-
ع
+

نظرة تاريخية حول التمايز بين الفلسفة والعرفان

يحيى محمد

لا نشك بأن الرؤية الفكرية التي أسسها الوجوديون خلال العهود الإغريقية والرومانية والإسلامية تنبع من مصدر مشترك واحد هو ما نطلق عليه قانون الأصل والشبه أو السنخية. لكن رغم ذلك فالملاحظ أن هناك طريقتين مختلفتين للتفكير، كما أن هناك فهمين متباينين لذلك المصدر الذي تنبع منه الرؤية وتتم به آلية الإنتاج المعرفي. فثمة دائرة تفكير فلسفية قائمة على العقل، كما توجد دائرة ذوق عرفانية تتخذ القلب محوراً لها للكشف والشهود. وليس هذا التمايز وليد عهد الحضارة الإسلامية، إذ نجده واضحاً في العهدين الإغريقي والروماني. ولو أخذنا بعين الإعتبار ما كانت عليه الحضارات القديمة الأخرى؛ لبدا أن السلوك العرفاني سابقاً للنظر الفلسفي. أما في العهد الإغريقي، فمن المعروف أن إنتهاء ازدهار العقل الفلسفي كان مع أرسطو، ومن ثم أخذ الميل بعده يتجه نحو السلوك العرفاني، سيما مع ظهور موجة الشك التي حوّلت الدفّة من العقل والتفكير إلى القلب والوجدان. فقد ساد الشك والتوفيق والعرفان مدة طويلة امتدت خلال فترة تقارب عشرة قرون، اطلق عليها العصر الهيلنستي، منذ القرن الرابع قبل الميلاد وحتى القرن السابع بعده. وازدهر العرفان خلال القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد حيث ظهور الهرمسية وانتشارها. وهناك نص هرمسي يعيب صراحة طريقة العقل الفلسفية في التفكير ويراها عديمة الجدوى. وهو عوضاً عن هذا الفضول العقلي يدعو إلى تفريغ القلب بالعبادة والشكر[1]. وعلى ما يقوله الباحث الفرنسي المختص بدراسة الهرمسية (فيستوجير) بأن علماء تلك الحقبة «لم يعودوا يرغبون في البراهين، فلقد كانوا يريدون أن يؤمنوا... لقد كانوا يبحثون عن الوحي والالهام النبوي. ذلك لأنه لما كان الله هو وحده الذي يُحسن الكلام عن نفسه فإنه من الضروري توجيه السؤال إليه. ولا فرق بين أن يجيبك شخصياً بواسطة أحد العرافين أو يكلمك خلال رؤيا ينعم بها عليك، وبين أن تصدق برسله الذين كانوا على اتصال به في ماض سحيق والذين سجلوا في كتب مقدسة ما أخذوه منه». لذلك كان إتجاه الأنظار نحو بلاد الشعوب الشرقية «التي تتصل بصورة أكثر نقاء، وبكيفية مباشرة تماماً، مع تلك البلاد... التي يحتفظ كهنتها في معابدهم القديمة، مع حرص شديد، بأسرار عجيبة، ويلفظون بأصوات لها قوة التأثير فتمارس سلطة سحرية بمجرد النطق بها. والأمثلة كثيرة على رواج هذا الميل إلى التصوف وطلب النبوة خلال القرون الأولى للميلاد»[2].

وقد كان شيخ الافلوطينية نومينيوس يذكر بأن الاتصال بالله لا يأتي إلا بمجهود متواصل لتطهير النفس عبر المعرفة، معرفة النفس وأصلها، إلا أن هذه المعرفة ليست بالاستدلال واستعمال الرموز والإشارات، بل هي «المعرفة التي قوامها الانفصال عن كل شيء والتحرر من كل شيء، المعرفة التي هي عبارة عن رؤية مباشرة يتحد فيها الرائي والمرئي إتحاداً تاماً»[3].

هذا هو الفاصل بين طريقة العقل وطريقة العرفان. وهو فاصل لا يحدد طريقة مصدر المعرفة إن كان مستمداً من القلب أو العقل فقط، بل ويحدد رؤية هذه المعرفة ومضامينها أيضاً، بالرغم من أن الأصل الفعال المنتج لهذه الرؤية والمضامين هو أصل مشترك يتمثل بما سبق نطلق عليه قانون الشبه والسنخية. فالإتحاد الذي يقرّه العرفاء، كنتاج معرفي قائم على علاقة الشبه، لا يقرّه الفلاسفة، وذلك لإختلاف فهمهم المتعلق بطبيعة العلاقة الوجودية التي تؤصرها آصرة الشبه ذاتها.

وإذا كان العرفان - كتنظير - جاء كرد فعل على الفلسفة، فإن حقيقته لم تكن بصدد القضاء عليها، بل لأجل تصحيح المعرفة الناشئة عنها وتحقيق كمالها. لذلك جاء في نص هرمسي يقول: «سآتيك بنبأ هو من قبيل الوحي فأقول لك أنه لن يقوم بعدنا أي حب خالص للفلسفة، الفلسفة التي تجعل شغلها الوحيد معرفة الله على وجه أفضل، بالاستغراق في التفكر والخشوع والقيام بالشعائر المقدسة. ذلك أن كثيراً من الناس قد بدأوا فعلاً في افسادها بجميع أنواع السفسطة... أنهم يخلطونها بعلوم عديدة عصيّة على الفهم كالحساب والموسيقى والهندسة. لكن الفلسفة الخالصة، الفلسفة التي لا تهتم إلا بالتدين والعبادة، لا ينبغي لها أن تشغل نفسها بالعلوم الأخرى إلا بمقدار ما تكون... شبه المدخل إلى تأمل وتقديس ومباركة صنع الله وقدرته... تلك هي الفلسفة التي لا يدنسها أي فضول سيء للعقل»[4].

فبحسب هذا المنظار أن العقل الفلسفي ليس جديراً باشباع المعرفة والتعبير عن كنهها، فهو قاصر عن إدراك الحقيقة والإتحاد معها والتذوق بها وتحصيل السعادة عندها. ومع ذلك فإن العرفان لم يأتِ ليبطل هذه الفلسفة وينفض يده عنها، بل جاء ليصحح مسارها ويتمم رؤاها. وهو الحال الذي تكرر داخل الثقافة الإسلامية، حيث لم يكن التمايز بين العرفان والفلسفة تمايزاً ضدياً. ففي الغالب أن الفيلسوف لا يخلو من عرفان، كما أن العارف لا يخلو بدوره من فلسفة. فهذه الوجهة التوفيقية هي التي سادت لدى الوجوديين في الحضارة الإسلامية، حتى نُظّر لها مؤخراً ضمن خط ما يسمى بخط الإشراق الذي تولى طريقة الجمع بين الفلسفة والعرفان؛ لا غنى لأحدهما عن الآخر، كما هو الحال عند السهروردي وأتباعه إلى يومنا هذا.

وربما كان السبب الأساس الذي جعل أغلب وجوديي الحضارة الإسلامية ينضوون تحت لواء الخط الإشراقي، هو أنهم يتبنون أصلاً مولداً واحداً تتأسس عليه عملية الإنتاج المعرفي وتكوين الرؤى والمضامين الوجودية. فهذه الوحدة تجعل من الفيلسوف أو العارف قادراً على أن يمثل دور الآخر في الوقت نفسه، وبالتالي يصبح من الطبيعي أن يكون كل فيلسوف عارفاً، وكل عارف فيلسوفاً. فكلاهما يعالجان موضوعاً واحداً هو الوجود العام، وهما كثيراً ما يستخدمان الأداتين من التفكير (العقل والقلب)، كما أن دينامو التفكير لديهما ذو طبيعة مشتركة تتمثل بقانون الشبه والسنخية، وهو ما يفسر لنا علة التشابه في الرؤية التي يؤسسها الوجوديون، سواء كانوا فلاسفة أم عرفاء، وكذا علة القدرة على التنظير في الجمع بين الطريقتين.

 



[1]  لاحظ النص في: تكوين العقل العربي، ص167

[2]  المصدر السابق، ص168.

[3]  المصدر السابق، ص172.

[4]  المصدر السابق، ص167.

comments powered by Disqus