-
ع
+

قانون السنخية ومطابقة العقل والكشف للوجود

يحيى محمد

تقوم الفلسفة أساساً على أداة التفكير العقلي في الكشف عن علاقات الوجود تبعاً لنظام الأسباب والمسببات. ويعدّ هذا النظام حجر الزاوية التي تتأسس عليه الفلسفة، ليس لأنه موضوعاً دراسياً يمارس فيه العقل قراءته الخاصة فقط، بل الأهم من ذلك هو أنها تراه عين العقل من غير إختلاف. وهذا يعني أن هناك نوعاً من الإتحاد بين القارئ والمقروء.

إذ ترى الفلسفة الوجود مرتباً ترتيباً سببياً تحدده الطبيعة العقلية لدى مبدأ الوجود الأول؛ تبعاً لقانون الشبه والسنخية. فمثلما أن للمبدأ الأول طبيعة عقلية، فكذا أن ما يصدر عنه من معاليل يحمل هذه الطبيعة أيضاً، إذ تتدرج بالنزول إبتداءاً من العقول المفارقة المعبّر عنها بالصور الإلهية حتى تنتهي إلى العقل الفعال الأخير المعبّر عنه بواهب الصور لدى المشائين، أو العقول العرضية لدى الإشراقيين، فبهذه الأخيرة أو بذاك تتمظهر العناصر المادية بتشكلات الصور المختلفة، سواء كانت جمادية أو نباتية أو حيوانية أو بشرية. إذ تُعتبر حتى الصور المادية رتبة من مراتب تنزلات العقل، أو هي - كما يُعبّر عنها - عقل مغشّى بالمادة. فهذا الترتيب العقلي للوجود ككل واقع بين الأسباب والمسببات لا غير، وبالتالي فإن النظام السببي في العالم يحكي ويتبع نظام العقول المفارقة، وهي تستمد نظامها ووجودها من ذات المبدأ الأول. فعلى حد قول إبن رشد بأن «نسبة الوجود المحسوس من الوجود المعقول هي كنسبة المصنوعات من علوم الصنائع»، وكذا «النظام في الموجودات إنما هو شيء تابع ولازم للترتيب الذي في تلك العقول المفارقة» الصادرة عن العقل الإلهي[1].

وإذا كان الوجود كله عبارة عن نظام عقلي قائم على الأسباب والمسببات، فإن العقل القارئ له سوف لا يكون أكثر من هذا النظام ذاته. وهو المعنى الذي التزم به إبن رشد صراحة، فاعتبر العقل عبارة عن إدراك نظام الأسباب والترتيب في الأشياء، فقال: «إن العقل ليس هو شيء أكثر من إدراك الموجودات بأسبابها وبه يفترق عن سائر القوى المدركة، فمن رفع الأسباب فقد رفع العقل»[2]، وإن النفس «هي بالقوة جميع الموجودات»[3]. فالعقل البشري يتبع ما يدركه من الترتيب والنظام للموجودات. فحينما تتجرد الصور المادية في النفس عند الإدراك تصير علماً وعقلاً. وحيث أن معقولات الأشياء هي حقائق هذه الأشياء، وكان العقل ليس أكثر من إدراك المعقولات، لذا فالعقل البشري هو المعقول بعينه من الموجودات. لذلك فيه شبه بالعقل المفارق الذي وهبه، فما من صفة ناقصة إلا وهي موجودة له من قبل بشكل أكمل[4]، طبقاً لقاعدة (الإمكان الأشرف).

هكذا فالوجود كله عبارة عن عقل متفاوت الكمال، والعقل كله عبارة عن وجود، وهو عين النظام السببي. وبالتالي فهما متطابقان، إذ ما من موجود إلا وهو عقل، وما من عقل إلا وهو وجود. لكن حيث أن هناك تفاوتاً بين مراتب الوجود أو العقل، فالذي يحدد التطابق بينهما هو قانون الشبه والسنخية. وهو أمر يصدق حتى على مستوى الأحكام والبراهين والقوانين، إذ لا مبرر غيره يحكم مثل هذه العلاقة. وعليه فالمعتبر لدى الفلاسفة - كما هو الحال عند إبن سينا - أن حدس المبادئ العقلية متوقف على العلاقة بالعقل الفعال، فهذا الأخير هو الذي يرسم الصور الذهنية في النفس بترتيب يشتمل على الحدود الوسطى أو البراهين[5]. وأن هذا الترتيب بين المقدمات والنتائج كما يتضمنها البرهان المنطقي يعكس ما عليه علاقة الوقائع في الوجود، أي أن لكل منهما لوازمه، ويكون البرهان المنطقي صورة مستنسخة عن الوجود.

ومثل ذلك ما قرره الغزالي من أن الحد الأوسط في القياس يحصل على ضربين بالحدس والتعلم. والحدس هو فعل الذهن يستنبط بذاته الحد الأوسط. أما ما يبتدئ بالتعلم فينتهي لا محالة إلى الحدس. وأن الحدس ينتج عبر الاتصال بالعقل الفعال الذي ترتسم فيه صور الأشياء مع الحدود الوسطى والبراهين اللائحة والدلائل الواضحة، وكل ذلك تكتسبه النفس البشرية من خلال الاتصال بالعقل الفعال[6].

لكن ليس لهذا التفسير من تبرير سوى الارتكاز على قانون السنخية كمصدر يحدد التطابق بين ما يحصل في النفس من صور ذهنية من جهة، وبين ما يحمله العقل الفعال من صور جميع الموجودات. وهو ما يعني التطابق بين الذهن والوجود الخارجي الذي يحدده العقل الفعال، ومن ثم فالذهن يرى ذاته في الوجود.

فقد توصل الفلاسفة إلى تلك المطابقة بعد أن رأوا ما يجري في الطبيعة بأنه على شاكلة ما يجري في النظام العقلي من إعتبارات السببية. وعلى حد قول إبن رشد بأن الفلاسفة القدماء «وقفوا على أن ههنا موجوداً هو عقل محض، ولما رأوا أيضاً النظام ههنا في الطبيعة وفي أفعالها يجري على النظام العقلي الشبيه بالنظام الصناعي علموا أن ههنا عقلاً هو الذي أفاد هذه القوى الطبيعية أن يجري فعلها على نحو فعل العقل، فقطعوا من هذين الأمرين على أن ذلك الموجود الذي هو عقل محض هو الذي أفاد الموجودات الترتيب والنظام الموجود في أفعالها. وعلموا من هذا كله أن عقله ذاته هو عقله الموجودات كلها»[7].

ويمتد أثر السنخية عند الفلاسفة أحياناً حتى على العلاقة التي تربط اللغة بالمعاني، والمعاني بالوجود الخارجي. فعند الفارابي أن الألفاظ تحاكي المعاني، وأن المعاني تحاكي الأشياء في الطبيعة[8].

على أن التطابق بين الوجود والعقل إنما يفسره القانون الآنف الذكر حتى على مستوى المفهوم العرفاني للوجود. فوحدة الوجود العضوية تجعل من العقل والوجود الخارجي كلاً منهما عين هذه الوحدة، فهما بالتالي مظهران لوجود واحد يختلف بإختلاف الشبه والسنخية. وهو مفهوم أثّر حتى على الفلسفة الحديثة. فالفيلسوف العقلي اسبينوزا، وانطلاقاً من هذا المفهوم، نقد ديكارت لمحاولته الفصل بين قوانين الطبيعة وقوانين العقل عبر الإرادة الإلهية. فقد أرجع ديكارت كلاً من الطبيعة والعقل إلى جوهرين مختلفين تماماً؛ هما الفكر والإمتداد، ومن ثم اضطر إلى أن يصحح المعرفة اليقينة بالمطابقة بينهما عبر الإرادة الإلهية، فنقده اسبينوزا على ذلك، معتقداً بوجود جوهر واحد ووحيد، وما عداه إما أن يكون صفة له؛ كالفكر والإمتداد، أو حالاً يتجلى فيه؛ كالحركة والجسمية، وبالتالي فهو يجعل من العقل والطبيعة وقوانينهما تعبر جميعاً عن حقيقة واحدة لا غير[9].

وسبق للغزالي أن أشار إلى أن ما يحصل من تفجير العلم الكشفي بصورة ذاتية بعد رفع طبقات الحجب هو من عجائب أسرار القلب الذي لم يسمح بذكره في علم المعاملة إلا بالقدر الممكن.. لكن ما قصد إليه حقيقة هو تأسيس الرؤية الوجودية الكشفية طبقاً لقانون الشبه والسنخية. فهو يرى أن الصور الموجودة في القلب متطابقة تماماً مع ما موجود من صور في اللوح المحفوظ، حيث أن هذا الأخير يحوي صور كل موجود، وهو كمرآة يقابل مرآة القلب، مما يجعله يفيض عليه بما فيه من صور. وعلى نحو التفصيل فهو «أن حقائق الأشياء مسطورة في اللوح المحفوظ، بل في قلوب الملائكة المقربين. فكما أن المهندس يصور أبنية الدار في بياض، ثم يخرجها إلى الوجود على وفق تلك النسخة، فكذلك فاطر السماوات والأرض كتب نسخة العالم من أوله إلى آخره في اللوح المحفوظ ثم أخرجه إلى الوجود على وفق تلك النسخة، والعالم الذي خرج إلى الوجود بصورته تتأدى منه صورة أخرى إلى الحس والخيال... والحاصل في القلب موافق للعالم الحاصل في الخيال، والحاصل في الخيال موافق للعالم الموجود في نفسه خارجاً من خيال الإنسان وقلبه، والعالم الموجود موافق للنسخة الموجودة في اللوح المحفوظ. فكأن للعالم أربع درجات في الوجود، وجود في اللوح المحفوظ، وهو سابق في الوجود على وجوده الجسماني، ويتبعه وجوده الحقيقي. ويتبع وجوده الحقيقي وجوده الخيالي، أعني وجود صورته في الخيال. ويتبع وجوده الخيالي وجوده العقلي، أعني وجود صورته في القلب. وبعض هذه الوجودات روحانية وبعضها جسمانية، والروحانية بعضها أشد روحانية من البعض... فإذاً للقلب بابان، باب مفتوح إلى عالم الملكوت وهو اللوح المحفوظ وعالم الملائكة، وباب مفتوح إلى الحواس الخمس المتمسكة بعالم الملك والشهادة، وعالم الشهادة والملك أيضاً يحاكي عالم الملكوت نوعاً من المحاكاة». فإذاً الفرق بين علوم الأولياء والأنبياء من جهة، وبين علوم العلماء والحكماء من جهة أخرى، هو أن علوم الأولياء والأنبياء تأتي من داخل القلب من الباب المفتوح إلى عالم الملكوت، وعلم الحكماء يأتي من أبواب الحواس المفتوحة إلى عالم الملك[10].

كما أن القونوي هو الآخر سار بنفس الإتجاه الذي سار عليه الغزالي. فإستناداً إلى منطق السنخية جعل هذا العارف من علم الإنسان بنفسه عبارة عن علمه بجميع الأشياء، معتبراً ذلك من المضاهاة بينه وبين الحق تعالى، لأن الإنسان هو نسخة مصغرة للوجود كله، إذ تنجمع في ذاته جميع العوالم الإلهية والكونية، بإعتباره مرآة الوجود بكامله، ففيه يُرى كل شيء موجود في العالم العلوي، المجمل منه والمفصل. لهذا فهو يعلم جميع الأشياء بعلمه بذاته دون حاجة للنظر إلى الخارج[11].

وينسب القونوي وغيره من الوجوديين أبياتاً من الشعر إلى الإمام علي تؤيد ما سبق ذكره، فينقل أنه القائل:

داءك فيك وما تشعر              دواؤكَ منك وما تبصر

وتزعم أنك جرم صغير           وفيك انطوى العالم الأكبر

وأنت الكتاب المبين الذي          بأحرفه يظهر المضمر

فلا حاجة من خارج              وفكرك فيك وما تفكر

هكذا يظهر بأن مبدأ العرفان يتأسس على فكرة المطابقة بين القلب والوجود تبعاً لمنطق علاقة الشبه والسنخية، كالذي رأيناه لدى الغزالي في محاكاته بين مرآة القلب واللوح المحفوظ. وهو يماثل ما رأيناه من تطابق العقل والوجود في الفلسفة تبعاً لذات المنطق من العلاقة المذكورة. وبالتالي فسواء في العرفان أو الفلسفة تتطابق الأداة بما تحمله من رؤية معرفية مع ما يقابلها من الموضوع الخارجي المتمثل بالوجود؛ طبقاً للمولّد المعرفي المشترك والمتمثل بقانون الشبه والسنخية.

 

 



[1]  تهافت التهافت، ص215ـ216 و339.

[2] تهافت التهافت، ص522 و339.

[3]  المصدر السابق، ص506.

[4]  نفس المصدر، ص338 ـ342 و 215.

[5] إبن سينا: الشفاء، المقالة الخامسة من كتاب النفس، طبعة جامعة اكسفورد، 1959م، ص249ـ250.

[6]  الغزالي: معارج القدس في مدارج معرفة النفس، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ ـ1988م، ص142ـ144.

[7]  تهافت التهافت، ص435.

[8]  الفارابي: كتاب الحروف، عن الموسوعة الحرة الإلكترونية: http://ar.wikipedia.org ، ص29ـ30.

[9]  يوسف كرم: تاريخ الفلسفة الحديثة، دار المعارف بمصر، 1957م، ص150.

[10]  إحياء علوم الدين، ج3، ص16ـ17. وكيمياء السعادة، ضمن رسائل الجواهر الغوالي، ص14. كذلك: الحقيقة في نظر الغزالي، ص126 ـ127.

[11]  مرآة العارفين، ص21ـ22.

comments powered by Disqus