-
ع
+

الكشف ومجالات الرؤية العرفانية

يحيى محمد 

تتناول الرؤية المعرفية التي تُنشئها أداة الكشف لدى العرفاء عوالم ثلاثة مختلفة، هي علوم الحس والفيزيقا، وعلوم الغيب والميتافيزيقا، كذلك علوم الدين والشريعة.

وطبقاً لإبن عربي فإن مكاشفات الأولياء التي تؤسس تلك الرؤية تبدأ بعالم الحس والشهادة. ففي إبتداء السلوك العرفاني ينكشف للمريد أول الأمر بعض الكشوفات الحسية، كإن يشاهد رجالاً أو أشياء في بلاد وأماكن نائية عنه، بحيث ليس بمقدور غيره في العادة أن يرى ذلك ما لم يكن من أصحاب الكشف[1].

ومن أمثلة هذا النوع من الكشف ما حكاه الغزالي عن الجنيد قوله: مرض استاذنا السّري، فلم يعرف لعلته دواء ولا سبب، لكن وصف إلينا طبيب حاذق فطلب منا قارورة من بوله وأخذ ينظر إليها ملياً، ثم قال لي: «أراها بول عاشق». قال الجنيد: فصعقت وغشي عليّ ووقعت القارورة من يدي. ثم رجعت إلى السّري فأخبرته، فتبسم، ثم قال: قاتله الله ما أبصره، قلت يا استاذ: أو تبيّن المحبة في البول؟ قال: نعم[2].

وضمن هذا النوع من الكشف أشار إبن عربي إلى أن العرفاء يرون ويسمعون أي شيء في عالم الشهادة؛ حتى شكوى الجوارح البدنية والنفوس، بل حتى أنهم يرون في المداد الذي في الدواة جميع ما فيه من الحروف والكلمات والصور قبل أن يكتبها الكاتب أو يرسمها الرسام[3]. وعنده أن علم الحروف هو علم الأولياء، إذ يتعلمون ما أودع الله في الحروف والأسماء من الخواص العجيبة التي تنفعل عنها الأشياء لهم في عالم الحقيقة والخيال[4].

على أن هذا الكشف الواسع والشامل لمختلف أمور عالم الحس والشهادة يبعث على أن يكون للعرفاء علوم متميزة خاصة بالطبيعة يضمنونها أسرار كشوفاتهم الطبيعية، لهذا وعد العارف الجندي بأنه سيفرز كتاباً يتضمن معرفة أسرار الطبيعة وعلم الفلك على ذوق أهل الحقيقة. فقد اعتبر ما تعارف عليه لدى متأخري الحكماء ليس موافقاً لمقتضى «الحقايق والكشف والشرع والبراهين»[5].

لكن مهما كانت قيمة هذا النوع من المكاشفات فإنه في النتيجة لا يعدو أن يكون أكثر من نقطة انطلاق العارف أو المريد. فالشاغل الذي يحرك همته كهدف وغاية هو مكاشفة عالم الغيب والميتافيزيقا. فالعالم الغيبي هو الهدف الرئيس من دخول السالكين إلى طريق العرفان والتصوف. فالذي يستحوذ على قلب العارف ويهتمّ به أساساً؛ هو المعرفة الخاصة بجوهر الوجود وأسراره الغيبية، كالإطلاع على العالم الإلهي ومراتبه وتنزلاته والعلاقات التي تسود بين هذه المراتب والتنزلات. فلمثل هذه الأمور تنشأ المباطنة والغنوص.

ولا يتوقف أمر المكاشفات على عالمي الحس والغيب، فهناك عالم ثالث يمتاز به عرفان الحضارة الإسلامية، وهو عالم الشرع والتشريع، بما يتضمنه من اطلاع وتصحيح للأخبار والأحاديث النبوية بالصيغة التي يذكرها العرفاء عمن «نظر إلى ربه.. فقال حدثني قلبي عن ربي»، أو «عن قلبي عن ربي أن رسول الله قال»[6]. وهي طريقة تختلف كلياً عن طريقة علماء الرسوم (الفقهاء) كما شخصها أبو يزيد البسطامي وهو يخاطبهم قائلاً: «أخذتم علومكم من ميت عن ميت، وأخذنا علومنا من الحي الذي لا يموت». وعلّق إبن عربي على هذا الحكم للبسطامي؛ معتبراً أن من يأخذ العلم من الغير فحكمه لا شيء، إذ «ليس للعارف معوّل غير الله البتة»[7].

بل المتعارف عليه لدى العرفاء هو حرمة إتّباع طريقة علماء الرسوم في الواسطة والعنعنة الرجالية لكل من بإستطاعته الكشف بدونها، حتى أن البعض يراها من مكايد الشيطان على العارف، وصوّر هذا المعنى بقوله: «كنت أجاهد في الله، فجاء ابليس لتشويش عليّ الخلوة والمجاهدة، وقال: إنك رجل عالم متبع آثار رسول الله (ص)، فلو اشتغلت لطلب الآثار عن المشايخ الحفّاظ وأحاديث الرسول (ص)، كان خيراً لك من هذا. ولو بقيت في المجاهدة يفوت عليك الأسانيد العالية من المشايخ الكبار. فكدت أزيغ بوسوسته، فهتف لي هاتف: ومن يسمع الأخبار من غير واسطة، حرام عليه سماعها بواسطة. وتذكرت قول الشيخ محمد بن الحسين السلمي في آخر عمره: استغفر الله تعالى من علومي ومن زخارف الدنيا. فعلمت أن هذا الخاطر من وساوسه فنفيته وانتبهت»[8].

وللعرفاء طرق شتى للوصول إلى أحكام الشرع وأقوال الرسول وجبريل والله تعالى. فهم يصححون الأحاديث من غير سند، كما ويأخذون الوحي عن جبريل أو من خلال سؤال يسألونه للنبي ليعرف صحة الحديث عن كذبه. لذلك فعلى ما يذكره إبن عربي أنه قد يصح عند أهل الكشف من أحاديث الأحكام ما اتفق على ضعف الحديث وتجريح نقلته، لكنهم مع ذلك يعدونه صحيحاً بأخذه عن قائله بطريقة الكشف. وأيضاً ربما كان علماء الرسوم قد صححوا حديثاً بإسناد متسلسل من عدل إلى عدل، واتفقوا عليه بالصحة، وهو في حقيقته ليس بصحيح عند أهل الذوق من خلال الكشف[9].

وكما يذكر الجندي بأن عملية الكشف في تصحيح الأحاديث تتم بأن يحضر العارف - المتمثل بالخليفة الكامل - ليصحح الأحاديث في الحضرة الإلهية، إذ يجتمع بالرسول (ص) من حيث روحه في برزخه، أو تنزل إليه روح الرسول أو الحق مع الرسول، فيأخذ الحكم عن الله تعالى، أو أنه يسأل الرسول عن صحة الحديث فيصحح له الرسول ما صحّ ويعرض عما لم يصح، وبذلك يتحقق للعارف بالكشف ما صحّ من الأحاديث وما لم يصح من غير إعتماد على علم الإسناد والعنعنة الرجالية[10].

ولدى إبن عربي أن هناك سبيلين للإجتهاد، أحدهما لأهل الرسوم، والآخر لأهل الكشف. ويتم الإجتهاد لأهل الكشف عبر تصفية النفس وتزكيتها وتحليتها بالخلق الحميدة وتخلقها بالخلق الربانية وتهيؤها وإستعدادها لقبول العلوم من الله، فإذا صفى المحل بهذا النوع من التصفية لاح للسالك علم الحق في مسائل الأحكام، مثلما يلوح إجتهاد المسائل عند الفقهاء وعلماء الرسوم[11]. وعلى رأيه أنه لا يصح القياس في الفقه لدى العرفاء الذين يأخذون الحكم عن النبي مباشرة، لذا حسِب نفسه لا ينتمي إلى مذهب من المذاهب المعروفة وإنما هو مع الرسول الذي يشهده[12].

وهناك من قام بتفسير القرآن بالاستفادة كلياً من الأخبار والأحاديث، لكن بلا حاجة للعنعنة والأسانيد، وإنما اكتفى بالنظر في المتون معوّلاً على الإعتماد عما يلقى في النفس من إشراق رباني يميز الحديث الصحيح عن الكاذب، كما هو الحال مع العارف الإخباري الفيض الكاشاني[13].

تلك هي عوالم الكشف الثلاثة عند العرفاء. وكما لاحظنا أنها تتضمن وسعاً وشمولاً مفتوحاً. لكن لا يعني ذلك أنها تستحوذ بالضرورة على أمر كل شيء، فمهما بلغ الكشف من القدرة والقابلية على الإمتداد؛ لا يمكنه أن يطول جميع الأشياء. فهناك مسائل يعجز العارف عن تحصيلها لأسباب مختلفة. ومن هذا القبيل اعترف إبن عربي بموارد لا علم له بها عن طريق الكشف، كالعلم بمدة الشقاء في النار، مما جعله يترحّم على عبد يطلعه ربه عليها فيلحقها في كتابه (الفتوحات المكية)[14]. وهو كتاب عدّه صاحبه بأنه ثمرة من ثمار الكشف، إذ قال في حقه: «.. فو الله ما كتبت منه حرفاً إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني ونفث روحاني في روع كياني..»[15].

واذا كان العارف يعسر عليه أن يطول المساحة الأفقية من مجالات الرؤية الكشفية كما لدى إبن عربي، فإن ما أشار إليه الغزالي من قبل هو عجز العارف عن الوصول إلى كل الأبعاد السحيقة من المساحة العمودية للرؤية الكشفية. فعنده أن «المشاهدة وإن كانت أسمى من الاستدلال إلا أنها ليست كشفاً تاماً يزول معه كل حجاب». فهو يرى أن الموت هو الذي يكشف عن الحقيقة الكاملة فتصير النفس - بعد يقظتها من نومها في الدنيا - أهلاً «لمشاهدة صريح الحق كفاحاً وقبل ذلك لا تحتمل الحقائق إلا مصبوبة في قالب الأمثال الخيالية». وبالتالي فالحقيقة في الدنيا لا تتكشّف كلياً، سيما وأن الغزالي يعد العقل محجوباً، سواء عند العلماء أو عند أهل الكشف أنفسهم[16].

 



[1]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص178.

[2] كسر اصنام الجاهلية، ص72.

[3]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص180ـ181.

[4]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص203.

[5]  شرح فصوص الحكم للجندي، ص324.

[6]  رسالة إلى الإمام الرازي، ضمن رسائل إبن عربي، ج1، ص4ـ5.

[7]  المصدر السابق، نفس الصفحة. كما لاحظ أيضاً: الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص186. ومفاتيح الغيب، ص43.

[8]  كسر أصنام الجاهلية، ص73ـ74.

[9]  كتاب الفناء في المشاهدة، من رسائل إبن عربي، ج1، ص4.

[10]  شرح الفصوص للجندي، ص553ـ554.

[11] كتاب القربة، من رسائل إبن عربي، ج1، ص5.

[12]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص181. لكن الغريب ما قاله بعض الحفّاظ في إبن عربي، وهو أنه «كان ظاهري المذهب في العبادات، باطني النظر في الإعتقادات» (أحمد بن محمد المقري التلمساني: نفح الطيب، عن موقع الغريب الإلكتروني http://www.ghrib.net، ج2، فقرة: الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي. كذلك: أبو زهرة: تاريخ المذاهب الإسلامية، ص596).

[13]  الفيض الكاشاني: تفسير الصافي، تقديم وتصحيح وتعليق حسين الاعلمي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ببيروت، الطبعة الأولى، 1979م، ج1، ص13ـ14.

[14]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، ص194ـ195.

[15]  الفتوحات المكية، ج3، ص456.

[16] انظر بهذا الصدد كلاً من: جواهر القرآن، ص32. وإحياء علوم الدين، ج3، ص15. ومشكاة الأنوار، ضمن رسائل الجواهر الغوالي، ص116. كذلك: الفلسفة الصوفية في الإسلام، ص613. ودراسات في الفلسفة الإسلامية، ص70.

comments powered by Disqus