-
ع
+

خطورة النهج البياني

يحيى محمد

تتجلى خطورة النهج البياني الصرف بمقولته الخاصة بالوضوح مع مبدأ التفصيل والشمول، أي القول بأن كل شيء في الكتاب والسنة بيّن وواضح دون أدنى ريب، وأنه سهل الفهم والإدراك، وإلا لم يصدق عليه أن يكون بياناً للناس كما يقول القرآن الكريم. فهذا المدعى جعل الكثير ممن يطلق عليهم اليوم بالسلفيين وممن لم يبلغوا درجة التخصص العلمي أو كانوا من متوسطي التعليم، وربما كانوا أقل من ذلك مرتبة، يدلون بآرائهم وإستنباطاتهم، تعويلاً على أن كل شيء في الكتاب والسنة واضح وشامل، وأن من له أدنى معرفة بأساليب الكلام العربي بإستطاعته فهم المراد، لأن الدين نزل للناس كافة، وأنه بيان للكل، حتى أن الأعرابي كان يفهم مراد ما يلقى عليه من الخطاب الديني، فكيف بغيره ممن تفتّح عقله وبصيرته. لكن هذا المدعى ولّد مشكلتين كبيرتين، إحداهما ما نطلق عليه «الفوضى الإستنباطية»، حيث كثرت الآراء التي تدعي النطق باسم الله والرسول، وحلّ الجدال والتضليل، وامتدت الفوضى إلى الجماعات التي تُعرف بالشباب السلفي.

واذا كان العلماء في السابق يشرطون شروطاً صعبة لمن يجوز له الإفتاء، ومن ذلك أن بعضهم يشترط حفظ مئات الألوف من الأحاديث كي تصح له الفتوى[1]، فإنها بنظر الكثير من السلفيين اليوم ليست لازمة، وأن الدليل حاضر بكفاية من يفهم النص فهماً عادياً حتى لو لم يكن له الوساعة والعمق. وبهذا المعنى فقد تجاوز هؤلاء الشروط التي أدلى بها السلف الأول وغيرهم ممن جاء بعدهم من البيانيين، إذ لم يدُرْ في خلد هؤلاء العلماء أن طريقتهم في الوضوح البياني سوف تسفر عن أن يدلي كل شخص بما يراه صحيحاً لمجرد اطلاعه على آية أو حديث، دون دراية بتعارض النصوص وأساليب الترجيح وغير ذلك من الأساليب التي يزاولها العلماء.

وواقع الأمر أننا نواجه في النهج البياني شيئاً من التناقض، ذلك أن مقالة الوضوح البياني تتعارض مع كثرة الآراء الواردة لدى البيانيين أنفسهم، فما من قضية إلا ولها أكثر من رأي وقول، سواء في الأصول أو الفروع، كالذي مر معنا خلال الفصول السابقة. كذلك فإن هذه المقالة تبعث ولا شك على ما أسميناه بالفوضى الإستنباطية، حيث أن الدليل الذي يعتمد عليه النهج البياني في الوضوح هو ذاته يسفر عن تلك الفوضى، فيسمح لغير العلماء أن يدلوا بدلوهم بدعوى هذه المقالة.

ومع أن مقالة الوضوح هذه كانت موضع إهتمام رواد الإصلاح الحديث؛ كمحمد عبده ورشيد رضا والكواكبي وغيرهم، لكن غرض هؤلاء هو غير غرض أصحاب النهج البياني، فقد وظّف كل من الطرفين هذه المقالة باتجاه مختلف، إذ عوّل المنهج البياني على النص الديني بكل تفاصيله وتشعباته وفقاً لمبدأ التفصيل الذي مرّ معنا، في حين عوّل رواد الإصلاح على الفهم المجمل للنص دون الدخول في التفاصيل والتشعبات التي أدانوها واعتبروها مصدر بلاء الأمة الإسلامية عبر القرون. ونستطيع القول أنهم اعتبروا مصدر التفاصيل عائداً إلى الواقع وليس البحث في طيات النصوص ومتاهات الروايات كالذي يزاوله أصحاب النهج البياني[2]. وبالتالي فإن مقالة البيان والوضوح لا تقتضي النهج البياني بالضرورة، للفارق بين البيان المجمل كما ندعو إليه ومن قبلنا رواد الفكر الإصلاحي، والبيان المفصل كما يدعو إليه النهج البياني[3].

أما المشكلة الأخرى فهي أخطر من الأولى، إذ تتعلق بثقافة التكفير والتضليل للمخالفين لأدنى إعتبار، وهي الثقافة التي تفتح الطريق أمام التشريع بالقتل وإباحة المحرمات، كما يشهد على ذلك واقعنا الحاضر.

فقد نتساءل لماذا تظهر هذه الثقافة لدى أصحاب البيان الصرف (السلفيين) أكثر من غيرهم من أصحاب المناهج الأخرى. وكذا لماذا تظهر الشدة والحدة في خطاباتهم السلفية؟ فهل أن طبيعة هذا النهج يدعو إلى مثل هذه الظاهرة؟

وكجواب على ذلك لا بد من العودة والإعتراف بما تتضمنه النصوص الدينية لمثل هذه الثقافة، لكونها نزلت في واقع مليء بصفات الشر من الكفر والعداء والطغيان. وقد انعكس هذا الأمر على النهج البياني بإعتباره قائماً على مبدأ الوضوح والتفصيل. لكن إذا كان الأمر في النص الديني مبرراً كما أسلفنا، فإن الحال في النهج البياني مختلف، إذ لا يمكن تطبيق الحكم ذاته ما لم تتماثل الشروط الواقعية التي كانت في عصر النص وفقاً لمقاصد التشريع، وهو ما لم يعمل به النهج المذكور، لتجريده النص عن الواقع وتغييبه لتلك الشروط وفقاً للفهم الماهوي. وبعبارة أخرى أنه حوّل جزئيات النص إلى كليات عامة ومن ثم أسقطها على مختلف الأحوال والظروف دون إعتبار لتغايرات الواقع وتجدداته. أو أنه قام باستنساخ الأحكام وملابساتها وطبّقها على واقع شديد المغايرة. وهي نقطة جديرة بالدراسة والإهتمام[4].

وعلى العموم إن أشد المناهج المعرفية حدة وتكفيراً هو النهج البياني الصرف للسبب المذكور، في حين أن أقلها حدة هو ما نجده لدى النظام الوجودي للفلاسفة والعرفاء، لكونه لا يستند إلى الإعتبارات القيمية كما عليه النظام المعياري، لذا فهو يكثر من (الخطاب التجهيلي) لإعتبارات ما يستند إليه. فهو يُجهّل المخالفين دون تضليل أو تكفير، سواء كان التجهيل لإعتبارات الإمكانات العقلية كالذي عليه الفلاسفة، أو لإعتبارات الحجب القلبية كالذي عليه العرفاء.



[1]  سئل إبن معين: أيفتي الرجل من مائة ألف حديث؟ قال: لا، وتكرر السؤال: من مائتي ألف.. من ثلاثمائة ألف؟ قال لا، فسئل: من خمسمائة ألف؟ فقال: أرجو (الخطيب البغدادي: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، شبكة المشكاة الإلكترونية، ج2، فقرة 1525. وطبقات الحنابلة، ج1، مادة: الحسن بن إسماعيل بن الربعي، ومادة: الحسين بن إسماعيل).

[2]  لاحظ بهذا الصدد: القطيعة بين المثقف والفقيه، ص62ـ66.

[3]  أنظر حول ذلك الفصل الأخير: فهم الدين والواقع.

[4]  أنظر بهذا الصدد القسم الأول من: جدلية الخطاب والواقع.

comments powered by Disqus