحيحاً بالمرة. فمن جهة إنه لو سلمنا بالدليل الذي قدمه لكان تحريم الرجوع الى المرأة في الإفتاء مقتصراً على المقلّدين من الرجال دون النساء، مع أنه حرم ذلك كلياً. أما من جهة أُخرى فهو أن الرجوع إلى المرأة في الإفتاء ليس فيه أيّ أثر من الآثار المضادة للستر والتحجب، وإلا لكنّا نعد الإتصال بالنساء لقضاء أغراض مشروعة؛ مثل الرجوع إلى المعلمة أو الطبيبة حراماً. كيف وقد إشتهرت العديد من النساء في زمن النبي بمشاركتهن على مسرح الحياة الإجتماعية، ومنهنّ اللواتي شاركن في الحروب التي خاضها النبي لأجل تضميد الجرحى؟!.

على أن عمل المرأة في سلك المرجعية لا يُضاد وظيفتها الأساسية المتعلقة بتدبير المنزل، إذ ليس كل النساء من تفكر أن تكون مرجعاً، مثلما ينطبق الحال على الرجال، والإستثناء لا يكون مزاحماً للقاعدة العامة، مادمنا نسلّم بأن عمل المرأة خارج المنزل ليس في حد ذاته حراماً، وأن الرجوع إليها في السؤال والإستفسار والحديث إن لم يكن فيه أثر من آثار الفساد ليس فيه حظر شرعي هو الآخر. فكيف إذا ما كانت في سن كسن الشيخوخة الذي يغلب على المراجع؛ فأيّ أثر لذلك على هتك الستر والحجاب؟!

ولا يُستبعد أن تكون وجهة النظر هذه متأثرة بالأعراف والتقاليد التي سادت مدة طويلة، لا سيما أن الظروف التاريخية والإجتماعية كان لها دور هام في إضعاف شأن المرأة وإظهارها بمظهر سلبي يصل أحياناً إلى جعلها بموضع شبيه بالبهيمة؛ كدلالة على غريزتها وغباوتها في الوقت نفسه[109].

هكذا نخلص إلى أنه لا يوجد نص شرعي يدين المرأة على مزاولتها النشاط خارج حدود المنزل؛ فلم يحرّم خروجها ولا إتصالها بأخيها الرجل ولا صلاتها معه في مسجد واحد. أما عدم جواز إئتمام الرجال خلفها في الصلاة، فلا يوجد دليل قطعي عليه، والمرجّح أنه متأثر بالظروف البيئية القديمة. لكن مع ذلك لو صحّ الحكم فربما يعود إلى أن حركات المرأة لا تليق بالمقام أمام الرجال وسط أعرافنا التقليدية، أو يعود إلى فارق القيمومة التي يمتاز بها هؤلاء عليها، أو أنه أمر تعبدي نجهل سببه تماماً. وهو يختلف عن حال الرجوع إليها والإستفادة منها في المسائل الشرعية، مثلما تجوز شهادتها والرواية عنها، خاصة إذا ما توفرت الوسائل التي تُغني الرجوع إليها مباشرة كما هو حال عصرنا الحالي. وعليه لا مجال للقياس بين الصلاة ومنصب الإفتاء والقضاء. أما القيادة العامة فربما يختلف أمرها بعض الشي. لكن مع الأخذ بعين الإعتبار ان الوسائل الحالية، مثل كفالة الدستور والتشريعات القانونية وهيئة المستشارين والمختصين وغير ذلك، كلها تتيح للفرد، ذكراً أم أنثى، أن يمارس القيادة من دون عائق.

وتجدر الإشارة إلى أن الخوئي قد إعتبر جملة من القضايا ليس عليها دليل سوى ما أطلق عليه مذاق الشارع المرتكز في أذهان المتشرعة، كان منها ما يتعلق بشرط الإيمان، ومعناه عند الإمامية الاثنى عشرية أن يكون المرجع إثنا عشرياً خالصاً. فقد اعتبر أن المستفاد من ذوق الشارع عدم رضاه بزعامة غير المسلم والمؤمن، ويبدو أنه أراد بذلك روح الشريعة كما يتبين من الاستقراء العام لها.

ثانياً: الشروط الخاصة بالمقلّد ومناقشتها

قلنا في السابق إن هناك نوعين من الشروط يُعتقد أنها تحقق مصداقية صحة التقليد؛ أحدهما يتعلق بالمرجع وقد تحدثنا عنه، أما الآخر فيتعلق بالعامي على ما سنبحثه الآن..

 يرى العلماء أن أهم شرط معرفي لا بد من تحقيقه في التقليد هو ان يكون المقلد مجتهداً في قضية تقليده، فبدون إجتهاده يصبح تقليده قائماً على التقليد ومن ثم التسلسل أو الدور، وهو باطل، الأمر الذي يتعين عليه الإجتهاد[110]. لكن كيف يمكن أن يكون المقلّد مجتهداً وهو لا يسعه الإجتهاد؟ هذا ما حاول العلماء الجواب عنه بصورة لا تخرج المقلّد عن صحة تقليده ولا تدخله في زمرة المجتهدين.

فقد ذكر البعض أن هناك ركيزتين سهلتين يستند إليهما المقلّد في تقليده، وهما لم يأتيا عن طريق التقليد حتى يقال أن تقليده باطل. الأُولى ما هو مرتكز في الذهن أو البناء العقلائي من رجوع الجاهل إلى العالم أو المختص، كما يلاحظ في مختلف الصنايع والحرف. أما الثانية فهي دليل الإنسداد، وتقريبه هو أن كل مكلف يعلم بثبوت أحكام إلزامية في حقه، كما يعلم أنه غير مفوض في أفعاله بحيث له أن يفعل ما يشاء، وبالتالي فإن عقله يستقل بلزوم الخروج عن عهدة التكاليف الواقعية المنجزة بعلمه، وليس أمامه إلا الإجتهاد أو التقليد أو الإحتياط، لكن العامي ليس بوسعه الإجتهاد، كذلك فإن الإحتياط غير ميسور له لعدم تمكنه من تشخيص موارده، لذلك يتعين عليه التقليد للحصرالآنف الذكر[111].

لكن لو تجاوزنا ما نعتقده من أنه لا يوجد حصر في الحصر المذكور كما سنرى.. وتساءلنا: ماذا يكون الحال لو إلتفت المقلّد وشك في صحة تقليده للمجتهدين، بأن سمع بعض الطوائف الإسلامية تحرم التقليد وتدعي أن طريقتهم توصل إلى العلم، لا سيما وأن طريقة أهل الإجتهاد والتقليد تقوم على مرتكز يفضي إلى الظن.. فهل يا ترى يصح تقليده لهؤلاء أم لأُولئك؟ أم أنه يجتهد إجتهاداً يخرجه عن دائرة البناء العقلائي - حيث لا علاقة له بذلك في مثل هذه الحال - ويدخله في دائرة أهل الإجتهاد ولو بالمعنى الذي يعم كلا الإتجاهين المجوز والمحرم للتقليد؟ لكن حيث فرضناه مقلّداً لا يسعه الإجتهاد كما هو حال أغلب الناس، فإن مصيره على هذا الفرض يصبح قلقاً لا يجد من يحكم له بصحة إتباع أيٍّ من الفريقين، خاصة إذا ما كان ملتفتاً إلى قوة الإختلاف الدائر بينهما. في حين كان بإمكانه أن يسلك طريقاً أُخرى ليست من الإجتهاد المصطلح عليه ولا من التقليد، وهي إتباع النظر في الأدلة والأخذ بالراجح منها حسب الإقتناع.

كما من الشروط التي وضعت على عاتق المقلّد هو أن لا يكون تقليده إلا للمجتهد المتصف بشروط الأعلمية والحياة والرجولة، مما يعني أن تقليده لا يصح ما لم يكن المقلّد عارفاً بصحة هذه الشروط، الأمر الذي يقتضي إجتهاده، رغم أنها توضع كفتاوى ضمن الرسائل العملية للتقليد تسامحاً.

وكما ذكر النراقي أنه كما يجب على العامي الإجتهاد في مسألة تقليده فإنه يجب عليه أيضاً الإجتهاد في تعيين الفقيه الذي يقلّده من بين أصناف الفقهاء من الأصولي والإخباري والحي والميت والأعلم وغيره والمتجزئ والمطلق[112]. وكذا ذكر العلامة الحلي بأنه يجب على المقلد الإجتهاد في معرفة الأعلم والأورع، ولو وجد من هو أعلم وآخر أورع فالأقوى الأخذ بقول الأعلم[113].

فحول تقليد الأعلم ذكر الكثير من المتأخرين أن هذا التقليد يأتي فيما لو علم المقلّد أن هناك خلافاً بين العالم والأعلم، لهذا فإن عليه الركون إلى الأعلم طبقاً للإجتهاد المنبني على المرتكز العقلائي من رجوع الجاهل إلى الأعلم في المسائل الهامة وقبح الإعتماد على المفضول فيها كأمر إحترازي، وذلك إستناداً إلى القاعدة العقلية القائلة بأن دفع الضرر المحتمل واجب.

لكن ماذا لو علم العامي أن الأئمة أوصوا الناس بالرجوع إلى العلماء دون تفريق بين العالم والأعلم، وبالتالي شك في وجوب تقليد الأعلم، فهل يجب عليه أيضاً أن يقلّد الأعلم؟ فهنا أن الأمر لا يعود إلى سيرة الناس أو البناء العقلائي ليبني على ما هو مرتكز في ذهنه، هذا إن كان ملتفتاً إلى مثل هذا الإرتكاز، حيث الملاحظ أن الكثير من الناس لا يلتفتون في الأعلمية الفقهية إلى المرتكز العقلائي بخلاف الرجوع إلى مطلق الخبير أو المختص، حيث الرجوع إليه يكون تلقائياً لا يحتاج إلى إجتهاد وتفكير.

وفي مسألتنا تلك قد يقال بأن من الواجب على العامي رغم تشكيكه هو إتباع الأعلم، أو أنه يقوم بعملية إجتهاد تجعله لا يختلف في بحث المسألة عن المجتهدين، لكنا فرضناه عامياً مقلّداً. لذا لو فرضنا أنه لم يتبع الأعلم بحجة عدم البيان ووجود المشكك في الأمر، أو مال إلى إتباع الأورع لا الأعلم؛ فهل يعد عمله هذا باطلاً ومنافياً لوجوب التقليد أم لا؟

من جهتنا نرى أن عمل العامي يصح فيما لو كان قائماً على الإطمئنان في إتباع الخبير بغض النظر عما إذا كان فاضلاً أو مفضولاً. فالإطمئنان في حد ذاته حجة طالما ليس بوسعه الإجتهاد ولا النظر. أما لو إلتفت للمرتكز العقلائي ولم يطمئن بصحة تقليد المفضول مع عدم وجود المشكك المعارض فالواجب عليه في هذه الحالة إتباع الأعلم. في حين لو طرأت عليه المشككات المتعارضة وذلك فيما لو تردد بين إتباع الأعلم والأورع، أو شكّ في أصل وجوب تقليد الأعلم ولم يقتنع بالبناء العقلائي؛ ففي هذه الحالة يصح له تقليد مطلق الخبير ما دام ليس بوسعه الإجتهاد ولا النظر. إذ لا يصح أن  يقال بأن عليه الإحتياط، وذلك لأن التمسك بالأخير يحتاج إلى بذل الجهد في النظر والإجتهاد ليعلم إن كان الإحتياط يجب في حقه أم لا؟ فإن كان بوسعه النظر وجب عليه ذلك، وإلا فإنه غير مكلف بالإحتياط عند عدم القدرة على التحقيق، أو لأنه مقتنع بأن الشارع لا يكلفه بما هو غير بيّن ابتداءاً.

أما حول وجوب تقليد المجتهد الحي كما ذهب إليه علماء الإمامية؛ فالملاحظ أن السيرة العقلائية والمرتكز في الأذهان لا يسعفانه، إذ لا يرى العقلاء لزوم إتباع الأحياء من المختصين، بل لا يرى الإنسان ضيراً فيما لو إتبع ميتاً ورجحه على الحي. وعليه فإن مسألة تقليد الحي من منظار المقلّد إما أن تكون تقليدية، وبالتالي الوقوع في الدور أو التسلسل، أو أنها إجتهادية صرفة. لكن من الواضح أن الإجتهاد فيها ليس يسيراً كما هو الحال مع أصل التقليد، إذ لا بد أن تكون له دراية ومعرفة بأصل التشريع المناط بذلك، وهو ما يقتضي الإجتهاد، وليس هناك ما يمكن التعويل فيه على العقل ولا السيرة العقلائية. ويصدق كل ما قلناه - هنا - على المشكل المتعلق بشرط الذكورة في المرجعية، حيث أنها هي الأُخرى لا تستند إلى العقل ولا البناء العقلائي، وبالتالي لا يصح إلزام المقلّد أن يقلّد فيها، مما يعني أن عليه الإجتهاد مع إنّا فرضناه عامياً!

 على أن مثل هذه القضية مع حالات إلتفات المقلّد إلى ما يشككه في أصل تقليده مع شروط التقليد الأُخرى التي ذكرناها؛ كلها تقف حائلاً أمام المشروعية التي طرحها الفقهاء في حق عامة الناس. وقد سبق لبعض المعاصرين للشيخ الأصفهاني أن صرح بإنسداد طريق العلم على العامي بالكلية لعدم علمه بجواز التقليد، ولا بمن يجوز تقليده؛ من الأصولي والإخباري والمطلق والمتجزئ والحي والميت ومن جدد النظر في الواقعة أو إكتفى بإستصحاب الإجتهاد السابق. لذا فبرأيه انه يتعين على العامي التعويل على الظن. وإعترف الأصفهاني أنه يمكن أن تسبق إلى ذهن العامي الشبهة فتقدح في وضوح مقدمات وشروط التقليد، وهو يرى أنه مع عدم إمكان إحراز العلم واليقين فإن المتعين عليه العمل بالظن[114].

 هكذا لم يجد الفقهاء سبيلاً سهلاً يصحح تقليد عامة الناس سوى المرتكزات العقلية والذهنية للبناء العقلائي. وبهذا سوف يضطر هؤلاء العامة إلى  ممارسة التقليد عن تقليد في كل ما خرج عن تلك المرتكزات. فهذه الأخيرة تمثل الحد الذي يتوقف عنده العامي ما دام ليس بوسعه الإجتهاد. بل إن المقلّد قد يشكك حتى في سلامة الإعتماد على المرتكز العقلائي، الأمر الذي تبطل به مقدمات التقليد وشروطه.

وكما قال الفيروز آبادي: «إن العامي الجاهل إن كان رجوعه إلى العالم هو بمقتضى طبعه الأصلي وجبليته وفطرته من دون إلتفات إلى شيء فهو. وإلا إن تفطن أن مجرد بناء العقلاء مما لا يكاد يكفي مدركاً ما لم ينضم إليه الإمضاء من الشرع لم يجز له الرجوع إلى العالم عقلاً ما لم يحرز بنفسه إمضاء الشارع له، أو يعرف دلالة سائر الأدلة الدالة عليه»[115].

يضاف الى ان العلماء يشترطون في التقليد شروطاً اخرى غير ما ذكرنا، ابرزها عدالة المقلَّد، مع انه ليس بوسع العامي معرفتها على التحقيق، وبالتالي فان مآله تقليد من يشترط عليه معرفتها، وهو تقليد باطل لما يتضمنه من دور. وكما ذكر المحقق الاردبيلي بأنه من الصعب تحقيق الشرط المذكور على العامي «سيما بالنسبة الى النساء والاطفال في أوائل البلوغ، فانهم كيف يعرفون المجتهد، وعدالته، وعدالة المقلَّد والوسائط؟! مع انهم لا يعرفون العدالة، ومعرفتهم اياها واخذهم عنهم فرع العلم بعدالتهم، ومعرفة العدالة لا تحصل غالباً إلا بمعرفة المحرمات والواجبات، وهم الان ما حصّلوا شيئاً، وليس بمعلوم لهم العمل بالشياع بأن فلاناً عدل مع عدم معرفتهم حقيقة العدالة، بل ولا بالعدلين، بل ولا بالمعاشرة، وتحقيقهم ذلك كله بالدليل لا تخفى صعوبته»[116].

 من هنا يمكن القول إن الشروط المذكورة بحق المقلّد في صحة التقليد هي في حد ذاتها شروط متعالية فاقدة لشرطها؛ ما دام من الواجب على العامي أن لا يقلّد فيها، وإلا أصبح تقليده مبتنياً على تقليد آخر، وهكذا يتسلسل الأمر. وبذلك يصبح طريق العامي على خلاف طريق العالم الذي يُفترض الرجوع إليه. حيث يمكن للعامي أن يصل إلى نتيجة لا يجد فيها دليلاً على أصل تقليده، أو على وجوب أخذ إعتبار شروط التقليد كالأعلمية والحياة والرجولة؛ فتنتفي بذلك فائدة ذكر مثل هذه الشروط. لذلك ليس هناك من مسوغ في مثل هذه الحالة سوى الإستناد إلى طريقة النظر لإنتشال العامي من عاميته وإخراجه من تقليديته بوجه ما من الإجتهاد..


[1]           ارشاد الفحول، ص269. ومواهب الجليل، ص31.

[2]           تهذيب الفروق، ج2، ص117، وج1، ص220. ومواهب الجليل، ص31ـ32.

[3]           الإحكام لابن حزم، مطبعة السعادة، ج6، ص97.

[4]           عناية الأصول، ج6، ص268.

[5]           الكفاية، هامش ص544ـ545.

[6]           الإجتهاد والتقليد، ص251.

[7]           منتهى الأصول للبجنوردي، ج2، ص638ـ640. والإجتهاد والتقليد للخوئي، ص96ـ97.

[8]           الفوائد المدنية، ص250. والفوائد الطوسية، ص402 وما بعدها.

[9]           الفيض الكاشاني: الأصول الأصيلة، ص153ـ154. وقيل إن من قال بتقليد الميت من الإخباريين الإسترابادي والكاشاني والجزائري (عناية الأصول، ج6، ص265)، وهو خطأ، فعلى الأقل أن الإسترابادي يحرم مطلق التقليد القائم على الإجتهاد كما أشرنا إلى ذلك.

[10]          ابن طاووس الحسني: كشف المحجة لثمرة المهجة، منشورات المطبعة الحيدرية، النجف، 1370هـ ـ1950م، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ص127. كذلك: يوسف البحراني: الحدائق الناضرة، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة بقم، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج9، ص377. والمعالم الجديدة، ص66ـ67.

[11]          حسين النوري الطبرسي: خاتمة مستدرك وسائل الشيعة، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج3، ص169. ومقدمة المحقق الشيخ آغا بزرك الطهراني لكتاب التبيان في تفسير القرآن للطوسي، دار إحياء التراث العربي ببيروت، ج1، ص ح ـ ط.

[12]          الفصول الغروية، ص419.

[13]          الكاظمي، محمد: حقائق الأحكام في رسالات الاسلام، مطبعة الميناء، بغداد، الطبعة الاولى، 1397هـ ـ1977م، ص19.

[14]          فضل الله، محمد حسين: المسائل الفقهية، دار الملاك، الطبعة الثالثة، 1415هـ ـ1995م، ص12.

[15]          الشيرازي، محمد الحسيني: الإجتهاد والتقليد، ضمن موسوعة الفقه، ج1، دار العلوم ببيروت، الطبعة الثانية، 1407هـ ـ1987م، ج1، ص108.

[16]          تهذيب الأصول، ج2، ص120.

[17]          انظر: القطيفي، فرج العمران: الأصوليون والإخباريون فرقة واحدة، مجلة الموسم، العددان (23ـ24)، ص129.

[18]          الفصول الغروية، ص419.

[19]          جواهر الكلام، ج40، ص320. ومنتهى الأصول، ج2، ص639 . والفصول الغروية، ص419.

[20]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص104.

[21]          الفصول الغروية، ص419.

[22]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص105. والفصول الغروية، ص419 .

[23]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص105.

[24]          المصدر السابق، ص107 و250ـ251.

[25]          المصدر السابق، ص250ـ251  .

[26]          روضات الجنات، طبعة الدار الاسلامية، ج1، ص38.

[27]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص99ـ100 .

[28]          المصدر السابق، ص101.

[29]          تهذيب الأصول، ج2، ص120.

[30]          الإحكام للآمدي، ج4، ص457. وفواتح الرحموت، ج2، ص405.

[31]          انظر بهذا الصدد المصادر التالية: المستصفى، ج2، ص391. والإحكام للآمدي، ج4، ص457ـ485. وفواتح الرحموت، ج2، ص405. والموافقات، ج4، ص292. والإعتصام، ج3، ص255.

[32]          فواتح الرحموت، ج2، ص404. والحبل المتين، ص6.

[33]          الإحكام للآمدي، ج4، ص458.

[34]          المصدر السابق، ص324 و458.  

[35]          معالم الدين، ص389.

[36]          الفصول الغروية، ص424.

[37]          جواهر الكلام، ج40، ص45.

[38]          مستند الشيعة، ج2، ص521.

[39]          النراقي، ملا أحمد: مستند الشيعة في أحكام الشريعة، طبعة حجرية لم يكتب عنها شيء، ج2، ص521.

[40]          انظر: معارج الأصول، ص201.

[41]          الجناتي، محمد إبراهيم: أعلمية الفقيه ومباني التقليد، مجلة التوحيد، العدد (79)، ص35.

[42]          عناية الأصول، ج6، ص246.

[43]          شورى الفقهاء، ج1، ص289.

[44]          مستند الشيعة، ج2، ص522. وشورى الفقهاء، ج1، ص289.

[45]          الفصول الغروية، ص424. كذلك: خلاصة الفصول، ج2، ص55.

[46]          اليزدي، محمد كاظم: العروة الوثقى، وبهامشها تعليقات أعلام العصر ومراجع الشيعة الإمامية، مؤسسة الأعلمي، بيروت، الطبعة الثانية، 1409هـ ـ1988م، ج1، ص7ـ8.

[47]          عناية الأصول، ج6، ص258.

[48]          الحكيم، محمد تقي: الأصول العامة للفقه المقارن، مؤسسة آل البيت للنشر، الطبعة الثانية، 1979م، ص659.

[49]          العاملي، محمد الجواد الغروي: مفتاح الكرامة في شرح قواعد العلامة، تصحيح محمد باقر الحسيني الشهيدي الكلپايكاني، مطبعة رنكين في طهران، 1378هـ، ج10، ص4.

[50]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص203 و204.

[51]          تهذيب الأصول، ج2، ص119.

[52]          الخامنئي، علي الحسيني: أجوبة الإستفتاءات، العبادات، دار الوسيلة، الطبعة الثانية، 1415هـ ـ1995م، ص9 و8.    

[53]          ابراهيم الجناتي: أعلمية الفقيه ومباني التقليد، مجلة التوحيد، نفس المعطيات السابقة، ص36.

[54]          الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 11، حديث 45، ص110.

[55]          نفس المصدر والباب، حديث 6، ص100.

[56]          العاملي، محمد بن مكي: الدروس الشرعية في فقه الامامية، تحقيق ونشر مؤسسة النشر الاسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم، الطبعة الاولى، 1414هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج2، ص70. وجواهر الكلام، ج40، ص45.

[57]          جواهر الكلام، ج40، ص44.

[58]          المصدر السابق، ص45 .

[59]          الكفاية، ص542. كذلك: منتهى الأصول، ج2، ص634.

[60]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص141.

[61]          المصدر السابق، ص137 .

[62]          نفس المصدر والصفحة .

[63]          الجواهر، ج40، ص43.

[64]          منتهى الأصول، ج2، ص634.

[65]          الإجتهاد والتقليد، ص141 .

[66]          المصدر السابق، ص163.

[67]          دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج2، ص184.

[68]          الإجتهاد والتقليد، ص140.

[69]          الكفاية، ص543.

[70]          نفس المصدر والصفحة.

[71]          الجواهر، ج40، ص45. ومفتاح الكرامة، ج10، ص4.

[72]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص144.

[73]          الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 9، حديث 20، ص80.

[74]          نفس المصدر والباب، حديث 45، ص88.

[75]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص430ـ431 و145. ويحتمل الشيخ منتظري ـ بهذا الصدد ـ أن المقبولة والروايتين اللتين ذكرناهما بعدها؛ كلها ترجع إلى قصة واحدة، فإن الراوي عن عمر بن حنظلة كما ورد هو داود بن الحصين، فلعل الصدوق نقل بالمعنى قطعة من الرواية الأُولى وسقط عمر بن حنظلة من سندها، وموسى بن أكيل لم يكن سائلاً بل كان حاضراً في المجلس حينما سأل إبن حنظلة (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية، ج2، ص182).

[76]          يقول الخوئي بهذا الصدد: «وهذه الرواية وإن كانت سليمة عن المناقشة من حيث السند على كلا طريقي الشيخ ـ الطوسي ـ والصدوق، وإن إشتمل كل منهما على من لم يوثق في الرجال، فإن في الأول حسن بن موسى الخشاب، وفي الثاني حكم بن مسكين. وذلك لأنهما ممن وقع في أسانيد كامل الزيارات. على أن حسن بن موسى ممن مدحه النجاشي بقوله: من وجوه أصحابنا مشهور كثير العلم والحديث» (الإجتهاد والتقليد، ص429).

[77]          بحار الأنوار، ج2، ص110.

[78]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص145ـ146.

[79]          الجواهر، ج40، ص45. وانظر: منتهى الأصول، ج2، ص637.

[80]          شورى الفقهاء، ص337 وما بعدها.

[81]          الجواهر، ج40، ص43. ومستند الشيعة، ج2، ص521. كذلك: الإحكام للآمدي، ج4، ص457. والموافقات، ج4، ص292. وفواتح الرحموت، ج2، ص405.

[82]          الإجتهاد والتقليد، ص147.

[83]          المصدر السابق، ص147ـ148.

[84]          هناك نماذج وصور كثيرة يؤثر فيها الواقع على تحديد معرفة الحكم الشرعي؛ كالتي جاء ذكرها في حلقة النظام الواقعي ضمن سلسلة المنهج في فهم الإسلام (5).

[85]          الإجتهاد والتقليد، ص148.

[86]          شورى الفقهاء، ج1، ص321.

[87]          تحليل العروة، بحث الإجتهاد والتقليد، ص19ـ20.

[88]          اصول الفقه، ج3، ص171.

[89]          فرائد الأصول، ج1، ص400.

[90]          المصدر السابق، ج1، ص120 و42.

[91]          كتعبير عن مثل هذا التردد فقد سبق للسيد محمد بن علي العاملي ان صرح قائلاً: «الخروج عن كلام الأصحاب مشكل، وإتّباعهم بغير دليل أشكل» (العاملي، محمد بن علي: مدارك الأحكام، تحقيق مؤسسة آل البيت لاحياء التراث، مشهد، الطبعة الاولى، 1415هـ، عن مكتبة يعسوب الدين الالكترونية، ج4، ص95). كما نقل مثل هذا القول عن زين الدين العاملي، وهو قوله: العمل بخلاف ما عليه المشهور مشكل، والأخذ بقولهم من دون دليل أشكل (فقه الامام جعفر الصادق، ج1، ص30).

[92]          اعتمدنا في هذه الفقرة على ما حرره السيد كمال الحيدري لتقريرات الامام الصدر. انظر مقاله المعنون: مرتكزات أساسية في الفكر الأصولي للشهيد الصدر، قضايا اسلامية، العدد 3، ص237ـ 240. كذلك بحوث في علم الأصول، ج4، فصل حجية السيرة، ص233.

[93]          الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص148ـ157 و214.

[94]          المصدر السابق.

[95]          بهذا الصدد يحتمل الشيخ البحراني أن تكون حكمة تعبدنا بالتوقف في الشبهات هو للإبتلاء والإختبار «وهو السر في نصب جميع الشبهات وإنزال الآيات المتشابهات وخلق الشياطين والشهوات، بل أنتَ إذا تأملت في وجوه التكليفات رأيتها كلها من ذلك القبيل، وإلا فإن الله سبحانه قادر على أن ينزل جميع الأحكام التي تحتاج إليها الأُمة في القرآن بدلالات واضحة قطعية خالية من المعارض، بحيث لا يختلف فيها من نظر فيه، وكذا كان رسول الله (ص) قادراً على تأليف كتاب كذلك، بل كل واحد من الأئمة (ع)، ولكن لم يكن ذلك موافقاً لحكمة التكليف..» (الدرر النجفية، ص30). ومثل ذلك ما ذكره الحر العاملي في (الفوائد الطوسية، ص402).

[96]          كفاية الأصول، ص509 وما بعدها. كما انظر: المظفر: أُصول الفقه، ج3، ص261.

[97]          فرائد الأصول، ج2، ص780ـ781. وأُصول الفقه للمظفر، ج3، ص261ـ263.

[98]          انظر بصدد ذلك الأخبار الواردة في باب وجوه الجمع بين الأحاديث المختلفة وكيفية العمل بها، في الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 9، ص75 وما بعدها.

[99]          ابن رشد الحفيد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، دار المعرفة، بيروت، الطبعة السابعة، 1405هـ ـ1985م، ج2، ص463. والاحكام السلطانية، ص83. وزيدان، عبد الكريم: نظام القضاء في الشريعة الاسلامية، مؤسسة الرسالة، بيروت /دار البشير، عمان، الطبعة الثالثة، 1415هـ ـ1995م، ص31.

[100]         الوسائل، ج18، أبواب صفات القاضي، باب 2، ص6. ومستدرك الوسائل، ج17، أبواب صفات القاضي، باب 2، ص241. والجواهر، ج40، ص14. ونهج البلاغة، خطبة رقم 80، ص105، كذلك ص405.

[101]         مستمسك العروة الوثقى، ج1، ص43.

[102]         الإجتهاد والتقليد، ضمن موسوعة الفقه: ج1، ص216ـ217.

[103]         عناية الأصول، ج6، ص293 و294.

[104]         انظر: المسائل الفقهية، ص16.

[105]         انظر الحوار مع شمس الدين، في: صحيفة صوت العراق، العدد 176.

[106]         بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج2، ص460. كذلك: الاحكام السلطانية، ص83.

[107]         نظام القضاء، ص30ـ31. وحول تولية الشفاء بنت عبد الله ذكر ابن حجر العسقلاني في ترجمتها أن عمر بن الخطاب كان يقدّمها في الرأي ويرعاها ويفضلها وربما ولاها شيئاً من أمر السوق (ابن حجر العسقلاني: الإصابة في تمييز الصحابة، تحقيق علي محمد البجاوي، نشر دار الجيل، بيروت، 1412هـ ـ 1992م، عن مكتبة المشكاة الالكترونية، ج7، فقرة 11373، ص727).

[108]         الإجتهاد للخوئي، ص226.

[109]         فعلى سبيل المثال ذكر الفخر الرازي في تفسيره لقوله تعالى: ((ومن آياته أن خلقَ لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا اليها وجعل بينكم مودة ورحمة، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)) الروم/ 21، فقال: «قوله ((خلق لكم)) دليل على أن النساء خُلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى ((خلق لكم ما في الأرض))، وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقة للعبادة والتكليف، فنقول خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا وتكليفهن لاتمام النعمة علينا؛ لا لتوجيه التكليف نحوهن مثل توجيهه الينا، وذلك من حيث النقل والحكم والمعنى. أما النقل فهذا وغيره. وأما الحكم فلأن المرأة لم تكلف بتكاليف كثيرة كما كلف الرجل بها. وأما المعنى فلأن المرأة ضعيفة الخلق سخيفة، فشابهت الصبي، لكن الصبي لم يكلف؛ فكان يناسب أن لا تؤهل المرأة للتكليف، لكن النعمة علينا ما كانت تتم إلا بتكليفهن لتخاف كل واحدة منهن العذاب فتنقاد للزوج وتمتنع عن المحرم، ولولا ذلك لظهر الفساد» (التفسير الكبير، ج24، ص110).

[110]        انظر مثلاً: منتهى الأصول، ج2، ص635. ومستمسك العروة الوثقى، ج1، ص40ـ41.

[111]         الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص83ـ84.

[112]         النراقي: عوائد الأيام، طبعة حجرية (لم يذكر عنها شيء)، ص191ـ192.

[113]         مبادئ الوصول، ص497.

[114]         الفصول الغروية، ص422.

[115]         عناية الأصول، ج6، ص218ـ219. 

[116]         الوحيد البهبهاني، محمد باقر: الفوائد الحائرية، نشر مجمع الفكر الاسلامي، قم، 1415هـ، الفائدة 62، ص362ـ562.

comments powered by Disqus