-
ع
+

مراتب الإجتهاد الفقهي ومقدماته

يحيى محمد

لقد تناول المتأخرون من الفقهاء السنة البحث في طبقات المجتهدين إعتماداً على تحديد أنواع الإجتهاد ومراتبه، وإختلفوا في ذلك. فقد ذكر  الشيخ عبد الحي اللكنوي الحنفي أن للأحناف من أتباع أبي حنيفة خمس طبقات، كما لخّص ما جاء عن إبن كمال باشا الرومي (المتوفى سنة ٩٤٠هـ) ، وذلك على شاكلة ما فعله إبن عابدين الحنفي، اذ كان الرومي يقسم الفقهاء إلى سبع طبقات، وهي بحسب تلخيص اللكنوي كالتالي:

  1ـ طبقة المجتهدين في الشرع، وهم الذين يستقلون في إجتهادهم في الشرع مطلقاً، حيث يستنبطون الأحكام من الكتاب والسنة دون إتباع لأحد، سواء في الأُصول التي يتوقف عليها أمر الإجتهاد أم في الفروع. وقد عدّ إبن عابدين من هؤلاء: الأئمة الأربعة والأوزاعي والليث بن سعد وغيرهم.

 2ـ طبقة المجتهدين في المذهب، وهم القادرون على إستنباط الأحكام طبقاً للإعتماد على القواعد والأُصول المقررة لدى المجتهد المستقل في الطبقة الأُولى، وإن خالفوه في الجزئيات والفروع. لذلك سُميت هذه الطبقة بطبقة المنتسبين تمييزاً لها عن طبقة المستقلين الأُولى. وقد عدّ إبن عابدين من بين رجالات هذه الطبقة كلاً من أصحاب وتلامذة أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد بن حسن وزفر وغيرهم. كما عدّ البعض رجالاً آخرين ينتسبون إلى هذه الطبقة، ففي المذهب المالكي هناك إبن قاسم  وأشهب، وفي المذهب الشافعي هناك الزعفراني والسيوطي والمزني والبويطي، وفي المذهب الحنبلي هناك صالح بن أحمد بن حنبل وأبو بكر الخلال. فجميع هؤلاء عُدّوا تابعين ومنتسبين لأئمة المذاهب في القواعد والأُصول العامة التي يحتاجها الفقيه في عملية الإستنباط.

 3ـ طبقة المجتهدين في المسائل التي لا رواية فيها عن المجتهد المستقل أو أتباعه من المجتهدين المنتسبين. فهم تابعون لغيرهم في كل من الأُصول والفروع. لذلك إنهم يستنبطون أحكاماً غير منصوص فيها، ولا يجتهدون في الأحكام التي نصّ عليها المجتهد المستقل أو المنتسب إلا ضمن إعتبارات معينة لا تدل على المخالفة. وقد حَسِبَ البعض عمل هؤلاء مؤلفاً من عنصرين؛ أحدهما عبارة عن إستخلاص القواعد العامة التي يلتزمها غيره من السابقين بإعتبارها الأصل الذي كانوا يستندون إليه في عملية الإستنباط. أما الآخر فهو إستنباط الأحكام غير المنصوص فيها إعتماداً على القواعد والأُصول التي أقامها المجتهد المستقل. وفي هذه الطبقة أُعتبر من الحنفية كل من الحصاف والطحاوي وأبي الحسن الكرخي والسرخسي والبزدوي، ومن المالكية كل من الأبهري وإبن أبي زيد وإبن أبي زمين، ومن الشافعية كل من المرزي وإبن حامد والإسفراييني وأبي اسحاق الشيرازي، ومن الحنابلة الخرقي.

 4 ـ طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، كالرازي وأضرابه، فإنهم لا يقدرون على الاجتهاد أصلاً، لكنهم لإحاطتهم بالأصول وضبطهم للمأخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين وحكم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب أو عن واحد من أصحابه المجتهدين برأيهم ونظرهم في الأصول والمقايسة على أمثاله ونظائره من الفروع . ويرى البعض ان هؤلاء يعملون على الترجيح بين الآراء والأقوال المروية لهم ممن سبقهم من أهل الطبقات الآنفة الذكر، فلهم أن يرجحوا بعض الأدلة على بعض لقوة الدليل أو لملاءمته لظروف العصر. ويطلق عليهم أيضاً بمجتهدي الفتوى، حيث انهم يقومون بتقرير الأدلة فيصورون ويحررون ويقررون ويمهدون ويزيفون ويرجحون، لكن ليس بوسعهم الاستنباط ومعرفة الاصول. وقد عدّ بعض المعاصرين من بين رجال هذه الطبقة من الحنفية كل من أبي بكر الرازي والقدوري والكاساني والمرعيناني، ومن المالكية المازري والقاضي عياض والقرافي وابن رشد وابن العربي، ومن الشافعية كل من الرافعي والنووي وابن حجر وإبن أبي عمرون، ومن الحنابلة كل من إبن قدامة المقدسي وأبي يعلى وأبي الخطاب والقاضي علاء الدين.

 5 ـ طبقة أصحاب الترجيح من المقلدين، كأبي الحسين القدوري وصاحب (الهداية) وأمثالهما. وصفتهم انهم يفضلون بعض الروايات على بعض آخر، ويوازنون بين الأقوال بقولهم: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أوضح، وهذا أوفق للقياس، وهذا أرفق للناس.

 6 ـ طبقة المقلدين الذين يكونون على علم بما رجّحه السابقون من الأقوال والمرويات، وإن كان ليس بوسعهم الترجيح. لهذا فهم قادرون فقط على التمييز بين الأقوى والقوي والضعيف وظاهر الرواية وظاهر المذهب والرواية النادرة. ومن هذه الطبقة أصحاب المتون المعتبرة كالنسفي صاحب (الكنز)، وعبد الله بن مودود الموصلي صاحب (المختار) وشرحه (الإختيار)، ومثلهما صاحب (الوقاية) وصاحب (المجمع).

 7 ـ طبقة المقلدين الذين ليس بوسعهم أيّ عمل مما يقوم به أصحاب الطبقات الأُخرى، فهم ليسوا أكثر من نقلة؛ لا يفرقون بين الغث والسمين ولا يميزون الشمال عن اليمين بل يجمعون ما يجدون كحاطب الليل([1]) .

ومما يُذكر، إنه بعد عملية الإجتهاد المطلق لدى الأئمة، ظهرت مرحلة تشعب الآراء الفقهية داخل كل مذهب بسبب إتساع دائرته من جهة، وإختلاف آراء المخرجين فيه لأحكام الحوادث من جهة أُخرى، مضافاً إلى إختلاف الروايات في كثير من الموضوعات عن إمام المذهب نفسه، إذ قد يكون له في الموضوع الواحد عدة آراء منقولة مختلفة. وهذا ما أدى إلى استمرار حركة الترجيح والتصحيح لبعض الآراء والروايات، والتضعيف للبعض الآخر([2]).

وبخصوص تحديد الطبقات يلاحظ أن بعضها يتداخل مع البعض الآخر. فالطبقة الخامسة لا تتميز بوضوح عن الطبقة الرابعة، كما هي ملاحظة الشيخ أبي زهرة. لكن ذكر الشيخ مدكور بأن إبن عابدين أشار إلى أن ايضاح تقسيم هذه الطبقات جاء على يد إبن كمال باشا وقام هو بتلخيصها. وليس في هذا التلخيص المنقول عن إبن عابدين ذلك التداخل. إذ ورد أن الطبقة الرابعة هي طبقة أصحاب التخريج من المقلدين، حيث كل ما بوسعهم هو أنهم لإحاطتهم بالأُصول وضبطهم للمآخذ يقدرون على تفصيل قول مجمل ذي وجهين وحكم مبهم محتمل لأمرين منقول عن صاحب المذهب أو أحد من أصحابه. أما أصحاب الطبقة الخامسة فهم المرجحون من المقلدين، فهم يفضلون بعض الروايات على بعض، ويقولون: هذا أولى، وهذا أصح رواية، وهذا أرفق للناس([3]).

من جهة أُخرى، ورد إختلاف حول مواضع الفقهاء في تلك الطبقات السبع. فقد سبق لإبن عابدين وغيره أن عدّ أئمة المذاهب الأربعة ضمن طبقة المستقلين الأُولى، بينما إعتبر الشاه ولي الله دهلوي أن أبا حنيفة ليس من تلك الطبقة بإعتباره ممن تلقى دراسته على فقه إبراهيم النخعي وكان شديد الموافقة معه لا يجاوزه إلا في مواضع يسيرة، بل حتى في هذه المواضع لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة([4]). في حين نقد ذلك أبو زهرة معتبراً أن أبا حنيفة إمام مستقل، فهو يوافق إبراهيم أحياناً ويخالفه أحياناً أُخرى، وما وافقه إنما كان على بيّنة ودليل لا مجرد تقليد وإتّباع([5]). كذلك عدّ إبن عابدين أصحاب أبي حنيفة وتلامذته ينتمون إلى طبقة المنتسبين الثانية، بينما هم على رأي أبي زهرة ينتمون إلى طبقة المستقلين الأُولى؛ بحجة أنهم كانوا مستقلين في تفكيرهم الفقهي حتى مع موافقتهم لأساتذتهم في الكثير من الآراء، مادام أنهم يبنون ما يأخذونه عن إقتناع وإستدلال وتصديق للدليل([6]). وكذا نُقل ان كلاً من الحنفية والشافعية اختلفوا في جعل شخصيات من أمثال أبي يوسف ومحمد بن الحسن والمزني وابن السريج؛ إن كانوا من المستقلين ام المنتسبين([7]).

وربما كان سبب الإختلاف والتردد في تعيين شخصيات الطبقة الأُولى والثانية؛ يعود إلى الملابسة الخاصة بتحديد صفات الطبقتين. فإذا كانت صفة الطبقة الأُولى هي وضع الأُصول العامة وإبتكار الدليل عليها؛ فإن من يستند إلى هذا الدليل، ولو عن إقتناع لا إتباع وتقليد، لا يكون بمستوى مَنْ صفته الإبتكار، لذا يصح ان يوضع ضمن الطبقة الثانية لا الاولى. أما لو تم الاتفاق على أن من يستند إلى الدليل بالاقتناع والبينة، هو كمَن قام بابتكار الدليل، بنحو ما من التسامح، فسيستحق - في هذه الحالة - أن يُدرج ضمن الطبقة الأُولى، رغم أنه أقل رتبة من ذلك المتصف بالابتكار.

وعليه فربما كان الخلاف السابق بين الشيخ أبي زهرة والشاه دهلوي مستنداً إلى ما ذكرنا، إذ عرفنا أن أبا زهرة رأى أن من بين المنتمين الى طبقة المجتهدين المستقلين؛ كل فقيه مقتنع بما أورده غيره من الدليل في الأُصول وكان مجتهداً في الفروع. في حين ذهب الشاه دهلوي الى تحديد طبيعة كلٍّ من المجتهديْن المستقل والمنتسب بشكل مختلف، اذ استظهر من كلام الفقهاء السابقين عليه أن المجتهد المستقل يمتاز على غيره بثلاث خصال، إحداها التصرف في الأُصول المنبني عليها إجتهاداته، والثانية تتبع الآيات والأحاديث والآثار لمعرفة الأحكام الشرعية، أما الثالثة فهي الكلام في المسائل التي لم يسبق أن أجاب عليها السابقون أخذاً من تلك الأدلة. أما المنتسب فإنه يأخذ من أُصول شيخه ويستعين بكثير من كلامه في تتبع الأدلة والتنبيه على مآخذها، لكنه مستيقن بالأحكام من جهة أدلتها وقادر على إستنباط المسائل منها([8]).

وهو بذلك لا يعتبر من يستند الى الغير في إيراد الأدلة والإستعانة بالأُصول كثيراً ـ ولو عن بصيرة وبينة من الإقتناع ـ منتمياً إلى زمرة الطبقة الأُولى.

كما هناك إختلاف حول تصنيف بعض آخر من الفقهاء، كالذي جرى مع الحسن بن زياد، حيث وضعه البعض في طبقة المنتسبين الثانية([9])، بينما ادرجه بعض آخر ضمن الطبقة الثالثة([10]).

كذلك هناك من إختلف وداخل في تصنيف جملة من الفقهاء؛ بوضعهم تارة في الطبقة الثالثة، وأُخرى في الرابعة بحجة التقارب بينهما، باعتبار أن الترجيح بين الآراء على مقتضى الأُصول كما هو وظيفة الطبقة الرابعة لا يقل وزناً عن إستنباط أحكام الفروع التي لا نص فيها من قبل المجتهدين المستقلين أو المنتسبين([11]). وعليه تجد البعض يضع أمثال قاضيخان وإبن رشد والغزالي في الطبقة الرابعة، بينما يدرجهم البعض الآخر ضمن الطبقة الثالثة([12]). ومثل ذلك الاختلاف حول وضع أبي الحسين القدوري، فالبعض يراه ضمن الطبقة الخامسة، في حين يراه بعض اخر ضمن الطبقة الرابعة، كالذي فعله الشيخ اللنكوي.

يضاف إلى ذلك فإن البعض يرى أن من يتسم بصفة الإجتهاد حقاً هم أصحاب الطبقة الأُولى والثانية فقط، أما غيرهم فهم مقلدون باعتبارهم يعتمدون على أقوال أئمتهم، ويطلق عليهم لفظة (مجتهدون) تسامحاً([13]).

بينما يرى بعض آخر أن الإجتهاد على صنفين؛ أحدهما مطلق ويشمل المستقل والمنتسب، والآخر مقيد، وفي الاول يفترق المنتسب عن المستقل بكونه لم يبتكر لنفسه قواعد اصولية، بل سلك طريقة المجتهد المستقل، وهو ليس مقلداً له؛ لا في المذهب ولا في دليله، وانما انتسب اليه لِما رأى فيه انه أسدّ الطرق، حتى قال البعض بأننا اتبعنا الشافعي دون غيره؛ لأنا وجدنا قوله أرجح الاقوال وأعدلها، لا أنا قلدناه([14]). أما المجتهد المقيد فيعبّر عنه بالمجتهد في المذهب. فهو من جهة مقلد لإمامه فيما ظهر له من المنصوص، أما فيما لم ينص عليه فإنه يجتهد فيه نظراً لما يعرفه من قواعد إمامه، لذلك فهو مجتهد على مذهب هذا الإمام([15]).

أخيراً يمكن اعتبار التصنيف الآنف الذكر نافعاً على الصعيد المنهجي وإن لم يفد إفادة واقعية تامة. إذ قد يكون الفقيه في جوانب مستقلاً في إجتهاده على نحو الإبتكار، بينما يكون في جوانب أُخرى تابعاً على نحو الإقتناع بالدليل الذي يقدمه الغير. وربما يحمل أكثر من ذلك فيكون في بعض النواحي مرجحاً للآراء المروية، وفي أخرى مستنبطاً فيما لم ينص عليه، وهكذا... وهذا ما يفسر الاختلاف الذي رأيناه حول تحديد عدد طبقات الفقهاء والمجتهدين، اذ ليس لهذه الطبقات وجود تام ومتمايز في الواقع، انما يمكن حملها على الصعيد المنهجي باتساق كما هو واضح.

***

على أن هناك تقسيماً آخر للإجتهاد لا يخضع للإعتبارات الطبقية السابقة للمجتهدين والفقهاء، إنما يعتمد على طبيعة الموضوع الذي يقوم عليه نفس الإجتهاد. فقديماً وضع الفقهاء مفهوم الإجتهاد ليدور حول ما لا نص فيه. ثم بعد ذلك توسع المفهوم خارج نطاق ذلك القيد، فاصبح يراد به اكثر مما سبق، وهو انه يشمل الاجتهاد في الموارد المنصوص فيها. ولدى الشاطبي إن الإجتهاد دائر في ثلاث نواح رئيسية، الأُولى عبارة عن الإستنباط من النصوص والتي يقتضيها تعلم اللغة العربية. والثانية عبارة عن إستنباط المعاني من المصالح والمفاسد، ولازمها العلم بمقاصد الشرع وإن لم يلزم ذلك العلم بالعربية. أما الثالثة فتتعلق بتحقيق المناط، وهو يعني تحديد الموضوع بدقة ليشخص الحكم الشرعي على ضوئه. وهذه الناحية لا تستلزم العلم بالعربية ولا مقاصد الشرع([16]).


الإتجاه الشيعي ومراتب الإجتهاد

يمكن القول انه لم يجر على الإجتهاد لدى الشيعة أيّ تقسيم بلحاظ الطبقات او الموضوع. فكل ما قيل حوله هو أنه ينقسم إلى إجتهاد مطلق وإجتهاد متجزئ، كما هو وارد لدى أهل السنة أيضاً. ففي الإجتهاد المطلق يكون الفقيه مستنبطاً لمختلف المسائل الشرعية في كافة أبواب الفقه، بخلاف الإجتهاد المتجزئ الذي لا يتحقق فيه الإستنباط عدا مسائل محدودة.

ومن المتأخرين من اعتبر تقسيم اهل السنة للاجتهاد الى مطلق ومقيد هو تقسيم خاطئ، كما هو الحال مع المحقق الكركي (المتوفى سنة 940هـ) الذي سخر من بعضهم حيث منع الاول وجوّز الثاني ضمن أحد المذاهب الأربعة([17]).

مع هذا يمكن عد الإجتهاد لدى الشيعة منقسماً بحسب الطبقات إلى إجتهاد مستقل ومنتسب، وذلك فيما لو اعتبرنا المجتهد المستقل مبتكراً للأدلة على الأُصول، وأن المنتسب من له الاقتناع في تلك الأدلة التي يعتمد فيها على المستقل عن بيّنة وليس عن إتباع وتقليد. فالذي إبتكر أدلة باب الإنسداد وبنى عليها أحكامه - مثلاً - يمكن عدّه من هذه الناحية من أصحاب الإجتهاد المستقل، أما الذي إستند إليه في ذلك بالإقتناع فيُعدّ بهذا الإعتبار من أصحاب الإجتهاد المنتسب. ومع ذلك فالتقسيم  منهجي كما عرفنا. فالمجتهد الواحد يصح أن يكون مستقلاً ومنتسباً، بل ومن أصحاب الترجيح في الرأي بحسب إعتبارات القضايا التي يعالجها إن كان مبتكراً أو مؤيداً أو مرجحاً أو غير ذلك، شرط أن لا يكون مقلداً في شيء يخص أمر الإستنباط.

 أما بخصوص التقسيم بحسب الموضوع، فالأساس الذي يعول عليه الإجتهاد الشيعي هو النصوص الشرعية، وإن كان مع الزمن ظهر أن الإجتهاد لا يقتصر على هذه الناحية؛ بل تعداها إلى القضايا التي يعجز الفقيه عن إستنباطها من الشرع، أو تلك التي لا نص فيها؛ والتي أُعتبرت في البداية عقلية ثم أُدرجت أخيراً ضمن ما يسمى بالأُصول العملية.


العلوم التي يتوقف عليها الإجتهاد

بحسب الاتجاه السني يتوقف الاجتهاد على عدد من العلوم، وهي كما يذكر الشهرستاني: معرفة اللغة وتفسير القرآن ومعرفة الأخبار بمتونها وأسانيدها، كذلك معرفة مواقع إجماع الصحابة والتابعين وتابعي التابعين من السلف، وأيضاً التهدي إلى مواضع  الأقيسة([18])، أو معرفة علل الأحكام  ومسالكها. ونقل الأشعري عن البعض قوله إنه لا يجوز الإجتهاد إلا لمن علم بما أنزل الله عز وجل في كتابه من الأحكام وعلم السنن وما أجمع عليه المسلمون حتى يعرف الأشياء والنظائر ويرد الفروع إلى الأُصول([19]). ولدى الزركشي أن تلك العلوم عبارة عن إشراف المجتهد على نصوص الكتاب والسنة ومعرفة السنن المتعلقة بالأحكام، ومعرفة الإجماعات والقياس وكيفية النظر، كذلك معرفة لسان العرب والناسخ والمنسوخ وحال الرواة وأُصول الفقه، وشروط أُخرى؛ مثل معرفة الدليل العقلي على ما ذكره الغزالي([20]). وأضاف الشاطبي إلى ذلك معرفة مواقع الخلاف بين الفقهاء والعلم بمقاصد الشريعة وأسرارها دفعاً للعسر والحرج([21]).

بل ذهب البعض الى ان من شروط المجتهد المطلق هو ان يعرف الوفاق والخلاف في الاحكام لكل عصر، كذلك ان يكون على علم بالعربية المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق ومن حولهم من العرب([22]).

وهناك من ذكر بأن من شروط الإجتهاد هو أن يكون المجتهد على علم بالدليل في العقائد والأُصول الكلامية الرئيسة، كمعرفة الرب وصفاته والتصديق بالرسل وما إلى ذلك من القضايا، ولو على نحو الإجمال([23]). ومنهم من أضاف علم المنطق كشرط أساسي لا غنى عنه؛ كما هو رأي إبن حزم والغزالي([24]). وقد اعتبر هذا الأخير أن أعظم علوم الإجتهاد ثلاثة؛ هي الحديث واللغة وأُصول الفقه([25]). ولدى الفخر الرازي إن أهمها اطلاقاً هو أُصول الفقه([26]).

***

أما مقدمات الإجتهاد عند الإتجاه الشيعي فقد ذكر الشيخ زين الدين العاملي (المعروف بالشهيد الثاني) أن الإجتهاد يتحقق بمعرفة مقدمات ست: علم الكلام وأُصول الفقه والنحو والتصريف ولغة العرب وشرائط الأدلة والأُصول الأربعة التي هي: الكتاب والسنة والإجماع ودليل العقل([27]). واعتبر العلامة الحلي ان من شرائط الاجتهاد: العلم بشرائط الحد والبرهان فضلاً عن النحو واللغة والتصريف واحوال الرجال وما إليها([28]).

وعدّ جمعٌ من العلماء أن من شرائط الإجتهاد معرفة حدوث العالم وإفتقاره إلى الصانع ومعرفة أن له أنبياء يبعثهم لهداية الناس، وذلك على وجه الإجمال دون حاجة للتفصيل والتبحر كما هو دأب علماء الكلام. ومن العلماء من إعتبر الإجتهاد متوقفاً على بعض المباحث المتداولة في علم الكلام والفلسفة والمنطق، كمبحث الجوهر والعرض([29]).

وهناك من أضاف إلى ضمن الشروط معرفة أحوال الرواة في الجرح والتعديل، وأن على المجتهد أن يكون عارفاً أيضاً بشرائط البرهان بالمنطق، لكن دون حاجة إلى علم الكلام([30]).

كما هناك من إكتفى بثلاثة علوم على رأسها اللغة العربية، اذ من خلالها يتحدد مدار الفقيه بالظهور اللغوي والعرفي وليس المعنى الحقيقي، كذلك علم أُصول الفقه وعلم الرجال، نافياً حاجة الإجتهاد إلى علم المنطق([31]). والبعض إعتبر أُصول الفقه أهم العلوم في الإجتهاد، ثم علوم العربية وعلمي الدراية والرجال([32]).

وهناك من خفف من الشروط كما هو الحال مع المرحوم السبزواري الذي اعتبر أنه يكفي في الإجتهاد من الأُصول الإحاطة بالمسلمات والمشهورات بين العقلاء والعلماء وما هو المعتبر لدى الأذهان المستقيمة، ولا عبرة بالتدقيقات العقلية والإحتمالات البعيدة لعدم ابتناء الفقه عليها، معتبراً أن مصنفات الفقه الإستدلالي في العصور الحديثة وما قاربها تشتمل على القدر اللازم من الأُصول، أما ما زاد على ذلك فهو عنده من الفضول([33]). وهو بهذا لا يعدّ علم الاصول شرطاً في الاجتهاد.

وسبق للشيخ حسن العاملي صاحب (معالم الدين) وابن اخته السيد محمد بن علي الموسوي صاحب (مدارك الاحكام) أن ذهبا الى هذا الاتجاه، فوصف كل منهما  قراءة مباحث الاصول بأنها مضيعة للوقت([34]).

وبرأي البعض إن من بين ما يتوقف عليه الإجتهاد هو أن يكون الفقيه عالماً بجملة يُعتد بها من الأحكام علماً فعلياً ليسمى في العرف فقيهاً. وقد ردّ عليه الفيروز آبادي صاحب (عناية الأُصول) معتبراً أن العلم بتلك الأحكام هو مما يتوقف على الإجتهاد، فكيف يصح أن تكون مقدمة له([35]). فالأمر عنده يفضي إلى الدور أو التسلسل.

وفي الوقت الحاضر أصبح من الضروري على المجتهد أن يتزود بثقافة واسعة من العلوم العصرية التي لها علاقة بالفقه، خاصة العلوم الإنسانية، وذلك لكسب الحقائق وخبرة الواقع التي قد تحدد نتيجة الحكم والإجتهاد من جهة، وأيضاً لتشخيص موضوع الحكم بدقة كتحقيق للمناط من جهة أُخرى. فتحصيل مثل هذه الثقافة هو أولى بالشرط للإجتهاد من المعرفة الإستدلالية لقضايا أُصول العقيدة التي لا علاقة لها بالإجتهاد الفقهي على الصعيد العلمي والمنهجي. ولحسن الحظ أصبحت مقولة (للأزمان تأثير على تغيير الفتاوى والأحكام) التي سبق أن نادى بها الإتجاه السني؛ تأخذ طريقها في الوقت الحاضر لدى الإتجاه الشيعي، ولو على نطاق ما زال ضيقاً، كما يلاحظ فيما دعى إليه الإمام الراحل روح الله الموسوي الخميني وعدد من الفقهاء المعاصرين ربما لأول مرة في التاريخ الشيعي. وقد اعتبر بعض الفقهاء بأن الامام الخميني هو صاحب طريقة جديدة في الإجتهاد لم يسبق لها غيره من علماء المذهب، استناداً الى عمله بتلك المقولة واعتبارات المصلحة العامة للنظام الاسلامي التي رجحها على النص عند التعارض([36]).

ولا شك ان هذه المقولة واعتبارات المصلحة - المتوقع لها التوسع والإنتشار - تفرض على المجتهد أن يكون على دراية تامة بالعلوم العصرية؛ لعلاقتها بالواقع وإشكالياته.













[1] انظر: عبد الحي اللكنوي: مقدمة الجامع الصغير، الفصل الاول، شبكة المشكاة الالكترونية (لم تذكر ارقام صفحاته). كما انظر المصادر التالية: أبو زهرة: أُصول الفقه، دار الفكر العربي في القاهرة، ص313ـ317. كذلك: أبو زهرة: أبو حنيفة، حياته وعصره، آراؤه وفقهه، دار الفكر العربي، 1977م، ص444 وما بعدها. الزحيلي، وهبه: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية، ضمن كتاب الاجتهاد في الشريعة الإسلامية وبحوث أُخرى (القسم الثاني)، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في المملكة السعودية، ص192ـ193. مدكور، محمد سلام: مناهج الإجتهاد في الإسلام، نشر جامعة الكويت، 1977م، ص421.

[2] الزرقاء، مصطفى: الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، دار الفكر، الطبعة السابعة، ج1، ص195.

[3] مناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420.

[4] حجة الله البالغة، ج1، ص146.

[5] أبو زهرة: أُصول الفقه، ص310.

[6] أبو حنيفة، ص444ـ445. وتاريخ المذاهب الاسلامية، ص331.

[7] صفة الفتوى، ص17ـ18.

[8] دهلوي: رسالة عقد الجيد في أحكام الإجتهاد والتقليد، طبعة حجرية (لم يذكر عنها  شيء)، ص3.

[9] مناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420.

[10] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193 .

[11] أبو حنيفة، ص447.

[12] انظر إختلاف تصنيف هؤلاء في كل من: أبو حنيفة، ص644. ومناهج الإجتهاد في الإسلام، ص420. والإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193.

[13] الإجتهاد في الشريعة الإسلامية للزحيلي، ص193.

[14] تهذيب الفروق، ج2، ص120ـ121.

[15] رسالة عقد الجيد في أحكام الإجتهاد والتقليد، ص3.

[16] الموافقات، ج4، ص162 و165.

[17] الكركي، علي بن الحسين: نفحات اللاهوت في لعن الجبت والطاغوت، تحقيق محمد الحسون، اعداد مركز الابحاث العقائدية، عن مكتبة العقائد الالكترونية www.aqaed.com، ص36.

[18] الشهرستاني، محمد بن عبد الكريم: الملل والنحل، عرض وتحليل الدكتور حسين جمعة، دار دانية، بيروت ـ دمشق، ص86ـ87. كما انظر: الجويني، إمام الحرمين عبد الملك: البرهان في أُصول الفقه، حققه وقدم له ووضع فهارسه عبد العظيم الديب، طبع في مطابع الدوحة الحديثة، الطبعة الأُولى، 1399هـ، ج2، ص32.

[19] الأشعري، أبو الحسن: مقالات الإسلاميين وإختلاف المصلين، عُني بتصحيحه هـ. ريتر، مطبعة الدولة في إستانبول، 1929م، ص479.

[20] الزركشي، بدر الدين محمد: البحر المحيط، قام بتحريره عبد الستار أبو غدة، راجعه عبد القادر عبد الله العاني، نشر وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية في الكويت، الطبعة الثانية، 1413هـ ـ1992م، ج6، ص991ـ204.

[21] الموافقات، ج4، ص160 وما بعدها.

[22] صفة الفتوى، ص16.

[23] الإحكام للآمدي، ج4، ص497. كذلك: الشوكاني، محمد بن علي: إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من الأُصول، دار الفكر، ص52.

[24] إبن حزم: رسالة التقريب لحد المنطق، ضمن رسائل إبن حزم الأندلسي، تحقيق إحسان عباس، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ببيروت، الطبعة الأُولى، 1983م، ج4، ص102 و95. والمستصفى، ج2، ص351ـ352.

[25] المستصفى، ج2، ص353.

[26] الفخر الرازي: المحصول في علم الأصول، تحقيق طه جابر فياض العلواني، نشر جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، 1400هـ، عن شبكة المشكاة الالكترونية، ج6، ص35. ومناهج الإجتهاد في الإسلام، ص364.

[27] العاملي، زين الدين: الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية، أشرف على تصحيحه والتعليق عليه محمد كلانتر، إنتشارات علمية في قم، الطبعة الثانية، 1396هـ، ج3، ص62.

[28] الحلي: مبادئ الوصول الى علم الاصول، نفس المعطيات السابقة، ص496.

[29] الأصفهاني، محمد حسين: الفصول الغروية في الأُصول الفقهية، دار إحياء العلوم الإسلامية في قم، 1404هـ، ص401. والصدر، صدر الدين: خلاصة الفصول في علم الأُصول، چاپخانه سنكي علمي في إيران، 1367هـ، ج2، ص46.

[30] معالم الدين، ص383. كذلك: مغنية، محمد جواد: فقه الإمام جعفر الصادق، إنتشارات قدس محمدي في قم، ج6، ص384ـ385.

[31] الإجتهاد والتقليد للخوئي، ص24  و25.

[32] منتهى الأُصول، ج2، ص618.

[33] السبزواري، عبد الأعلى الموسوي: تهذيب الأُصول، نشر الدار الإسلامية في بيروت، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1995م، ج2، ص111.

[34] جاء في كشكول البحراني ان الشيخ الاردبيلي كان يقرأ عنده الشيخ حسن والسيد محمد من شرح الشمسية ما يتوقف عليه الاجتهاد من مباحث الالفاظ وبعض احوال القضايا والقياسات، والظاهر انه لا يزيد على عشرة دروس، وقرآ عليه من شرح مختصر ابن الحاجب العضدي ما يتوقف ايضاً عليه الاجتهاد وهي دروس معدودة، وكانت الجماعة ـ من التلامذة ـ الذين يقرأون عند المولى الاردبيلي يهزؤون بهما على هذا النمط من القراءة، فقال لهم المولى: لا تهزءوا بهما فعن قريب يصلون الى درجة الاجتهاد، وأحتاج أنا الى أن آخذ تصديق اجتهادي منهما. فكان الحال كما قال (البحراني، يوسف: الكشكول، مؤسسة الوفاء ودار النعمان، الطبعة الثانية، 1406هـ ـ1985م، ج1، ص343). لكن جاء في (حدائق المقرّبين) كما يذكر الخوانساري ان العالمين المشار اليهما قد قدما الى العراق قاصدين المولى أحمد الأردبيلي يسألانه أن يعلمهما ما هو دخيل في الاجتهاد، فأجابهما الى ذلك، وعلّمهما أولاً شيئاً من المنطق وأشكاله الضرورية، ثم أرشدهما الى قراءة اصول الفقه، وقال: «إن أحسن ما كتب في هذا الشأن هو شرح العميدي، غير ان بعض مباحثه غير دخيل في الاجتهاد، وتحصيلها من المضيّع للعمر. فكانا يقرآنه عليه ويتركان تلك المباحث من البين» (روضات الجنات، ج2، ص291). ثم أن الخوانساري ذكر بعض تفاصيل الحادثة في محل آخر، ونقل انهما قرآ عند المولى الاردبيلي مدة قليلة قراءة توقيف من غير بحث. فقد كان جماعة من تلامذة الاردبيلي يقرأون عليه في (شرح مختصر العضدي) وقد مضى لهم مدة طويلة، وبقي فيه ما يقتضي صرف مدة طويلة اخرى حتى يتم، وهما اذا قرآ يتصفحان أوراقاً حال القراءة من غير سؤال وبحث، لذلك كان التلامذة يتبسّمون ويهزؤون بهما، فلما عرف منهم الاردبيلي ذلك؛ قال لهم: سترون عن قريب مصنفاتهما وأنتم تقرأون في شرح المختصر. فكان كما قال (نفس المصدر، ج7، ص52).

[35] عناية الأُصول، ج6، ص192.

[36] انظر: الجناتي، محمد إبراهيم: الإجتهاد في الشريعة الإسلامية وعصر الإستخدام الشامل، مجلة التوحيد، إيران، العدد 76، ص20 وما بعدها. كما انظر كتابنا: فهم الدين والواقع، طبعة مؤسسة الانتشار العربي.

comments powered by Disqus