-
ع
+

العرفاء والمفاضلة بين الكشف والتفكير العقلي

 

يحيى محمد

يعتبر المنهج العرفاني منهجاً ذوقياً، فهو قائم على تذوق طعم المعرفة؛ مثلما يتذوق الحيوان طعم الأشياء. ففي هذا المنهج يكون التحسس بموضوع المعرفة مباشراً؛ بما يطلق عليه العلم الحضوري. وهو خلاف ما يحصل في حالة التفكير العقلي الذي يجرد الصور من موضوع المعرفة ويؤسس لها علماً خاصاً هو العلم الحصولي الذي ميزته أنه عبارة عن إدراك غير مباشر للموضوع.

فمن العرفاء الذين ميزوا بين العلمين وفاضلوا بينهما الإمام الغزالي، معتبراً أن نسبة علم الذوق إلى علم العقل هي كنسبة الروح القدسي النبوي إلى الروح العقلي. فبهذا الروح الأخير «يدرك المرء المعاني الضرورية البديهية، أما الروح النبوي فهو الذي يختص به الأنبياء وبعض الأولياء»، لذلك فهو يؤكد بأن «من ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيّق رحمة الله الواسعة»[1]. بل أكثر من ذلك يرى أن الذوق فوق العلم، إذ الذوق وجدان وإحساس، والعلم قياس واستدلال[2].

كما أن إبن عربي هو الآخر قد مايز وفاضل بين الذوق والعلم العقلي، وذلك من خلال تقسيمه للعلم إلى أقسام ثلاثة: علم العقل وعلم الأحوال وعلم الأسرار. فالأول هو كل علم يحصل ضرورة، أو بعد تفكير ونظر في الدليل، بشرط أن يعرف دليله. ومن الدليل ما هو صحيح، ومنه ما يشابهه من الأدلة الفاسدة. أما علم الأحوال فيتحقق من خلال الذوق، إذ لا يمكن إدراك هذه الأحوال بالدليل، كالعلم بحلاوة العسل ومرارة الصبر ولذة الجماع والعشق والوجد والشوق... الخ. فهذه العلوم لا تعلم إلا بالاتصاف بها وتذوقها، كما أن الكلام عنها «لا يحتمل البسط وتكفي فيه الإشارة إلى المقصود، ومهما بسطت القول فيه أفسدته». فعلوم الأذواق لا تقال ولا تحكى، ولا يعرفها إلا من ذاقها، وليس في الإمكان أن يبلغها من ذاقها إلى من لم يذقها. وعليه تتوقف عملية التبليغ على الإصطلاح لإفهام السامع بنوع من الإشارة، وليدل به المتذوق نفسه على ما ذاقه، ليتذكر به إذا نسي في وقت آخر، وإن لم يفهم عنه من لا ذوق له فيه. ولهذه الأحوال أشباهها من جنسها التي تفسد حقيقة الذوق «كمن يغلب على محل طعمه المرة الصفراء فيجد العسل مراً» وهو ليس كذلك. أما علم الأسرار فهو العلم الذي عدّه إبن عربي فوق طور العقل، فهو علم نفث روح القدس في الروع، ويختص به كل من الأنبياء والأولياء، أي العرفاء. ومع هذا فهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما يمكن إدراكه بالعقل أو الدليل ولا يتوقف على الكشف الذوقي وحده. أما الآخر فهو على ضربين، أحدهما يعود إلى علم الأحوال وإن كان حاله أشرف منها، أما الضرب الآخر فهو من علوم الأخبار. وفي جميع الأحوال أن العالم بعلم الأسرار عند إبن عربي يكون عالماً ومستغرقاً للعلوم كلها، فليس هناك علم أشرف من هذا العلم المحيط الحاوي على جميع المعلومات، فهو يعلم ما في طور العقل وما فوقه[3].

كما هناك من اعتبر العلاقة بين المعرفة العقلية والذوقية هي علاقة تقوم في الأصل على تأسيس إحداهما للأخرى، كما هو الحال مع السهروردي الذي جعل من المعرفة الأخيرة سابقة ومؤسسة للمعرفة العقلية، فهو يقسم المعارف إلى معارف فطرية ضرورية، وأخرى كسبية، ويعد الأولى أساس الثانية، إذ بدونها تستحيل المعرفة؛ بإعتبارها تمثل البداية اليقينة المشهودة بلا سابق لها ولا دليل عليها[4].

ان المعرفة في السلوك العرفاني خاصية أساسية وهي أنها تخطر في القلب وتفيض على النفس من دون تعمل فكري ولا استدلال عقلي، فهي تهجم على القلب هجوماً قوياً لا يمكن ردّه، بل توجب على السالك التسليم لها لكونها من العلوم الحضورية التي تدرك مباشرة. لذلك فحينما سُئل العارف الحسين بن المنصور الحلاج عن البرهان قال: «واردات ترد على القلوب، فتعجز النفوس عن تكذيبها»[5].

فهذه الواردات أو الخواطر هي التي تحقق ما يسمى بالكشف والشهود. فغالباً ما يُعنى الكشف بالاطلاع على المعاني الغيبية من وراء حجاب. أو كما عُرّف بأنه حضور القلب في شواهد المشاهدات وعلامته دوام التحير في كنه عظمة الله. كما عُرّف الشهود بأنه عبارة عن رؤية الحق بالحق[6]. وللغزالي تعريف يرى فيه معنى البصيرة والمكاشفة والمشاهدة والمعاينة بأنها «أسماء مترادفة على معنى واحد، وإنما تحصل التفرقة في كمال الوضوح لا في أصله، فمنزلة البصيرة من العقل منزلة نور العين من العين، والمعرفة من البصيرة منزلة قرص الشمس لنور العين، فتدرك بذلك الجليات والخفيات»[7]. وكل ذلك يختلف عن حجاب التفكير العقلي.

 



[1] الغزالي: المنقذ من الضلال، حققه وقدم له جميل صليبا وكامل عياد، مطبعة الجامعة السورية، الطبعة الخامسة،  1956م، ص88.

[2]  مشكاة الأنوار، ضمن الجواهر الغوالي، ص137.

[3]  الشيخ الأكبر محي الدين بن العربي، جمع وتأليف محمود الغراب، دار الفكر بدمشق، ص169ـ170.

[4]  حكمة الإشراق، ضمن مجموعة مصنفات شيخ الإشراق السهروردي، ص18.

[5]  كسر أصنام الجاهلية، ص9.

[6]  إصطلاحات الصوفية، ص47 و153. وقاسم غني: تاريخ التصوف في الإسلام، ترجمه عن الفارسية صادق نشأت، مكتبة النهضة المصرية بالقاهرة، 1972م، ص897 و910 و904.

[7]  الغزالي: رسالة روضة الطالبين، ضمن رسائل فرائد اللآلي، نشر فرج الله ذكي الكردي في مصر، 1343هـ ـ 1924م ، ص164ـ165.

comments powered by Disqus